يعيش لبنان على إيقاع العواصف، فعاصفة “هِبَه” تأخذه يمينًا، وعاصفة “ياسمين” تأتي به يسارًا، ولكنّ اللبنانيّ لا تؤرقه كثيرًا هذه الأنواع من العواصف الموسميّة، إذ تبقى “طبيعيّة” وهو اعتاد التأقلم معها والتغلّب عليها بحنكته، وصموده، وإن كان وقعها المفاجئ يُربك مخطّطاته القصيرة المدى نوعًا ما. لكن ما يهابه هذا المواطن العتيد فعلًا، ما يقع عليه وقع الصاعقة، أي المراتب، والإحصائيّات، وتشعّب أسعار الصرف، وضياعه في تيّار من الأرقام. وعلى رغم من كثرتها، نجده قد سلّم أمره لها، وأخذ يُراقبها من بعيد، لا بل يتحاشى حتّى النظر والتمعّن فيها، لعلّ التجاهل يخفّف جزءًا من قساوتها.
آخر تلك “الأعاصير” الرقميّة الّتي ضربت لبنان، ولم تتسابق وسائل الإعلام على تغطيتها، أو تتفنّن وسائط التواصل الاجتماعيّ في نسج النكات عنها، هي الأرقام الصادرة عن آخر تقارير البنك الدوليّ عن الاقتصاد اللبنانيّ. فقد سجّل لبنان نسبًا قياسيّة عالميّة في تراجع اقتصاده وانكماشه. لكنّ التقرير لم يبدّل من نمط الشارع المائل إلى الاستسلام، ولو إلى حين، وكذلك لم يستطِع أن يرفّ حتّى رمشٍ عند اللاعبين الحكوميّين. فما نسمعه اليوم من شائعات حول رفع رسوم الدولار الجمركيّ، والسياسات الّتي تقلّل من حجم الانفاق المحلّيّ، وغيرها من الصواعق القاتلة، تؤكّد أنّ الحكومة ماضية في تقديمها إلى المواطن اللبنانيّ جميع ما يدفعه إلى تمنّي طوفان كطوفان نوح، لينتهي هذا المشهد إلى غير رجعة.
اليوم، تُصنّف الأزمة الاقتصاديّة الماليّة في لبنان في المراكز الثلاثة الأولى (الأخيرة) من بين أشدّ الأزمات حدّةً على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. ففي الواقع، انخفض الناتج المحليّ الإجماليّ اللبنانيّ من حوالى ٥٥ مليار دولار أميركيّ في العام ٢٠١٨ إلى ٣٣ مليارًا في العام ٢٠٢٠، وتابع انحداره ليقدّر بنحو ٢٠,٥ مليار دولار أميركيّ في العام ٢٠٢١، مع تراجع دخل الفرد بنسبة ٤٠٪. علمًا أنّ معدّل نموّ الناتج المحليّ الإجماليّ، وخصوصًا في الحالة اللبنانيّة يصحّ القول “انكماشه”، يُقارن معدّله بالتغيير السنويّ الحاصل في الناتج الاقتصاديّ للبلد، من أجل قياس مدى سرعة نموّ اقتصاده.
هكذا، وبحسب التقرير الذي نشره البنك الدوليّ في كانون الثاني العام ٢٠٢١، أصبح لبنان صاحب الرقم القياسيّ العالميّ الجديد بالوصول إلى أعلى معدّل انكماش للناتج المحليّ الإجماليّ للعام نفسه، وقد بلغ معدّل ٥٨٪. وللتذكير، فإنّ الانكماش الاقتصاديّ هو بالتعريف انخفاض في الناتج القوميّ مقاسًا بإجمالي الناتج المحلّيّ. يتضمّن ذلك انخفاضًا في الدخل الشخصيّ الحقيقيّ، والإنتاج الصناعيّ، ومبيعات التجزئة. وبالطبع، يرافقه انخفاض في الدخل، وارتفاع في معدّلات البطالة.
