الحماية التجارية

منذ أن ظهرت التجارة الدولية، وبدأت منتجات الدول الصناعية غزو أسواق الدول الأقل تطوراً، لجأ كثير من هذه الدول إلى حماية أسواقها من هذا الغزو، وذلك باستخدام سلطاتها الحكومية بمنع أو تحجيم دخول بعض المنتجات إليها، أو بفرض رسوم جمركية على بعضها الآخر. وتتنوع أسباب هذه السياسة بحسب الدول وبحسب وجهة النظر وانتمائها، فقد تطبق بعض الدول هذه السياسة لحماية صناعاتها الناشئة، أو لتطوير بعض صناعاتها الداخلية وحمايتها من منافستها المستوردة، أو لأسباب سياسية مع دول أخرى مصنّعة، أو لتقليل البطالة من خلال فرص العمل التي توفرها الصناعات المحميّة، وغيرها من الأسباب. وتوصف هذه السياسات بأوصاف متناقضة بحسب وجهة النظر، فما قد تراه الدولة مصلحة لها، تراه دولة أخرى تعنّتاً سياسياً وحرباً ضد التجارة الحرة.
والأمثلة على الحماية التجارية في عالمنا اليوم متعددة؛ أولها ما يحدث بين الصين والولايات المتحدة، فالولايات المتحدة تفرض رسوماً جمركية متوالية على المنتجات الصينية لحماية أسواقها ومنتجاتها، والصين ترد برسوم انتقامية على هذه الإجراءات. وكل دولة منهما تسوّق للتجارة الحرة وأنها الحل الأمثل للاقتصاد العالمي. وثاني هذه الأمثلة بين الصين وأوروبا، وترى دول الاتحاد الأوروبي أن الصين تغرق الاقتصاد الأوروبي بالمواد الخام منخفضة التكلفة، مما أدى إلى خروج كثير من الشركات الأوروبية المنافسة من السوق. وتعاني الشركات الأوروبية من ارتفاع الضرائب عليها، خصوصاً البيئية منها، بينما ترفل الشركات الصينية في نعيم دعم حكومتها غير المحدود. ويرى الاتحاد الأوروبي أن سيادته الاقتصادية أصبحت في خطر باعتماده على المواد الأولية الصينية، مما يعني أنه قد ينحى للحماية التجارية في وقت قريب. وما زاد لهيب الحماية التجارية ما حدث أثناء أزمة «كورونا»، حيث تلقت التجارة الحرة ضربة موجعة بإدراك الدول أهمية الاكتفاء الذاتي في الأغذية والمنتجات الطبية وغيرها من الاحتياجات الاستراتيجية. فبدأ كثير الدول يفكر بشكل جدي في فرض رسوم جمركية على عدد من الواردات بهدف حماية صناعتها المحلية وتطويرها.
أما المتحمسون للتجارة الحرة، فيشجعون على التكامل الاقتصادي، ودعم التجارة الحرة العادلة التي تساهم في نمو شمولي للاقتصاد العالمي. وقد ركزت «مجموعة الأعمال 20 (B20)» على موضوع الحماية التجارية في هذا العام، بصفته موضوعاً مؤثراً على الاقتصاد العالمي في السنوات المقبلة. وقدمت «مجموعة الأعمال» – بالتعاون مع شرائكها – دراسة مستفيضة بيّنت من خلالها أن الفارق بين دعم التجارة الحرة ودعم الحماية التجارية قد يصل إلى 10 تريليونات دولار خلال السنوات الخمس المقبلة لمصلحة التجارة الحرة، ورسمت هذه الدراسة احتمالات عدة للاقتصاد العالمي حتى عام 2025 بحسب درجتي الحماية التجارية ودعم التجارة الحرة. وأوضحت أن الحلول لدعم التجارة الحرة تكمن في لوائح منظمة التجارة العالمية، وتقليل الرسوم الجمركية على الواردات، وتوحيد المعايير الصناعية التي قد تفتح آفاق أسواق جديدة للمنتجات. وتنبع أهمية هذه التوصيات من تمثيل دول المجموعة 60 في المائة من حجم التبادل التجاري العالمي، وتزيد هذه النسبة إلى 80 في المائة في حال تضمين دول الاتحاد الأوروبي غير المشاركة بشكل مباشر في المجموعة. أي إن دول المجموعة تملك اليد الطولى في تشكيل التجارة العالمية للسنوات الخمس المقبلة.
إن سياسة الحماية التجارية ضرورية في كثير من الأوقات، وهي حق سيادي للدول، يمكنها من تطوير صناعاتها وتوفير فرص العمل وحماية أسواقها من الإغراق الذي تمارسه بعض الدول. إلا إن الإفراط في هذه السياسة يؤثر سلباً على سلاسل الإمداد والنمو الاقتصادي، ويؤثر بشكل مباشر على المستهلك النهائي الذي يدفع الفارق في السعر على المنتجات. وقد يكون تغيير أنظمة «التجارة العالمية»، خصوصاً خلال الشهرين المقبلين بترشيح رئيس جديد للمنظمة، حلاً لهذه المعضلة. وما يدعو للتفكر في هذه الأزمة، حال بعض الدول الغربية، التي بدأت تطبق سياسات الحماية التجارية والاقتصادية، وانتقادها هذه السياسات في حال مارستها دول أخرى. ولم تكن هذه الدول لتناقش لوائح منظمة التجارة العالمية لو لم تنمُ الصين اقتصادياً، ويبدو أن بعض هذه الدول كانت تدعو للتجارة الحرة حينما كانت حرية التجارة في مصلحتها، ولكن حالما أصبحت الصين منافسة لها في القوانين التي وضعتها هي، بدأت هذه الدول في التذمر من منظمة التجارة العالمية والتصريح بأنه حان الوقت لتغيير هذه الأنظمة، ويبدو أن هذا التغيير وشيك خلال الأشهر المقبلة، للوصول إلى نسخة جديدة من المنظمة تضمن لجميع الدول تجارة حرة وعادلة.

