الحروب الجيوإقتصادية تتقدّم على الجيوسياسية

يهتمّ كثير من الكتّاب والباحثين والصحافيين بالتنافس الجيوسياسي أكثر من اهتمامهم بالتنافس الجيو-اقتصادي. أصبحت اليوم الجيو-اقتصادية عاملاً مهمّاً في التنافس الجيوسياسي، بل تُستخدم الجيو-اقتصاديّة في كثير من الأحيان لتحقيق مآرب جيوسياسية. وقد يكون العكس صحيحاً أيضاً.

لكنّ أهميّة الجيو-اقتصاديّة تنبع من تراجع الحروب بين الدول. على الأقلّ إذا ما قيس بعدد الوفيات في الحروب. وعلى الرغم من أنّ هذه المقولة لها وجاهة، إلا أنّ البعض يراها خلافيّة لجهة القياس. لا يهمّنا الولوج في أدبيّات الموضوع بقدر ما يهمّنا بروز العامل الجيو-اقتصادي في العلاقات الدولية

 

كتاب “الحرب بوسائل أخرى: الجيو-اقتصاديّة وفنّ الحكم”، يُعرِّف الجيو-اقتصاديّة بأنّها “استخدام الأدوات الاقتصادية لتعزيز المصالح الوطنية والدفاع عنها، وتحقيق فوائد جيوسياسية، والتأثير على الأهداف الجيوسياسية للدول الأخرى من خلال الإجراءات الاقتصادية”.

ترى بعض الدول الكبرى أنّ الجيو-اقتصادية أقلّ كلفة من الوسائل العسكرية، على الأقلّ في المدى المتوسّط. ولا يسقط ضحايا من الدولة التي تفرض عقوبات اقتصادية بغية الوصول إلى مكتسبات جيوسياسية. ويبدو أنّ استخدام الأدوات الاقتصادية قد يكون باهظاً من الناحيتين الاقتصادية والمالية، إلا أنّ تكلفة وقوع ضحايا في الحروب لها مردودات سياسية سلبية أكبر على القادة السياسيين.

يذكر البعض أنّ مصطلح الجيو-اقتصاديّة وُلد من رحم نهاية الحرب الباردة التي أدّت إلى استخدام الأدوات الاقتصادية بدلاً من القوة العسكرية. وأصبح الاقتصاد هو المحرّك الأول للعلاقات الدولية والصراعات على المصادر الاقتصادية والأسواق التجارية. وعلى الرغم ممّا نرى من صراعات على مستوى متدنٍّ، مثل الإرهاب والحروب الميليشياوية، وبعض الحروب على الحدود بين الدول أو الحركات المسلّحة كما يحصل في إثيوبيا أو بين أذربيجان وأرمينيا، إلا أنّ التنافس الاقتصادي المحتدم بين الدول الكبرى والمتوسطة والصغيرة يشغل حيّزاً أكبر.

الرقائق الإلكترونية بدل السيوف

قال الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون، في كتابه “أغتنم الفرصة”، الذي نُشر في عام 1992، أي بُعيد الحرب الباردة، إنّه مع انتهاء الحرب الباردة أصبحت القوة الاقتصادية والجيو-اقتصادية أكثر أهميّة من القوة العسكرية والجيوسياسية: و”على أميركا ألا تضرب السيوف إلى محاريث [كما يقول الكتاب المقدّس]، بل إلى رقائق إلكترونية”.

 

لم يكن الاقتصاد يوماً غائباً عن الصراعات والتنافس الدولي، إلا أنّ القضايا الأمنيّة طغت على مجمل العلاقات الدولية. وفي فترة الحرب الباردة كان الصراع على كلّ المحاور السياسية والدبلوماسية والثقافية والعسكرية والاقتصادية والأيديولوجية، لأنّ الاتحاد السوفياتي كان يمثّل تحدّياً في كلّ المجالات، بل إنّ السوفيات يقدّمون أنفسهم كنموذج بديل للولايات المتحدة والغرب عموماً.

