الغرق المالي-النقدي-المصرفي في لبنان: هكذا انغمس الاقتصاد في تمويل الدولة!

من المعروف أن العام 2011 شكّل تاريخ الانقلاب السلبي في كل المؤشرات الاقتصادية وصولا الى انفجار الأزمة عام 2019 (من النمو الاقتصادي الذي تدهور من أكثر من 8.25% الى أقل من 1%، وصولا الى ميزان المدفوعات الذي تحوّل من فائض يفوق الـ 7 مليارات دولار الى تراكم عجوزات بمليارات الدولارات…) بعد اندلاع الأزمة في سوريا من جهة وسقوط الحكومة وتبدّل مناخ الاستقرار السياسي والعمل المؤسساتي في لبنان عام 2011… إلا أن الملفت أيضا أنه شكّل مرحلة الانقلاب على مبدأ إستقلالية مصرف لبنان المركزي عبر مزيد من انغماسه في تمويل القطاع العام وانجرار مجمل الجهاز المصرفي نحو هذا الخيار بعد أن عاوَد معدل الدين العام والناتج المحلي الارتفاع من نحو 130% عام 2006 الى نحو 180% عام 2019 قبل انفجار الأزمة… فكيف ارتسمت هذه المشهدية الجديدة التي أغرقت الوضع النقدي والمصرفي في أزمة المالية العامة المزمنة؟ وكيف تمادى توجيه التمويل المصرفي من مدخرات الناس بنحو غير مسبوق صوب الاكتتاب بسندات الخزينة والأوروبوند والتوظيف في شهادات إيداع المصرف المركزي؟ عوامل عدة جعلت كل الاقتصاد اللبناني منغمساً في تمويل الدولة بدلاً من أن تكون الدولة ناشطة لتفعيل الاقتصاد…

إشكالية العجز المالي في لبنان والسعي للتمويل عبر اللجوء إلى المصرف المركزي بدأا مع بداية سنوات الحرب عبر السعي الى التمويل النقدي لعجز الميزانية العامة بسبب تدهور إيرادات الموازنة في الثمانينات وكان بشكل أساسي بالليرة اللبنانية، قبل أن تبدأ الاستدانة بالدولار الأميركي وتتزايد لتصبح اليوم في حدود ثلث الدين العام. أما أكثر ما هو ملفت فهو تحميل معظم الدين العام، إن كان بالليرة أو بالدولار، للجهاز المصرفي اللبناني (مصرف مركزي ومصارف تجارية) فضلاً عن انغماس المصارف في توظيف معظم الودائع بالدولار لديها على شكل شهادات إيداع لدى المصرف المركزي… (رسم رقم 1)

ومن المعروف إقتصادياً أن مفهوم استقلالية المصرف المركزي يقتضي تأمين ثلاث ركائز أساسية:

الاستقلالية القانونية في النصوص، الاستقلالية الفعلية في الممارسة، والاستقلالية المالية في حسابات المصرف المركزي تجاه الدولة.

ولطالما شددت الأدبيات الاقتصادية، وخصوصاً مع الموجة الكلاسيكية، على تأمين الفصل التام للسياسة النقدية للمصرف المركزي عن السياسة المالية للحكومة ووزارة المال خصوصاً لتفادي لجوء الحكومة متمثّلة بوزارة المال لطلب تغطية عجوزاتها المالية من خلال تدخل المصرف المركزي، إن كان عبر ضخ السيولة وتحمّل انعكاساتها التضخمية الفورية أو من خلال الضغط على المصرف المركزي للمساهمة في الدين العام عبر الإكتتاب بسندات الخزينة والتفاوض حول شروطها بالكمية والآجال ومستوى الفوائد… أو طباعة النقد وزيادة في السيولة واصطناع نهضة عابرة في الأسواق في فترات محددة، مثل الفترات التي تسبق الإنتخابات، لإحداث صدمة إيجابية وهمية لا تلبث أن تتحوّل كابوساً تضخمياً يصعب ضبطه من دون أي مساهمة في نمو إقتصادي حقيقي وخلق فرص العمل المطلوبة. (رسم رقم 2)

