الغزو الروسي لأوكرانيا .. كيف سينعكس على الاقتصاد العالمي

حول تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا على الإقتصاد العالمي، كتب كريس غيلز وجوناثان ويتلي وفالنتينا رومي في صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، أن الغزو الروسي لأوكرانيا أدى إلى هز الأسواق المالية، كما يمكن التوترات الجيوسياسية المتزايدة أن تعزز ارتفاع التضخم وخنق سلسلة الإمدادات.

ويقول الإقتصاديون إن تداعيات العقوبات الإقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي على موسكو، ستضاف إلى العواقب غير المباشرة التي ستلحق برجال الأعمال وثقة المستهلكين وأسواق السلع.وهذه الترددات يمكن أن تتراوح ما بين الضرر المحدود والضرر البالغ. وإذا ما واصلت أسعار الطاقة ارتفاعها، على سبيل المثال، فإنها يمكن أن تدفع الإقتصاد العالمي بسهولة إلى ركود هو الثاني في ثلاث سنوات.

سيناريوات عدة
ويلفت الاقتصاديون إلى أنه يجب تتبع جملة من القضايا الأساسية، ومنها المدى الذي ستذهب إليه الحرب. ولا يبدو واضحاً كيف يرغب الرئيس فلاديمير بوتين في إنهاء الأمور. ويتوقع المحللون سيناريوات عدة تتراوح بين تغيير الحكومة في كييف إلى تنصيب حكومة موالية لموسكو، وصولاً إلى محاولة شاملة لإعادة رسم الحدود الدولية لأوروبا وما بعدها.
وقال رئيس الإقتصاديين في بنك بيرينبرغ هولغر شميدنغ إن أول شيء يجب أخذه في الاعتبار هو “إلى أي مدى ستسوء الحرب؟”، الأمر الذي سيحدد كيف سينعكس ذلك على أسواق المال والطاقة في الأيام المقبلة.

رد حاسم
ويقول اقتصاديون آخرون إن رد الفعل العالمي سيكون حاسماً. ويلفت تيم آش الاقتصادي في شركة “بلوباي آست مانجمانت” إلى موقف الصين، التي لمحت إلى أنها ستساعد روسيا على التعامل مع التداعيات المالية الناجمة عن أعمالها العسكرية.
وسيكون رد فعل الصين حيوياً على مستوى النتائج البعيدة المدى، التي يمكن أن تتراوح بين تلك الخبيثة المتعلقة بزيادة التوترات في علاقتها مع تايوان، إلى نتائج سياسية أقل حدة. وقال تيم آش: “إما أن تنظر (الصين) إلى الأمر على أنه فرصة للذهاب إلى تايوان، أو فرصة لتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة”.

صدمة جيوسياسية؟
والسؤال هل الأسواق قادرة على مواجهة صدمة جيوسياسية؟ وتدنت الأسواق المالية القيادية بحدة الخميس، لكن النتائج قد تكون أكثر سوءاً، مما يشير إلى أنها تفاجأت بأفعال بوتين، لكن من غير المرجح حتى الآن، حصول أزمة مالية. لكن يبقى الاحتمال مفتوحاً أمام حدوث المزيد من التدني في الأسواق، مع تداعيات على الشركات وثروة الأسر والاستهلاك والثقة العالمية.
إن تفادي انهيار الأسواق لم يكن عالمياً في حين أن الكثير من الاقتصادات الناشئة قد تعرضت لموجات أكثر حدة. ولاحظ كيفن دالي المدير في أبردين آست مانمجمنت، عمليات بيع مكثفة في غانا وتركيا ومصر وباكستان، مشيراً إلى هروب من البلدان المعرضة للخطر إلى أماكن آمنة.
وتعتمد أوروبا على نحوٍ كبيرٍ على الغاز المتدفق من روسيا ولا يمكنها العثور بسرعة على بدائل في حال توقف الإمدادات. ومع اقتراب انتهاء شتاء معتدل ومخزونات أعلى من المستويات العادية التي كان يتوقعها بعض محللي الطاقة، فإن مسألة إمدادات الغاز باتت أقل حدة لكن الأزمة ستبرز مجدداً في وقت لاحق إذا استمرت الحرب.
والقلق المباشر هو على مدى تأثير الأزمة على أسعار النفط والغاز. والإرتفاع الحاد سيفاقم التضخم ويلحق الضرر بالمستهلكين.
وقالت شركة “كابيتال إيكونوميكس شيرنغ” إن أسوأ السيناريوات لديها تتوقع ارتفاع سعر برميل النفط إلى ما بين 120 دولاراً و140 دولاراً للبرميل.

