يبدو انّ صندوق النقد الدولي ليس مرتاحاً للنص الجديد الذي قدّمته الحكومة على أساس انّه نسخة مُعدّلة لخطة التعافي التي تمّ الاتفاق عليها في نيسان. النقطة التي وضع عليها الصندوق علامة استفهام تتعلّق بالغموض الذي يكتنف كيفية معالجة موضوع الخسائر في القطاع المالي. وما هو دور الدولة في هذه المعالجة.
وبموضوعية، هناك خمس نقاط اساسية كان يُفترض بالخطة معالجتها، وهي: الاصلاحات، الحماية الاجتماعية، السياسة الضريبية، انتظام المالية العامة، توزيع الخسائر تمهيداً لإعادة إطلاق عمل القطاع المصرفي.
هذه النقاط الخمس تشمل بطبيعة الحال مسألة الودائع وما يتصل بها من مسؤوليات يُفترض ان يتمّ توزيعها على الدولة ومعها مصرف لبنان، المصارف وأصحابها، ومن ثم المودعين.
في عملية تفنيد دقيق لما ورد في ما سُمّي خطة، للنقاط الخمس، يتبيّن مقدار الغموض والتسويف والعجن واللكن في الكلام، من دون ان تكون هناك دقة رقمية او زمنية (إلّا فيما ندر) وهي الأساس في أي معالجة جدّية لهذه المشاكل.
اولاً- في موضوع الاصلاحات، تكتفي الخطة بلمحات غير كافية، وتنقصها الدقّة بما يوحي بعدم جدّيتها. وعلى سبيل المثال، تتحدث الخطة عن» ﺗﺟﻣﯾد اﻟﺗوظﯾف ﻋﻠﻰ ﻣدى اﻟﺳﻧوات اﻟﻘﻠﯾﻠﺔ اﻟﻣﻘﺑﻠﺔ ﻓﻲ اﻟﻘطﺎع اﻟﻌﺎم ﻛﺎﻓﺔ.» طبعاً، إلى جانب انّ مثل هذا القرار سبق وتمّ اتخاذه، ومن ثم رأينا إلى اين وصل، حيث تمّ توظيف اكثر من 5 آلاف شخص خلافاً للقانون، ولا يزالون في مواقعهم الوظيفية، وكان اللافت هذه المرة استخدام عبارة «السنوات القليلة المقبلة»، فكيف سيتمّ تفسير ذلك؟ 3 أو 5 أو 10 سنوات أو اكثر. كلها ينطبق عليها هذا التعبير الفضفاض. أو ان تقول الخطة انّه سيتمّ «رﺑط أي زﯾﺎدة ﻓﻲ رواﺗب ﻣوظﻔﻲ اﻟﻘطﺎع اﻟﻌﺎم ﺑزﯾﺎدة ﻓﻲ اﻹﻧﺗﺎﺟﯾﺔ». هذه العبارة اصبحت مملة من كثرة تكرارها منذ عقود. كذلك تتمّ مقاربة ملف الكهرباء الأكثر حساسية بالطريقة الانشائية نفسها. إذ تتحدث الخطة عن ضرورة تنفيذ الخطة التي أُقرّت، وكأنّ المواطن منع الحكومة من تنفيذ خطتها. او ان يُقال انّه ينبغي تشكيل هيئة ناظمة ورفع تعرفة الكهرباء. وكأنّ البنك الدولي لا ينتظر منذ اكثر من 8 اشهر هذه الخطوات ولم تُنفّذ حتى الآن. أو كأنّ الموفد الفرنسي بيار دوكان لم ينتظر لسنتين تحقيق هذه الخطوة لبدء الافراج عن اموال «سيدر»، ولم تُنفّذ.
ثانياً- في موضوع الحماية الاجتماعية المطلوبة في الفترة المقبلة خلال تنفيذ برنامج التمويل، لا تحدّد الخطة أية اجراءات عملية، بل تتحدث عن «ﺣﻣﺎﯾﺔ اﻹﻧﻔﺎق اﻻﺟﺗﻣﺎﻋﻲ ﺑﻣﺎ ﻓﯾه ﻗطﺎعا اﻟﺗﻌﻠﯾم واﻟﺻﺣﺔ، واﻟﺗﺧﻔﯾف ﻣن ﺣدّة اﻟﻔﻘر»… و»فسّر إذا فيك تفسّر».
ثالثاً- في موضوع السياسة الضريبية، تعلن الخطة بوضوح انّها ستبقي على الضريبة على ارباح الشركات كما هي (17%)، لكنها عندما تتحدث عن زيادة الضريبة على القيمة المضافة، والتي تطال المواطن مباشرة، فانّها تستخدم الغموض عبر القول: «ﻣن اﻟﻣﻣﻛن زﯾﺎدة ﻣﻌدل اﻟﺿرﯾﺑﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﻘﯾﻣﺔ اﻟﻣﺿﺎﻓﺔ اﻟذي ﯾﺑﻠﻎ ﺣﺎﻟﯾﺎً 11 ﻓﻲ اﻟﻣﺋﺔ».
