لا تبدو الخيارات المتاحة امام مصرف لبنان كبيرة في موضوع انهيار الليرة، خصوصاً ان أي تدخّل لضخّ دولارات في السوق أصبح عملية معقدة اكثر من السابق، ومفعولها محدود نسبياً، للأسباب التالية :
اولاً – نمو الكتلة النقدية الى حوالى 80 تريليون ليرة، بما يعني ان كلفة سحب جزء اساسي من هذه الكتلة بات يكلّف دولارات اضافية لا يستطيع المركزي رميها اذا كان مفعولها لن يستمر سوى لفترة قصيرة.
ثانياً – انّ القدرة على تقليص حجم الكتلة النقدية بالليرة، لم تعد مُتاحة بالنسبة نفسها التي كانت قائمة في السابق، بسبب حاجة السوق بعد رفع الرواتب في القطاع العام، وارتفاع الاسعار بالليرة في كل المجالات، بما أدّى الى الحاجة الى كتلة كبيرة بالليرة. هذا الامر معرّض للتضخّم اكثر في الايام المقبلة، ربطاً بالارتفاعات المستمرة في المداخيل والانفاق بالليرة.
ثالثاً – عندما يصل سعر صرف الدولار الى مستويات معينة، ويستقر عليها لفترة، تصبح عملية اعادة خفضه، ولفترة طويلة، شبه مستحيلة، على اعتبار ان الاقتصاد القائم، على تواضعه، بالاضافة الى متطلبات السوق، وبالاضافة الى الاجور وبدلات النقل، كلها تتغيّر لمواكبة الارتفاع. وبالتالي، لا مصلحة اقتصادية في اعادة خفض الدولار اصطناعياً، من خلال عمليات ضخ دولارات بكميات كبيرة، لأنه لا يمكن دفع الاسواق الى اعادة تصحيح نفسها نزولاً. وبالتالي، تنشأ مشكلة اضافية امام الوضع المالي، بما من شأنه الانعكاس سلباً على مجمل الدورة الاقتصادية والمالية في البلد. لذلك تلجأ الدول التي تصل في مرحلة ما الى التضخّم والى ما يشبه الانهيار الكامل في عملتها الوطنية، الى واحد من حلّين: شطب أصفار، أو خلق عملة جديدة رديفة. وبالنسبة الى لبنان، لم يحن الوقت بعد لأي من هذين الخيارين.
هذه الوقائع تعني ببساطة ان عملية اعادة قدرات الليرة ترتبط حصراً بالحل الشامل، أي وضع حدّ للانهيار، والانتقال الى مرحلة جديدة من خلال تنفيذ خطة للتعافي مع صندوق النقد، ومع المجتمع الدولي.
في هذا الوقت، سيواصل مصرف لبنان مساعيه للتخفيف قدر المستطاع من سرعة انهيار الليرة، مع علمه المسبق بمحدودية كل الاجراءات التي يمكن اتخاذها، من حيث نسبة خفض الدولار، او من حيث الفترة الزمنية الذي قد يصمد فيها هذا الخفض الاصطناعي. وفي الايام الأخيرة قام المركزي بمحاولات غير مكلفة، لتخفيف اندفاعة الدولار من خلال تسعير سعر شراء وبيع الدولار في المراكز التي يعتمدها لجمع الدولارات من السوق. لكن هذه المحاولة لم تساعد كثيراً. ويبدو انّ مصرف لبنان كان يكتفي في الايام القليلة الماضية بشراء كميات محدودة من الدولارات وبأسعار أقل من سعر السوق السوداء. لكن هذه السياسة لن تجدي نفعاً مع الوقت، لأن الكميات التي سينجح في جَمعها ستتراجع مع الوقت، وسيكون محتاجاً الى كميات اضافية بما سيضطره لاحقاً الى تعديل سعر شراء الدولار الى مستويات السوق.
يبقى ان مصرف لبنان مضطر الى معالجة مشكلة الاموال العالقة في المصارف، والتي أودعها أصحابها بالليرة للحصول في المقابل على دولارات بسعر منصة صيرفة (38 ألف ليرة). ومن خلال الداتا الموجودة لديه، على اعتبار ان كل عمليات الشراء يتمّ تسجيلها من قبل المصارف، وتُرسل فوراً الى البنك المركزي، فهو يدرك كمية هذه الاموال، ومن واجبه تأمين الدولارات لإنجاز عملية الاستبدال، لأنّ نسب الخسائر التي سيتعرّض لها الناس الذين وثقوا ببيان مصرف لبنان أصبحت كبيرة. في كل الاحوال، وفي المعلومات المتوفرة انّ المركزي بدأ في تأمين الدولارات لإنجاز هذه العمليات، وانه سيعالج هذا المأزق ولو بالتقسيط، وليس بدفعة واحدة أو في وقت واحد.
في المحصّلة، هل من تقديرات منطقية للمسار الذي سيسلكه الدولار في الفترة القصيرة المقبلة؟
من خلال تقدير حجم الكتلة النقدية بالليرة، ومن خلال حركة السوق، ولأنّ الارتفاعات أو الانخفاضات في اسواق المال، لا تتم وفق خط مستقيم، فهذا يعني ان احتمالات عودة السوق الى الهدوء النسبي محتملة. وقد يكون الدولار وصل الى سقف هذه الموجة من الارتفاع، وقد يستريح قليلاً عند محطة الـ60 الف ليرة، او ما حولها، (حوالى 5% نزولاً او صعوداً)، تمهيداً لموجة ارتفاعات جديدة، قد تبدأ في مرحلة لاحقة.
انطوان فرح