في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، أطلقت الحكومة الصينية حملة شرسة حاربت فيها الميول الاحتكارية للشركات التقنية. على رأس هذه الشركات كانت «علي بابا»، التي أُوقف الطرح الأولي لذراعها المالية (آنت غروب)، وغرمت بمبلغ فلكي قارب 2.8 مليار دولار بسبب الاحتكار. وأعلنت الحكومة الصينية في مارس (آذار) 2021، أنها ستشدد القوانين بمكافحة الاحتكار، لتستحدث بعدها بأشهر قوانين جديدة تستهدف مكافحة المنافسة غير العادلة. بعد سنتين ونصف من بداية الحملة، جاءت نتائج هذه الإجراءات، وكانت بإعلان «علي بابا» الأسبوع الماضي تقسيم الشركة إلى ست شركات منفصلة حسب الأنشطة التجارية، لكل شركة منها رئيس تنفيذي، ومجلس إدارة خاص بها، لتكون بذلك نهاية دوامة عانت منها «علي بابا»، وخسرت خلالها أكثر من ثلثي قيمتها السوقية. ردة فعل السوق كانت إيجابية من إعلان «علي بابا»، فارتفعت أسعار الأسهم، وساد التفاؤل بين أوساط المساهمين، لا سيما أن الشركة أوضحت في إعلانها أن هذا التقسيم سيكون مفيداً للمساهمين الذي ستعظم ثروتهم بعد انطلاق الشركات الست، وطرحها للاكتتاب في المستقبل.
حالة «علي بابا» أعادت طرح موضوع تفكيك الشركات التقنية العملاقة مرة أخرى، وهو موضوع كان في أوجه إبان الانتخابات الأميركية السابقة عام 2019؛ حيث تمحورت حملة المرشحة الديمقراطية (إليزابيث وارن) حول تفكيك الشركات التقنية إلى شركات أصغر. ولدى (وارن) المعرفة العميقة حتى تقترح هذا الإجراء الذي يبدو للبعض كأنه اقتراح شعبوي لا يراد منه إلا جذب الشعبية، وكسب الأصوات. فقد كانت قائدة الفريق الذي أنشأ مكتب الحماية المالية للمستهلك بعد أزمة عام 2008، ولديها الخبرة الكافية في المواجهات والصدامات مع شركات «وول ستريت».
ويجادل الذين يريدون تقسيم الشركات التقنية، أن هذه الشركات لديها من البيانات ما يجعلها أقوى من أن تُنافس من الشركات الصغرى، وهذه البيانات تأتي من فروع الشركة الكثيرة، وميزة الاطلاع على بيانات المستخدمين، وإعادة استخدام هذه البيانات لتطوير الشركة بشكل لا يتأتّى للشركات الصغيرة. السبب الآخر – وهو أحد دوافع الحكومة الصينية لتفكيك «علي بابا» – أن هذه الشركات أصبحت تملك قُوى لا تمتلكها حتى الدول، وتحولت هذه القوّة من قوة سوقية إلى قوة سياسية، فأصبح للشركات نفوذ سياسي لا يستهان به، كما غدت أحد أهم اللاعبين في جماعات الضغط (اللوبيات)، وهو على الأرجح ما عطّل القرار الأميركي في تفكيك هذه الشركات. أحد الأسباب كذلك أن هذه الشركات، ومع ادعائها بدعم الابتكار، إلا أنها وبهيمنتها على السوق، وقمعها للمنافسين لا تدعم إلا الابتكار القائم داخل أسوارها والموجّه بتوجهها الخاص، والأمثلة كثيرة على شركات تقنية استحوذت على أخرى ناشئة، وأنهت جميع أنشطتها بهدف قمع منافستها، ولو كانت هذه الشركات العملاقة أقل حجماً لما كانت لها القدرة على هذه الاستحواذات.