عملياً، تم انغماس السلطة النقدية والقطاع المصرفي في لبنان بتمويل عجز المالية العامة وتوافق الأفرقاء الثلاثة (المالية العامة والمصرف المركزي والمصارف) على الهندسات المالية عام 2016 لتأخير انفجار الأزمة واجتذاب أكبر مقدار من الدولارات «بأي ثمن» (أي بأعلى معدّلات فوائد) لمزيد من الوقت للإصلاح والتمكن من الاستفادة من اموال مؤتمر «سيدر» مع الاستمرار في سعر الصرف نفسه أياً يكن تدهور المؤشرات الاقتصادية، لا سيما منها تدهور ميزان المدفوعات، فتم إغراق الجهاز المصرفي بـ»فشل القطاع العام» وخياراته من المالية الى النقدية، ولكن من دون الالتزام بتنفيذ أي من الاصلاحات، لا بل تم إقرار سلسلة رتب ورواتب بحسابات خاطئة باعتراف السلطة المالية نفسها قبيل الانتخابات النيابية 2018 لا بل توظيف 5300 موظّف إضافي بعد إقرار قانون وقف التوظيف (وفق تقرير التفتيش المركزي) حتى باتت أجور ورواتب القطاع العام تمتص أكثر من ثلث الموازنة قبل انفجار الأزمة فيما لا يتجاوز معدّلها عالميا 15 % .

وقبل الانتخابات النيابية كان الدين العام في آذار 2018 نحو 81.9 مليار دولار، وقد وصلت نسبته إلى 152.8 % للناتج المحلي، وكان ثالث أعلى معدّل في العالم. وبقيت موجودات مصرف لبنان السائلة بالعملات الاجنبية، التي تشكّل دعامة الاستقرار النقدي، عند مستوى مرتفع، إذ بلغت 34.3 مليار دولار في نهاية آذار 2018.

وبلغت قيمة الدين العام المحرر بالليرة اللبنانية 77300 مليار ليرة، مشكّلة نحو 62.6 % من اجمالي الدين العام، في مقابل ما يعادل 46126 مليار ليرة للدين المحرر بالعملات الاجنبية، أي ما نسبته 37.4 % من الدين العام الاجمالي، مع ملاحظة أنه يعتبر دينا حكوميا فقط (لأن الدين العام يفترض أن يشمل أيضا ديون المؤسسات العامة ومستحقاتها مثل المقاولين والمستشفيات ذات فواتير غير مدفوعة من الدولة، الضمان الاجتماعي…).

وقد عادت وزارة المال إلى إصدار سندات الخزينة اللبنانيّة بالليرة، إنما بعد رفع الفوائد المدفوعة عليها من 7.46 % إلى 10.5 %، عملاً بالإتفاق بين الوزارة ومصرف لبنان، الذي أنهى شهرين من توقّف الإكتتاب في سندات الخزينة.

ومع تنامي الأزمة، عمد مصرف لبنان إلى إطلاق هندسات وإجراءات إستثنائيّة، عرض من خلالها فوائد سخيّة مقابل توظيف سيولة القطاع المصرفي بالدولار عنده، لرفع إحتياطه بالعملات الأجنبيّة، وبعدها عمد إلى إمتصاص السيولة بالليرة، بالطريقة نفسها، لتفادي تحوّلها ضغطا في اتجاه شراء الدولار.

وهنا، لم يعد من مصلحة المصارف توظيف سيولتها مباشرة في سندات الخزينة، نظرا إلى الأرباح السخيّة التي تحققها من توظيفاتها مع المصرف المركزي. وهكذا، إرتفعت ودائع المصارف لدى المصرف المركزي من 65.3 مليار دولار في بداية 2015 إلى 113 مليار دولار حتى تشرين الأوّل 2018.

ولتعويض هذا النقص في تمويل الدين العام وشراء سندات الخزينة، لعب مصرف لبنان دور الوسيط، عبر توظيف أمواله بشراء السندات بنفسه… فتناقصت حصة المصارف من سندات الخزينة إلى 36 % حتّى حزيران 2018، مقابل إرتفاع حصّة مصرف لبنان الى 48 %. وفي إكتتابات الفصل الثاني من عام 2018، اشترى مصرف لبنان وحده 58 % من هذه السندات.

