التكنولوجيا والاستسلام لعالم جديد

وادي السيليكون كما نعرفه وبشركاته التي تتبنى ثقافة الشفافية الوظيفية وتمنح موظفيها صلاحيات كبيرة وتسلسلات هرمية وامتيازات ضخمة، في طريقه إلى التلاشي بسرعة ومن غير المرجح أن يعود.
منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، بشرت شركات التكنولوجيا بنهج يركز على جعل العمال سعداء بالمزايا التي كانت تهدف إلى دمج العمل والحياة في سلاسة. وصممت هذه الشركات برامج غير محدودة للرفاهية، والعطلات، وطرحت مبادرات أعطت الأولوية للموظفين ومنحتهم مزايا قياسية. فمع حزمة الرواتب المرتفعة والأسهم، كانت الامتيازات المقدمة وسيلة ليس لكسب صراع المواهب في السوق فحسب، بل أيضاً للسيطرة على السوق. فالنمو السريع ونجاح شركات «وادي السيليكون»، الذي يرجع بعض الفضل فيه إلى الممارسات الفريدة لموظفيها، أعادا تشكيل ثقافة مكان العمل لهذا الجيل.
لكن الزمن تغير، وصناعة التكنولوجيا تواجه اقتصاداً كلياً غير متكافئ وسوق أسهم متعثرة تضع ضغوطاً على شركات التكنولوجيا العامة وتخلق بيئة أقل من مثالية للطرح للاكتتاب العام بالنسبة لشركات القطاع الخاص. ويعمل الرؤساء التنفيذيون للتكنولوجيا الآن على تحسين الربحية أكثر من النمو بأي ثمن، وأحياناً على حساب القيم التنظيمية الراسخة.
هذا التحول بات بالغ الوضوح خلال الطفرة الأخيرة لتسريح العمال في قطاع التكنولوجيا. وقد أثير الكثير من الجدل العام حول الاستبعاد التخريبي لنصف موظفي «تويتر» البالغ عددهم 7500 موظف، وهي خطوة جرت تحت قيادة مالكها الجديد، إيلون ماسك. كان التسريح عشوائياً، وكان من المؤلم مشاهدة ذلك. كان على الموظفين الذين بقوا تحمل أعباء عمل أكبر يصعب على فرق أقل عدداً القيام بها. ولكن في حين أن الغرباء قد ينظرون إلى عمليات التسريح هذه على أنها اندفاعية، فقد بدت وكأنها تهيئ البيئة لشركات التكنولوجيا الأخرى لتتبعها. ففي عام 2022، قامت شركات التكنولوجيا بتسريح أكثر من 150.000 شخص، وفي الأسابيع القليلة الأولى من عام 2023، أعلنت شركة «مايكروسوفت» الاستغناء عن 10 آلاف موظف. واستغنت «أمازون» عن ثمانية آلاف موظف فوق العدد الذي أعلنته في السابق.
وفقاً لوسائل إعلام كثيرة، تجري شركتا «ميتا» و«أمازون» تقييماً لموظفيها، وهو نهج مثير للجدل في تقييم المواهب. ففي عام 1980، ومن خلال شركة «جنرال إلكتريك» التي نشرت هذه الثقافة (على الرغم من أن الشركة تخلت عن ذلك لاحقاً)، جعلت العملية، المديرين يقيمون موظفيهم مقارنة بنظرائهم. وبشكل عام، يصنف 20 في المائة فقط من العمالة بأنهم من المواهب المميزين، فيما يصنف 10 إلى 15 في المائة بأنهم أصحاب أداء متدنٍّ. وعلى الرغم من وجود فوائد، فإن هذه الممارسة قد تخلق بيئة عمل تنافسية (تسودها الضغائن) تؤثر سلباً على جهود تحسين الموظفين. فمع تسريح العمال الوشيك، عادة ما يكون الأشخاص أصحاب التصنيف الأدنى هم أول من يرحل.
تسريح العمال جزء من عصر جديد من هيمنة المديرين، فكرة أن الإدارة هي المهيمنة وأنه يتعين عليها انتزاع السيطرة من الموظفين. فبعد عقدين من القتال من أجل المواهب، يستغل الرؤساء التنفيذيون هذه الفترة للتكيف مع سنوات من التساهل الإداري الذي تركهم مع جيل من العاملين أصحاب الصلاحيات.
في عام 2012، ولتحفيز الابتكار والمشاركة، بدأت شركة «ينكدين» برنامج حاضنة أعمال، الذي كان الميزة التي شجعت الموظفين على التوصل إلى أفكار معتمدة يمكنهم العمل عليها بدوام كامل لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر سخية حتى وفقاً لمعايير «وادي السيليكون». وأقيم الكثير من الفعاليات المهمة بغرض عرض ثقافة الشركة، وكان الموظفون يحضرون حفلات خلال العطلات يعرضون خلالها تجارب «إنستغرام» الجديدة المقبلة. ويكفي أن نعلم أن بعض سائقي شركة «أوبر» الذين حضروا لقاءات شركتهم الرسمية في عام 2015 قد حضروا عرضاً خاصاً للمطربة الأميركية بيونسيه.
