بين سعر الصرف الوهمي والدولرة الحقيقية: الليرة اللبنانية من التثبيت De Facto إلى التعويم De Jure

ملفتة الحملة الإعلامية التي سعت أخيراً إلى تسليط الضوء على أنّ نظام سعر الصرف الرسمي في لبنان لم يكن يوماً «ينص على تثبيت سعر الليرة اللبنانية إزاء الدولار الأميركي»، وأنّه يمكن بأي لحظة اعتماد سعر السوق رسمياً كما كانت الحال قبل التسعينات، دون الحاجة لإعلان الانتقال إلى نظام التعويم. لا شك أنّ هكذا حملة لا تصبّ سوى في إطار التمهيد لتحرير سعر الصرف، الذي على الرغم من بقائه عائماً في النصوص إلّا أنّه شهد فترة تثبيت واضحة في التطبيق منذ العام 1997، كونه الأنسب علمياً في ظلّ الدولرة، التي تلت أزمة الثمانينات، مما كلّف المصرف المركزي استنزافاً كبيراً لاحتياطاته بالعملات الأجنبية، حتى جاء قرار «دعم المنتجات» ليقضي على ما تبقّى منها منذ مطلع الانهيار عام 2019.. علمياً من المعروف أنّ ثمة فرقاً بين نظام سعر الصرف المنصوص رسمياً ونظام سعر الصرف الفعلي المطبّق، والذي يعتمده صندوق النقد الدولي في كل دراساته عن بلدان العالم.. ما الفرق بين De Facto و De Jure؟ وكيف ترافق سعر الصرف الوهمي مع الدولرة الفعلية؟

من المعروف في علم السياسة النقدية، خصوصاً في البلدان النامية وبشكل أخص في البلدان المدولرة، أن ثمّة فرقاً بين ما يتمّ إعلانه في النصوص أي De Jure، وما يتمّ تطبيقه فعلياً في الواقع أي De Facto.

 

ولذلك تحديداً، نرى في جميع تقارير صندوق النقد الدولي التمييز بين الحالتين والتركيز على ما يتمّ تطبيقه من أنظمة سعر صرف وسياسات نقدية تقليدية وغير تقليدية من قِبل المصارف المركزية، وليس ما يكون مكتوباً أو غير مكتوب في نصوص قوانين النقد والتسليف أو ما يشابهها فيها…

 

في ما يخصّ لبنان، لا بدّ من الإشارة الى أنّه قبل الحرب اللبنانية (1975-1990) كان المصرف المركزي يعتمد تطبيقياً نظام سعر الصرف المعلن رسمياً، أي النظام العائم، والذي كان مناسباً طبعاً لطبيعة نظام الإقتصاد الحر وقوة الاقتصاد اللبناني الذي لم يكن يعرف أي عجز مالي في الموازنة ولا أي حاجة للاستدانة لا بالعملة الوطنية ولا بالعملات الأجنبية، ولا يشهد أي أزمة ميزان مدفوعات، لا بل يسجّل فيها فوائض متتالية، تعزز قوة الليرة اللبنانية التي لم يكن يستخدم سواها، لا بل كانت من أقوى العملات ويحسب لها حساباً دولياً!

 

أما بعد الأزمة النقدية في الثمانينات وتجربة التضخّم المفرط الذي تخطّى عام 1987 حدود 487% وانهيار الليرة اللبنانية والصعود الصاروخي لقيمة الدولار الأميركي إزاء الليرة اللبنانية، إختار القطاع الخاص اللبناني عفوياً، الهروب من العملة الوطنية واستبدالها بالدولار الأميركي بشكل تلقائي، دون انتظار أي قرار رسمي لذلك.. حتى لامس معدّل الدولرة الجزئية غير الرسمية في لبنان حدود 90%، وفرض الدولار نفسه في التسعير وفي التداول التجاري الكبير الحجم وفي الإدخار المصرفي للمودعين.