الغزو.. أجواء الاسواق وتفاعلاتها

 الغزو الروسي لأوكرانيا يدفع المستثمرين للبحث عن ملاذ آمن في الدولار الأمريكي في ظل تزايد الطلب على الملاذات الآمنة…وفي المقابل الأسواق العالمية تنقسم بين تبعات الحرب ومواجهة إجراءات التشديد النقدي العالمي وتقلبات شديدة تنال من حركة الأسهم وعوائد السندات.

ومع استمرار التركيز على التضخم بصفة رئيسية، كشفت بعض المؤشرات والدلائل الاقتصادية عن كيفية تحرك البنوك المركزية في المستقبل على الرغم من التوترات الناجمة عن الحرب… بينما من المتوقع أن تصعد أسعار النفط لتتجاوز 100دولار للبرميل وسط مخاوف توقف الإمدادات.

عاصفة من العقوبات

بعد يومين فقط من اعتراف فلاديمير بوتين باستقلال منطقتين انفصاليتين في أوكرانيا، قام قادة العالم بفرض المجموعة الأولى من العقوبات على روسيا.

واقتحمت القوات العسكرية الروسية شرق أوكرانيا حيث اعتبر فلاديمير بوتين تلك الخطوة ضرورية للحفاظ على أمن روسيا ضد توسع القوات الأمريكية وحلفائها في المنطقة.

وانتهز قادة العالم تلك الفرصة لشل الاقتصاد الروسي باتخاذ خطوات حذرة من خلال فرض المزيد من العقوبات لضمان الحد الأدنى من الأضرار الجانبية للتوقعات الحالية للتضخم.

حيث فرضت الولايات المتحدة عقوبات على البنوك الروسية والصادرات التكنولوجية بالإضافة إلى منع بيع أدوات الدين السيادية وفرض إجراءات الحظر على أفراد من النخبة الروسية.

في حين استهدفت المملكة المتحدة البنوك الروسية واتبع الاتحاد الأوروبي عقوبات مماثلة على النخب الروسية.

غزو شامل..الاحتماء بالدولار

وانعكست أصوات المعارك على جبهة تداولات العملات الأجنبية، مما أدى إلى كبت أي فرصة تدعم تقوية البيانات الاقتصادية.

وبدعم من التدفقات التي شهدتها أصول الملاذ الآمن، استحوذ الدولار على أي مكاسب محتملة من نظرائه، وتعرض اليورو لهزيمة ساحقة بعد أسبوع من التقلبات، اذ تراجع من أعلى مستوى بعد ملامسته حاجز 1.1350 ليصل إلى أدنى مستوى يسجله في عام 2022 بوصوله إلى 1.1100.

وتجاوز أخيراً مستوى 1.1267، في ظل أجواء التفاؤل الخافت على خلفية جهود وقف إطلاق النار.

من جهة أخرى، عاد الجنيه الإسترليني للارتفاع مجدداً إلى مستوى 1.3405 بعد تراجعه إلى 1.3375 وما يزال واقعاً تحت الضغوط نتيجة لآفاق النمو الاقتصادي المتشائمة غير المؤكدة التي يتوقعها المسؤولين.

وبالتحرك نحو الشرق، كانت الاصداء أضعف قليلاً، إذ فشل الين في التحرر من مستوى 115، وفي نصف الكرة الأرضية الجنوبي، تمكن الدولار الأسترالي بالكاد من حماية نفسه وظل محتفظاً بمركزه فوق مستوى 0.7232 بينما استعاد الدولار النيوزيلندي توازنه فوق مستوى 0.6700 بعد تراجعه قليلاً.