أما الذين لا يرون صحّة تفكيك الشركات العملاقة فهم يرون أن أول تأثير لهذا الإجراء هو زيادة التكاليف على المستهلك؛ فكفاءة الشركات الكبيرة تقلل من تكاليف تشغيلها، وتفكيكها إلى شركات أصغر يزيد التكاليف. كما أن الشركات الكبرى لديها الإمكانية والملاءة المالية المناسبة للاستثمار في البحث والتطوير على المدى الطويل (أكثر من عشر سنوات)، بينما تحد القدرة المالية الشركات الصغرى من الدخول في هذه الاستثمارات.
إن ما فعلته الصين بتفكيك «علي بابا» خلال سنتين ونصف، يناقشه العالم الغربي – وهو مقتنع بجدواه – منذ أكثر من 7 سنوات. ومع أن الولايات المتحدة تحديداً لها خبرة سابقة في تفكيك الشركات العملاقة بهدف منع الاحتكار مثل ما حدث مع شركة «AT&T» فإنها لم تتخذ أي إجراء تجاه شركاتها التقنية الحالية. وقد سبق للاتحاد الأوروبي أن هدد بتفكيك هذه الشركات في حال لم تلتزم بالأنظمة الأوروبية، إلا أن ذلك لا يتعدى كونه تهديداً. ويبدو أن الشركات التقنية كانت أذكى كثيراً من الحكومات الغربية خلال السنوات الماضية، فهي قد دمجت عملياتها وأنشطتها، بل حتى ملكياتها الفكرية ليكون من الصعب على الحكومات تفكيكها في المستقبل، ولكن يبدو أن الحكومة الصينية، بما لديها من قوة تنفيذية، تمكنت من هذا الفصل للشركات التقنية. وتبقى السوق تنتظر القوانين التي تفصل في تبادل البيانات بين شركات «علي بابا» الست، والذي يعد أهم نتيجة لهذا التفكيك، فلو كان تبادل البيانات بين هذه الشركات كما هو الآن، لما كان لهذا التفكيك أي داعٍ.
يقع لبنان في قبضة أسوأ أزمة اقتصادية ومالية في تاريخه الحديث، لا سيّما أنّها متجذّرة في عقود من الفساد وسوء الادارة من قِبل الطبقة السياسية التي حكمت البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية. هذا وما زالت الطبقة السياسية تقاوم تنفيذ الاصلاحات كما يطالب بها المجتمع الدولي.
منذ بدء الانهيار الاقتصادي، يعيش ثلاثة أرباع سكان لبنان، بما في ذلك مليون لاجئ سوري، في فقر مع تضخّم آخذ بالارتفاع. وأخيراً، حدّد البنك المركزي سعر الصرف الرسمي عند 15000 ليرة للدولار، بينما سعر السوق السوداء يُستخدم الآن في جميع المعاملات تقريباً. ومع التعاميم المتتالية لمصرف لبنان، والتي أقل ما يُقال عنها إنّها تخالف الأعراف الاقتصادية والمالية، وتضرب بعرض الحائط كل الأسس الاقتصادية والمالية، في أكبر عملية رشوة يتعرّض لها شعب بكامله، ألا وهي الصيرفة. أي انّها سياسة ملتوية لإلهاء النّاس عن الأساس ودفعهم إلى المغامرة من أجل مبلغ من المال سيدفعونه حتماً في المحلات التجارية، وهذا ما يُعرف بالاقتصاد بـ «Money Illusion».
حسب البنك الدولي، يعيش لبنان واحدة من أسوأ ثلاث أزمات منذ منتصف القرن التاسع عشر (البنك الدولي- 1 حزيران 2021). والسؤال يبقى، ما مدى سوء الوضع، وكيف تتعامل معه الطغمة الحاكمة، والتي على ما يبدو فقدت شروط ومقوّمات الحسّ الوطني منذ زمن بعيد؟
وذكر البنك الدولي، أنّ الناتج المحلّي الاجمالي إنخفض إلى ما يقدّر بنحو 20.5 مليار دولار في العام 2021 من حوالى 55 مليار دولار في 2018، وهو نوع الانكماش المرتبط عادة بالحروب. وفقدت الليرة اللبنانية حوالى % 95 بالمائة من قيمتها، ما أدّى إلى ارتفاع الأسعار وهدم القوة الشرائية في بلد معتمد في إجماله على الاستيراد.