عادةً ما يرتبط هذا الانكماش القاسي بالنزاعات أو الحروب. إذ يستمرّ الاضطراب النقديّ والماليّ في تعزيز ظروف الأزمة. وفي المسرح اللبنانيّ، الذي يشهد “حربًا باردة”، عرف سعر الصرف تدهورًا أشدّ تسارعًا في الأشهر الماضية مع انخفاض سعر العملة المحلّيّة بمقارنتها بالدولار الأميركيّ بنسبة ٧٦٪، أي ٢٢,٠٠٠ ليرة لبنانيّة مقابل الدولار الأميركيّ الواحد. في هذه الأثناء، وصل معدّل التضخّم إلى أعلى مستوياته، فوضع لبنان في المرتبة الثالثة عالميًّا بمعدّل تضخّم بلغ ١٤٥٪ في العام ٢٠٢١.
إنّ نتيجة هذا التضخّم هي زيادة الفقر الذي يتصاعد مع ازدياد عدد السكان في لبنان الّذين يرزحون تحت خطّ الفقر بحسب المعايير الدوليّة، والذي يبلغ ٥,٥٠ دولار أميركيّ للفرد في اليوم الواحد. كما أنّ نسبة الأُسر التي تواجه تحدّيات في الحصول على الغذاء، والرعاية الصحيّة، والوقود كمصدر للتدفئة في هذه الأيّام الشتويّة العاصفة، وغيرها من الخدمات الأساسيّة، آخذة في الارتفاع.
كذلك، نجد أنّ التبعات التضخميّة هي من العوامل الارتداديّة القويّة، إذ تؤثّر بوجه غير متناسب على الفقراء والطبقة الوسطى الّتي تواجه خطر الإنقراض، مع وجود مجموعة صغيرة تستطيع الاستفادة من متغيّرات سوق الصرف وغيرها. وقد شهد لبنان انهيارًا كبيرًا في الخدمات الأساسيّة، بسبب شحّ احتياطيات النقد الأجنبيّ، وارتفاع تكلفة دعم استيراد العملات الأجنبيّة على المواد الغذائيّة، والوقود والأدوية.
لكن، السؤال الذي يُطرَح هنا: ما أسباب ارتفاع معدّل الانكماش، وهل ثمّة طرق لإيقافه؟ يحدث الإنكماش بسبب فقدان الثقة عمومًا، الذي يؤدّي إلى إبطاء الطلب، وغالبًا ما ينجم عن حدث ما. قد يكون الدافع وراءه زيادة في أسعار الفائدة، ممّا يقلّل الإنفاق في رؤوس الأموال. لكن في الواقع، يكمن السبب الحقيقيّ بحدثٍ مقنَّع وراء الحدث الذي تضجّ فيه وسائل الإعلام. ففي لبنان، جاءت فكرة زيادة الرسوم على تطبيق “الواتساب”، وكأنّها الزناد الّذي أطلق ثورة 17 تشرين، وتلاه انتشار وباء كوفيد-١٩، وانفجار مرفأ بيروت، إلخ… فأدّى ذلك إلى خفض الشركات من معدّلات إنفاقها، ثم تسريح عمّالها وموظّفيها. وهذا بدوره يؤدّي إلى تجفيف الإنفاق الاستهلاكيّ، ويقود السوق إلى مزيد من الخسائر في الأعمال والاستغناء عن كثير من الوظائف. وعادةً ما ينتهي الإنكماش عندما تنخفض الأسعار بدرجة كافية لجذب الطلب المتجدّد، وهذا بالطبع ما لا يعمل المسؤولون عليه، إذا لم نَقُل إنّهم يقومون بالعكس.
فمن ناحية أُخرى، يمكن للسياسة النقديّة لمصرف لبنان المركزيّ، والسياسة الماليّة الحكوميّة إنهاء الانكماش بسرعة أكبر، عندما تميل إلى إتخاذ خطوات عدة يمكننا تعدادها باختصار هنا:
1- خفض معدّلات الفائدة، كما طُبّقت على المدّخرات “المحتجزة” في المصارف اللبنانيّة، وإن لم يكن الدافع المباشر تحريك السوق، بل حماية أرباح المصارف، إذ تمّ خفض الفائدة على الودائع المذكورة وحسب.