ضعف المعنويات

حقق الاقتصاد الأمريكي أداءً قوياً، إذ عكست بيانات مؤشر مديري المشتريات لقطاعي الصناعة والخدمات قراءات قوية، وجاءت مطالبات البطالة دون التوقعات إلى حد ما، هذا إلى جانب نمو الناتج المحلي الإجمالي على أساس ربع سنوي بنسبة 7.0% في الربع الأخير من العام وبما يتماشى مع التوقعات.

وفي ظل توقع اقدام مجلس الاحتياطي الفيدرالي على رفع أسعار الفائدة في اجتماعه المقبل، أدت تهديدات اندلاع التوترات الجيوسياسية وإضعاف النمو إلى تراجع ثقة المستهلك.

كما بدأت تلوح في الافق بعض التقلبات في ظل اعتماد قرار الاحتياطي الفيدرالي على مؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسي، والذي يعتبر مقياس التضخم الرئيسي، وتسجليه لمعدل نمو متسقاً مع التوقعات عند مستوى 0.5% على أساس شهري.

وصدرت على مدار الأسبوع العديد من البيانات الاقتصادية المتفرقة والتي شملت بيانات مؤشر مديري المشتريات الصادر عن معهد إدارة التوريدات الأمريكي لقطاعي الصناعة والخدمات، والتغيرات التي طرأت على تقرير الوظائف الصادر عن ADP، وأحدث معدلات البطالة قبل موعد شهادة رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول يوم الأربعاء.

انعكاس التداعيات

أدت الضربات الجيوسياسية إلى تأرجح عائدات السندات وأداء الأسهم بعنف حيث قاربت مجال التصحيح قبل أن تنتعش أخيراً بنهاية الأسبوع.

وأنهت مؤشرات ستاندرد اند بورز 500 وداو جونز وناسداك 100 تداولات الأسبوع على ارتفاع نتيجة للمجموعة الأخيرة من العقوبات التي تم فرضها على الصادرات مما عزز مكاسب الأسهم. في حين تعرضت عائدات سندات الخزانة لضغوط شديدة على خلفية معارك الملاذ الآمن حيث أدركت الأسواق التطورات الجيوسياسية والارتفاعات الوشيكة لأسعار الفائدة.

وبلغ عائد السندات لأجل 10 سنوات1.96 % بينما استقر العائد على السندات لأجل عامين عند مستوى 1.57%.

أوروبا والمملكة المتحدة

فشل الازدهار الاقتصادي الذي شهدته أوروبا في الآونة الأخيرة في مكافحة المخاوف الناجمة عن التوترات، وأدى ارتفاع الأجور وتخفيف القيود المرتبطة بالجائحة إلى تعزيز الطلب الاستهلاكي مما أدى بدوره إلى تحسن بيانات مؤشر القطاعين الصناعي والخدمات في ألمانيا والحفاظ على معنويات المستهلكين القوية.

وترددت أصداء المخاوف من امكانية تسليح بوتين صادرات الغاز إلى دول الجوار وتدفق اللاجئين الأوكرانيين على الدول المجاورة.

وهناك حالة من الترقب لخطاب رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد في وقت لاحق من الأسبوع الحالي حول النزاع القائم والبحث عن دلائل تشير إلى ضرورة تعديل توقعات السياسة النقدية في وقت لاحق من هذا العام.

مزيد من التشديد

وعلى الجانب الآخر أصبحت الرؤية الاقتصادية قاتمة بسبب التشاؤم على الرغم من تحسن بيانات مؤشر مدير المشتريات لقطاعي الصناعة والخدمات بوتيرة أفضل من المتوقع.

وأحتفظ مسؤولو بنك إنجلترا بنبرة حذرة ومتشائمة مع الميل نحو نهج بطيء وثابت للسيطرة على التضخم مع تلاشي الرهانات على رفع سعر الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس الشهر المقبل.