يُعتبر صعود الصين كقوة جيو-اقتصادية وازنة على مستوى العالم أحد أسباب تزايد الاهتمام بالجيو-اقتصاديّة. وتتخوّف الدول الغربية من أن يؤدّي التمدّد الاقتصادي الصيني، من خلال التجارة والاستثمار والمديونيّة والمساعدات الاقتصادية، إلى نفوذ جيوسياسي واسع في أطراف المعمورة. ولا تقدّم الصين نموذجاً أيديولوجيّاً بديلاً للتجارة الحرّة والانتقال السلس للرساميل، اللذين طالما تغنّت بهما الولايات المتحدة. بل إنّ الصين تستخدم الاقتصاد الحرّ للتوسّع الجيوسياسي. وقد تكون الصين بديلاً مهمّاً للغرب لأنّها لا تسعى إلى أن تفرض أجندتها السياسية أو أنماطها الثقافية. فهي شريك اقتصادي مريح لكثير من الدول التي تخشى تدخّل الدول الغربية، خاصة في ما يتعلّق بحقوق الإنسان من وجهة نظر غربية.

المواد الطبيعية كسلاح

شهدت المنطقة استخدام الموارد الطبيعية كسلاح في الصراعات الجيوسياسية في المنطقة. ولعلّ أشهرها يوم أعلن تاعتهل السعودي الراحل الملك فيصل وزعيمنا الراحل الشيخ زايد بن سلطان فرض حظر نفطي على الدول الداعمة لإسرائيل في حرب أكتوبر 1973. وقد كانت لتلك الخطوة آثارها الكبيرة في المفاوضات الدبلوماسية بين مصر والوسيط الأميركي هنري كيسنجر في فكّ الاشتباك بين القوات المصرية والقوات الإسرائيلية في سيناء.

على المنوال نفسه استطاعت الولايات المتحدة والدول الغربية جلب إيران إلى طاولة المفاوضات وتقديم تنازل في القضية النووية عبر سلسلة من العقوبات الاقتصادية التي تمّ فرضها على إيران. وقد مارس الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ما سُمّي بـ”الضغوط القصوى”، لإجبار إيران على تقديم تنازلات أكبر لتعديل الاتفاق النووي المبرم مع الإدارة السابقة في عام 2015.

وفي الوضع الحالي نرى كيف تهدّد الدول الغربية باستخدام الاقتصاد في ردع روسيا عن غزو محتمل لأوكرانيا. وتخشى الدول الغربية من ردّة فعل روسيا بأن تحظر تصدير الغاز الطبيعي إلى الدول الأوروبية المعتمِدة على الغاز الروسي. وقد سعت واشنطن إلى تغطية الانكشاف الأوروبي أمام الضغوط الروسية بوقف تصدير الغاز، محاولةً التعويض من خلال إيجاد مصادر أخرى مثل قطر.

وإذا ما نجحت الدول الغربية في منع اندلاع حرب بين روسيا وأوكرانيا، فإنّ الكثيرين سيدعون إلى استخدام السلاح الاقتصادي بشكل متزايد بدلاً من القوة العسكرية. ولكن مهما يكن الأمر فإنّ الجيو-اقتصاديّة سلاح ذو حدّين قد تقطع مستخدِمها مثلما تقطع خصومه!

د. البدر الشاطري

مقاربة جديدة تُعيد الودائع كاملة الى أصحابها

من يعتقد انّ إعادة الودائع الى أصحابها بالكامل من الامور المستحيلة واهم. ومن يعتقد انّ في الإمكان إنجاز هذه المهمّة بخطط التعافي على أنواعها واهمٌ اكثر. المعالجة في مكان آخر، وما ينقص، قرار بمقاربة مختلفة عمّا طُرح حتى الآن.

لم تُثبت مسودة توزيع الخسائر وإعادة الودائع التي أنجزها الفريق الذي كلّفته حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بالمهمة، فشلها فحسب، بل الأهم انّه تأكّد بما لا يقبل الشك، انّ محاولة إعادة الودائع بالطريقة الكلاسيكية المعروفة ستؤدّي الى واحد من أمرين:

اولاً- ظلم غير مسبوق في حق بعض أصحاب الودائع، بحيث انّ الهيركات الفعلي، وبعد احتساب حسم نسبة كبيرة من الفوائد وتصنيف الودائع الدولارية المحوّلة بعد تشرين 2019 والـBail-in، يتجاوز ما هو مُعلن في الخطة.

ثانياً- ظلم كبير موازٍ سيتعرّض له كل اللبنانيين، نتيجة إرهاق ورهن التعافي الاقتصادي في الـ15 عاماً المقبلة. ومع هذه الأثقال التي تقترحها الخطة، من البديهي انّ الفقر على مستوى الطبقة الوسطى سيستمر طوال هذه الأعوام، وربما أكثر، لأنّ التعافي لاحقاً يحتاج الى فترة إضافية خالية من الأثقال. وبالتالي، تكون الخطة كمن يرهن مستقبل البلد وناسه لـ20 أو 25 سنة مقبلة.