 

رسمياً بقيت الليرة اللبنانية العملة الوحيدة لدولرة لبنان. أما تطبيقياً فالحقيقة أنّ الدولرة انتشرت منذ ذلك الحين ولم تتراجع سوى بشكل طفيف، حتى بعد التراجع التدريجي لسعر الصرف وتثبيته عملياً عام 1997 ولأكثر من 22 عاماً، إذا احتسبنا حتى الانهيار الكبير الذي وقع في تشرين الأول 2019.

 

النظام الرسمي لسعر الصرف بقي عائماً طيلة فترة الحرب اللبنانية، أي حتى عام 1990، مما جعل كل تقلّبات سعر الصرف تُسجّل رسمياً لدى المصرف المركزي، ويتمّ على أساسها بيع وشراء الدولار مقابل الليرة، دون الحاجة لتعدّد أسعار سعر الصرف كما هي الحال في الأزمة الحالية…

 

لكن بدءاً من عام 1990، أي بعد توقّف الحرب في لبنان، وعودة انتظام عمل المؤسسات والعمل بالمحاسبة العامة وضرورة إعادة إقرار الموازنات العامة والتعامل مع سوق مدولر بشكل شبه كلّي، لم يعد بالإمكان الاستمرار عملياً مع تقلّبات هائلة بسعر صرف الدولار الأميركي المستخدم بموازاة الليرة اللبنانية لا بل أكثر بكثير منها في السوق اللبناني وكل حساباته…

 

من هنا، كان خيار نظام الربط الزاحف لسعر الصرف الذي تمّ تطبيقه بين عام 1992 و 1997 بغية تحقيق تخفيض تدريجي لسعر الليرة اللبنانية إزاء الدولار الأميركي، الى أن تمّ تطبيق نظام الربط الثابت لليرة اللبنانية إزاء الدولار الأميركي على أساس هامش 1501-1514 وسعر وسطي 1507.5 ابتداءً من أواخر عام 1997 كما أشار اليه صندوق النقد الدولي في جميع منشوراته، وذلك بغض النظر عمّا هو مكتوب في النصوص الرسمية بشأن طبيعة نظام الصرف في لبنان.

 

اعتماد ربط سعر الصرف كان حاجة ضرورية بسبب الدولرة المرتفعة، والتي كانت بدورها تعكس حقيقة قلة الثقة بالعملة الوطنية، بغض النظر عن كون الليرة اللبنانية هي العملة الوطنية المعترف بها رسمياً.. إلّا أنّ الدولرة تطوّرت أيضاً لتكتسب تدريجياً صفة شبه رسمية، مع إنشاء غرفة مقاصة لدى المصرف المركزي للشيكات المصرفية بالدولار الأميركي.. ومن ثم مع بداية اعتماد الصرّافات الآلية التي باتت تتمّ تعبئتها بالدولار الأميركي الورقي الى جانب الليرة اللبنانية! لا بل السماح بالتحويل التلقائي بين الودائع بالليرة والدولار، والسحب الورقي بإحدى العملتين، أياً تكن عملة الوديعة التي يتمّ السحب منها! فكيف بالحري اليوم، بعد أن سمحت منصة “صيرفة” حتى لموظفي القطاع العام، إمكانية سحب رواتبهم بالدولار الأميركي عبر تحويلها مباشرة عبر الصرّافات الآلية، فيما هي بالأساس بالليرة اللبنانية، وهي كانت الشاهد الأخير على أنّ الدولرة غير رسمية حتى لو انتشر تطبيقها على أوسع نطاق في الأسواق…

 

ومع تثبيت سعر الصرف منذ 1997، انتظر الجميع أن تتراجع الدولرة في تلك الفترة، بعد تثبيت سعر الصرف بحدود 1507.5 طيلة 22 عاماً، إلّا أنّ الدولرة الجزئية غير الرسمية بقيت مرتفعة بحدود 70%، ومع انفجار الأزمة المالية-النقدية-المصرفية في الربع الأخير من العام 2019 ارتفعت أكثر لتلامس 80% من الودائع اليوم، بعد أن خرج ربط سعر الصرف عن السيطرة.

