أين تبخرت أموال اللبنانيين؟

يتساءل المرء: أين تبخرت أموال اللبنانيين أو ذهبت أو هُدرت؟ أين ودائعهم المصرفية التي بلغت نحو أكثر من 170 مليار دولار، والتي كنا نتباهى عالمياً بها؟ لا شك في أنّ قسماً كبيراً من هذه الودائع ذهب نحو كلفة الفساد، والتهريب والصفقات والمحاصصة، وتمويل المشاريع الوهمية وتبييض الأموال وغيرها، لكن تقنياً وواقعياً، كيف صُرفت هذه الاموال وهُدرت عبر الموازنات المتعاقبة؟

ندرك جميعاً أنّ جزءاً كبيراً من الموازنة العامة كان يذهب إلى تمويل شركة كهرباء لبنان، إذ ليس سراً على أحد أنّ نحو ملياري دولار سنوياً (في السنوات العشرين الأخيرة) كانا يذهبان إلى تمويل قطاع الكهرباء العام، والذي كان يتدهور يوماً بعد يوم من دون أي إصلاح أو تقدم. ومن بعد كل هذه الاستثمارات غير البنّاءة وغير المنتجة، لا يصل التيار الكهربائي إلى المواطنين في أحسن حالاته، سوى بنحو 50 %، فيما الشعب ملزَم بدفع الفواتير المزدوجة العائدة إلى المولدات الخاصة، حيث يخضع المواطنون إلى مافيات أصحاب المولدات المرتبطة بخيوط السياسة والسياسيين أيضاً.

وإذا حسبنا الملياري دولار التي تتكبّدها الدولة اللبنانية خلال نحو آخر 20 عاماً فقط، تُفيدنا النتيجة الواقعية بأنّ نحو ما بين 40 مليار دولار و45 ملياراً، صُرفت وأُهدرت من أجل إنشاء كهرباء وهمية غير متوافرة أصلاً للمواطنين.

إنّ تمويل الكهرباء يُشكل نحو أكثر من 43 % من الدين العام. وهذا ما حصر القسم الاكبر من العجز والدين العام، وهنا صُرف القسم الأكبر من أموال المودعين التي استُثمرت في الدولة وأموال البلدان المانحة التي استُثمرت في هذا القطاع المهترئ. هذه الاستثمارات استُعملت بالفساد والمحاصصة الموجودين في كل مراحل هذه الادارة: من التوظيف إلى الصيانة، إلى المعدّات، إلى شراء الفيول، إلى المعامل… والذي ستدفع ثمنه أيضاً الأجيال المقبلة، وهو ثمن الاستثمارات الوهمية التي موّلت الأحزاب والسياسيين منذ سنوات عدة.

من جهة أخرى، علينا ألّا ننسى ونتناسى أنه في كل الموازنات الاخيرة كان يتراكم سنوياً عجز مالي يفوق نحو 6 مليارات دولار تقريباً، ما يعني أنّ الدولة اللبنانية كانت تتكبّد سنوياً خسائر فادحة من دون أي إصلاح أو إعادة هيكلية لوقف هذا النزف، الذي كان يُغطى وهمياً وشكلياً باستبدال دين بدين آخر (سواب – SWAP)، وإعادة جدولة، ومن ثم ندور في الدوامة نفسها من سنة الى سنة، حتى تراكم الدين العام وتبخّرت مدّخرات اللبنانيين والبلدان المانحة، لتمويل العجز غير البنّاء وغير المنتج، حتى وصلنا الى دين عام تعدّى نحو 100 مليار دولار، وهُدرت معه أموال اللبنانيين.

كذلك الأمر بالنسبة إلى حجم الدولة وموظفي القطاع العام، فقد بلغت كلفتهم ثلث الموازنات الأخيرة. لا شك في أنّ هناك موظفين في القطاع العام شرفاء ونزيهون، ولا نريد أن نشمل الجميع ونضعهم في سلّة واحدة، لكن في المقابل ذهبت الدولة إلى مغامرة مشروع سلسلة الرتب والرواتب، وباتت ترمي كرة النار من منصّة إلى أخرى، ومن حزب إلى آخر، ومن مسؤول الى آخر، والكل كان يُدرك أنها “شيك من دون رصيد”، ولا تستطيع الدولة تحمّلها، وصرفت هنا أيضاً أموال المودعين التي كانت مستثمرة في هذه الدولة، من دون أي شفافية أو حوكمة رشيدة.

نسمع البعض يتحدث وينتظر ويأمل من المبادرة الفرنسية، أو من مؤتمر “سيدر” أو حتى من تمويل صندوق النقد الدولي، لكن علينا أن نكون واقعيين وشفافين، ونقول بصوت عال: إن أي تمويل في حال حلمنا به، أو وصلنا من هذه المنظمات الدولية، لم ولن يكون لتمويل العجز، أو لتمويل شركات عامة وفاسدة، لكن سيكون لتمويل مشاريع إنمائية بنّاءة، مع دفاتر شروط مدروسة، ومع تدقيق داخلي وخارجي وتقني. ليعلم الجميع أن لا أحد سيُموّل شركات مهترئة، وطبقة سياسية فاسدة مسؤولة عن هذا الإنهيار.

إن الوعود التي نسمعها اليوم هي فقط للهروب إلى الأمام، وهدر الوقت وكسبه، لأنه واقعياً لا أحد سيغامر ويساعد لبنان اذا كان أركان سلطة الفساد والانهيار أنفسهم يُريدون أن يقودوا الإصلاح وإدارة الأزمة التي تسبّبوا بها.

في النهاية، كنا نعيش في اقتصاد وناتج محلي حجمه نحو 55 مليار دولار سنوياً، لكن بات في الوقت الراهن، لسوء الحظ، بحسب مرصد البنك الدولي، لا يتعدى الـ 20 مليار دولار، يعني أقل من النصف، جرّاء تراجع الإستثمارات والنمو، ما سيؤدّي إلى بطالة مخيفة وتراجع في نسبة العيش.

من الضروري أن نبدأ في اعادة هيكلة شركاتنا وأعمالنا وحتى حياتنا اليومية وطريقة عيشنا، ونتعايش مع هذه الوقائع الجديدة حتى تعبر العاصفة وننمو من جديد.

إنّ العالم ككل يعبر أزمة اقتصادية واجتماعية تاريخية وغير مسبوقة جراء جائحة “كوفيد – 19″، لكنّ اللقاح بات قريباً، وستكون 2021 سنة إعادة النهوض والنمو العالمي، لكن في لبنان حين سنستيقظ في نهاية هذا الوباء، ستكون مشكلتنا الاقتصادية والاجتماعية والمالية والنقدية، وباء أصعب بكثير، وسيعوزه لقاحات كثيرة على المدى القصير والمتوسط والطويل.​

د. فؤاد زمكحل