حساب الدين العام في غياب قطع الحسابات: تفصيل المكونات ومعدلات الفوائد

شكّلت إشكالية الدين العام في لبنان مادة سجال دسمة، تبارز فيها اجتزاء المراحل والمكوّنات مع اختلاط قراءة الأرقام بين التوقعات الاستباقية والأرقام الفعلية، في ظلّ محطات من غياب استدامة إقرار الموازنات وقطع الحسابات في محطات عديدة. بعد الانهيار المالي الشامل، لا بدّ من قراءة مفصّلة وفق القواعد الإقتصادية والصدقية العلمية، تسمح بتفنيد دقيق للمعلومات المتوفّرة حول الدين العام وأبرز عناصر تطوّره، قبل أن يفقد إستدامته. متى وكيف بدأ خلل المالية العامة؟ في أي محطات غابت فيها الموازنات وقطع الحسابات؟ وكيف تطوّر الدين وأي تواريخ بارزة في هذا المسار؟

منذ نيل لبنان إستقلاله وحتى العام 1962 كانت موازناته العامة تقليدياً تسجّل فوائض، ولم يكن يعرف إشكالية البحث عن تمويل العجز ولا القلق من سبل تمويله. وقد اعتُبر عام 1962 عام التحوّل من فائض الى عجز المالية العامة في لبنان للمرة الاولى بمعدّل 13.2% من النفقات. بين عام 1962 حتى عام 1975، عندما بدأت الحرب في لبنان، كانت جميع الميزانيات تعاني من عجز، باستثناء موازنات الأعوام 1971 و 1972 و 1974 عشية اندلاع حرب 1975. منذ عام 1975 وحتى اليوم، أصبحت الموازنات اللبنانية المتتالية تعاني من عجز مالي. علماً أنّ الموازنة تقدّم كل سنة الأرقام «المتوقعة» للسنة التالية، في حين يعطي «قطع الحساب» الأرقام «الفعلية» للسنة المنصرمة. أول غياب لقطع حسابات الموازنات العامة وحسابات المهمّة (حسابات الخزينة) كان بين عام 1979 وعام 1993. وحديثاً تكرّر الأمر بوقف قطع الحسابات المستمر منذ عام 2004 وحتى عام 2020.

 

وتميّزت حقبة 1983- 1984 بتنامي عجزين: عجز المالية العامة وعجز ميزان المدفوعات. أما الاقتراض من المصرف المركزي، فقد أجازته إتفاقية عُقدت بين وزارة المالية وبين المصرف المركزي في العام 1977، سمحت للحكومة بأن تحصل على قروض استثنائية، بغية تمويل تسيير أجهزة الدولة، وإعادة الإعمار. وقد رُفع سقف هذه القروض اكثر من مرّة بعد ذلك التاريخ. وكان ذلك يتمّ بموجب مادة في قانون الموازنة تجيز للحكومة تعديل الاتفاقية المذكورة بمرسوم. وقد بقي ارتفاع سقف هذه القروض محدوداً حتى العام 1982، إلّا انّ حقبة 1982- 1984، شهدت رفعاً لسقف التسليفات من المصرف المركزي للحكومة، بما يتجاوز ستة اضعاف. ففي حين كان سقف هذه التسليفات يساوي 2500 مليون ل.ل. بتاريخ 18 ايلول 1982، اصبح يساوي 16000 مليون ل.ل. في آخر العام 1984. وقد ارتفع حجم الدين العام نتيجة ذلك من أقل من 7 مليارات ل.ل. في آخر العام 1981، إلى أكثر من 14 مليار ل.ل. في آخر العام 1982.

 

واضطرت الدولة إلى اللجوء إلى الديون الخارجية والداخلية لتمويل تطوير المشاريع التي توقف تنفيذها. ومن أجل تمويل عجز الميزانية المتزايد في مناخ من التوترات وعدم الاستقرار السياسي والأمني، أصبح العرض النقدي وطباعة العملة منذ عام 1982 يتجاوز بشكل واضح الاحتياجات الاقتصادية للبلاد، وتترجم ذلك بانطلاق مسار التضخّم حتى بلوغ التضخّم المفرط بمجمل 487% عام 1987 و»هروب» الناس الاختياري باتجاه «الدولرة» وفرضها كأمر واقع..