وبين الفوائد المرتفعة التي كان يتم دفعها لتوظيفات المصارف في مصرف لبنان، والفوائد الأقل التي كان ينالها المصرف المركزي مقابل توظيف جزء من هذه الأموال في عمليات شراء سندات الخزينة، كان مصرف لبنان يتحمّل فارق الفوائد كخسائر في الموازنة طوال السنوات الماضية.

وكانت مختلف الازمات الحكومية والتوتر السياسي وتداعي مناخ الثقة للاستثمار تضغط سلبا على سندات الدين اللبنانية كما على السندات بالعملات الأجنبية «اليوروبوند» التي كانت تحمل نصفها المصارف ونحو 5 مليارات من الدولارات لدى المصرف المركزي والبقية لغير المقيمين… وكانت تخسر قيمتها مع تراجع تصنيف لبنان السيادي لدى مؤسسات التصنيف «فيتش»، «موديز» و«ستاندرد أند بورز»، مما دفع بعض حامليها الى طرحها في السوق للبيع تجنبّاً لخسائر اضافية محتملة في اسعارها.

كذلك مطلع العام 2019 قرر المصرف المركزي الخروج من هذا الدور، الذي كان يكلّف موازنته فارق الفائدة، فتوقّف الإكتتاب في سندات الخزينة، الى حين التوصّل إلى إتفاق بديل مع وزارة المال. أمّا المصارف فلم يكن لها مصلحة في الإكتتاب بفوائد السندات المخفوضة، مقارنة بفوائد توظيفاتها مع مصرف لبنان.

وهكذا لم يكن هناك من حل سوى تحميل الماليّة العامّة فارق الفائدة والكلفة، عبر رفع فوائد سندات الخزينة، لدفع المصارف إلى الإكتتاب بهذه السندات، وتم الإتفاق على هذا النحو بين وزارة المال ومصرف لبنان.

هذا المسار، يعني في إختصار، أنّ رفع الفوائد والأرباح في الفترة الماضية على التوظيفات مع المصرف المركزي للتحكّم بالسيولة، وإمتصاصها، والتعامل مع الأزمة، طاولت حتى الاكتتابات بسندات الدين العام وكلفتها.

اليوم بلغ حجم الدين العام 97.75 مليار دولار حتى نهاية حزيران 2021، وفق الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة المال. إنما في الواقع هذا الرقم هو عن الدين العام الذي يشمل دين الدولة الداخلي والخارجي، وقد تم احتساب الجزء الذي بالدولار الأميركي على أساس سعر الصرف الرسمي أي على 1515 ليرة مقابل الدولار وهو يصبح أقل بكثير اذا تم تحويل الدين بالدولار إلى الليرة اللبنانية على أساس سعر صرف السوق الموازية.

ووفق الارقام الرسمية، فإن الدين العام بالليرة اللبنانية بلغ 91 ألفا و169 مليار ليرة أو ما يعادل 60.5 مليار دولار في نهاية حزيران 2021. أما الدين بالعملات الاجنبية، والذي يشمل الاستحقاقات والكوبونات غير المدفوعة منذ توقّف الدولة عن السداد في آذار 2020، فيبلغ 37.3 مليار دولار مرتفعاً 3.4 % منذ نهاية العام 2020 و7 % منذ حزيران 2020. ووفق هذه الارقام، فإن نحو 8.1 مليارات دولار من رصيد الدين بالعملات الاجنبية كانت عبارة عن متأخرات حتى حزيران 2021.

ويشكل الدين المحلي ما نسبته 62 % من الدين الاجمالي، فيما الدين الخارجي يمثل 38 %. ويحمل مصرف لبنان ما نسبته 38 % من الدين العام (61.6 % دين بالليرة اللبنانية مقارنة بـ50.2 % قبل عام)، ثم المصارف بنسبة 15.5 % (25 % دين محلي مقارنة بـ27.8 % قبل عام) والمؤسسات المالية غير المصرفية 8.2 %. أما الدين العام الصافي، أي الذي يستثني ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان والمصارف، فبلغ 86.4 مليار دولار في نهاية حزيران.

