تتعرض أوروبا اليوم لأزمات عدة تجعل المتأمل في خططها المستقبلية ووضعها الحالي في حيرة من مدى إمكانية تطبيق هذه الخطط والسياسات على أرض الواقع. وتعاني أوروبا أزمات في التعدين، واليد العاملة، والطاقة، تجعل مهمتها في تحقيق الاستدامة البيئية ومحاربة التغير المناخي في غاية الصعوبة. وما يثير الاستغراب أن التوجهات السياسية لبعض الدول الأوروبية تبعد أوروبا أكثر عن أهدافها. وسوف أتناول بعض هذه الأزمات بشكل أكثر تفصيلاً…
فالأزمة الأولى التي قد تتعرض لها أوروبا خلال العقد المقبل تتعلق بوفرة المعادن، فلكي تستطيع أوروبا تصنيع توربينات الرياح والألواح الشمسية لتوليد الطاقة المتجددة، فهي بحاجة ماسّة إلى معادن مثل المغنسيوم؛ أحد العناصر الرئيسية في تصنيع الألمنيوم المستخدم في صناعة السيارات والطائرات ومكونات الأجهزة، والذي يعد أحد أهم العناصر لتخفيف أوزان السيارات لتوفير استهلاك الطاقة. وقد كانت أوروبا في يوم من الأيام أحد أكبر منتجي المغنسيوم؛ إلا إن القرارات السياسية المتعلقة بالصناعات أدت إلى اضمحلال هذه الصناعة في أوروبا. وقد أوضحت وكالة الطاقة الدولية أن الطموحات الأوروبية في محاربة التغير المناخي لا تتسق مع وفرة المعادن لديها. واليوم تعتمد أوروبا بشكل كامل تقريباً على المغنسيوم الصيني، حيث تستورد 95 في المائة من الصين، وحين تأثر الإنتاج الصيني مؤخراً بفعل أزمة الطاقة، تأثرت المصانع الأوروبية بشكل كبير نتيجة لهذا. لذلك؛ فأوروبا في حاجة ملحّة إلى بدء نشاطات التعدين لتلبية الطلب المستقبلي، ولا يبدو ذلك سهلاً في ظل التحزبات البيئية التي تهاجم أنشطة التعدين.
الأزمة الثانية هي اليد العاملة؛ فأوروبا اليوم قارة عجوز ليس لعراقتها التاريخية؛ بل لأنها أعلى قارة في معدل الأعمار، وقد ساعدت حركة المهاجرين إليها بشكل كبير في تدعيم قواها العاملة. ولكن هذا الدعم قد لا يستمر طويلاً لأسباب سياسية؛ منها حركة اليمين الأوروبي لوقف المهاجرين إلى أوروبا. والأكثر غرابة هو بعض الجماعات البيئية في أوروبا، والتي تدعو إلى تحديد النسل للحد من الانبعاثات الكربونية، مصدرة دراسات توضح الانبعاثات الكربونية التي يتسبب فيها الإنسان خلال حياته، وكيف يمكن التخفيف من هذه الانبعاثات بعدم الإنجاب. وقد أجرت صحيفة ألمانية مقابلة مع معلمة تطالب بإعطاء حوافز للإناث بنحو 50 ألف يورو لتحفيزهن على عدم الإنجاب. ومعدل الإنجاب في أوروبا في انخفاض مستمر بالفعل، فعلى سبيل المثال؛ بلغ معدل الإنجاب في بريطانيا 16 لكل ألف نسمة في عام 1958، بينما انخفض هذ الرقم إلى 11 فقط في عام 2018.
الأزمة الثالثة هي الطاقة؛ فكما هي الحال مع مناجم المعادن، حارب كثير من الدول الأوروبية (مثل هولندا وبريطانيا) مصادر الطاقة فيها بدعوى المحافظة على المناخ. ولم يكن ذلك بشكل تدريجي، بل حدث خلال سنوات قليلة، متسبباً في أزمة في الطاقة اتضحت بشكل جلي في الأشهر القليلة الماضية. وفيما لو كانت أوروبا في الماضي تعتمد بشكل جزئي على الغاز المستورد من روسيا، فهي اليوم تعتمد بشكل شبه كلي على هذا الغاز. وأوروبا لا يمكن لها الاستغناء عن الغاز الذي تعده مرحلة تحولية نحو الطاقة المتجددة، وقد تستمر في احتياج له لعقدين على الأقل.