 

أكثر من ذلك، منذ عام 1993 بدأت تتنامى الفجوة المتزايدة بين الودائع بالعملات الأجنبية والموجودات الخارجية للنظام المصرفي بالعملات الأجنبية. إلّا أنّ اشتداد عمقها برز مع بدء تسجيل عجوزات متراكمة في ميزان المدفوعات منذ عام 2011، حيث بدأت تتراجع الموجودات بالعملات الأجنبية، فيما استمرت دولرة الودائع بالتزايد. ولم تشفع فيها سياسة تثبيت سعر الصرف منذ العام 1997 التي كان يفترض أن تطمئن الناس إلى استقرار سعر العملة الوطنية،.. لا بل ترافق معدل دولرة الودائع المرتفع مع ارتفاع دولرة التسليفات المصرفية، وأكثر من ذلك دولرة جزء كبير من الدين العام (اليوروبوند) وتزايد إصدار شهادات إيداع بالعملات الأجنبية من المصرف المركزي والمشاركة في “الهندسات المالية” لاجتذاب الدولار وتحقيق فوائض في ميزان المدفوعات كوسيلة لشراء الوقت “اصطناعياً”، على أمل تحقيق إصلاحات مالية واقتصادية جذرية، ما جعل “ثبات سعر الصرف” وهمياً والدولرة حقيقة ثابتة…

 

وبما أنّ “العملة النقدية” ليست مخصّصة فقط لدفع الواردات، فإنّ مبلغ الودائع بالعملات الأجنبية لم يعد مساوياً بشكل صارم مع الموجودات بالعملات الأجنبية للنظام المصرفي. لأنّ عاملين آخرين يتدخّلان لتوسيع الفجوة بين الودائع والموجودات بالعملة الأجنبية. الأول هو تحويل العملات من الليرة اللبنانية الى الدولار الأميركي، والثاني هو أنّ استخدام العملة كأداة، زاد من منح المصارف قروض للقطاع الخاص بالدولار للسوق الداخلية. لذلك، إذا تمّ استخدام هذه الإئتمانات في المعاملات المحلية، تصبح بدورها أيضاً مصدر خلق المزيد من النقد. هذا ما يُعرَف بمؤشر “مضاعف الائتمان” الشهير multiplicateur de credit.

 

ومع ذلك، طالما كان ميزان المدفوعات في مسار فائض تصاعدي، ظلّت هذه الفجوة محدودة. وهكذا انخفضت نسبة الودائع إلى الموجودات الخارجية من 1.7 في نهاية عام 1997 إلى 2.0 في نهاية عام 2011. في ذلك العام، مع بداية تداعيات الأزمة السورية على الاقتصاد اللبناني، وظهور عجز في ميزان المدفوعات، وزيادة غير طبيعية في الودائع بالعملات الأجنبية، ارتفعت هذه النسبة بشكل كبير لتصل إلى 3.5 في نهاية عام 2016، وأخيراً 7.3 في نهاية عام 2019. من هنا، لم تعد الموجودات الخارجية للجهاز المصرفي كافية لتلبية طلبات سحب الودائع بالدولار، خصوصاً أنّ مصرف لبنان غير قادر على طباعة دولارات لإمداد المصارف.

 

الخلاصة، بعد مرور حوالى 3 سنوات على سقوط نظام ربط سعر الصرف، من المستحيل أن يتلاءم تعويم سعر الصرف مع الدولرة المرتفعة التي تخطّت اليوم 80% في لبنان. فمن جهة لا أحد يطلب الليرة في السوق، بل الجميع يطلب فقط الدولار، ويحتسب قيمة السلع والخدمات وفق حركته. وبالتالي لا طلب على الليرة يحدّ من سقف تدهورها.. ومن جهة أخرى مستوى التسعير والمضاربة في الأسواق لم يعد يسمح بتحمّل تقلّبات كلفة السلع والخدمات وتغيّر موازنات المؤسسات لحظة بلحظة…فهل يتمّ تأكيد تعويم سعر صرف الليرة نصاً وتطبيقاً أياً يكن مسار الدولار وتداعياته على الاقتصاد؟ أم نعود للتمييز بين النص والواقع، فيتمّ الاتجاه من جديد نحو ما كان يُعرف بنظام ربط سعر الصرف تطبيقاً على مستوى أقل وهمية مما كان عليه؟ أم يعترَف بحقيقة الدولرة رسمياً للحدّ من ازدواجية التعامل بعملتين؟

