من دون صياغة رؤية جديدة للدور الأميركي في العالم، يربط الكثيرون داخل واشنطن بين التحديات الجيوسياسية القائمة اليوم بتلك التي كانت قائمة أمس.
وفي هذا الإطار، يجري تصوير الصين باعتبارها الاتحاد السوفياتي الجديد، وتنذر الخطوات العسكرية عالية التقنية التي تتخذها الصين بوصول الولايات المتحدة للحظة تدرك حينها فجأة أنه أصبح يتعين عليها اللحاق بركب بكين التي سبقتها. وعليه، جرى إحياء «لجنة الأخطار الحالية»، التي سبق وأن حشدت الدعم العام للإنفاق العسكري أثناء «الحرب الباردة»، مع تركز أنظارها هذه المرة على الصين.
ودعماً لأوكرانيا، تراجع المخزون الأميركي من الصواريخ، ما أثار دعوات للولايات المتحدة كي تصبح من جديد «ترسانة الديمقراطية»، وذلك «لتعزيز الدفاع عن النظام الليبرالي الحر والمفتوح».
ويجري النظر إلى فلاديمير بوتين باعتباره جاسوساً سابقاً لدى جهاز الاستخبارات السوفياتية (كيه جي بي)، وزعيماً سوفياتياً لا يعرف الرحمة.
ويمكن أن تكون مسألة إثارة الصراعات الكبرى لأميركا في مواجهة الفاشستية والشيوعية، مفيدة من الناحية الخطابية. وتستحضر هذه المسألة حقبة يجري تذكرها لديناميتها الاقتصادية، ووحدة الصفوف وراء هدف واحد وروح الوطنية التي سادتها.
ومع ذلك، فإن التصورات المبسطة للماضي تميل لإضفاء طابع رومانسي على تداعيات الحرب على المجتمع الأميركي. ولا تخلو هذه الذكريات الشائكة من خطورة، فقد تحولت الحرب إلى الحل لمشكلات أميركا الاقتصادية والسياسية، بدلاً عن الانتباه إلى حقيقة الحرب: أنها عامل محوري وراء خلق هذه المشكلات.
الحقيقة أن الميول الصقورية للقادة الأميركيين تتسبب فقط في تفاقم الأزمات والمخاطر على نحو يزيد من إدمان واشنطن للحرب. ولا يزال التصعيد مستمراً في التوترات مع الصين حول تايوان وبالونات التجسس، بينما تدخل الحرب في أوكرانيا عامها الثاني، مع غياب نهاية في الأفق.
ومع ذلك، فإنه نظراً لإدراكه لحدود القوة العسكرية الأميركية، تحرك الرئيس بايدن بحذر باتجاه دعم أوكرانيا، وحرص على تقدير توجهه إزاء الصين بحذر مقارنة بسلفه. كما أنه عمل على تقليص خسائر أميركا من خلال إنهاء الحملة المشؤومة لبناء الدولة في أفغانستان، إلا أن هذا لم يفلح في إسكات الجوقة داخل المؤسسة المعنية بالسياسة الخارجية التي تدعو لـ«حرب باردة» جديدة مع الصين، ومزيد من التصعيد لما تحول إلى حرب بالوكالة أمام روسيا، والعودة إلى سياسة ممارسة أقصى قدر من الضغوط على إيران.
وثمة فرضية تقليدية تقف خلف العقلية التي تدعو لتحمل عبء الاضطلاع بفرض نظام عالمي يقوم على مجموعة محددة من القواعد، وهي: الحرب، رغم مأساويتها، تحفز النشاط الاقتصادي والحماس الوطني. في الواقع، يعتبر مثل هذا الافتراض عتيق الطراز، على أفضل تقدير. اليوم، لم يعد الاقتصاد يتلقى تحفيزاً من جانب صناعات الحرب على النحو الذي عهدناه من قبل. عندما يجري خوض الحروب من جانب فيالق صغيرة من المتطوعين، ويجري تمويلها من خلال الاقتراض من مؤسسات مالية وحكومات أجنبية، أكثر عن الضرائب وسندات الحرب، لا تتكون روح عامة ملتفة حول قضية مشتركة.
في الواقع، أسهمت المغامرات العسكرية الرديئة التي تورطت فيها واشنطن الفترة الأخيرة في تراكم مستمر لديون تجاوزت 30 تريليون دولار، والتي يجري استغلالها كسلاح اليوم من قبل أعضاء الحزبين الديمقراطي والجمهوري داخل الكونغرس، سعياً وراء تحقيق مكاسب سياسية.
وبعد غزو روسيا لأوكرانيا، أصر إليوت أبرامز، الذي قاد السياسة تجاه الشرق الأوسط في ظل إدارة بوش والسياسة تجاه إيران وفنزويلا في عهد إدارة ترمب، على أن الولايات المتحدة ينبغي لها استغلال «فرص الحرب الباردة» السانحة؛ لتعزيز بناء إجماع بين الحزبين الرئيسيين بالبلاد.