أما الدين بالدولار الأميركي «الأوروبوند»، فيتبيّن أنه حتى آخر تمّوز 2021، كانت المصارف التجاريّة لا تزال تحمل 8 مليارات و100 مليون دولار منه، ومصرف لبنان يحمل 5 مليارات دولار، أمّا المؤسّسات الماليّة والاستثماريّة الخارجيّة فهي تحمل معظم بقية سندات الاوروبوند، علماً أن معالجة مسألة الدين العام وإعادة هيكليته بعد التوقف الفجائي عن السداد في حكومة الرئيس دياب عام 2020 بات من أولويات المحادثات مع صندوق النقد الدولي، مع أن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي كانت قد وعدت بالتفاوض مع الدائنين الأجانب لإعادة هيكلة الدين الخارجي المرتبط بسندات الأوروبوندز.

وتشمل إعادة هيكلة الديون السيادية عادةً خفض القيمة الاسمية للدين وتمديد آجال الاستحقاق، على أمل أن يتعافى الاقتصاد وأن تكون الحكومة قادرة على الدفع أو إعادة التمويل. وهذا الأمر مرتبط بوضع الحكومة خطة إصلاح تكسب صدقية المجتمع الدولي. فيما كانت «غولدمان ساكس» توقعت في تقريرها الأخير أن يفقد حاملو سندات الأوروبوندز 75 % من قيمة مستحقاتهم.

يبقى أنّ «إطفاء» الدين العام بطباعة العملة الوطنية ينعكس تضخّماً، والتخلّف عن سداد الدين بالعملات الأجنبية في انتظار إعادة هيكلته، ينعكس تراكماً في الخسائر في النظام المصرفي المنغمس بنحو هائل في تمويله… صحيح أنّ عدم استدامة الدين العام كانت تنذر بالانهيار إلا أن الغرق المالي-النقدي-المصرفي الشامل ما هو إلا ثمرة التشابك بينها في توجيه معظم الادخار من المصارف نحو القطاع العام (مالية عامة مصرف مركزي) بدل الاستثمار الخاص والمشاريع المنتجة.

