ليست «فيسبوك» مجرد شركة عادية، لقد وصلت إلى وضعية التريليون دولار خلال عشر سنوات فقط من خلال فرض منطق أسميه «رأسمالية المراقبة» – وهو نظام اقتصادي مبني على الاستخراج السري ثم التلاعب بالبيانات البشرية – في رؤيتها لربط العالم بأسره. والآن تسيطر شركة «فيسبوك» وغيرها من الشركات الرأسمالية الرائدة في مجال المراقبة على تدفقات المعلومات والبنية الأساسية للاتصالات في مختلف أنحاء العالم.
إن هذه البنية التحتية حيوية للغاية لإمكانية قيام مجتمع ديمقراطي، ومع ذلك فإن ديمقراطيتنا قد سمحت لهذه الشركات بامتلاك وتشغيل والتوسط في مجالات معلوماتنا غير مقيدة بالقانون العام. وكانت النتيجة ثورة خفية في كيفية إنتاج المعلومات وتعميمها والعمل على أساسها. ويشهد استعراض الإفصاحات المتكررة منذ عام 2016، الذي جرى تضخيمه من خلال توثيق المُبلغة فرنسيس هاوغن وشهادتها الشخصية، على عواقب هذه الثورة.
تواجه الديمقراطيات الليبرالية في العالم اليوم مأساة «الاستثناءات». فالمساحات الإعلامية التي يفترض الناس أنها عامة تحكمها بشكل صارم المصالح التجارية الخاصة من أجل تحقيق أقصى قدر ممكن من الربح. لقد كشف النقاب أن الإنترنت باعتبارها سوقاً ذاتية التنظيم هي تجربة فاشلة. فرأسمالية المراقبة تخلف في أعقابها أثراً من الحطام الاجتماعي: التدمير الشامل للخصوصية، وتصاعد التفاوت الاجتماعي، وتسميم الخطاب الاجتماعي بمعلومات فاسدة، وهدم الأعراف الاجتماعية، وإضعاف المؤسسات الديمقراطية.
هذه الأضرار الاجتماعية ليست عشوائية؛ إذ ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتأثيرات تطور العمليات الاقتصادية. وكل ضرر واقع يمهد الطريق للضرر التالي ويعتمد على ما سبقه.
لا توجد طريقة للفرار من أنظمة الآلات التي ترصدنا، سواء كنا نتسوق أو نقود السيارات أو نتنزه في الحدائق. جميع الطرق إلى المشاركة الاقتصادية والاجتماعية الآن تتحرك من خلال الأرضية المؤسسية لتعظيم أرباح رأسمالية المراقبة، وهو وضع اشتد خلال ما يقرب من عامين من تفشي الوباء حول العالم.
هل سيؤدي العنف الرقمي في «فيسبوك» إلى التزامنا باستعادة «الاستثناءات»؟ ولكن هل نجابه التساؤلات الجوهرية التي طالما كانت موضعاً للتجاهل فيما يتصل بحضارة المعلومات: كيف ينبغي لنا أن ننظم ونحكم فضاءات المعلومات والاتصالات في القرن الرقمي على النحو الذي يدعم ويعزز القيم والمبادئ الديمقراطية؟
خرجت «فيسبوك» كما نعلم الآن من ضلع «غوغل» الأعوج؛ إذ لم تخترع شركة مارك زوكربيرغ رأسمالية المراقبة بالأساس. بل قامت «غوغل» بذلك. في عام 2000، عندما كان يتم تخزين 25 في المائة فقط من معلومات العالم رقمياً، كانت «غوغل» مجرد شركة ناشئة صغيرة جداً مع محرك بحثي رائع مع عائد ضئيل للغاية.
بحلول عام 2001، وفي أوج أزمة «دوت كوم»، وجد قادة «غوغل» انفراجة عبر سلسلة من الاختراعات التي من شأنها أن تحول دفة الإعلانات في العالم. لقد تعلم فريقهم كيفية الجمع بين تدفقات البيانات الضخمة من المعلومات الشخصية والتحليلات الحسابية المتقدمة للتنبؤ بالمكان الذي ينبغي أن يتم فيه وضع إعلان بغرض تحقيق أقصى حد ممكن من «النقر عليه». تم حساب التوقعات في البداية من خلال تحليل مسارات البيانات التي تركها المستخدمون من دون قصد في خوادم الشركة عند بحثهم وتصفحهم لمختلف صفحات «غوغل». وتعلم علماء الشركة كيفية استخراج البيانات الوصفية التنبؤية من «عادم البيانات» هذا واستغلالها في تحليل الأنماط المحتملة للسلوك في المستقبل.