د. سهام رزق الله

البعد النفطي لقرار «أوبك بلس» تخفيض الإنتاج

قرر وزراء الطاقة في مجموعة «أوبك بلس» تخفيض الإنتاج مليوني برميل يومياً من النفط الخام. ويتوقع أن التخفيض سيكون في نهاية المطاف نحو مليون برميل يومياً، أو نحو واحد في المائة من مجمل الإنتاج النفطي العالمي البالغ 100 مليون برميل يومياً تقريباً، والسبب أن بعض الدول ستنتج بكامل طاقتها للاستفادة من الأسعار والمحافظة على بعض أسواقها ودعم موازناتها. من ثم، فحجم الإمدادات المخفضة ضئيلة جداً.
لماذا اتخذت «أوبك بلس» قرار تخفيض الإنتاج في هذا الوقت الاقتصادي المضطرب عالمياً وارتفعت الضجة على الآثار المترتبة على هذا القرار؟
تدل الإحصاءات والتوقعات الاقتصادية المتوفرة أن هناك عدة أسباب نفطية للقرار، أهمها، المؤشرات والتوقعات الاقتصادية السلبية للنصف الثاني لعام 2022 ولعام 2023. مما يدل على انخفاض الطلب على النفط خلال هذه المرحلة وضرورة تقليص الإنتاج لوقف التراجع في الأسعار للحفاظ على المصلحة الاقتصادية للدول المنتجة.
فمعدل سعر سلة نفوط أوبك قد انخفض خلال شهر سبتمبر (أيلول) 6.58 دولار للبرميل عن شهر أغسطس (آب)، ليصبح معدله 95.32 دولار للبرميل.
تعود أسباب هذا الانخفاض السعري خلال الأشهر الماضية إلى التدهور في أسعار أسواق البورصات العالمية وزيادة أسعار الفوائد من قبل البنوك المركزية الكبرى، بالإضافة إلى القلق والمخاوف من القلاقل الجيوسياسية نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا والصراع حول تايوان والاضطرابات المستمرة في الشرق الأوسط وما صاحبها من ارتفاع أسعار النفط الآجلة التي تقرر في بورصات النفط في نيويورك ولندن.
كما تدل المؤشرات أن النمو الاقتصادي العالمي قد دخل في نفق مظلم، مليئاً بعدم اليقين والشكوك، من تصاعد معدلات التضخم العالمية، ارتفاع أسعار الفوائد واستمرار المشاكل والتأخير في سلسلة تزويد السلع والبضائع، الناتج عن صرف العمال والموظفين من وظائفهم أثناء الجائحة وصعوبة إعادة تعيينهم بالسرعة اللازمة لاحقاً. بالإضافة إلى كل هذا، هناك إمكانية عودة انتشار الجائحة في الصين خلال فصل الشتاء المقبل، مما أربك الأمور كثيراً، بالذات لانخفاض الطاقة الإنتاجية الإضافية العالمية.
وانخفضت المؤشرات والتوقعات السلبية للنمو الاقتصادي العالمي 2.7 في المائة لعام 2022 و2.5 في المائة لعام 2023. وفي حال الولايات المتحدة، انخفضت التوقعات لنمو الناتج الدخل القومي لعام 2022 نحو 3 في المائة، وكذلك المؤشرات لانخفاض النمو لعام 2023 نحو 0.3 في المائة. كما انخفضت التوقعات لنمو الناتج الدخل القومي لمنطقة اليورو في عام 2022 نحو 3 في المائة، وانخفضت المؤشرات بنحو 0.3 في المائة لعام 2023. وقد أعيد تقييم النمو الاقتصادي في اليابان لعام 2022 ليرتفع 1.5 في المائة ولينخفض في عام 2023 نحو 1.0 في المائة. وتوقعت الدراسات انخفاضاً للنمو الاقتصادي الصيني في عام 2022 إلى 3.1 في المائة، بينما التوقعات لعام 2023 تدل أن النمو سيكون بحدود 4.8 في المائة. وفي الهند، خفضت التوقعات لعام 2022 إلى نحو 6.5 عام 2022 ولعام 2023 نحو 5.6 في المائة. أما في البرازيل، فتوقعات النمو الاقتصادي لعام 2022 لم تتغير، مستمرة على معدل 1.5 في المائة، إلا أنها متوقعة أن تنخفض لعام 2023 إلى نحو 1 في المائة. والتوقعات لروسيا قد عدلت لتشير إلى تقلص لعام 2022 نحو 5.7 في المائة، مع توقع نمو 0.2 في المائة لعام 2023.