د. سهام رزق الله

لماذا غيرت «فيسبوك» هويتها؟

تتباين أسباب تغيير الشركات هوياتها وأسماءها بحسب حالة الشركة، وعادة ما تغير الشركات هويتها عند اندماجها مع شركة أخرى، وذلك لكي لا تغلب هوية شركة على أخرى. ويحدث هذا التغيير كذلك مزامنة مع تغير التوجه الاستراتيجي أو الطموحات المستقبلية للشركات. ويغيّر بعض الشركات هويته سعياً لفصل أسماء منتجاتها عن الهوية العامة للشركة، خصوصاً عندما تتعدد منتجاتها، ذلك أن المنتجات تخاطب المستهلكين، بينما تخاطب الشركة المستثمرين والشركات والمشرّعين والسياسيين. وعندما غيرت «غوغل» هويتها لتصبح «ألفابت» في عام 2015، جمعت بين السببين الأخيرين، فهي أرادت أن تخرج بهويتها عن قالب محرّك البحث، لا سيما مع امتلاكها خدمات أخرى شهيرة مثل «يوتيوب» والخدمات السحابية… وغيرهما.
وعندما غيرت «فيسبوك» هويتها الأسبوع الماضي لتصبح «ميتا»، أضيفَ إلى هذه الأسباب سبب رآه العديد من النقّاد السبب الرئيسي، وهو تجنّب اسم «فيسبوك» الذي أصبح مسموماً بعدما ارتبط خلال السنوات الأخيرة بفضائح عديدة؛ منها «فضيحة كامبريدج أنالاتيكا» عام 2018، التي اتهمت بجمع بيانات شخصية لمستخدمي «فيسبوك» واستخدامها لأغراض سياسية، وكان آخرها وأكبرها منذ تأسيس الشركة قبل 17 عاماً تسرّبُ آلاف المستندات التي أظهرت أن الشركة حريصة على الربحية أكثر من حرصها على سلامة المستخدمين.
إلا إن مارك زوكربيرغ؛ مالك ومؤسس الشركة، صرّح بأن الشركة خططت لتغيير هويتها منذ 6 أشهر على الأقل؛ أي قبل هذه الفضيحة، وأن الهدف منه هو تحوّل طموحات الشركة ورغبتها في الخروج من قالب موقع «فيسبوك»، لا سيما أن الشركة تملك عدداً من التطبيقات الأخرى مثل «إنستغرام» و«واتساب»، إضافة إلى امتلاكها شركات فرعية أخرى. وهو، فيما يبدو، يشبّهُ هذا التغيير بما فعلته «غوغل» قبل 5 أعوام، ولكن هذا التشبيه لا يبدو دقيقاً على كل حال، فـ«غوغل» كانت في موقف قوة حين غيّرت هويتها، بينما لا يمكن مطلقاً وصف «فيسبوك» أو «ميتا» بأنها في موقف قوة حالياً.
إلا إن تغيير الهوية إلى «ميتا»، وبحسب التوجهات الاستراتيجية المعلنة من الشركة، يبدو في غاية المنطقية. فـ«ميتا»، بعد هذا التغيير، أصبحت تنقسم إلى قسمين، يشكّل القسم الأول منهما الأنشطة الحالية للشركة مثل «فيسبوك» و«إنستغرام» وغيرهما، بينما سوف يركّز القسم الثاني والجديد على ما يسمى «ميتافيرس»؛ وهو مفهوم يجدر بالمهتمين بالتقنية الاطلاع عليه وبشكل مكثف لما يشكله من أهمية في مستقبل التقنية. واستقت الشركة اسمها الجديد من هذا المفهوم الذي يعرّف بأنه الواقع الممتد الذي يمزج بين الواقعين الافتراضي والمعزز، والذي يمكّن المستخدمين من التفاعل في بيئة افتراضية. وتمتد أغراض هذا التفاعل من التواصل الاجتماعي إلى الألعاب وحتى العمل. أي إن زوكربيرغ من خلال مفهوم الـ«ميتافيرس» يريد خلق عالم افتراضي متكامل يمكّن المستخدمين من قضاء «حياتهم الرقمية» فيه بكل تفاصيلها من الترفيه حتى العمل.
ويراهن زوكربيرغ من خلال «ميتا» على تقنيات الـ«ميتافيرس»، وصرح بعد تغيير الهوية بأن العالم بحلول نهاية هذا العقد أو حتى بمنتصفه سوف يتحوّل إلى أجهزة الواقع المعزز مبتعداً عن الكومبيوترات الشخصية. ويرى المحللون أن إحدى كبرى نقاط ضعف «فيسبوك» سابقاً هو عدم نجاحها في صناعة الهواتف الذكية، مما أعطى منافسيها من الشركات التقنية مثل «غوغل» و«أبل» ميزات تنافسية عليها. ولذلك؛ فإن تركيز الملياردير الأميركي لا ينصب على جانب البرمجيات من الـ«ميتافيرس» فحسب؛ بل يصل إلى صناعة أجهزة الواقع الممتد ليتمكن من السيطرة على عالم الـ«ميتافيرس» بجانبي البرمجيات والأجهزة. وقد أعلنت الشركة عن نيتها مضاعفة قواها العاملة بتوظيف نحو 10 آلاف مهندس واستثمارها 10 مليارات دولار خلال عام 2022 لهذا الغرض.
إلا إن الطريق أمام «ميتا» ليست بهذه السهولة، فالصعوبات التقنية عديدة أمامها للوصول إلى هذا المستوى المتقدم من التقنية، وقد حاول العديد من الشركات استثمار تقنيات الواقع الافتراضي، إلا إن الطلب من المستخدمين كان غالباً يتركز على جانب الألعاب من هذه التقنية، ولم تستخدم بشكل جدّي في عالم الأعمال إلا بشكل محدود.
وما قد يؤثر في خطة زوكربيرغ هو إرث «فيسبوك» السيئ، والذي ارتبط خلال سنوات باستغلال معلومات المستخدمين وعدم مراقبة محتوى شبكات التواصل. وفيما لم تكن التشريعات لشبكات التواصل الاجتماعي قوية عند تأسيس «فيسبوك» قبل أكثر من عقد، فهي الآن أكثر تركيزاً وإدراكاً لأبعاد وتأثير هذه الشبكات، ولن يتساهل المشرعون مع تقنيات جديدة تعطي زوكربيرغ قوة إضافية في العوالم الافتراضية. ولذلك؛ فإن التحدي الحقيقي الذي تواجهه «ميتا» هو كسب ثقة العالم ووضع الضمانات لعدم تكرار قصة «فيسبوك». وحتى ذلك الحين؛ يجب على زوكربيرغ إصلاح شركته من الداخل، فتغيير الهوية لن يمحو المشكلات التي تعاني منها شركته.