د. عبدالله الردادي.

هل تعود الى المستنقع من نَفَذت بِريشِها؟

نجح ملف الدعم في خطف الاضواء من ملف التدقيق الجنائي الذي كان نجم «الساحة» لأسابيع طويلة. كنا ننام على تدقيق ونستفيق على تدقيق. ونسمع باستمرار معزوفة انّ الاصلاح لا يمكن ان يبدأ من دون التدقيق الجنائي. اليوم، صرنا ننام على دعم ونستفيق على دعم. وباتت مصطلحات الترشيد والاحتياطي الإلزامي خبزنا اليومي.

في الواقع، لا التدقيق الجنائي جدّي ويمكن أن يوصل الى نتيجة في ظل التوازنات السياسية القائمة، ولا وقف أو استمرار أو ترشيد الدعم يساهم في حلحلة الأزمة الخانقة التي تسيطر على البلد، وتدفع به نحو مسار انحداري مستمر وسريع، وسيصبح أسرع وأوضح وأقسى بنتائجه مع مرور المزيد من الوقت.

في ملف التدقيق الجنائي، عدنا الى المربّع الأول. وبانتظار الإجابة الرسمية لشركة Alvarez and Marsal لا بدّ من إيراد الملاحظات التالية:

اولاً- الإيجابية الوحيدة في عودة المُراسلة مع الشركة المنسحبة، انّها لم ترفض فوراً المقترح اللبناني الرسمي للعودة الى مهمة التدقيق الجنائي، استناداً الى المتغيّرات التي طرأت في القرار الذي اتخذه مجلس النواب، لكن ذلك لا يكفي للاعتقاد انّ الشركة التي تخلّت عن اتعابها لتهرب من المستنقع اللبناني ستوافق، بمجرد الاطلاع على قرار مجلس النواب واعتباره عنصراً مستجداً في القضية، على العودة الى المستنقع.

ثانياً – اذا سلّمنا جدلاً بأنّ الجواب الرسمي للشركة، والذي يتوقّع المسؤولون وصوله في الـ48 ساعة المقبلة، سيكون ايجابياً، بمعنى الموافقة على مبدأ العودة، إلّا أنّ ذلك ليس نهاية المطاف، بل بداية الطريق، لأنّ «ألفاريز» ستطلب توقيع عقدٍ جديد وبشروط جديدة. وهذه المرة ستكون الشروط قاسية، ومن المستبعد ان تتمكّن الحكومة من السير بها.