ويبدو الحديث عن بناء هذا الإجماع مغرياً، لكن الحديث عن الإجماع حول الحرب ليس ما تحتاجه الولايات المتحدة أو ما سيساعدها على الازدهار، الواقع أن الانشقاق أكثر قيمة عندما تصل المخاطر مستوى الأزمة الجيوسياسية. وحدة الصف لا تعني الإجماع والتطابق، والمعارضة المنضبطة ما يفصل بين الديمقراطية التي تتحرك من الأسفل للأعلى عن الأنظمة الاستبدادية التي تتحرك من أعلى لأسفل.
الحقيقة أن الصلة الخرافية بين الحرب والوحدة المدنية لا تصمد أمام التفحص الدقيق. وفي كتابه الحاصل على جائزة «بوليتزر»، «نهاية خرافة»، تتبع غريغ غراندين الترتيب الزمني لكيف أنه بعد الحرب الأهلية، أرسل جنود الشمال والجنوب معاً إلى الحدود الغربية لتهدئة قبائل السكان الأصليين لأميركا.
وقد جرى النظر إلى هذه الحملات ضد السكان الأصليين، في جزء منها، باعتبارها سبيلاً لإعادة دمج الولايات الكونفدرالية السابقة داخل الجيش الأميركي، وجرى تصوير ذلك باعتباره «برنامج إعادة تأهيل» للجنوب.
أيضاً، جرى الترويج، إلى حد ما، للحرب الإسبانية – الأميركية والحرب العالمية الأولى باعتبار ذلك سبيلاً لتوحيد صفوف الشمال والجنوب. ومع ذلك، لم تمنع أي من هذه الحروب الانقسامات التي ظلت قائمة منذ فترة الحرب الأهلية، وصولاً إلى النقاشات الدائرة اليوم حول معالم الولايات الكونفدرالية وأعلامها.
هل سمحت الحرب العالمية الثانية لأميركا بتحقيق كامل إمكاناتها الاقتصادية والفرار من قبضة «الكساد العظيم»؟ هل أفرز الصراع أثناء «الحرب الباردة» في مواجهة تهديد شيوعي مشترك، حقبة من الوحدة والتقدم التكنولوجي؟ ومع أن هذه النوستالجيا تحمل داخلها بعض الحقيقة، فإنها تغفل بعض الحقائق التي لا تبعث على الشعور بالارتياح. من هذه الحقائق أن الولايات المتحدة دخلت الحرب العالمية الثانية بصورة أساسية بدافع الانتقام، وليس لإنقاذ العالم الحر.
وساعدت الحرب في إضفاء الطابع الصناعي على البلاد، لكنَّها خلفت وراءها كثيراً من الأميركيين في حالة من الفقر والحرمان. كما أن الخرافات الشائعة حول التناغم الاجتماعي أثناء حقبة «الحرب الباردة»، تتجاهل المآسي التي خلقتها سياسات الفصل العنصري. كما أن وحدة الصف المدني التي سادت فترة هجمات 11 سبتمبر لم تصمد أمام الحروب الكارثية في العراق وأفغانستان.
وتقدم لنا التسعينات تصويراً حياً لكيف أن الرخاء والتسويات السياسية يمكن أن يزدهران عندما نتخلص من شعور زائف بغياب الأمن الوطني، والتموضع العالمي العسكري الذي غالباً ما يرافقه. في ذلك العقد، كانت مشاركة أميركا في الصراعات العالمية محدودة، وكان الهدف الرئيسي لإدارة كلينتون إعلاء صعيد السياسة الخارجية، وتعزيز التجارة.
ربما يدفع المقاولون العاملون بمجال الدفاع أن الإنفاق العسكري يخلق نشاطات ووظائف تجارية، إلا أنه بعد عقود من السياسة الخارجية التي تحمل صيغة عسكرية واضحة، ينبغي أن تحذر واشنطن من مسألة استغلال موازنة الدفاع في الإسهام في النمو الاقتصادي، خصوصاً أن الأجيال الأصغر لا ترى حاجة لمقايضة السلام مقابل الرخاء. وكشف استطلاع أجرته منذ وقت قريب المؤسسة التي أنتمي إليها، أن غالبية البالغين الأميركيين تحت سن الـ30 يدعمون إقرار موازنة دفاعية أصغر.
في اللحظة الراهنة، يبدو أن الخطر يتهدد الديمقراطية الأميركية، وتبدو الأوضاع الاقتصادية عصيبة. ومن دون إدراك حقيقة هذه الحقبة من السياسات الدولية، يميل صناع السياسات نحو النكوص إلى سبل قديمة، الأمر الذي قد يدفعهم نحو الانزلاق نحو عادة الحد من التكاليف بأقصى درجة ممكنة، والمبالغة في ميزات التورط في صراع عسكري.
ومع ذلك، تظل الحقيقة أن فكرة أن الحرب بإمكانها علاج التراجع الديمقراطي والجمود الاقتصادي متخلفة؛ لأنه في الواقع فإن الديمقراطية الأميركية مهددة والثروات مهدرة بسبب الحروب الحمقاء، التي أهدرت مخزون الثقة والموارد العامة التي كان يمكن استغلالها على نحو مثمر بالداخل، بدلاً عن استغلالها على نحو مدمر بالخارج.
مارك هنا.