وقالت وكالة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا)، إنّ معدّلات الفقر قفزت بشكل كبير بين السكان، مع تصنيف 80% من السكان على أنّهم فقراء. هذا بالإضافة إلى الخسائر التي عانى منها النظام المالي، حيث تُقدّر الخسائر الاجمالية بحوالى 70 مليار دولار، وقد يرتفع هذا الرقم إذا لم تتمّ معالجة الأمور بشكل جدّي وجذري.
يبقى الأهم، أنّ مصرف لبنان يتلاعب بالدولار ويحاول إعادة هيكلة أمواله، علماً أنّ كل هذا يتمّ ضمن خطة تلاعب اسمها «صيرفة»، وإغلاق المصارف أبوابها وتوقف الخدمات العامة. وتتحدّث المؤسسات الدولية عن أنّ لبنان أصبح «دولة فاشلة»، كما انّ حالة الأمن الغذائي مقلقة مع انخفاض قيمة العملة وارتفاع تكاليف المعيشة التي تمنع الأسر من الحصول على ما يكفي من الغذاء والاحتياجات الأساسية اليومية.
يقول عبدالله الوردات، ممثل برنامج الأغذية العالمي والمدير القطري في لبنان: «أصبح عدد الأشخاص الذين يعتمدون الآن على المساعدة في لبنان أكثر من أي وقت مضى». ولبنان اليوم يعتمد معظم شعبه على المساعدات العائلية الخارجية، والتي بلغت في السنوات الأخيرة مبالغ جديرة بالذكر.
كلّ الذي ذكرناه غيض من فيض. ويبقى الأهم السؤال الذي يجب أن نطرحه: لماذا كل الدول تتعاون مع صندوق النقد الدولي إلّا لبنان؟ وهل شروطه مستعصية علينا، أم أنّها لا تناسب بعض فئات تعيش على التهريب والسرقة والفساد؟ وهل أنّ ضبط الحدود البريّة والبحريّة أمر غريب في أي دولة؟ أو انّ تطهير الادارة من فائضها ليس بالوارد لجماعات عاشت على هذه الاستنسابية، ضاربة بعرض الحائط مؤسّسات نفتخر بها، لا سيما أنّها تعطي فكرة واضحة عن بلدٍ بات محلولاً، وتضرب بعرض الحائط كل ما سعى رجالات لبنان لبنيانه، لا سيما المجلس التأديبي ومجلس الخدمة المدنية وغيرها من المؤسّسات التي أصبحت بحكم المنسيّة؟ وهل نحن على خصام مع المجتمع الدولي والمؤسّسات الدولية، ونرفض معونتها الّا بشروطنا؟ وما هي هذه الشروط سوى الإبقاء على الفساد والسرقة والتهريب، لطبقة حكمت البلد منذ سنين ولا تزال؟
يبقى القول، إنّ التزامنا مع صندوق النقد الدولي يبقى المخرج الوحيد للخروج من هذا النفق المظلم، ويضع لبنان على سكة الخلاص، الّا إذا كان المسؤولون فيه يطبّقون أجندة عمل أجنبية تسعى بلبنان إلى الخراب والزوال. ويبقى السؤال: هل نحن ندق أبواب التقسيم والكانتونات المذهبية، وهذا وللأسف ليس بالغريب في ظلّ ما يحدث من تجاذبات تأخذ منحى طائفياً، وتجيّش عامل الفرقة والتفاوت في التفكير بين مختلف فئات المجتمع اللبناني؟
أما الوقت والتوقيت فهو عالمي، والجدل والاستنسابية لا ينفعان في مثل هذه الحالة.