وفيما يتعلق بالطلب على النفط، فقد تم تخفيض معدل الطلب المتوقع لعام 2022 نظراً للتوقعات الاقتصادية والجيوسياسية الآتية: إعادة انتشار «كوفيد – 19» في الصين خلال فصل الشتاء المقبل. والتحديات الاقتصادية في أوروبا بسبب حظر البترول الروسي. وضغوط التضخم العالمية.
من ثم، وعلى ضوء التطورات العالمية السلبية المتعددة والتوقعات بانخفاض الطلب على النفط نحو 0.5 في المائة خلال النصف الثاني لعام 2022. بينما التوقعات للطلب على النفط في عام 2023 قد خفضت إلى معدل 2.3 مليون برميل يومياً.
هناك سبب أساسي آخر لارتفاع الأسعار مرده الانخفاض الحاد في الطاقة الإضافية العالمية لزيادة إنتاج النفط الخام. ويعود السبب الرئيس لهذا الانخفاض إلى قوانين وتشريعات البيئة التي تم تبنيها منذ عام 2015 التي قلصت الاستثمارات العالمية في قطاع إنتاج النفط كجزء من الحملة لتقليص الاستثمارات في القطاعات الأحفورية. والمعروف في الصناعة النفطية هو أنه كلما تقلصت الطاقة الإضافية إلى حدود أدنى، ترتفع في الوقت نفسه أسعار النفط الخام، والسبب تخوف الشركات من عدم توفر إمدادات كافية عند ضرورة الحاجة إليها. وهناك تخوف من هذا النوع في الأسواق الآن نظراً إلى التقلص في الاقتصاد الصيني لإغلاقات الجائحة والتساؤل إذا كانت هناك طاقة إنتاجية إضافية في حال عودة الاقتصاد الصيني إلى عافيته عند انتهاء الجائحة هناك. وتشير المعلومات إلى أن استثمارات الشركات العالمية في قطاع الإنتاج قد تقلصت نحو الثلث منذ منتصف العقد الماضي.
وقد ركز على هذا الأمر الرئيس التنفيذي لشركة «أرامكو السعودية»، أمين الناصر، في كلمة له في مؤتمر بترولي عقد في لندن مؤخراً. أشار الناصر إلى أن الطاقة الإنتاجية الإضافية العالمية تبلغ حالياً 1.5 في المائة من الطلب العالمي. ومن جانبه، ذكر الرئيس التنفيذي لشركة «شل» بن فان بيردن، خلال المنتدى نفسه، أنه «لا يمكننا العيش في هذا العالم دون طاقة إضافية».
كما طرأت صعوبات أخرى في الصناعة النفطية العالمية. إذ نجد، بسبب التشريعات البيئية المستعجلة تقلص تشييد مصاف تكرير جديدة. وفي الولايات المتحدة مثلاً، أعلن الرئيس التنفيذي لشركة «شيفرون» أنه لم يتم بناء مصفاة جديدة في الولايات المتحدة منذ عقد السبعينات رغم الزيادة السنوية هناك في استهلاك المنتجات البترولية، بالذات البنزين. ونجد في الوقت نفسه الولايات المتحدة تصدر المنتجات البترولية إلى الأسواق العالمية رغم الأسعار القياسية لأسعار البنزين الأميركية حالياً. من ثم، فإن ارتفاع أسعار البنزين الأميركية لا علاقة لها بإمدادات «أوبك»، بل نتيجة عدم قدرة المصافي القديمة هناك على تلبية الطلب المتزايد سنوياً، وللعب أميركا دور المصدر منذ الإنتاج الواسع للنفط الصخري في منتصف العقد الأخير.