هذا الواقع يؤكّد المعادلة التالية: إما شطب القسم الأكبر من الودائع والتغاضي عن الظلم الذي سيلحق بالمودعين، من أجل إنقاذ الاقتصاد، وبالتالي مساعدة اللبنانيين على الخروج من الأزمة في غضون 6 أو 7 سنوات. وإما إعادة الودائع، والتغاضي عن الظلم الجماعي الذي سيلحق بالناس لسنوات طويلة تتجاوز العقدين.

في النتيجة، الأموال التي نحتاجها لرفع الظلم عن المودعين وتنفيذ خطة للتعافي غير موجودة. وبالتالي، إذا قرّرنا إنصاف هؤلاء، علينا ان نعتبر انّ اللبنانيين مديونون بما يوازي حجم الودائع، وعليهم ان يعملوا طوال الـ15 سنة المقبلة لإعادة هذه الأموال الى أصحابها. وهذا «الحل» ينطوي على ظلامة في حق الناس؟

ضمن هذه الأحجية، لا بدّ من تغيير اسلوب مقاربة الأزمة، والانتقال من مبدأ إعادة الودائع عشوائياً الى خطة الفصل بين المودعين. وبدلاً من تصنيفهم على أساس «كبير» و«صغير» و«محوّل من الليرة الى الدولار» و«مستفيد من فوائد سخية»، ينبغي تصنيفهم ضمن فئتين فقط: شرعي وغير شرعي. المودع الشرعي ينبغي ان يحصل، من حيث المبدأ، على وديعته بالكامل، وربما مع الفوائد بالكامل ايضاً. وغير الشرعي ينبغي أن تُصادر وديعته، ويشكر ربه لأنّه لن يُحاسب.

في الواقع، لم تعد المواجهة في مسألة الودائع بين المودع والبنك المركزي أو المصارف، بل أصبحت بين المودع والمواطن. وبالتالي، لا بدّ من تحويل الوضع الى مواجهة بين المودع الشرعي ومعه المواطن، مع المودع غير الشرعي. هذا التحوّل غير مُتاح سوى من خلال طريق وحيد: رفع السرية المصرفية عن كل الحسابات المصرفية، وسنّ قانون يعتبر انّ كل الحسابات المصرفية موضع شبهة، وبالتالي، مطلوب من صاحب كل وديعة يريد تحريرها، ان يقدّم المستندات الضرورية التي تُثبت شرعية وديعته، وانّها ليست نتيجة المال الحرام المنهوب من أموال المكلّفين.

هذا الحل ليس صعباً، كما يتوهّم البعض، طبعاً إذا توفرت الإرادة السياسية. اذ انّ المستند الأولي الوحيد المطلوب من المودع تقديمه لتبرئة وديعته من تهمة الفساد والسرقة، هو ان يُثبت انّه ليس من الـPEPs أولاً، وليس موظفاً في القطاع العام، وليس صاحب عمل مكشوف او يتعاطى مع القطاع العام. وبالتالي، هناك قسم من الودائع، يعتبر البعض انّه ليس كبيراً، وفي أضعف الإيمان أقل مما سيتبقّى، سيصبح فوق الشبهات. ولاحقاً، كل من ينتمي الى الفئة المُصنّفة مشبوهة، عليه أن يقدّم ما يُثبت انّه يمتلك المال من وراثة او عبر طريق عمل شرعي واضح، لا علاقة له بموقعه في الوظيفة العامة. وما تبقّى من ودائع سيصبح بمثابة أموال «وسخة». وبالتالي، تتم مصادرة هذه الأموال لمصلحة الخزينة.