وفي خطوة استباقية قبل تعرض مستويات المعيشة للضغوط بسبب أسعار الطاقة والضرائب، سلط أندرو بيلي محافظ بنك إنجلترا الضوء على المخاطر التضخمية الإضافية الناجمة عن التوترات الأوكرانية، مما ساهم في كبح جماح الثقة في الاقتصاد.

ترقب وتأهب

في أستراليا، كان النمو الاقتصادي متوازن بعد أن جاءت قراءة مؤشر مديري المشتريات لقطاعي الصناعة والخدمات أفضل بكثير من الشهر السابق بينما جاء نمو الأجور كما كان متوقعاً.

ويحرص الاحتياطي الأسترالي على تقييم البيانات الاقتصادية قبل اتخاذ أي إجراءات. علماً بان مبيعات التجزئة الشهرية ستصدر هذا الأسبوع قبل اجتماعهم المقبل.

وارتفع معدل النمو الاقتصادي لدولة الجوار، نيوزيلندا، مع تزايد مبيعات التجزئة حيث شرعوا في رفع أسعار الفائدة للمرة الثالثة وأعلنوا بدء خفض المشتريات التدريجي في يوليو من العام الحالي.

صراع بنك الصين

في ظل انعكاس التداعيات الناجمة عن جائحة كوفيد-19 سلباً على النمو الاقتصادي، هذا بالإضافة على الصراعات الجيوسياسية، عزز بنك الشعب الصيني ضخ السيولة حيث أدى النزاع الحربي إلى جانب ركود سوق العقارات إلى اضطراب الأسواق.

وضخ بنك الشعب الصيني مبلغ صافياً قدره 290 مليار (48.5 مليار دولار) في السوق للحفاظ على استقرار مستويات السيولة في محاولة منه للسيطرة على نزيف الخسائر الذي قد ينتج عن العمليات البيعية المكثفة في السوق،نتعشت الأسهم الصينية بعد ضخ السيولة.

النفط

ارتفعت أسعار السلع الأساسية حيث قفزت أسعار النفط والذهب على نطاق واسع في ظل الاقبال على أصول الملاذ الآمن.

وتجاوزت أسعار النفط 100 دولار للبرميل مع صعودها على أمل دخول الامدادات الإيرانية سلسلة التوريد المتعثرة وتعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن بالاستفادة من الاحتياطيات إذا لزم الأمر.

كما صعدت أسعار الذهب في ظل التقلبات الفوضوية التي شهدتها الأسواق بعد أن قفز إلى 1950 دولاراً للأوقية ليصل إلى 1,889.34 للأوقية.

Reuters

الحروب الجيوإقتصادية تتقدّم على الجيوسياسية

يهتمّ كثير من الكتّاب والباحثين والصحافيين بالتنافس الجيوسياسي أكثر من اهتمامهم بالتنافس الجيو-اقتصادي. أصبحت اليوم الجيو-اقتصادية عاملاً مهمّاً في التنافس الجيوسياسي، بل تُستخدم الجيو-اقتصاديّة في كثير من الأحيان لتحقيق مآرب جيوسياسية. وقد يكون العكس صحيحاً أيضاً.

لكنّ أهميّة الجيو-اقتصاديّة تنبع من تراجع الحروب بين الدول. على الأقلّ إذا ما قيس بعدد الوفيات في الحروب. وعلى الرغم من أنّ هذه المقولة لها وجاهة، إلا أنّ البعض يراها خلافيّة لجهة القياس. لا يهمّنا الولوج في أدبيّات الموضوع بقدر ما يهمّنا بروز العامل الجيو-اقتصادي في العلاقات الدولية

 

كتاب “الحرب بوسائل أخرى: الجيو-اقتصاديّة وفنّ الحكم”، يُعرِّف الجيو-اقتصاديّة بأنّها “استخدام الأدوات الاقتصادية لتعزيز المصالح الوطنية والدفاع عنها، وتحقيق فوائد جيوسياسية، والتأثير على الأهداف الجيوسياسية للدول الأخرى من خلال الإجراءات الاقتصادية”.