رابعاً- في موضوع انتظام المالية العامة، فحدّث ولا حرج عن الغموض الخبيث والمكشوف. وهنا تكتفي الخطة باستخدام حرف «السين»، والوعود على طريقة «ﺳﺗﺳﻌﻰ اﻟﺣﻛوﻣﺔ إﻟﻰ ﺗﻘﻠﯾص ﻋﺟز اﻟﻣوازﻧﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﻣدى اﻟﻣﺗوﺳط» و» ﺗﻌﺗزم ﺧﻔض ﻧﺳﺑﺔ اﻟدﯾن إﻟﻰ اﻟﻧﺎﺗﺞ اﻟﻣﺣﻠﻲ اﻹﺟﻣﺎﻟﻲ بشكل تدريجي». أين الخطة في هذا الكلام؟ ألا يُفترض ان تحدّد نسبة العجز المستهدف، ونسبة التدرّج السنوي في هذا الخفض، والطريقة التي ستسمح بهذا الخفض؟
خامساً- في موضوع معالجة وتوزيع الخسائر، وهو الملف الأكثر حساسية، فإنّ الحل بالنسبة للحكومة هو في ان يكون هذا البند هو الاكثر غموضاً في نصّها الادبي الذي أسمته خطة. فهي تتحدث عن «ﻣﻌﺎﻟﺟﺔ اﻟﺧﺳﺎﺋر اﻟﺗﻲ ﺗﻛﺑّدهﺎ اﻟﻘطﺎع اﻟﻣﺎﻟﻲ ﺑﺷكل ﻋﺎدل وﻣﻧﺻف». وما علينا لكي نعرف كيف ستفعل الحكومة ذلك، سوى أن نبحث في المعجم عن معنى عادل ومنصف!
واللافت انّ الخطة تعترف بالوقائع ثم تلتف عليها. فهي تعترف مثلاً، انّه «ﻻ ﯾﻣﻛن ﻟﻣﺻرف ﻟﺑﻧﺎن ﻓﻲ هذه اﻟﻣرﺣﻠﺔ أن ﯾﻌﯾد ﻟﻠﺑﻧوك ﻣﺟﻣل وداﺋﻌهﺎ ﺑﺎﻟﻌﻣﻼت اﻷﺟﻧﺑﯾﺔ»، كما «ﻻ ﯾﻣﻛن ﻟﻠﺑﻧوك أن ﺗﻌﯾد ﻣﻌظم اﻣوال ﻣودﻋﯾهﺎ ﻓﻲ اﻟوﻗت اﻟذي ﯾطﻠﺑوﻧه وﺑﺎﻟﻌﻣﻠﺔ ذاﺗهﺎ».
وبالإضافة إلى لغة العدل والانصاف في توزيع الخسائر، تلجأ الخطة إلى تعبير انشائي مطّاط، كأن تقول انّ المطلوب «ﺣﻣﺎﯾﺔ اﻟﻣودﻋﯾن إﻟﻰ أﻗﺻﻰ ﺣدّ ﻣﻣﻛن». وما علينا سوى ان نفسّر معنى «أقصى حدّ ممكن» لكي نُدرك ما هي المبالغ او النسب التي سيحصل عليها المودعون.
وتلجأ الخطة إلى العبارة نفسها في مكان آخر، لتحديد حجم مشاركتها في تعويض الخسائر، فتقول انّها ستشارك «إﻟﻰ أﻗﺻﻰ ﺣدّ ﻣﻣﻛن ﻓﻲ اﺳﺗﻌﺎدة اﻟﻣﻼءة اﻟﻣﺎﻟﯾﺔ ﻟﻣﺻرف ﻟﺑﻧﺎن».
وطبعاً، تبقى مسألة كيفية التعاطي مع حقوق المودعين في المصارف التي قد تتمّ تصفيتها. وهنا ايضاً تبدو الخطة جازمة وواضحة في قرار ﺣل اﻟﻣﺻﺎرف اﻟﺗﺟﺎرﯾﺔ ﻏﯾر اﻟﻘﺎدرة ﻋﻠﻰ اﻻﺳﺗﻣرار». و»ﺣﻣﺎﯾﺔ ﺟﻣﯾﻊ اﻟﺣﺳﺎﺑﺎت ﻟﻐﺎﯾﺔ ﻣﺑﻠﻎ 100 أﻟف دوﻻر، وهذا اﻷﻣر ﻣﺷروط ﺑﻛﻔﺎﯾﺔ ﺣﺟم أﺻول ﻛل ﻣﺻرف ﻋﻠﻰ ﺣدة». وهنا الطامة الكبرى، حيث يتداخل الغموض بالخبث وتصبح اعادة الودائع بمعدل 100 الف دولار، غير مضمونة. كما انّ عدد المصارف التي قد تتمّ تصفيتها يصعب تقديره، طالما انّ مشاركة الدولة في تعويض الخسائر غامص إلى هذا الحد.
يبقى الخوف الأكبر، اننا ننتظر بفارغ الصبر توقيع اتفاق مع صندوق النقد لبدء مرحلة الخروج من الأزمة، لكن مع هذا الكمّ من الغموض والخبث والعجز، قد ننضمّ إلى لائحة الدول «المضروبة»، والتي تتعاون مع صندوق النقد، وتحصل على برامج تمويل وقروض متتالية، لكنها باقية في دائرة التعثر والفقر والتعتير منذ عقود، وقد تبقى كذلك.
انطوان فرح