ما بعد اللقاح!

حيَّت البورصات إنجازات العلم بطريقتها فارتفعت مؤشراتها لأرقام قياسية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي متجاوبة مع إعلان شركتي دواء أميركيتين تطوير لقاحين مضادين لفيروس كورونا بفاعلية عالية، وقرب إتاحتهما في الأسواق بعد مراجعة السلطات الصحية المعنية في اجتماعين لإيجاز استخدامهما، تم تحديدهما في العاشر من شهر ديسمبر (كانون الأول) الحالي للقاح شركتي «فايزر» و«بيونتك»، وفي السابع عشر من الشهر نفسه للقاح شركة «موديرنا». وهناك لقاحات أخرى بتكنولوجيات طبية مختلفة وبفاعليات يجري التبشير بها وتعلن عنها معامل بريطانية وأوروبية وصينية وروسية.
حقَّق العلم إنجازاً غير مسبوق في تطوير اللقاح بسرعة فائقة وجهود شاقة لإنقاذ حياة البشر وتخفيف معاناتهم، بما سيخلد أسماء لعلماء وباحثين في تخصصاتهم، ومع تزايد الإعلان عن قرب تداول اللقاحات انتقلت حالة الترقب من تعلقها بالدوائر العلمية وبما يصدر عن المعامل وعلمائها، إلى الحكومات ودوائرها الصحية للإجابة عن أسئلة عملية: متى سيُتاح اللقاح لعموم الناس؟ ما هي التكلفة؟ ما هو مدى استعداد البنية الأساسية والإنتاجية لتصنيع وتعبئة وتخزين ونقل وتوزيع اللقاح واستخدامه بأمان؟
وفي حين يتلهف البعض ليكونوا في مقدمة الحاصلين على اللقاح، استمعت منذ يومين إلى تقرير تكررت إذاعته عن مسح جرى على البالغين في الولايات المتحدة في شهر أغسطس (آب)، ذكر 42 في المائة منهم فقط أنهم سيستخدمون اللقاح عند توافره، وذكر تقرير آخر انخفاض نسبة المقبلين على التلقيح بين شهري مايو (أيار) وسبتمبر (أيلول) من هذا العام. كما تظاهرت احتجاجاً ضد اللقاح جموع في مدن أوروبية في وقت يؤكد فيه خبراء الأوبئة ضرورة وصول بلوغ نسبة المناعة ثلثي المجتمع على الأقل لمنع الوباء من الانتشار، بما يتطلب التوسع في استخدام اللقاح والبديل هو التعرض للإصابة بالفيروس كبديل بما في ذلك من مخاطر على حياة ذوي العلل. بما يتطلب الأمر حواراً ونقاشاً وتثقيفاً وتحفيزاً حرصاً على الصالح العام جنباً إلى جنب مع تيسير إتاحة اللقاح لعموم الناس. وفي هذا تختلف السبل:
– تعيين وزير اللقاح: من أساليب تفعيل نشر اللقاح في أسرع وقت ممكن ما لجأت إليه المملكة المتحدة من تعيين وزير مشرف على طرح اللقاح وتأمين وصول 100 مليون عبوة منه للمواطنين؛ تم طلبها بالفعل لتكفي سكان الجزر البريطانية. وسيكون الوزير في حكومة المحافظين نديم زهاوي، الذي شغل حتى تكليفه المهمة الجديدة حقيبة الأعمال والصناعة، مسؤولاً عن مهمة مزدوجة للإشراف على وزارات الصناعة والصحة والرعاية الاجتماعية، مع جدول زمني مكثف لتوفير اللقاح للكافة في خلال 9 أيام من خلال منظومة التأمين الصحي. وقد لقي التكليف ترحيباً من حكومة الظل وإن شدد ممثلوها على القيام بحملة توعية مكثفة تتزامن مع العملية اللوجيستية المعقدة التي سيشرف عليها وزير اللقاح.
– شهادة اللقاح: ومن سبل الحث على نشر اللقاح ما دعا إليه الكاتب الصحافي الإنجليزي جون جايبر، بضرورة حمل كل فرد لتطبيق رقمي على هاتفه يفيد تلقيح حامله من عدمه عند السفر. فبعد تذكيرنا بما كان من أمر المسافرين في القرن الماضي بحملهم شهادات ورقية تفيد بتطعيمهم ضد أمراض معدية ومتوطنة، يشير الكاتب إلى مطالب لشركات الطيران لركابها بإظهار ما يفيد بتطعيمهم من خلال تطبيقات رقمية تحمل البيانات المطلوبة معتمدة من جهة صحية، في شكل كود رقمي يتم التعرف عليه من خلال أجهزة كشف سريعة بالمطارات. وسيكون هذا الإجراء أيضاً ملزماً لمرتادي المباني الحكومية والإدارية والمواصلات والخدمات العامة. ولعلك ترى ما يشبه هذا الإجراء معمولاً به في المطارات وأماكن أخرى في إطار احترازي بقياس درجة الحرارة ولبس الكمامة الواقية وتقديم شهادة تثبت الخلو من الفيروس.
– قوارير اللقاح: لتوفير مئات الملايين من اللقاحات تبرز مشكلة توفير ما يعرف بالأمبولات، أو القوارير الزجاجية الصغيرة المغلقة التي تستخدم لحفظ اللقاحات. ورغم التعارف على تكنولوجيا إنتاجها وتوافر مواد صنعها وتعقيمها، يحتاج اللقاح الجديد إلى مئات الملايين منها في وقت وجيز. كما تتطلب أنواع منه قوارير شديدة التحمل لضغط النقل والتبريد لدرجات تبلغ أكثر من 70 درجة مئوية تحت الصفر. وتتوفر خطوط إنتاج كبيرة في عدد محدود من بلدان العالم لهذه النوعيات بما جعل الطلب عليها يرتفع مقابل أسعار متزايدة. جعل هذا محرر مجلة «نيويوركر» لهذا الأسبوع يصدر مقالة عن سباق مصانع القوارير بقصة الإمبراطور الروماني تيبريوس مع صانع القوارير الذي أتى إلى قصره يعرض اختراعاً لقارورة من زجاج معالج ضد الكسر فيسقطها أمام الإمبراطور على الأرض مستعرضاً قوة تحملها فلم تتهشم. فما كان من الإمبراطور – وفقاً للرواية – إلا الأمر بإعدامه خشية من اختراعه على ما تحويه خزائنه من الذهب التي ستتدهور قيمته مقابل فائدة هذا الاختراع المدهش. وبعد مئات السنين تظهر مجدداً قيمة الزجاج المعالج بتكنولوجيا العصر ليحمل في قواريره ما لا يغني عنه الذهب في حماية حياة الإنسان.
– لقاحات لأوبئة أخرى: عندما أعد عالم الرياضيات آدم كوتشارسكي كتابه عن الأوبئة والأمراض المعدية لم يكن على علم أن توقيت صدوره سيسبق جائحة كورونا بأسابيع. وقد استعرض في كتابه المعنون «قواعد العدوى» أشكالاً مختلفة من العدوى، منها ما يأتي في شكل وباء صحي كما نشهد اليوم مع فيروس كورونا، ومنها ما هو اقتصادي مثلما رأينا من انتقال العدوى في الأزمات المالية والمصرفية، ومنها ما هو إجرامي مثل العنف المسلح، ومنها ما قد يأتي في شكل أفكار سيئة كالعنصرية البغيضة.
ورغم عنوان الكتاب فلا توجد فعلاً قواعد بالمعنى المتعارف عليه للعدوى، ولكنها أنماط تبدأ بظهور العدوى ثم انتشارها ثم استقرارها وثباتها ثم انخفاضها، مع تباين في سرعة الانتشار والانخفاض بين عدوى وأخرى. وتأتي فائدة النماذج الرياضية المستخدمة قواعد البيانات الكبرى في تحليل وفهم ظواهر العدوى وأنماطها، ولكن علاج العدوى يأتي بالسيطرة عليها من داخلها ومن ضبط البيئة المحيطة بها تماماً، كما تطور لقاحات ضد الأوبئة الفيروسية بالتعرف على مكوناتها الحيوية الدقيقة وتفعيل المناعة المضادة لها من داخل الجسم ومنع انتشارها بالتباعد الاجتماعي.
وقد يحتار المرء أي أنواع العدوى والأوبئة أشد ضرراً وفتكاً بالمجتمعات واستقرارها؟ وتأتي الإجابة سريعاً: تلك التي لا لقاح لها!