ترى بعض الدول الكبرى أنّ الجيو-اقتصادية أقلّ كلفة من الوسائل العسكرية، على الأقلّ في المدى المتوسّط. ولا يسقط ضحايا من الدولة التي تفرض عقوبات اقتصادية بغية الوصول إلى مكتسبات جيوسياسية. ويبدو أنّ استخدام الأدوات الاقتصادية قد يكون باهظاً من الناحيتين الاقتصادية والمالية، إلا أنّ تكلفة وقوع ضحايا في الحروب لها مردودات سياسية سلبية أكبر على القادة السياسيين.

يذكر البعض أنّ مصطلح الجيو-اقتصاديّة وُلد من رحم نهاية الحرب الباردة التي أدّت إلى استخدام الأدوات الاقتصادية بدلاً من القوة العسكرية. وأصبح الاقتصاد هو المحرّك الأول للعلاقات الدولية والصراعات على المصادر الاقتصادية والأسواق التجارية. وعلى الرغم ممّا نرى من صراعات على مستوى متدنٍّ، مثل الإرهاب والحروب الميليشياوية، وبعض الحروب على الحدود بين الدول أو الحركات المسلّحة كما يحصل في إثيوبيا أو بين أذربيجان وأرمينيا، إلا أنّ التنافس الاقتصادي المحتدم بين الدول الكبرى والمتوسطة والصغيرة يشغل حيّزاً أكبر.

الرقائق الإلكترونية بدل السيوف

قال الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون، في كتابه “أغتنم الفرصة”، الذي نُشر في عام 1992، أي بُعيد الحرب الباردة، إنّه مع انتهاء الحرب الباردة أصبحت القوة الاقتصادية والجيو-اقتصادية أكثر أهميّة من القوة العسكرية والجيوسياسية: و”على أميركا ألا تضرب السيوف إلى محاريث [كما يقول الكتاب المقدّس]، بل إلى رقائق إلكترونية”.

 

لم يكن الاقتصاد يوماً غائباً عن الصراعات والتنافس الدولي، إلا أنّ القضايا الأمنيّة طغت على مجمل العلاقات الدولية. وفي فترة الحرب الباردة كان الصراع على كلّ المحاور السياسية والدبلوماسية والثقافية والعسكرية والاقتصادية والأيديولوجية، لأنّ الاتحاد السوفياتي كان يمثّل تحدّياً في كلّ المجالات، بل إنّ السوفيات يقدّمون أنفسهم كنموذج بديل للولايات المتحدة والغرب عموماً.

يُعتبر صعود الصين كقوة جيو-اقتصادية وازنة على مستوى العالم أحد أسباب تزايد الاهتمام بالجيو-اقتصاديّة. وتتخوّف الدول الغربية من أن يؤدّي التمدّد الاقتصادي الصيني، من خلال التجارة والاستثمار والمديونيّة والمساعدات الاقتصادية، إلى نفوذ جيوسياسي واسع في أطراف المعمورة. ولا تقدّم الصين نموذجاً أيديولوجيّاً بديلاً للتجارة الحرّة والانتقال السلس للرساميل، اللذين طالما تغنّت بهما الولايات المتحدة. بل إنّ الصين تستخدم الاقتصاد الحرّ للتوسّع الجيوسياسي. وقد تكون الصين بديلاً مهمّاً للغرب لأنّها لا تسعى إلى أن تفرض أجندتها السياسية أو أنماطها الثقافية. فهي شريك اقتصادي مريح لكثير من الدول التي تخشى تدخّل الدول الغربية، خاصة في ما يتعلّق بحقوق الإنسان من وجهة نظر غربية.

المواد الطبيعية كسلاح

شهدت المنطقة استخدام الموارد الطبيعية كسلاح في الصراعات الجيوسياسية في المنطقة. ولعلّ أشهرها يوم أعلن تاعتهل السعودي الراحل الملك فيصل وزعيمنا الراحل الشيخ زايد بن سلطان فرض حظر نفطي على الدول الداعمة لإسرائيل في حرب أكتوبر 1973. وقد كانت لتلك الخطوة آثارها الكبيرة في المفاوضات الدبلوماسية بين مصر والوسيط الأميركي هنري كيسنجر في فكّ الاشتباك بين القوات المصرية والقوات الإسرائيلية في سيناء.