 

بعد عام 1985، لم تعد الحكومة ترسل مشروع الموازنة إلى مجلس النواب على النحو المنصوص عليه في الدستور. وأقرّ البرلمان إمكانية التصويت على قوانين تسليفات إضافية لموازنة عام 1985، أو اللجوء إلى طلب سلفات خزينة.

 

وقد فرضت الدولة على المصارف إلزامية الاكتتاب بسندات الخزينة على مواردها من الليرة اللبنانية. وأدّت خاتمة فترة الحرب في عامي 1989 و 1990 إلى تفاقم وضع المالية العامة وأدّى انخفاض الإيرادات الضريبية إلى اعتماد الخزينة العامة، بالإضافة إلى الديون، على أرباح مصرف لبنان التي يتمّ تحويلها إليه بموجب قانون النقد والتسليف. وبلغت حصة أرباح مصرف لبنان في تمويل الخزينة حوالى 62% من إيرادات الموازنة في عام 1989 و 38.5% من إيرادات الموازنة في عام 1990.

وبعد غياب الموازنة لمدة 5 سنوات، اتسمت نهاية عام 1990 بإصدار الموازنة العامة. تحسن وضع المالية العامة نسبياً، لكن استمرار العجز أدّى إلى نمو قوي في الدين العام الداخلي الذي زاد بنسبة 66% عام 1991 و 92% عام 1992. في نهاية العام 1992 كان مجموع الدين العام الثابت المتوجب على الخزينة اللبنانية يعادل نحو 3 مليارات دولار أميركي، منه 327.5 مليون دولار أميركي والباقي بالليرة اللبنانية.

 

وابتداءً من العام 1993 وحتى العام 2005 انتظم من جديد العمل المؤسساتي في المالية العامة وعُرفت موازنة العام 2005 بـ»الموازنة الإصلاحية»، وترافقت مع آخر قطاع حساب عن العام 2004، قبل أن يتوقّف صدور قطوعات الحسابات من جديد ويستمر غيابه الى اليوم! لا بل توقّف أيضاً إقرار الموازنات المالية من العام 2005 حتى العام 2016، قبل أن يُعاود صدور الموازنات عام 2017 ولكن دون قطع حسابات.

 

مجموع الإنفاق ما بين العام 1993 والعام 1998 كان يتوزع بين: الدعم لمؤسسة كهرباء لبنان؛ المبالغ المخصّصة لصندوق المهجرين ولمجلس الجنوب؛ رواتب وأجور لموظفي القطاع العام ومعاشات التقاعد؛ خدمة الدين العام…

 

عام 2011 كان عام انقلاب كل المؤشرات الاقتصادية في لبنان، تزامن مع انقلاب مناخ الاستقرار السياسي، تبدّل مسار مؤشر الدين العام/الناتج المحلي ليعاود ارتفاع بعد سنوات من الانخفاض المتتالي، وكان قطاع الكهرباء يراكم سلفات بالدولار الأميركي وفوائد عليها تخطّت 18 مليار دولار حتى العام 2011 مما رفع الدين بالدولار لأكثر من 21 مليار دولار. واستمرت الكهرباء بتسجيل عجز مالي سنوي بحوالى 2 مليار دولار وتتراكم عليها الفوائد حتى باتت تفوق الـ43 مليار دولار. مع الإشارة الى الفرق بين حسابات الموازنة وحسابات الخزينة، حيث أنّ وزارة المال لا تكتفي بعمليات الموازنة بل تتولّى أيضاً عمليات الخزينة التي تشمل بين سواها دفع سلفات خزينة لمؤسسة كهرباء لبنان ولسائر المؤسسات والبلديات وفروقات الدين العام.