ثالثاً – بصرف النظر عن عودة «الفاريز» أو التوجّه نحو شركة عالمية أخرى لمنحها عقد التدقيق الجنائي، من حق الناس ان يسألوا، لماذا علينا ان نجري تدقيقاً جنائياً. هل نبحث فعلاً عن متهمين في جرائم هدر المال والفساد؟ ألا يشكّل ما يجري في تحقيقات انفجار مرفأ بيروت، وردود الفعل على ما بلغه المحقق العدلي في الجريمة، وما هو متوقّع في الأيام المقبلة، مؤشراً يُقنع من لم يقتنع بعد، بأنّ كل ادعاءات المحاسبة هي مجرد حفلات زجل ودجل سياسي، ولن تصل الى نتيجة؟

رابعاً – في زمن الغرق، الأولوية دائماً لإنقاذ الركاب والسفينة، وكل ما عدا ذلك يأتي لاحقاً. وهنا لا بدّ من توضيح حقيقة ينبغي أن يعرفها الجميع: ليس صحيحاً انّ التدقيق الجنائي ممر إلزامي للحصول على مساعدات صندوق النقد الدولي، بل أنّ المطلوب هنا تدقيق مالي يوضح حقيقة الأرقام والوضع في مصرف لبنان، لكي يتمكّن صندوق النقد من إقرار خطة انقاذ تتماهى وهذا الواقع.

في هذا السياق، تشير المعلومات المتوفرة الى أنّ شركتي Oliver Wyman وKPMG أحرزتا حتى الآن تقدّماً ملموساً في التدقيق المالي في أوضاع مصرف لبنان. وقد تبلّغت وزارة المال ارتياح الشركتين لتعاون المركزي مع متطلباتهما. وبالتالي، فإنّ التقرير النهائي الذي سيحدّد حقيقة الوضع المالي في مصرف لبنان لن يتأخّر في الصدور قريباً. هذا التقرير سيشكّل مستنداً كافياً لصندوق النقد أو لأية جهة دولية أخرى، لكي تتعاطى مع أي خطة انقاذ بناء على أرقامه. وهذا هو الأهم اليوم بالنسبة الى البلد. بعد ذلك، ليتسلّى أرباب المنظومة السياسية بالتدقيقات الجنائية التي باتت ستشمل كل المؤسسات والادارات العامة، بقدر ما يرغبون.

في ملف ترشيد الدعم، كل الخيارات مريرة، لكن أخطرها على الاطلاق تمييع مسألة اتخاذ قرار، وابقاء الوضع على ما هو عليه بذريعة عدم الوصول الى توافق. وفي المعلومات، انّ التوجّه العام لدى حكومة تصريف الاعمال يقضي بإقرار خطة تقوم على ركيزتين:

اولاً – تأمين دعم مالي مباشر الى الأكثر حاجة، عبر ما بات يُعرف بالبطاقات التمويلية.

ثانياً – رفع تدريجي للدعم، بحيث سيستغرق الأمر بضعة أشهر قبل الوصول الى مسار ثابت، سيكون معه الدعم للسلع (محروقات وأدوية وطحين ومواد أولية) ضئيلاً.

هذه الخطة تشوبها ثغرة اساسية تتعلق بالتوجّه نحو بطاقات تمويلية بالليرة من الخزينة، وستوزّع على لوائح محدّدة. وهنا قد يحصل التالي: ينهار سعر صرف الليرة بسرعة اكبر من الوضع الحالي، ويلتهم التضخّم المبلغ الذي سيتقاضاه من سيتمّ تصنيفه محتاجاً، ويزداد الضغط المعيشي على كل الطبقة الوسطى، ويدخل البلد في دائرة مُفرغة. كما أنّ تحديد لوائح المحتاجين قد يخضع لحسابات تنفيع الأزلام والمحاسيب.

لذلك، من المجدي أكثر إصدار بطاقات تمويلية لكل العائلات بقيمة 100 دولار شهرياً، بحيث لن يتجاوز الدعم عتبة الـ100 مليون دولار شهرياً، على أساس مليون عائلة. هذا الامر يضمن عدم انهيار قيمة المبلغ الذي سيجري تقديمه للناس، ويساهم في تخفيف الضغط عن سعر صرف الليرة في السوق السوداء.

لكن مثل هذا القرار لا يستطيع ان يتخذه مصرف لبنان، بل يحتاج الى قرار سياسي متوافق عليه. وهذا ما ينبغي ان يحصل الآن، بانتظار هبوط الوحي على أهل المنظومة السياسية، لاتخاذ قرار تشكيل «حكومة مهمّة» تبدأ تنفيذ خطة للإنقاذ.

انطوان فرح