2 – خفض الضرائب، وهذه ليست إحدى الإجراءات الّتي تقوم بها الحكومة اللبنانيّة اليوم، بل إنّها تتحدّث عن رفع باقة متنوّعة من الضرائب، من بينها قيمة الدولار الجمركيّ بحسب أسعار صرف مرتفعة، أي أنّها تقوم بالعكس تمامًا، فترفع الضرائب الّتي ستؤثّر على إنفاق المستهلك في نهاية المطاف.
3- زيادة في العرض النقديّ، وهذا ما تمّ القيام به لأشهر عدّة، أمّا اليوم يُطبّق التعميم الرقم 161 الصادر عن مصرف لبنان أخّيرًا، ممّا يدفع اللبنانيّين إلى التخلّص من الليرة اللبنانيّة المكدّسة مقابل بعض “الدولارات الطازجة”.
4 – زيادة الإنفاق، بالطبع ليست هذه هي الحالة في السوق اللبنانيّة اليوم، إذ أنّ كمّيّات البضائع الّتي يتمّ شراؤها أقلّ، على الرغم ما تُظهره الأرقام الأخيرة من زيادة في مبالغ الإنفاق، لكن هذه الزيادة تعود لارتفاع الأسعار الهائل بالليرة اللبنانيّة، وليس الإقبال على كمّيّاتٍ أكبر مستهلكة.
لذلك، يجب أن تكون هذه السياسات السابقة جزءًا لا يتجزّأ من استراتيجيّات الحكومة لتوفير أفضل الحلول للبطالة، ووقف نزيف هجرة اليد العاملة، والعقول المفكّرة، والمواهب المبدعة في لبنان.
كي يزيد الواقع اللبنانيّ في مأسويّته، ولتشتدّ العواصف الّتي تضربه حدّةً، احتلّ لبنان كذلك المرتبة الأولى بين أدنى نسبة إيرادات إلى الناتج المحلّيّ الإجماليّ في العام ٢٠٢١، حيث بلغت ٦,٦٪، ممّا يعني أنّ لبنان غير قادر على الإنفاق من أجل تحسين البنية التحتيّة، والصحّة، والتعليم، وهي عادةً عوامل أساسيّة طويلة المدى لازدهار اقتصاد أيّ بلد وكذلك شعبه.
إذ يمكننا أن نلاحظ بوضوح تدهور هذه البنى التحتيّة في البلد يومًا بعد يوم، حيث لا تزال الكهرباء مشكلة مستمرّة، وأصبحت أشبه بالمرض العضال الذي لا يمكن التعافي منه، والقمامة لا تزال منتشرة على الطرق، وهذه الطرق نفسها تحتاج إلى إعادة تأهيل، ولكن للأسف، لم يتبقّ أيّ أموال في صناديق البلديّات، أو المؤسّسات الأخرى للقيام بهذه المهمات التنمويّة، وتشتدّ هذه المصيبة في مواسم الطوفانات. وينسحب تطبيق هذه المعايير نفسها على الجامعات، والمدارس، والمستشفيات، وما إلى ذلك من صواعق تأتي على أُسس الدولة اللبنانيّة الواحدة تلو الأُخرى.
أمّا من ناحية الخطط الماليّة الحكوميّة، فهي تؤسَّس على علاقة بين النشاط الاقتصاديّ وعائدات الضرائب. لذلك عندما يرتفع النشاط الاقتصاديّ بسرعة أكبر، ترتفع الإيرادات الضريبيّة أيضًا بنحو مضطّرِد. فضرائب الشركات تقلّل الاستثمار، وتقلّص نموّ الإنتاجيّة. وعادةً في البلدان النامية مثل لبنان، تعتمد بمقدار أكبر على ضرائب الاستهلاك، وضرائب الدخل الفرديّ من اعتمادها على ضرائب دخل الشركات وضرائب الممتلكات، مما يمكّن المستثمرين، والشركات من أن تزيد إنتاجيّتها، فتدفعها الى توظيف مزيد من اليد العاملة الوطنيّة والأجنبيّة، الّتي بدورها تسدّد الضرائب المباشرة، وغير المباشرة، وتساهم في تحريك الدورة الاقتصاديّة-الماليّة للبلد.