على المنوال نفسه استطاعت الولايات المتحدة والدول الغربية جلب إيران إلى طاولة المفاوضات وتقديم تنازل في القضية النووية عبر سلسلة من العقوبات الاقتصادية التي تمّ فرضها على إيران. وقد مارس الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ما سُمّي بـ”الضغوط القصوى”، لإجبار إيران على تقديم تنازلات أكبر لتعديل الاتفاق النووي المبرم مع الإدارة السابقة في عام 2015.

وفي الوضع الحالي نرى كيف تهدّد الدول الغربية باستخدام الاقتصاد في ردع روسيا عن غزو محتمل لأوكرانيا. وتخشى الدول الغربية من ردّة فعل روسيا بأن تحظر تصدير الغاز الطبيعي إلى الدول الأوروبية المعتمِدة على الغاز الروسي. وقد سعت واشنطن إلى تغطية الانكشاف الأوروبي أمام الضغوط الروسية بوقف تصدير الغاز، محاولةً التعويض من خلال إيجاد مصادر أخرى مثل قطر.

وإذا ما نجحت الدول الغربية في منع اندلاع حرب بين روسيا وأوكرانيا، فإنّ الكثيرين سيدعون إلى استخدام السلاح الاقتصادي بشكل متزايد بدلاً من القوة العسكرية. ولكن مهما يكن الأمر فإنّ الجيو-اقتصاديّة سلاح ذو حدّين قد تقطع مستخدِمها مثلما تقطع خصومه!

د. البدر الشاطري

مقاربة جديدة تُعيد الودائع كاملة الى أصحابها

من يعتقد انّ إعادة الودائع الى أصحابها بالكامل من الامور المستحيلة واهم. ومن يعتقد انّ في الإمكان إنجاز هذه المهمّة بخطط التعافي على أنواعها واهمٌ اكثر. المعالجة في مكان آخر، وما ينقص، قرار بمقاربة مختلفة عمّا طُرح حتى الآن.

لم تُثبت مسودة توزيع الخسائر وإعادة الودائع التي أنجزها الفريق الذي كلّفته حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بالمهمة، فشلها فحسب، بل الأهم انّه تأكّد بما لا يقبل الشك، انّ محاولة إعادة الودائع بالطريقة الكلاسيكية المعروفة ستؤدّي الى واحد من أمرين:

اولاً- ظلم غير مسبوق في حق بعض أصحاب الودائع، بحيث انّ الهيركات الفعلي، وبعد احتساب حسم نسبة كبيرة من الفوائد وتصنيف الودائع الدولارية المحوّلة بعد تشرين 2019 والـBail-in، يتجاوز ما هو مُعلن في الخطة.

ثانياً- ظلم كبير موازٍ سيتعرّض له كل اللبنانيين، نتيجة إرهاق ورهن التعافي الاقتصادي في الـ15 عاماً المقبلة. ومع هذه الأثقال التي تقترحها الخطة، من البديهي انّ الفقر على مستوى الطبقة الوسطى سيستمر طوال هذه الأعوام، وربما أكثر، لأنّ التعافي لاحقاً يحتاج الى فترة إضافية خالية من الأثقال. وبالتالي، تكون الخطة كمن يرهن مستقبل البلد وناسه لـ20 أو 25 سنة مقبلة.

هذا الواقع يؤكّد المعادلة التالية: إما شطب القسم الأكبر من الودائع والتغاضي عن الظلم الذي سيلحق بالمودعين، من أجل إنقاذ الاقتصاد، وبالتالي مساعدة اللبنانيين على الخروج من الأزمة في غضون 6 أو 7 سنوات. وإما إعادة الودائع، والتغاضي عن الظلم الجماعي الذي سيلحق بالناس لسنوات طويلة تتجاوز العقدين.

