تطورات الاقتصاد والمال لا يختلف عليها المحررون لاختيار الخبر الأول لنشرة الأخبار، ليحظى بأكبر وقت من التحليل أو حالة الصحافة المطبوعة، كمانشيت الصفحة الأولى. موضوع المانشيت يعرف بـsplash في شارع الصحافة الإنجليزي. و«سبلاش» تعني الطلاء (الدهان) الذي يغطي الواجهة بلون واحد، أصلاً من اندفاع الماء (طرطشة بالمصرية) ليغطي مساحة كبيرة. الاقتصاد والمال هما الاهتمام الأول (عند أي تغير في مسارهما) لمستهلك سوق الصحافة والأخبار، أي القارئ والمستمع والمتفرج، لما في ذلك من تأثير بالغ على حياته اليومية.
لم يكن الخبر الأول أزمة أوكرانيا وروسيا (كان وزير دفاع بريطانيا في موسكو، ورئيس حكومتها في شرق أوروبا وكذا قواتها)؛ ولم يكن الألعاب الشتوية في الصين؛ أو بدء ولي العهد الأمير تشارلز، أيام عزلة لإصابته بفيروس «كورونا» للمرة الثانية؛ أو التهديد للعالم بامتلاك إيران سلاحاً نووياً، ومصير مواطنين بريطانيين تحتجزهم طهران، أو حتى مصير بوريس جونسون كرئيس، وهل يستقيل كما تطالب الصحافة والمعارضة، أم ينجو بجلده ومنصبه؟
الخبر الأول والأكبر، كان نمو اقتصاد البلاد بمعدل سبعة ونصف في المائة في عام 2021؛ الأكبر والأسرع منذ 1941. أسباب عديدة وراء الاهتمام البالغ، فالاقتصاد البريطاني هو الأكبر والأسرع نمواً في الفترة نفسها في كل البلدان الصناعية المتقدمة، لكن التوقيت نفسه بالغ الأهمية، ويحتاج المزيد من التحليل والفحص.
تحليلات الاقتصاديين تمزج التفاؤل الحذر، بالتساؤلات، وبداية خلافات وربما صراعات أطرافها الحكومة وأصحاب الأعمال والمؤسسات والمستثمرون والاتحادات العمالية والنقابات المهنية.
توقيت نشر المكتب القومي للإحصاءات للأرقام جاء اليوم الأول لإجازة البرلمان كالمعتاد في هذا الوقت سنوياً (يعود للانعقاد في 21 من الشهر الحالي)، في ختام أسبوع عصفت فيه رياح غير مواتية بسفينة الحكومة. فبنك إنجلترا (المركزي) رفع أسعار الفائدة قبل أيام بسبب التضخم، متوقعاً تجاوزه معدلاته بنسبة 7 في المائة، وأهم الأسباب تضاعف أثمان البترول والغاز المستورد بضع مرات، وتأثيرها على أثمان السلع الأساسية والضروريات، أي انخفاض عام في مستوى المعيشة. كما أن وزير المالية والمعاملات التجارية، ريشي سوناك، مصرّ على زيادة في رسوم الضرائب ورسوم التأمينات الاجتماعية لمواجهة عجز هائل في الميزانية بسبب الإنفاق غير المتوقع لمساعدة العاملين والأعمال على مواجهة إغلاق «كوفيد» (وإن اتهمته المعارضة بزيادة الضرائب هذا العام ليخفضها بعد عامين استمالة للأصوات عشية الانتخابات البرلمانية في 2024).
خبراء بنك إنجلترا كانوا قد وجهوا نداءات وتحذيرات إلى مسؤولي الاتحادات العمالية قبل أسبوع، بعدم المطالبة بزيادة الأجور والمرتبات لمواجهة ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم المتوقعة، لأن ارتفاع الدخول يؤدي لزيادة القدرة الشرائية، فالإنفاق، وبالتالي يساهم في زيادة معدلات التضخم في دائرة مستمرة، فتحاول البنوك المركزية إبطاء دورانها برفع سعر الفائدة.