د. عبد الله الردادي

نجاح غلاسكو مرهون بالوفاء بتعهدات باريس

أكتب هذه الكلمات وصدى الخطب في قمة غلاسكو للمناخ يدوّي في جنبات القاعة التي أتابع منها عن بعد أعمال القمة التي تعقد في إطار الأمم المتحدة مع جمع من عموم الناس وبعض الخبراء المختصين وممثلي المؤسسات المالية. منذ بدأت سلسلة هذه القمم التي ترعاها الأمم المتحدة منذ عام 1995، شهد بعضها زخماً حقق أثراً، وعانى بعضها من تكرار للتعهدات والمناشدات بلا فعل يذكر، كما تعرضت إحداها وهي قمة كوبنهاغن في عام 2009 لفشل مدوٍ استغرق المجتمع الدولي بعدها سنوات ليحشد قواه ويشحذ الهمم مستعيناً بالعلم وبعض المال. وتظل قمة باريس في عام 2015 وما ترتب عليها من اتفاق دولي ملزم لأطرافه هي المرجع لجهود مكافحة تغيرات المناخ التي تلتها.
وليس من قبيل المبالغة أو التبسيط المخل أن يكون معيار الحكم على قمة غلاسكو بالنجاح أو الفشل متعلقاً بوفائها بوعود باريس المتضمنة في اتفاقها وتعهداته. فلا يحتاج العالم لتعهدات جديدة بل بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه من دون إبطاء. وها هي التقارير العلمية تؤكد أن العالم ليس على المسار السليم نحو هدف الإبقاء على ارتفاع درجة حرارة الأرض بما لا يزيد على درجة ونصف الدرجة مئوية عن مستواها قبل الثورة الصناعية، وهو الهدف الذي اتفق عليه العلماء حماية للأرض ومن عليها وما عليها أيضاً. فرغم تعهدات باريس، تستمر الانبعاثات الضارة بالبيئة ارتفاعاً بما يفوق الحدود القصوى المسموح بها، وتتراجع أحجام التمويل المتاحة عن الحدود الدنيا التي التزمت الدول المتقدمة بها مساندة للدول النامية.
وقد عبرت كلمات لممثلي الجزر الصغيرة وسكان السواحل وأهالي تجمعات الصيادين وقرى صغيرة للمزارعين، وقاطني تخوم الغابات عن مآسٍ لفقدان الحياة أو أسباب المعيشة. فمن لم يطلع على التقارير العلمية عن تدهور أحوال المناخ والتنوع البيولوجي وزيادة التلوث البيئي ليس عليه أن ينصت لروايات الصراع اليومي مع عواقب ما وصلت إليه حياة هؤلاء البشر، بما جنته أيدي بشر آخرين بإطلاقهم مزيداً من الانبعاثات الضارة بالمناخ. وعندما علق أنتونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة على النتائج المرتقبة للقمة في ظل هذه الأوضاع المتدهورة، قال إن الفشل ليس خياراً مطروحاً على هذه القمة، بل هو قرار بالإعدام! وهناك أربع قضايا محددة سيتوقف عليها نجاح هذه القمة أو فشلها:
أولاً، وضع الدليل العملي لتنفيذ اتفاق باريس. أؤكد أنه لا حاجة بنا للاستماع إلى تعهدات جديدة حماية للمناخ، فأي تعهد جديد هو فاقد لمصداقيته منذ لحظة الإعلان عنه في عالم يعاني من فوائض في الوعود وعجز في التطبيق، فقد سبقت الكلمات الرنانة الانبعاثات الضارة إلى عنان السماء وغابت الأفعال إلا قليلاً مما هو مأمول. وسيقضي المفاوضون في غلاسكو أياماً طويلة لمحاولة الوصول إلى دليل للقواعد العملية لتفعيل مواد اتفاق باريس، بما في ذلك المادة 6 الخلافية المتعلقة بالتفاصيل الفنية بناء آليات سوق منضبطة وعادلة وكفؤة للكربون، بما في ذلك تجنب ازدواجية الحسابات، مع أهمية مراجعة المساهمات المحددة وطنياً بتخفيض الانبعاثات الضارة. وقد شدد علماء المناخ وخبراء التنمية على أهمية عدم الاكتفاء بالأهداف الصفرية بعيدة المدى نحو تحقيق الحياد الكربوني في عام 2050 أو 2060، بل يجب أن تحدث المراجعات بشكل سنوي على مستوى كل دولة بما يحقق خفض الانبعاثات بما لا يقل عن 45 في المائة بحلول عام 2030.