 

نسبة إجمالي الدين العام المستحق إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان أصبحت من بين أعلى المعدلات في العالم. في عام 2006، بلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ذروة بلغت 183%. وتراجعت النسبة تدريجياً لتصل إلى 131% في عام 2012 وتعاود المسار التصاعدي المتواصل.

 

بين عامي 1993 و 2001، اعتمدت الحكومة اللبنانية في البداية على الاقتراض الكبير من السوق المحلية، وشكّلت الديون بالليرة اللبنانية حوالى 81.3% من إجمالي الدين.

 

وقد تمّ إجبار المصارف على الاكتتاب بسندات الخزينة حتى 60% من إلتزاماتها بالليرة اللبنانية، وخُفّض المعدل إلى 40% في عام 1994 ثم أُلغي في عام 1997.

 

من عام 2002 إلى عام 2008، تصاعدت حصّة الديون بالعملات الأجنبية مع بدء مؤتمر باريس الذي عُقد في شباط 2001، فشكّل متوسّط الديون بالعملات الأجنبية 49.1% من إجمالي الدين من 2002 إلى 2008. وعاود الدين بالليرة اللبنانية النمو ليشكّل من 2010 إلى 2018 متوسّط 60.25% من مجموع الدين.

 

وبلغت عائدات الدين بالعملة المحلية، خصوصاً على سندات الخزينة عن عام وعامين، مستويات عالية تخطّت 30% في التسعينيات. واشترك اللاعبون المحليون بشكل رئيسي في الديون بالعملة المحلية على أساس عائد مرتفع لتعويض المخاطر العالية. على هذا النحو، تأثرت عائدات سندات الخزينة اللبنانية لعامين، التي احتفظت المصارف المحلية بمعظمها بعائد 33.6% في آب وأيلول 1992، قبل أن ينخفض تدريجباً الى حدود 7.1% مطلع العام 2019.

 

علماً أنّه بدءاً من العام 2016 أصبح الاتجاه الى خفض خدمة الدين العام باعتماد سياسات نقدية غير تقليدية عُرفت بـ»الهندسات المالية» بالتوافق بين وزارة المال والمصرف المركزي والمصارف اللبنانية، بغية استبدال تدريجي لجزء من الدين بالليرة بدين بالدولار (يوروبوند)، كون الفوائد على اليوروبوند أقل من الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية نظراً لفارق عامل المخاطرة بين العملتين.

وبين الفوائد المرتفعة التي كان يتمّ دفعها لتوظيفات المصارف في مصرف لبنان، والفوائد الأقل التي كان ينالها المصرف المركزي مقابل توظيف جزء من هذه الأموال في عمليات شراء سندات الخزينة، كان مصرف لبنان يتحمّل فارق الفوائد كخسائر في الموازنة طوال السنوات الماضية. وكانت مختلف التوترات السياسية تضغط على مناخ الثقة للاستثمار وتدهور تصنيف لبنان السيادي لدى مؤسسات التصنيف «فيتش»، «موديز» و«ستاندرد أند بورز»، مما يؤدي الى رفع الفوائد لتعويض المخاطر..

 

اليوم قارب مجموع الدين العام الـ100 مليار دولار وفق الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة المال، إنما فعلياً فقط أقل من ثلثه بالدولار الأميركي والباقي هو بالليرة، وقد تدنت قيمته كثيراً إذا تمّ تقويمه على أساس سعر الدولار في السوق.

 

يبقى أنّ الدين العام كما مجمل الإشكاليات الإقتصادية، لا يمكن قراءته بمعزل عن الإشكاليات السياسية التي أحاطت به ورافقته، من منطلق تأثيرها المباشر على المناخ الاستثماري وثقة المموّلين وعامل المخاطرة الذي يُترجم بمعدلات فوائد الدين لإقناع المكتتبين.. وإذا كان حساب الدين مسألة علمية مستندة الى حسابات تقنية، إلّا أنّ المحاسبة عليه تتطلّب بإلحاح تسلسلاً متكاملاً في قطع الحسابات، لأنّ المالية العامة لا تكتفي بموازنات متوقعة بل تحتاج أرقاماً فعلية مثبتة.​

د. سهام رزق الله