 

من يحاول قلب الطاولة على صندوق النقد؟

لا يختلف إثنان، أو هكذا يُفترض، على أنّ إنجاز ترسيم الحدود البحرية تمّ في لحظة تقاطع مصالح دولية نادرة، ساهمت في الوصول إلى الاتفاق. لكن، ما هو مُقلق، انّ أصواتاً بدأت ترتفع، وغالبيتها من خط سياسي يصبّ في مكان واحد، تروّج لفكرة انّ لبنان، ومع وجود الثروة الغازية، لم يعد يحتاج إلى الاتفاق مع صندوق النقد للحصول على 3 مليارات دولار في فترة 4 سنوات.

لا شك في انّ الثروة الغازية، وبصرف النظر عن حجمها المالي، (التقديرات تختلف بشكل كبير وتتراوح بين 100 مليار وصولاً الى تريليون دولار) وعن توقيت بدء الانتاج والإفادة من المداخيل، فإنّها تشكّل في حدّ ذاتها ورقة رابحة للبنانيين. وهي تأتي، في ظروف استثنائية أصبحت معها مادة الغاز سلعة استراتيجية حيوية، وستبقى كذلك، وفق الدراسات، لسنوات طويلة إلى الامام، تمتد على مدى عقدين أو ثلاثة. وقد ارتفعت اسعار الغاز، والتي يوجد مؤشرات عالمية خاصة لقياسها، ترتبط بما يُعرف بالوحدات الحرارية، الى مستويات قياسية. ولإعطاء فكرة عن نسبة الارتفاع، كانت اسعار الغاز الطبيعي الأوروبية قبل حوالى سنتين، تتراوح حول الـ 10 دولارات لكل مليون وحدة حرارية، لكن في العام 2022، وصلت إلى 100 دولار لكل مليون وحدة حرارية، أي ما يعادل 580 دولاراً لبرميل النفط الخام.

 

هذا الواقع لا يعني انّ البلد يستطيع ان ينهض اقتصادياً من دون التعاون مع صندوق النقد، لاعتبارات عدة، ليس أقلّها الرقابة التي يمارسها الصندوق في موضوع تنفيذ الاصلاحات المطلوبة. والثقة التي يساهم في إعادتها بالنسبة إلى نظرة الاسواق العالمية إلى الوضع اللبناني، بالاضافة طبعاً الى الضمانات القادر على اعطائها والتي تساعد في تسريع عودة لبنان إلى الاسواق العالمية. ومن دون هذه العودة، لا نجاح لأية خطط إنقاذ.

 

هذه الحقائق التي يُفترض انّ الاطراف السياسية باتت تعرفها، تطرح علامات استفهام حول الاسباب التي تدفع البعض الى القفز فوق هذا الواقع، والمناداة بالإنقاذ من دون صندوق النقد. فما هي الاسباب الحقيقية التي تدفع هؤلاء الى محاولة عرقلة التعاون مع الصندوق؟

 

في الاعتبارات السابقة، كان يجري الحديث عن معارضة سياسية سببها عدم الرغبة في الخضوع لشروط اصلاحية موجعة شعبياً. مثال على ذلك، رفع تعرفة الخدمات مثل الكهرباء وسواها، خفض حجم القطاع العام، وقف تثبيت سعر الليرة على الدولار، مكافحة التهرّب الضريبي والتهريب…

 

هذه الشروط الاصلاحية يُفترض انّها لم تعد مرعبة إلى هذا الحدّ، على اعتبار انّها صارت وراءنا. تعرفة الكهرباء جرى رفعها، ولو انّ بدء التنفيذ قد يتأخّر قليلاً، القطاع العام، وبسبب انهيار قيمة الليرة، لم يعد يشكّل عائقاً حقيقياً امام التوازن في المالية العامة. الليرة انهارت، والكل يعترف بأنّ سعر الليرة الحقيقي قائم في السوق الحرة، وموضوع التهرّب الضريبي، لا يُفترض ان يكون موضع اعتراض.