ولأنّ كثيرين من المسؤولين يعيشون على التغنّي بالماضي، فرؤيتهم الاقتصاديّة هي أيضًا قائمة على الحنين الى أمجاد “أيّام العزّ”. إذ كان لبنان يُعتبر ملاذًا ضريبيًّا، وكان بيئة مستقرّة سياسيًّا واقتصاديًّا، توفّر للأفراد والشركات التزامات ضريبيّة مخفوضة أو معدومة. لكن، لا يمكننا التظاهر بأنّ هذه الشروط لا تزال قائمة في الوقت الحاضر أو حتّى على المدى القريب والمتوسّط.
لذلك، تُعتبر الجمارك، ورسوم الاستيراد، محرّكًا كبيرًا للإيرادات الحكوميّة، حيث تُفرض رسوم على البضائع المستوردة بمعدّلات عالية، كما قد يؤول إليه تفكير الحكومة اللبنانية في زيادة الدولار الجمركيّ على البضائع المستوردة. لكن يبقى السؤال: هل لدى المواطن اللبنانيّ بدائل لهذه المنتجات ليتمّ إنتاجها محلّيًّا؟ فإن أخذنا حليب الأطفال على سبيل المثال لا الحصر، هل سيستطيع ربّ الأُسرة اللبنانيّة من التضحية بمدخوله الشهريّ لشراء علبة حليب مستورد واحدة؟ بالطبع لا، فكيف يمكن للفقراء دفع ثمن هذه السلع الضروريّة وسدّ فجوات موازنة مصاريفهم الشهريّة؟؟؟
في الختام، سجّل لبنان رقمًا تاريخيًّا آخر للعام ٢٠٢١، حيث احتل المرتبة الرابعة في الدين الحكوميّ بالنسبة إلى الناتج المحلّيّ الإجماليّ، بنسبة قُدِّرت بِـ ١٨٣٪. لذلك، لن يكون لدى المستثمرين الدافع للاستثمار في بلد محفوف بالمخاطر غير قادر على سداد ديونه في المستقبل، ولا يوفِّر بنية تحتيّة استثماريّة مناسبة، علاوة على ذلك، سيؤثّر هذا الرقم على تكاليف الدين على الحكومة، التي ستكون أعلى في حال تمّ الاقتراض من صندوق النقد الدوليّ، أو من مفوّضيّة الاتّحاد الأوروبّيّ.
إنّ البلد الّذي كان يتغنّى بكونه منارة الشرق، التي تهتدي إلى مرافئه السفن من البلاد قاطبة، يعرف اليوم تسونامي من الأرقام الاقتصاديّة-الماليّة السلبيّة، قد تمحي سويسرا الشرق من الوجود، وهذا ما يرسمه السيناريو الأسود للبنك الدوليّ في تقريره الأخير، فانهيار السلَّم الاجتماعيّ وتحميل الطبقة الفقيرة والمتوسّطة العبء الأكبر لإغلاق الفجوة الاقتصاديّة، قد يرتدّ بهزّات داخليّة تقود البلاد إلى ضياع الأمل في التغيير، أقلّه في المستقبل القريب. فهل نقول هنيئًا لمن أعدّ هذه العاصفة الّتي تظهر وكأنّها طبيعيّة؟ أم أنّ الشعب سينقلب بطوفان أكبر يأتي على هذه الطبقة الحاكمة ويقلعها من جذورها إلى غير رجعة، وتظهر حمامة حاملة غصن زيتون مبشّرة بعهدٍ جديد…
البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ
بروفيسور في جامعة القديس يوسف