أكبر الاتحادات العمالية والمهنية (يونيسون)، الذي يمثل العاملين في القطاع العام والخدمات، اغتبط زعماؤه بالنبأ، ولأنهم سيطالبون بزيادة الأجورـ فمعدلات النمو، قد تزيد على معدلات التضخم. وبالنسبة للأخيرة، فإن جدل المطالبين بزيادة الأجور، أن ارتفاع التضخم سببه الرئيسي سلعة واحدة فقط من مجموعة سلع وخدمات كقياس للمقارنة بين فترتين. السلعة المقصودة ليست من الكماليات، ولا يمكن الاستغناء عنها وتؤثر على مستوى معيشة الجميع أغنياء وفقراء، وهي بالطبع أسعار الوقود – والتي يبدو ارتفاعها مؤقتاً. لكن كلمة «مؤقت» قد تعني شهوراً ستتجاوز السنة المالية التي خططت وزارة المالية لميزانيتها في الخريف الماضي. التطورات جددت جدلاً آخر بشأن أسعار الوقود، وضرورة تدخل الخزانة لتقديم المزيد من الدعم لمجابهة الزيادة في أسعار فواتير الطاقة المنزلية.
حزب العمال المعارض، يريد تمويل الدعم بفرض ضرائب استثنائية على شركات البترول والغاز، خاصة بعد أن حققت شركة البترول البريطانية أرباحاً في الفترة نفسها (2021) تقارب 13 مليار دولار، بينما تجاوزت أرباح منافستها، شل للبترول، 19 مليار دولار. العمال، والصحافة اليسارية، جددت المطالبة بالضريبة الاستثنائية الطارئة، بينما يحاول الاقتصاديون التقليديون، شرح معلومات (تتجاهلها أكثرية وسائل الصحافة)، أن حملة الأسهم في شركات الطاقة التي تزداد قيمتها من الأرباح ليسوا، بالتعبير الساخر «القطط السمان» (الذي يطلقه الاشتراكيون على «الرسمالي الجشع»)، وإنما هم صناديق استثمار مدخرات أصحاب المعاشات، والمؤسسات الخيرية، ومدخرات الاتحادات العمالية والمهنية (وبينهم الصحافيون المطالبون بالضرائب الاستثنائية)
سوناك، المسؤول عن اقتصاد بريطانيا، رفض، في مقابلاته يوم الجمعة، تعديل لائحة علاوات موظفي الحكومة والقطاع العام، لمواجهة زيادة الأسعار ومعدلات التضخم المتوقعة، والإبقاء على نسبتها في الميزانية، علاوة ما بين اثنين وثلاثة في المائة، وتعني نقصاً حقيقياً في القدرة على الإنفاق على الضروريات.
العامل الآخر الذي يعقّد من تحليل تأثير أفضل تطورات في أرقام الاقتصاد بالنسبة للحكومة البريطانية، وللشعب، أن معدلات النمو الاقتصادي الأفضل – سبعة ونصف في المائة ليس واقعياً تقدماً مطرداً، بل تعود فقط بالمستوى الاقتصادي إلى ما كانت عليه البلاد قبل عامين، في هذا الوقت بالتحديد من عام 2020، عشية الوباء الذي أغلق اقتصاد البلاد وعطل الإنتاج، وانخفض معدل النمو الاقتصادي بقرابة تسعة ونصف في المائة مع نهاية العام نفسه. وكان الرقم الأسوأ منذ 1919، والذي صادف أيضاً ارتفاعاً هائلاً في البطالة بعد تسريح الجنود في نهاية الحرب العالمية الأولى، إذ ارتفعت البطالة خمسة أضعاف من أقل من اثنين ونصف في المائة في 1919 إلى عشرة ونصف في المائة منتصف 1921.
الفارق اليوم، أن نسبة البطالة انخفضت إلى أربعة في المائة في نهاية العام الماضي (رغم إغلاق كثير من الأنشطة الاقتصادية بسبب الوباء) وهي مثل ألمانيا، وأفضل من فرنسا (ثمانية في المائة) ومعظم أوروبا، وهذا بدوره يؤدي إلى ارتفاع في الأجور، لأن الغالبية العظمي (84 في المائة) يعملون في قطاع خاص، أو لأنفسهم، مقارنة بـ16 في المائة في القطاع العام هم فقط من تستطيع الحكومة تحديد أجورهم.
فقط الأسابيع والأشهر المقبلة، وتطورات مواجهة الوباء، وتحريك حركة التجارة التي تعطلت بسبب الإغلاق العالمي، ومدى التغيير في أسعار المحروقات، ستحدد ما إذا كان التفاؤل الكبير بأخبار الاقتصاد يوم الجمعة مبكراً عن الأزمة أم سيترجم إلى واقع إيجابي؟
عادل درويش