يميل المديرون في مختلف القطاعات إلى ممارسة سلطتهم المكتشفة حديثاً، وذلك بإغلاق صفحة ترتيبات العمل والحوافز المتعلقة بالوباء. كان ريد هاستينغز، المؤسس المشارك لشركة «نيتفليكس» والمدير التنفيذي المشارك، قد صرح قرب بداية الوباء بأنه «لم يرَ أي إيجابيات» في العمل من المنزل، ويبدو أن الشركة لا تسمح إلا ببعض الأعمال عن بعد. وبحسب ما ورد من معلومات، فقد أخبرت شركة «تيك توك» موظفيها أنها قلصت عضوية الصالات الرياضية وسداد فواتير «واي فاي» وبدلات وجبة الغداء اليومية البالغة قيمتها 45 دولاراً للعمال الذين لا يعملون من خلال مقار الشركة، وذلك في محاولة لإعادة الانضباط إلى الشركة.
لكن لا يرى جميع الموظفين التقنيين هذه التحولات كإشارات. فقد تحدثت مؤخراً مع مديرة تسويق المنتجات بشركة «ميتا» التي تعرضت للتسريح، وكنت أتوقع أن تكون قلقة بشأن فرص عملها المستقبلي. لكن مع أجر ثلاثة أشهر حصلت عليها قبل تسريحها، واحتفاظها بمدخرات معقولة، كانت لا تزال متفائلة. ومع ما يقرب من 79 في المائة من مهندسي البرمجيات و76 في المائة من المسوقين الذين جرى تسريحهم في قطاع التكنولوجيا ونجاحهم في العثور على وظائف في غضون ثلاثة أشهر، فقد كانت على حق في أن تتفاءل.
ومع ذلك، فإن بعض الأشياء تبدو صحيحة الآن وتجعل التحول في ثقافة موظفي التكنولوجيا ليس مجرد لحظة وقتية ولكنها إعادة تعريف لكيفية إدارة شركات التكنولوجيا.
خسرت شركتا «ميتا» و«سيلزفورس» مجتمعتين أكثر من 700 مليار دولار من قيمهما السوقية العام الماضي. وتتعامل كلتا الشركتين الآن مع مستثمرين ناشطين اتخذوا مواقف بارزة في تعاملهم مع أسهمهم. ودعا النشطاء الشركات إلى خفض التكاليف، والحد من الاستثمارات غير الاستراتيجية، ولا سيما في حالة «ميتا»، وتقليص عمالتها بدرجة كبيرة. فالمديرون الآن باتت لديهم قدرة أقل في الإفراط في التعيينات أو الاستثمار في مبادرات الموظفين غير المرتبطين مباشرة بتنفيذ أعمالهم.
بالنسبة للشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا ومديريها التنفيذيين، كانت السنوات العشر الماضية أشبه بـ«سباق الثيران» (مصطلح اقتصادي يعني السوق الصاعدة، على أنها فترة زمنية يشتري فيها غالبية المستثمرين، ويفوق الطلب العرض، وتكون ثقة السوق مرتفعة، والأسعار آخذة في الارتفاع). كانت أسعار الفائدة منخفضة، وبدا تمويل المشروعات بلا حدود وارتفعت التقييمات بشكل كبير. ومع كون المال متاحاً، مضى المديرون التنفيذيون قدماً بأن تابعوا الإيرادات، وزادوا من قواعد العملاء والاستثمار في عدد لا يحصى من الأشخاص (التوظيف) والمشروعات.
ومع ذلك، مع ارتفاع أسعار الفائدة الأخير منذ أواخر عام 2007 واستمرار عدم اليقين في حالة السوق، يفكر المستثمرون في المزيد من الاستثمارات في الشركات ذات القواعد القوية والتدفقات النقدية. وبالنسبة للمديرين المؤسسين، هذا يعني أنه سيكون من الصعب جمع التمويل، وسيكون لدى المستثمرين توقعات أكبر للعائد على أموالهم. وبالنسبة لشركات التكنولوجيا الكبيرة والشركات الناشئة على حد سواء، لم يعد النقد متاحاً مجاناً، ويجب أن تؤتي استثمارات الموظفين ثمارها.
نحن بصدد حقبة من ضغوط المستثمرين الخارجيين، وارتفاع عقبات التمويل وتقلبات السوق بشكل عام. وهذه البيئة تتطلب من الإدارة إجراء تغييرات هيكلية في طريقة تجربة ثقافة مكان العمل مع العمل ورأس المال على حد سواء.
تُستخدم قوة التكنولوجيا حالياً مع كل صوت انتخابي، وسيتعين عليها الآن الاستسلام لعالم جديد – عالم بتوقعات عالية واستثمارات منضبطة. إن عدم التفكير في رياح التغيير سيعرض وظائف الكثير من العمال أصحاب الصلاحيات للخطر.