د. محمود محي الدين.

أزمة لبنان المالية: “النقاش ماشي والصرف ماشي”… والنتيجة معروفة

لا يبدو انّ المنظومة السياسية ستنجح في تجاوز قطوع معالجة الدعم، ومن المرجّح أن تستمرّ الأمور على حالها، وسيبقى «الصرف ماشي» على حاله، الى حين استنزاف آخر ما تبقّى من احتياطي بالعملات الاجنبية، بانتظار أعجوبة إلهية.

على غرار مختلف الاستحقاقات السياسية والمالية والمعيشية التي مرّت على لبنان، لن تتوصل المنظومة الحاكمة في الوقت المناسب الى قرار جدّي لرفع الدعم أو ترشيده، او وضع آلية واضحة لتوفير دعم مباشر للأسر الاكثر حاجة، بل ستطول الاجتماعات والاقتراحات والاعتراضات بالنهج نفسه المتّبع عند تأليف وتشكيل الحكومات، لدى مفاوضة صندوق النقد الدولي، لدى وضع خطة إنقاذ مالية اقتصادية، عندما جرى إقرار سلسلة الرتب والرواتب، لدى تعيين مسؤولين اداريين، وغيرها من الاستحقاقات التي واجهتها المنظومة بحلول «ترقيعية» مستوحاة من سياسة شراء الوقت التي تحترفها.