وكان «التنبؤ» هو الحتمية الأولى التي حددت الحتمية الثانية: «الاستخراج». فالتنبؤات المربحة استلزمت تدفقات من البيانات البشرية على نطاق لا يمكن تصوره. ولم يكن المستخدمون يشكون في أن بياناتهم قد لوحقت سراً وجُمعت من كل زاوية من زوايا الإنترنت، ثم من التطبيقات، والهواتف الذكية، والأجهزة، والكاميرات، والمستشعرات لاحقاً. وكان إدراك «جهل» المستخدم بما يجري من أوثق مقومات النجاح. وكان كل منتج جديد وسيلة لمزيد من «الارتباط»، وهو تعبير ملطف يستخدم لإخفاء عمليات «الاستخراج» غير المشروعة.
عندما سُئل لاري بايج (أحد المؤسسين المشاركين للشركة): ما هي «غوغل»؟، وصف هذا المشروع في عام 2001، وفقاً لرواية مفصلة نشرها دوغلاس إدواردز، أول مدير للعلامة التجارية في «غوغل»، في كتابه «أشعر بأنني محظوظ» قائلاً: «التخزين رخيص. الكاميرات رخيصة. والناس سوف ينتجون كميات هائلة من البيانات. كل ما تسمعونه، أو تشاهدونه، أو تجربونه سوف يصبح قابلاً للبحث. حياتك كلها سوف تكون قابلة للبحث».
وبدلاً من بيع محرك البحث إلى المستخدمين، واصلت «غوغل» العمل من خلال تحويل محرك البحث لديها إلى أداة متطورة للمراقبة يمكنها التقاط البيانات البشرية. ولقد عمل المسؤولون التنفيذيون بالشركة على إبقاء هذه العمليات الاقتصادية سرية، وخفية عن المستخدمين، والمشرعين، والمنافسين. فقد عارض السيد بايج أي شيء من شأنه «إثارة قضية الخصوصية ويعرض قدرتنا على جمع البيانات للخطر»، كما نوه دوغلاس إدواردز.
وكانت عمليات الاستخراج على نطاق واسع هي حجر الزاوية في البناء الاقتصادي الجديد، وحلت محل اعتبارات أخرى، بدءاً من جودة المعلومات، لأنه في منطق رأسمالية المراقبة، لا ترتبط نزاهة المعلومات بالأرباح.
هذا هو السياق الاقتصادي الذي تنتصر فيه المعلومات المضللة. ومؤخراً في 2017، أقر إريك شميدت، الرئيس التنفيذي لشركة «ألفابيت» الشركة الأم لـ«غوغل»، بدور عمليات تصنيف اللوغاريتمات لدى «غوغل» في نشر المعلومات المضللة. وقال: «هناك خط لا يمكننا عبوره حقاً. من الصعب للغاية إدراك الحقيقة». فالشركة التي تضطلع بمهمة تنظيم جميع المعلومات العالمية وجعلها في متناول الجميع باستخدام أكثر أنظمة الماكينات تطوراً لا تستطيع تمييز المعلومات الفاسدة.
بدأ زوكربيرغ حياته المهنية في مجال الأعمال الحرة في عام 2003 بينما كان طالباً في جامعة هارفارد. وقد دعا موقعه الإلكتروني «فيس ماش» الزوار إلى تقييم جاذبية الطلاب الآخرين. وسرعان ما أثار غضب نظرائه وأغلق الموقع. ثم جاء «ذا فيسبوك» في عام 2004، ثم «فيسبوك» في عام 2005، عندما استحوذ زوكربيرغ على أول مستثمرين محترفين لديه.
زاد عدد مستخدمي «فيسبوك» بسرعة عالية؛ ولكن العائدات لم ترتفع بالتوازي. ومثله كمثل «غوغل» قبل بضعة أعوام، لم يتمكن زوكربيرغ من تحويل الشعبية إلى أرباح. وبدلاً من ذلك، انتقل من خطأ فادح إلى خطأ فادح آخر. وقد أدت انتهاكاته الفظة لتوقعات خصوصية المستخدمين إلى ردود فعل عنيفة من جانب عامة الناس، وإلى تقديم الالتماسات، والعرائض، ورفع الدعاوى القضائية. ويبدو أن زوكربيرغ أدرك أن الإجابة عن مشاكله تتعلق باستخلاص البيانات البشرية من دون موافقة لصالح الجهات المُعلنة، ولكن تعقيدات المنطق الجديد استعصت عليه.
شوشانا زوبوف