من اقتصاد مُراقب إلى اقتصاد كاش عشوائي وخطر

 

تحوّل الإقتصاد اللبناني منذ نحو ثلاث سنوات ونصف السنة، من اقتصاد مُراقب ومُنظّم دولياً يلحق القواعد العالمية، إلى اقتصاد “الكاش” العشوائي والخطر على المدى المتوسط والبعيد.

إقتصاد الكاش هو أخطر إقتصاد في العالم، لأنه من المستحيل تنظيمه أو مراقبته، داخلياً، إقليمياً أو حتى دولياً. لذا، تهرب أكثرية الإقتصادات المتقدمة من التبادل عبر النقد، وتخفّف قدر المستطاع اقتصاد الكاش، الذي ليس له رقابة، ويمكن إستعماله لأهداف غامضة.

في لبنان، تحولنا إلى إقتصاد الكاش، عندما بدأت الأزمة الإقتصادية والإجتماعية في أواخر العام 2019، وانعدمت الثقة بالقطاع المصرفي، وأيضاً الثقة بين الأفراد والشركات، وبين بعضهم البعض، وأصبح الكاش الآمر الأول والأخير، وقد مُحيت الديون المتراكمة القديمة، الحالية وحتى المستقبلية من الدورة الإقتصادية.

إنّ هذا التحوّل وردّة الفعل هذه، منطقية على المدى القصير ويُمكن تفهمها، لكن عندما تصبح من ضمن الإقتصاد على المدى المتوسط والبعيد، تصبح خطرة جداً، ليس فقط في بلدنا لكن أيضاً في البلدان المجاورة وحتى الدولية. لأنّ إقتصاد الكاش يُستعمل لتبييض الأموال والتهريب وتمويل الإرهاب.

كنّا نفخر بمنصتنا التجارية والدولية التي كانت تجذب الإستثمارات والمستثمرين ورؤوس الأموال والرياديين، لِخلق النمو والتطور. للأسف، إنّ تحولنا الى اقتصاد الكاش يُهرّب المستثمرين الشفافين ويجذب غاسلي الأموال، ومموّلي الإرهاب، والمهربين والمروجين، في اقتصادنا الأسود الطاغي الجديد.

كان اقتصادنا يخلق وينمّي رواد الأعمال والمبتكرين والرياديين وقد أصبح إقتصاد الكاش يطور المهربين والمروجين والصرافين الفاسدين.

لذا علينا أن نكون حذرين جداً، لأنّ اقتصادنا الكاش الجديد أصبح تحت مجهر الدول المنظمة والمراقبة وراداراتها، ويمكن في أي وقت فرض عقوبات علينا، ومنع التحويلات، وحتى ما تبقّى من المصارف المراسلة، قد توقف التعاون مع لبنان والشركات اللبنانية واللبنانيين. فهذا يمكن أن يوجّه رصاصة الرحمة على ما تبقّى من أملنا ونيتنا بإعادة النهوض.

في الخلاصة، لا نزال نحفر في النفق السوداوي عينه، وتزداد المخاطر والضغوط، والهجوم المتتالي، على الإقتصاد الأبيض، ضد الإقتصاد الأسود المتمثّل باقتصاد الكاش الذي يكسب الأرض يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة.

د. فؤاد زمكحل