هذه الطريقة في مقاربة معالجة ملف إعادة الودائع الى أصحابها، لا تحلّ مسألة حقوق المودعين فحسب، بل تسمح باستعادة الاموال المهرّبة غير الشرعية، في حين يتمّ استثناء الاموال الشرعية التي خرجت من البلد. بالإضافة الى ذلك، هذا الاسلوب يعيد الثقة والسمعة الجيدة الى الدولة اللبنانية، وهذا أهم مكسب في موضوع من هذا النوع. ومن المؤكّد انّ الاموال التي لا تزال متوفرة في المركزي، والاموال التي قد تُستعاد لأنّها غير شرعية، ستكون كافية لإعادة الودائع كاملة الى أصحابها. وهكذا يكون المودع «النظيف» استعاد حقوقه، والمودع الفاسد أعاد الأموال الى اصحابها (الخزينة)، والدولة استعادت هيبتها وكرامتها، وصار سهلاً عليها الانطلاق بخطة تعافٍ لن تأخذ وقتاً طويلاً قبل أن تأتي ثمارها، ويستعيد البلد وضعه الطبيعي. فهل من يجرؤ على مقاربة من هذا العيار والنوع؟

أنطوان فرح

عام 2011 نقطة تحوّل الاقتصاد اللبناني: 5 مؤشرات قرعت جرس الإنذار…

من المؤكّد أنّ العام 2011 شكّل نقطة مفصلية باتجاه الانقلاب السلبي في جميع المؤشرات الاقتصادية، لا بل إنّه شكّل للاقتصاديين المطّلعين، علامات ارتسام صورة جديدة عن المرحلة اللاحقة وقرع أجراس إنذار على مختلف المستويات. 5 مؤشرات رئيسية كانت مراقبتها كفيلة بتحديد حجم وأطر وأبعاد المخاطر المتنامية والمتسارعة، حتى بلوغ لحظة الصفر خريف العام 2019. لماذا تدهور ميزان المدفوعات؟ كيف ازدادت الهوة بين تزايد دولرة الودائع وهبوط موجودات الجهاز المصرفي بالعملات الأجنبية؟ كيف انزلق النمو الاقتصادي؟ علامَ ارتكز تزايد العجز المالي؟ كيف عاد ارتفاع الدين العام/الناتج المحلي بعد سنوات من الانخفاض التدريجي؟

صحيح أنّ عناصر كل انهيار إقتصادي تبدأ عادة بالتلاقي وتغذية بعضها من بعض، لتؤسس لتحوّل تدريجي في المشهد العام، يُفقِد الثقة بالمناخ الاستثماري ويجعل الآثار السلبية تتمدّد بين مختلف المؤشرات وتتفاعل بين مجمل القطاعات، إلّا أنّ انقلاب الصورة الاقتصادية في لبنان منذ عام 2011 بالشكل الصارخ الذي أظهرته 5 مؤشرات رئيسية، يجعل من الضروري التمعّن بها عن كثب.

ميزان المدفوعات: تاريخياً، لطالما كان الرصيد الإيجابي لميزان المدفوعات يستند الى فائض ميزان الرساميل الذي يغطي عجز الميزان التجاري، كون لبنان بلد مستورد بشكل كبير، بل أنّه حتى لصادراته يضطر إلى استيراد معظم موادها الأولية، فضلاً عن التجهيزات والطاقة وغيرها.

هذا يعني أنّ استقطاب الرساميل بالعملات الأجنبية هو العمود الفقري لتغطية حاجات البلاد من العملات الأجنبية وصمود الإقتصاد. عملياً، تمكّن لبنان من المحافظة على توازن ميزان المدفوعات بالاستناد الى مصادر أساسية للدولار، هي اجتذاب الودائع من الخارج والتوظيفات المالية والاستثمارات الأجنبية، لاسيما للاستثمار في القطاع العقاري، الذي شهد فترة ذهبية، فضلاً عن الإقبال السياحي، وخصوصاً الإنفاق الكبير بالعملات الأجنبية من السياح القادمين من بلدان الخليج. (رسم 1)

الهوة بين تطور الودائع والموجودات بالعملات الأجنبية:
هذه العناصر مجتمعة أوصلت لبنان الى ارتفاع فائض ميزان المدفوعات الى أكثر من 7 مليارات دولار عام 2009، قبل الهبوط الحاد والتحولّ الى عجز بحدود الملياري دولار عام 2011، ثم تراكم عجوزات بمليارات الدولارات، باستثناء العام 2016، الذي تمّ فيه تسجيل «فائض اصطناعي» في ميزان المدفوعات جراء استقطاب دولارات من الخارج لتوظيفها في الداخل تحديداً في الأوروبوند، وشهادات إيداع المصرف المركزي بالعملات الأجنبية عبر «الهندسات المالية»، في محاولة شراء الوقت في غياب الإصلاحات المالية والإدارية الفعلية… وتجديد احتياطاته بالعملات الأجنبية لاستمرار تثبيت سعر الصرف في ظل استمرار ارتفاع الدولرة حتى طيلة الـ22 عاماً من تثبيت سعر الصرف. (رسم 2)