في النتيجة، الأموال التي نحتاجها لرفع الظلم عن المودعين وتنفيذ خطة للتعافي غير موجودة. وبالتالي، إذا قرّرنا إنصاف هؤلاء، علينا ان نعتبر انّ اللبنانيين مديونون بما يوازي حجم الودائع، وعليهم ان يعملوا طوال الـ15 سنة المقبلة لإعادة هذه الأموال الى أصحابها. وهذا «الحل» ينطوي على ظلامة في حق الناس؟

ضمن هذه الأحجية، لا بدّ من تغيير اسلوب مقاربة الأزمة، والانتقال من مبدأ إعادة الودائع عشوائياً الى خطة الفصل بين المودعين. وبدلاً من تصنيفهم على أساس «كبير» و«صغير» و«محوّل من الليرة الى الدولار» و«مستفيد من فوائد سخية»، ينبغي تصنيفهم ضمن فئتين فقط: شرعي وغير شرعي. المودع الشرعي ينبغي ان يحصل، من حيث المبدأ، على وديعته بالكامل، وربما مع الفوائد بالكامل ايضاً. وغير الشرعي ينبغي أن تُصادر وديعته، ويشكر ربه لأنّه لن يُحاسب.

في الواقع، لم تعد المواجهة في مسألة الودائع بين المودع والبنك المركزي أو المصارف، بل أصبحت بين المودع والمواطن. وبالتالي، لا بدّ من تحويل الوضع الى مواجهة بين المودع الشرعي ومعه المواطن، مع المودع غير الشرعي. هذا التحوّل غير مُتاح سوى من خلال طريق وحيد: رفع السرية المصرفية عن كل الحسابات المصرفية، وسنّ قانون يعتبر انّ كل الحسابات المصرفية موضع شبهة، وبالتالي، مطلوب من صاحب كل وديعة يريد تحريرها، ان يقدّم المستندات الضرورية التي تُثبت شرعية وديعته، وانّها ليست نتيجة المال الحرام المنهوب من أموال المكلّفين.

هذا الحل ليس صعباً، كما يتوهّم البعض، طبعاً إذا توفرت الإرادة السياسية. اذ انّ المستند الأولي الوحيد المطلوب من المودع تقديمه لتبرئة وديعته من تهمة الفساد والسرقة، هو ان يُثبت انّه ليس من الـPEPs أولاً، وليس موظفاً في القطاع العام، وليس صاحب عمل مكشوف او يتعاطى مع القطاع العام. وبالتالي، هناك قسم من الودائع، يعتبر البعض انّه ليس كبيراً، وفي أضعف الإيمان أقل مما سيتبقّى، سيصبح فوق الشبهات. ولاحقاً، كل من ينتمي الى الفئة المُصنّفة مشبوهة، عليه أن يقدّم ما يُثبت انّه يمتلك المال من وراثة او عبر طريق عمل شرعي واضح، لا علاقة له بموقعه في الوظيفة العامة. وما تبقّى من ودائع سيصبح بمثابة أموال «وسخة». وبالتالي، تتم مصادرة هذه الأموال لمصلحة الخزينة.

هذه الطريقة في مقاربة معالجة ملف إعادة الودائع الى أصحابها، لا تحلّ مسألة حقوق المودعين فحسب، بل تسمح باستعادة الاموال المهرّبة غير الشرعية، في حين يتمّ استثناء الاموال الشرعية التي خرجت من البلد. بالإضافة الى ذلك، هذا الاسلوب يعيد الثقة والسمعة الجيدة الى الدولة اللبنانية، وهذا أهم مكسب في موضوع من هذا النوع. ومن المؤكّد انّ الاموال التي لا تزال متوفرة في المركزي، والاموال التي قد تُستعاد لأنّها غير شرعية، ستكون كافية لإعادة الودائع كاملة الى أصحابها. وهكذا يكون المودع «النظيف» استعاد حقوقه، والمودع الفاسد أعاد الأموال الى اصحابها (الخزينة)، والدولة استعادت هيبتها وكرامتها، وصار سهلاً عليها الانطلاق بخطة تعافٍ لن تأخذ وقتاً طويلاً قبل أن تأتي ثمارها، ويستعيد البلد وضعه الطبيعي. فهل من يجرؤ على مقاربة من هذا العيار والنوع؟

أنطوان فرح