بين رفع الدعم بالكامل وتوزيع بطاقات تمويلية لكافة اللبنانيين، وبين ترشيد الدعم وتأمين بطاقات تموينية للأسر الاكثر حاجة، تكثر الاقتراحات والتحليلات والاعتراضات، في حين لا تتوفّر الاموال لتمويل أي من تلك الخيارات، من دون المسّ بما تبقّى من اموال المودعين او عبر طباعة العملة. أي خيار سيمكّن السلطة من شراء الفترة الاطول من الوقت بالكلفة الاقل؟

في هذا الاطار، اعرب مسؤول سابق في صندوق النقد الدولي، عن صدمته مما يحصل على صعيد النقاش الدائر حول الترشيد، معتبراً انّ السلطة لا تملك خيارات في هذا الموضوع في ظلّ فقدانها للعملة الاجنبية الكافية. واشار الى انّ الدولة اللبنانية لا تستطيع الاستدانة من اجل مواصلة الدعم، كما انّ احتياطي البنك المركزي لم يعد يخوّله مواصلة الدعم سوى لمدّة شهرين.

واعتبر انّه في ظلّ الوضع الراهن، لا يمكن الحديث عن ترشيد الدعم بل يجب رفعه بالكامل واعتماد الدعم الموجّه للأسر الأكثر حاجة، لأنّ الاستمرار بدعم السلع يعني الاستمرار بدعم الميسورين على حساب الفقراء. ورأى انّ لجوء الحكومة الى خيار ترشيد الدعم على السلع، مردّه لعدم قدرتها على الانتقال الى الدعم الموجّه للافراد، بسبب عدم وجود البنية التحتية اللازمة، أي شبكة الأمان الاجتماعي.

وشدّد على انّ الدعم من خلال سعر الصرف هو إجراء أدّى الى تعدّد اسعار الصرف في السوق وخلق تشوهات عدّة في الاقتصاد وساهم في هدر الاموال، من خلال عمليات الفساد والتلاعب بالفواتير او تهريب السلع او اعادة تصديرها، موضحاً انّه يجب ان يكون الدعم جزءاً من موازنة الدولة عبر تخصيص مبلغ معيّن بالموازنة بشكل سنوي للدعم.

وقال الخبير الدولي، انّ الطبقة الحاكمة أضاعت عاماً من الوقت منذ انتفاضة تشرين، وبدل وضع خطة شاملة يتمّ من ضمنها توجيه الدعم، اعتمدت تدبيراً خاصاً وبشكل عشوائي لدعم السلع، علماً انّها كانت على دراية بأنّ هذه الخطوة ستكون على حساب احتياطات البنك المركزي وخصوصاً المودعين، واصفاً تلك القرارات بالسياسية وليس الاقتصادية، مما يؤكّد انّ السلطة الحاكمة غير مؤهّلة لاتخاذ قرارات اقتصادية.

واشار الى انّ الدعم الاجمالي والعشوائي استُخدم لتهريب الاموال الى الخارج، والدليل على ذلك، تراجع احتياطات مصرف لبنان بعد اندلاع الثورة حوالى 14 مليار دولار، علماً انّ 5 مليارات منها فقط استُخدمت للدعم، «وهذا ما يفسّر عدم رغبة السلطة بإقرار قانون «الكابيتال كونترول» من اجل الاستمرار بتهريب اموال السياسيين واصحاب النفوذ الى الخارج».

وكرّر انّ لبنان لا يملك اليوم القدرة والامكانيات للاستمرار بالدعم الاجمالي، وتوجيهه بات ضرورة ملحّة «إلّا انّه للأسف ليس هناك بيانات وارقام دقيقة حول عدد المستفيدين من الدعم، من اجل تقدير كلفة الدعم الموجّه، بسبب عدم توفر شبكة امان اجتماعي».

وسأل: «كيف تنوي السلطة الحاكمة تمويل الدعم الموجّه بعد نفاد احتياطي مصرف لبنان المتبقي (650 مليون دولار)؟».

وذكّر بأنّ الاعتراضات على برنامج صندوق النقد الدولي كانت في السابق بسبب توجّهه لرفع الدعم، «علماً انّ الصندوق لا يعمد الى رفع الدعم بل الى توجيهه، ولو تمّ التوصل الى اتفاق معه، لما كانت احتياطات مصرف لبنان قد هُدرت على غرار ما حصل».

وشدّد الخبير الدولي على انّ لبنان لا يملك في نهاية المطاف سوى خيار ومخرج اللجوء الى صندوق النقد الدولي، «ولكن موقف لبنان سيكون هذه المرّة أضعف بكثير مما كان عليه في آذار ونيسان الماضيين»، محذّراً من انّ برامج صندوق النقد الدولي ليست عصا سحرية، ولا يمكن ان تنجح من دون وجود توافق سياسي على عملية الاصلاح، «كلّما تأخّر لبنان باللجوء الى الصندوق كلّما زاد الفقر وكلّما تفاقمت صعوبة الخروج من الأزمة».​

رنى سعرتي.