ولما كانت دول مجموعة العشرين تمثل 80 في المائة من الاقتصاد العالمي، وهي أيضاً مسؤولة مجتمعة عن 80 في المائة من الانبعاثات الضارة، فإن عليها عبئاً أكبر في تحمل المسؤولية.
ثانياً، الوفاء بتعهدات التمويل. تعهدت الدول المتقدمة في عام 2009 بإتاحة 100 مليار دولار لمساندة الدول النامية في تنفيذ برامجها لمكافحة تغيرات المناخ من خلال إجراءات التخفيف للانبعاثات الضارة؛ مثل اللجوء للطاقة المتجددة في توليد الكهرباء ووسائل النقل منخفضة الاستخدام للكربون وزيادة كفاءة إنتاج واستخدام الطاقة. وكذلك مساعدة هذه الدول في التكيف مع آثار تغيرات المناخ وإضرارها بالمجتمعات والقطاعات الحيوية والاقتصادية مثل تطوير المجاري المائية والمصارف الصحية وإدارة القطاع الزراعي والحفاظ على الشواطئ والغابات والمصائد وتنمية البيئة السكنية وحمايتها من التلوث. وهذه التعهدات التمويلية يجب ألا ينظر إليها من باب الهبات والعطايا، ولكن من باب العدالة في قواعد التعويض عن الضرر الذي لحق بالدول النامية وهي الأقل تلويثاً سواء بالمعيار الجاري أو التراكمي. فالدول الصناعية القديمة والجديدة هي المسؤولة عن النسبة الكبرى من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون للفضاء المحيط. وتشير أرقام مشروع الكربون العالمي إلى أنه منذ 1750 تحتل الولايات المتحدة النصيب الأول تراكمياً بنسبة 25 في المائة ويتلوها الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة مجتمعين بنسبة 22 في المائة، ثم الصين بنسبة 12.7 في المائة، ثم الهند 3 في المائة، ونصيب كل الدول الأفريقية مجتمعة لا يتجاوز 3 في المائة، وفقاً لدراسة أعدها الباحث سينان أولجن صدرت في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وهناك مشكلة تتعلق بكيفية حساب المائة مليار الموعودة تلك فيما يتعلق بما يجب تضمينه من تدفقات مالية مقبلة من الدول المتقدمة، فهي خليط من أنواع من التمويل تتراوح بين منح وإعانات وقروض ميسرة عامة وخاصة، وتعتمد بالأساس على تقارير تعدها الجهات المانحة. كما تفتقد لتقييم الأثر على تغيرات المناخ، وقد أشار كذلك معهد تنمية ما وراء البحار بالمملكة المتحدة إلى غياب بيانات التقييم النوعي لهذا التمويل، وفقاً لاعتبارات الشفافية والحوكمة والقدرة على توقع التدفقات.
وفي حين تشير تقارير منظمة التعاون والاقتصادي والتنمية إلى أن التمويل الفعلي قد اقترب من 80 في المائة من التعهدات في عام 2019، وهو ما أكده أيضاً التقرير الصادر منذ أيام عن وزيري البيئة في ألمانيا وكندا بتكليف من رئاسة قمة غلاسكو، فإن تقارير أوكسفام تشير إلى فروق شديدة بين ما تعده الدول المانحة تمويلاً عاماً لتغيرات المناخ، وما يمكن اعتباره تمويلاً صافياً يستهدف مكافحة تغير المناخ في الدول النامية، وأنه لم يتجاوز 22 مليار دولار في الفترة من 2017 حتى 2018، وليس 60 ملياراً تقريباً، كما تشير تقارير الجهات المانحة.