إن المتأمل في القارة العجوز يراها تغوص في ورطة بشكل تدريجي، فهي مندفعة ومتعجلة إلى مكافحة التغير المناخي؛ بما في ذلك من فرض سياسات محلية مؤثرة على الاقتصاد. وهي – بضغط من الأحزاب البيئية – تسعى إلى فرض رسوم على المعادن الصينية بدعوى أنها ملوثة للبيئة، وقد سبق لها قبل سنوات فرض رسوم بزعم أن الصين تغرق الأسواق بمنتجات مدعومة حكومياً.
في كل الأحوال؛ فإن أوروبا لا يمكنها تحقيق أي من خططها المستقبلية دون الصين شاءت أم أبت. وقد أوضحت تقارير مؤخراً إدراك الناخب الأوروبي أنه قد يدفع فاتورة السياسات الأوروبية الجديدة، فغالبية هذه التحولات السريعة نحو الطاقة المتجددة سيجري تمويلها من أموال دافعي الضرائب، الذين دفعوا بالفعل فاتورة غير مباشرة لهذه السياسات بدفع أسعار مضاعفة للغاز المستورد.
ويبدو أن أوروبا بنفسها تناقض خططها المستقبلية، فهي تريد تصنيع معدات للطاقة المتجددة، ولكنها تحارب استيراد موادها الخام من دول ملوثة للبيئة كالصين، وهي لا تملك اليد العاملة الكافية ومعدل الأعمار فيها في ارتفاع مستمر؛ لكنها تحارب حركة المهاجرين إليها، وهي في حاجة إلى الطاقة لأغراض الصناعة والتدفئة، ولكنها تسعى إلى إغلاق شركات الطاقة ولا تحاول مسايرة روسيا موردها الأكبر للغاز، والأمر يبدو من بعيد كأن أوروبا عدوة لأوروبا.
الأرشيف اليومي: 28/11/2021
إعادة هيكلة المصارف…كارثة إضافية على الكوع
هل صحيح انّ لا دور للمصارف اليوم، وانّ من الافضل البدء في اعادة هيكلة القطاع، ما دام المصرف تحوّل الى مجرد صندوق لسحب الاموال، في حين لا يتمّ إيداع أموال طازجة تُذكر، ولا يقوم القطاع بدوره الطبيعي في تمويل الاقتصاد؟
قد تكون مطالبة النائب ياسين جابر وزارة المالية بتقديم معلومات دقيقة في شأن النتائج التي تمخّض عنها تطبيق التعميم 154 الذي أصدره مصرف لبنان في محلها، لجهة حق الرأي العام في معرفة عمّا أسفر التعميم الذي قيل فيه انّه بداية إعادة هيكلة المصارف. لكن الذهاب بعيداً في الضغط منذ اليوم، لتنفيذ مندرجات التعميم لجهة اتخاذ الإجراءات المناسبة في حق المصارف التي عجزت عن التطبيق الكامل، ينطوي على مغامرة غير محسوبة النتائج.
في الواقع، ينبغي الاعتراف، ومن دون الإطلاع على النتائج، انّ التعميم فشل جزئياً، لأنّه لم يحقق الهدف المُعلن منه، وهو تمكين المصارف من البدء في استعادة دورها الطبيعي الذي كانت تضطلع به ما قبل تشرين 2019. هذا الامر لم يتحقّق حتى الآن، ولو انّ رئيس جمعية المصارف سليم صفير قال أخيراً من السرايا، انّ البنوك جاهزة لاستئناف دورها في إقراض القطاع الخاص، في حال تأمّنت تشريعات تضمن ردّ الأموال بالعملة نفسها للقرض.
لكن فشل التعميم جزئياً، لا يجيز الذهاب بعيداً والمغالاة في المطالبة بتطبيق مندرجاته كافة، للأسباب التالية:
اولاً- انّ قسماً من الدولارات الطازجة، التي تأمّنت بناءً على هذا التعميم، يتمّ استخدامه اليوم لتطبيق التعميم 158، أي إعادة قسم من الودائع الى المواطنين. وتطبيق هذا التعميم لمدة سنة فقط، سيتيح اعادة كامل الودائع لمودعين صغار يقدّر عددهم بحوالى 800 الف مودع، مع نسبة هيركات تبلغ حالياً حوالى 25%. في حين انّ سحب الودائع وفق التعميم 151 (3900 ليرة للدولار) يؤدّي الى هيركات نسبته حوالى 84%.