هبوط النمو الاقتصادي
ومع بداية تضييق «مصادر الدولار» الى لبنان بعد اندلاع الأزمة في سوريا من جهة وإسقاط حكومة لبنان عام 2011 وتبدّل مناخ الاستقرار السياسي، تترجمت زيادة المخاطر على المناخ الاستثماري، وتضاعفت عوامل المخاطرة في البلاد (المؤثرة على الفوائد وعلى التصنيف السيادي، كما ذكرت حينها جميع تقارير مؤسسات موديز، فيتش، ستاندرد بورز…)، وزيادة انغماس الجهاز المصرفي في تمويل العجز المتمادي للدولة ولسدّ حاجات المصرف المركزي من احتياطات الدولار، مما انعكس انكماشاً بمستوى الحركة الاقتصادية، وبالتالي معدل النمو الاقتصادي للناتج المحلي.. فنمو الناتج المحلي الذي سجّل معدّلا يفوق الـ8.25% خلال السنوات الأربع التي سبقت العام 2011، هبط بشكل حاد لحدود الـ1%، وبات منذ حينها لا يلامس الـ2% بل ينزلق تباعاً مع تراجع النشاط الاستثماري والحركة في مختلف القطاعات… (رسم 3)

تنامي عجز المالية العامة:
صحيح أنّ حال المالية العامة في لبنان لم يكن على ما يرام منذ سنوات الحرب، واستمر كذلك في الفترة التي تلتها، لاسيما مع تزايد الإنفاق وعدم إمكانية تغطية الإيرادات أمام الإنفاق، إلّا انّ نمو الاقتصاد كان أقلّه يحسّن الوعاء الضريبي ويقلّل من العجز المالي، وكانت تنصبّ الجهود نحو تحقيق فائض أولي (أي دون احتساب خدمة الدين السنوية)، بغية إعادة ضبط تنامي كرة ثلج الدين العام وتعزيز إمكانية كسر الحلقة المفرغة، من تراكم العجز المالي السنوي والاضطرار الى الاستدانة ضمناً لتسديد فوائد الدين العام. إلّا انّ عام 2011 أعاد «خنق» الاقتصاد وازدياد العجز المالي وتنامي الدين الى الناتج المحلي. (رسم 4)

 

تنامي الدين العام/الناتج المحلي:
منذ عام 2011، ارتفعت نسبة الدين العام/الناتج المحلي الإجمالي بشكل مستمر، لتتجاوز 180% في نهاية عام 2019 مع تدهور وضع المالية العامة وزيادة الدين العام، مع تراجع معدل النمو الاقتصادي، بعد أن كان انخفض هذا المؤشر تدريجياً منذ عام 2006، حيث كان بحدود 180%، الى حوالى 131% عام 2010. ومن أبرز مكوّناته، الإنفاق الجاري لخدمة الدين العام (الفوائد على الدين)، أجور القطاع العام وسلفات تغطية عجز مؤسسة كهرباء لبنان. علماً أنّه يصعب تحديد عتبة إفلاس أو عدم استدامة الدين العام بشكل مطلق لجميع البلدان، ولكن تحدّد «معايير ماستريتش» للمالية العامة: سقف 3% من العجز المالي الى الناتج المحلي، وسقف 60% نسبة الدين العام الى الناتج المحلي. (رسم 5-6)

 

عزل روسيا: المجهول الجديد للاقتصاد العالمي

تكدس العقوبات الاقتصادية الغربية لمعاقبة روسيا على غزوها لأوكرانيا مجموعة جديدة من العوامل المجهولة على الاقتصاد العالمي الذي تضرر بالفعل بسبب جائحة فيروس كورونا وعشر سنوات من القروض منخفضة الفائدة.

وتعد محاولة استبعاد قطاعات كاملة من الاقتصاد الذي يحتل المركز الحادي عشر على مستوى العالم من النظام التجاري غير مسبوقة في عصر العولمة مع الأخذ في الاعتبار أيضا أن روسيا هي المورد لسدس جميع السلع.

وستؤثر العقوبات التي تم الكشف عنها حتى الآن على أعمال البنوك الروسية التي تتعامل بالدولار واليورو والجنيه الاسترليني والين. كما ستحد قيود التصدير الأمريكية من وصول روسيا إلى الإلكترونيات وأجهزة الكمبيوتر بينما تعمل العواصم الأوروبية على تعديل ضوابط وإجراءات مماثلة للتصدير لاستهداف قطاعي الطاقة والنقل.