 

إذا اعتبرنا انّ البنود الاصلاحية لم تعد تشكّل سبباً صالحاً لتبرير الاعتراض، فما هي الاعتبارات المتبقية؟

 

في الأساس، كان يُقال انّ بعض الاطراف السياسية لا تحبّذ صندوق النقد حرصاً على السيادة. ولأنّ هذه الاطراف، تعتبر انّ الولايات المتحدة هي المسيطر الرئيسي على الصندوق، وبالتالي، قد تُمسّ السيادة ضمن هذه المعادلة. لكن هذه النقطة ايضاً، صارت غير ذي شأن، بدليل الدور الوسيط والراعي والضامن الذي لعبته واشنطن، في إنجاز اتفاقية الترسيم البحري.

 

ماذا يبقى اذاً من أسباب حقيقية لمحاولات البعض الترويج لعدم ضرورة الاتفاق مع الصندوق، والادعاء انّ الثروة الغازية التي سيتمّ استخراجها هي البديل؟

 

في الواقع، يبدو انّ المشكلة الحقيقية لا تتعلق بوصاية صندوق النقد، ولا بالدور الأميركي المحتمل من خلال الصندوق، بل بالدور المطلوب ان تقوم به دول الخليج العربي في مواكبة الاتفاق مع الصندوق، وفي تمويل المشاريع ما بعد الاتفاق. إذ انّ الاطراف اللبنانية المعارضة ضمناً أو علناً للتعامل مع المؤسسات المالية الدولية، كانت تراقب عن كثب المعلومات التي كان يجري بثها لجهة حجم الاموال الخليجية التي قد يتمّ استثمارها في لبنان، في حال تمّ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. ولم يكن الأمر سراً، إذ انّ مسؤولي الصندوق كانوا يؤكّدون انّ الاعتماد ليس على الـ3 مليارات دولار التي سيقدّمونها خلال 4 سنوات، بل على حوالى 12 مليار دولار قد يتم ضخّها في الاقتصاد اللبناني من قِبل الدول المانحة الداعمة للبنان. وكان معروفاً انّ الجزء الاكبر من هذه الأموال سيأتي من الخليج، ومن المملكة العربية السعودية بشكل خاص. وبالتالي، كان معروفاً انّ هذه «العودة» الخليجية القوية إلى لبنان، هي ما يُقلق المعترضين على صندوق النقد. لكنهم خفّفوا معارضتهم العلنية قليلاً، خوفاً من النقمة الشعبية في فترة ما بعد الانهيار. اليوم، استفادوا من الترسيم، ومن قرب بدء التنقيب، لمحاولة الانقضاض مجدداً على نهج التعاون مع صندوق النقد، قطعاً للطريق امام العودة العربية إلى الساحة اللبنانية.

 

هل تنجح هذه الاعتراضات في وقف مسار الاتفاق مع صندوق النقد؟

تصعب الاجابة عن السؤال، لكن مراقبة التطورات قد تعطي مؤشراً إلى ذلك. إذ انّ المسؤولين، تعهّدوا بعيداً من الإعلام لمسؤولي صندوق النقد بتنفيذ البنود الاربعة المطلوبة لإنجاز الاتفاق النهائي قبل نهاية تشرين الثاني المقبل. وهذا يعني انّ مجلس النواب سيستمر في التشريع بعد انقضاء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية في 31 تشرين الاول الجاري. فهل سيحصل هذا الامر؟ وهل سيتمّ اقرار قانوني الكابيتال كونترول وإعادة هيكلة المصارف قبل الموعد المحدّد؟ في ضوء ما سيجري على هذا الصعيد، يمكن التكهّن بصورة أوضح في شأن مصير اتفاق الإنقاذ مع صندوق النقد الدولي.

أنطوان فرح