وتجدر الإشارة إلى انحياز التمويل إلى إجراءات التخفيف، إذ لم يتجاوز التمويل الموجه للتكيف وتخفيف الأضرار بالمجتمعات 21 في المائة من إجمالي التمويل المرصود. وقد دفع هذا التباين لمطالبة الدول النامية لتحقيق التساوي بين نوعي التمويل لتتحصل مجالات التمويل والاستثمار في التكيف مع آثار تغيرات المناخ على نصيب عادل. وهذا يتطلب إعداداً للمشروعات للاستفادة من هذا التمويل.
ثالثاً، الاستثمارات الجديدة والتعاون العلمي والتكنولوجي. يظل رقم المائة مليار المطلوب توجيهها سنوياً للدول النامية، حتى إذا تم الوفاء به كاملاً، غير كافٍ لمتطلبات تمويل تغيرات المناخ سواء بالنسبة للتخفيف من الانبعاثات الضارة أو التكيف مع آثار التغير أو إدارة التحول المنضبط نحو الحياد الكربوني. وقد ترددت أرقام تجاوزت مضاعفات هذا الرقم لتحقيق أهداف تغيرات المناخ في الدول النامية. وقد أشار مارك كارني محافظ بنك إنجلترا المركزي الأسبق في مقال نشرته صحيفة «الفايننشيال تايمز» الأسبوع الماضي، إلى أن العالم في حاجة إلى تعبئة 100 تريليون دولار على مدار 30 سنة لتحقيق أهداف التحول نحو الحياد الكربوني من خلال نظم الطاقة المستدامة وحدها. يبدو هذا الرقم كبيراً بمتوسط سنوي يتجاوز 3 تريليونات دولار سنوياً في شكل تمويل خارجي، ولكنه يعتمد على آليات للمشاركة بين التمويل العام والخاص والدعم الفني المساند، بتمويل متاح في أصول تحت إدارة المؤسسات المالية تجاوزت 250 تريليون دولار، وفقاً لمؤسسة «بي سي جي» للاستشارات.
في كل الأحوال تحتاج الدول النامية لاستثمارات ضخمة وليست قروضاً ميسرة أو تجارية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بما في ذلك هدف مواجهة تغيرات المناخ كهدف مهم وحيوي من أهدافها، ولكنه ليس الهدف الوحيد. فالدول النامية بحاجة إلى الاستثمار في البشر تعليماً ورعاية صحية، وفي البنية الأساسية والتكنولوجية جنباً إلى جنب مع الاستثمار في أبعاد الاستدامة البيئية ومواجهة تغيرات المناخ. وهذا ينبغي أن يبدأ بضبط لأولويات الإنفاق العام وإعداد موازنات الدولة لتتوافق مع متطلبات تحقيق أهداف التنمية.
رابعاً، في خضم مشاورات المفاوضين في غلاسكو هناك حاجة ماسة إلى ضبط معايير التقييم سواء لتعهدات تخفيض الانبعاثات الضارة وأهداف الحياد الكربوني أو طرق حساب تمويل الاستدامة. فهناك ازدياد في انتشار ما يعرف بظاهرة الغسل الأخضر، بادعاء حكومات وشركات ومؤسسات تمويل بتوافق مزعوم بقواعد الاستدامة والاعتبارات البيئية والحوكمة والإسهام في تحسين الآثار الاجتماعية لأنشطة وصفقات تجارية واقتصادية. وهذا يستلزم الاتفاق على معايير وقواعد منضبطة يتم تعميمها والالتزام بها عند النشر والإفصاح.
ما نتابعه في قمة غلاسكو ومشاوراتها قد يكون بداية لتطبيق تعهدات كثر الحديث عن ضرورتها لإنقاذ البشرية والحياة على الأرض، وكل ما نحتاجه هو الوفاء بهذه التعهدات فحسب. وفي ظل أجواء يكتنف العالم فيها عجز في الثقة وتوتر بين أقطابه، فإن تنفيذها أمر صعب، ولكنه ليس مستحيلاً.

د. محمود محيي الدين