وفي الوقت الحالي، لن تفرض الدول الغربية على الاقتصاد الروسي أي شيء مثل العزلة، فالغاز الذي تعتمد عليه أوروبا سيستمر في التدفق وستحتفظ البنوك الروسية بإمكانية الوصول إلى نظام تبادل الرسائل المصرفية العالمي سويفت .

لكن لا يزال من الممكن اتخاذ المزيد من الإجراءات العقابية، في حين أن فوضى الصراع والتدابير المضادة المتوقعة من قبل موسكو تجعل من المحتمل أن يكون هناك بعض العزلة للاقتصاد الروسي وموارده الضخمة.

وقالت مجموعة أوراسيا لاستشارات المخاطر السياسية في مذكرة إن “من المرجح أن تتسبب الحرب والعقوبات واحتمال قيام روسيا برد فعل انتقامي مؤثر في صدمة ركود عالمي قاسية”.

وأضافت “من المرجح أن تتسبب العقوبات المفروضة على البنوك والتجارة الروسية في اضطرابات خطيرة في التجارة العالمية والعلاقات المالية مع آثار واسعة النطاق”.

وسيكون التأثير المبدئي متواضعا، لا سيما بعد عامين من كوفيد-19 واللذين شهدا ركودا عالميا.

وقالت شركة أكسفورد إيكونوميكس إنها تتوقع الآن أن يصل التضخم العالمي هذا العام إلى 6.1 بالمئة ارتفاعا من 5.4 بالمئة، استنادا إلى تأثير العقوبات واضطراب الأسواق المالية وارتفاع أسعار الغاز والنفط والغذاء.

وعلى الرغم من أن هذا سيزيد من المخاوف بشأن تكلفة المعيشة، خفضت أكسفورد توقعاتها لنمو الناتج العالمي 0.2 نقطة إلى 3.8 بالمئة هذا العام و0.1 نقطة فقط إلى 3.4 بالمئة في عام 2023.

وهذه الجرعة الصغيرة من “التضخم المصحوب بالركود الاقتصادي” تمثل مشكلة للبنوك المركزية التي تحاول تقليل التحفيز وإعادة أسعار الفائدة الأساسية إلى ما يشبه المعدل الطبيعي بعد عقد من الزمن وهي بالقرب من الصفر.

لكن في الوقت الحالي، يوجد إجماع على أن التشديد يمكن أن يستمر بحذر.

 

ستعتمد التغييرات الهيكلية الأكثر عمقا على كيفية تأثير العقوبات في الوقت المناسب، لا سيما في مجالات السلع والطاقة والتمويل.

وقال أحد المحامين المتخصصين لرويترز إنه حتى بدون استبعاد البنوك الروسية من نظام سويفت، فإن مجرد تأثير العواقب القانونية على أي بنك غربي يثبت أنه انتهك العقوبات يمكن أن يكون له “تأثير مخيف على الأعمال”.

الشيء نفسه ينطبق على الخدمات المالية الأخرى.

وتظل كيفية تطبيق العقوبات على موارد الطاقة والسلع الروسية الضخمة غير واضحة.

وتنتج روسيا عشرة بالمئة من النفط العالمي وتزود أوروبا بأربعين بالمئة من الغاز. كما أنها أكبر مصدر للحبوب والأسمدة في العالم، وأكبر منتج للبلاديوم والنيكل، وثالث أكبر مصدر للفحم والصلب، وخامس أكبر مصدر للأخشاب.

وقال الرئيس الأمريكي جو بايدن إن العقوبات مصممة بحيث يكون لها تأثير تجميد طويل الأجل على الاقتصاد الروسي. فكيف يمكن أن ترد موسكو على تلك العزلة الزاحفة؟

وقالت وزارة الاقتصاد الروسية يوم الجمعة إنها تتوقع اشتداد ضغوط العقوبات التي تعرضت لها منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، وإنها تخطط لتعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية مع دول آسيوية.

 

وسيعتمد مثل هذا المحور بشكل خاص على رؤية بكين فائدة في ظهور تكتل تجاري صيني روسي كبديل قابل للتطبيق للقنوات الغربية.

وبعد مشاكل سلاسل التوريد في عصر الجائحة، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تفاقم ارتفاع الأسعار ونقص السلع اللذين يضران بالاقتصاد العالمي.