ثانياً- انّ المصارف التي عجزت عن تطبيق التعميم 154 بشكل كامل، تطبّق حالياً التعميم 158، بما يعني انّ المودع يستفيد من هذه الوضعية التي قد تتغيّر اذا تمّت تصفية المصرف بسبب عجزه عن الالتزام المُنجز بالتعميم 154.
ثالثاً- انّ إعادة هيكلة المصارف او تعويمها او تنقيتها، (كلها ألفاظ تقود الى مكانٍ واحد) لا ينبغي ان تتمّ من خارج سياق برنامج التعافي الذي سيتمّ توقيعه مع صندوق النقد الدولي. وأي خطوة من هذا القبيل قبل بدء تنفيذ الخطة، ستكون بمثابة كارثة على البلد وناسه.
وهنا، لا بدّ من الاستفاضة في شرح الدور الذي تقوم به المصارف حالياً. يسمع المواطن يومياً، اصحاب مؤسسات وارباب عمل يقولون انّ مؤسساتهم تخسر، وانّهم يرفضون إقفالها حفاظاً على الموظفين ولقمة عيشهم، وحفاظاً على المؤسسة التي تستطيع ان تعوّض خسائرها وتعود الى الربحية، في حال خرج البلد من الأزمة الراهنة.
هل هذا الكلام دقيق، وهل فعلاً توجد نسبة مرتفعة من المؤسسات التي تخسر حالياً، لكنها مستمرة ولم تغلق ابوابها؟
الجواب، حتماً صحيح، ولو انّ التبريرات التي تُقدّم مسموح التشكيك في تراتبيتها. بمعنى، انّ قرار الاستمرار قد يرتبط اولاً بالمصلحة المالية لصاحب المؤسسة الذي لا يأتي على ذكر هذا السبب، وثانياً بالمحافظة على الاسم التجاري لمؤسسته، وثالثاً بمصلحة الموظف لضمان استمرارية عمله وعدم تحوله الى عاطل من العمل.
كيف يؤمّن صاحب مؤسسة مصلحته المالية اذا كانت مؤسسته تخسر؟
الجواب بسيط. كل صاحب مؤسسة يملك حساباً مصرفياً لمؤسسته، او حساباً شخصياً، ولا يستطيع ان يسحب هذه الاموال اذا كانت مؤسسته متوقفة عن العمل. وينطبق عليه ما ينطبق على كل المودعين المحرومين من حق سحب ودائعهم حالياً، بانتظار الحل النهائي للأزمة. في المقابل، ومن خلال استمرار عمل المؤسسة، يستطيع ربّ العمل دفع الاموال لموظفيه، ودفع الاكلاف التشغيلية لمؤسسته، وبالتالي يستطيع ان يسحب كميات ضخمة من اموال المؤسسة او امواله الشخصية من البنك، عبر تحويلها الى حساب المؤسسة. وبالتالي، يستطيع ان يحتفظ لاحقاً بجزء او بكل إيرادات المؤسسة لنفسه، وخارج القطاع المصرفي. وهو بالتالي، يمارس سياسة سحب ودائعه تدريجياً من المصرف، بواسطة تشغيل مؤسسته، ويتعرّض لهيركات محدّد ومقبول، من ضمنه الهيركات المحسوب من رصيد الخسائر التي تتعرّض لها المؤسسة، وطالما انّ الخسائر لا تتجاوز نسبة الـ84% من المال المٌنفق للتشغيل، فهو رابح لا محالة.
كل هذا الكلام لا يشكّل إدانة لصاحب أي مؤسسة، بل يؤكّد وجود تقاطُع مصالح بين ربّ العمل والموظف، يساهم في الإبقاء على الدورة الاقتصادية مستمرة بالحدّ الأدنى على الأقل. وحرمان ارباب العمل من هذه الميزة، يعني ضرب الدورة الاقتصادية، وتكبير حجم الكارثة القائمة بطريقة لا يتصورها العقل.
هذه باختصار أهمية استمرار المصارف، كل المصارف، بالعمل في هذه الحقبة، ومن دون التشاطُّر في محاولة الضغط على القطاع اليوم، لأنّ الثمن سيدفعه اللبنانيون، ممّا تبقّى من مقدرات عيش لديهم، ولو انّها ضئيلة وكارثية في حدّ ذاتها، لكنها تبقى أفضل وأرحم من المشهد الذي ستخلفه اي خطوة ناقصة في اتجاه القطاع المصرفي قبل اقرار برنامجٍ للإنقاذ.
انطوان فرح