الديون الأميركية وغروب شمس بريتون وودز

وقت ظهور هذه الكلمات للنور، يكون قادة ديمقراطيون وجمهوريون أميركيون قد تداعوا إلى البيت الأبيض، بطلب من الرئيس بايدن، لبدء مفاوضات رفع سقف الدين الأميركي، وهو أمر لم يكن الرئيس يأمله، إذ كان يفضل مشروع قانون نظيف لرفع سقف الدين.

والثابت أنه خلال ثلاثة أسابيع، والعهدة على السيدة «جانيت بلين» وزيرة الخزانة الأميركية، ربما تضحى واشنطن مهددة بالتوقف عن سداد ديونها، للمرة الأولى في تاريخها، إن لم يتوصل الحزبان الكبيران المهيمنان على الكونغرس، إلى صفقة ما بشأن رفع سقف الاقتراض في الداخل الأميركي.

مرة جديدة نتساءل عما يجري في الداخل الأميركي، وهل الأمر مجرد «وخز بالعصا»، تمارس فيه لعبة المساومة التقليدية، بين القادة الجمهوريين والديمقراطيين، لضمان المزيد من التأثير الحزبي، وبخاصة قبل معركة انتخابات الرئاسة الأميركية التي دارت عجلتها بالفعل؟

يمكن أن يكون هذا صحيحاً بصورة أو بأخرى، لكن بشكل جزئي في كل الأحوال، إذ إن علامات الوهن بادية على الاقتصاد الأميركي في مناحٍ شتى، وملامح غروب شمس نظام «بريتون وودز» تلوح في الأفق، وبخاصة في ظل أوضاع الدولار الأميركي.

يقطع غريغوري داكو، كبير الاقتصاديين لدى مؤسسة «إي واي بارثينون»، بأن الاقتصاد الأميركي مريض والأعراض بدأت تظهر، وهو ما يتفق فيه معه بريان موينيهان، الرئيس التنفيذي لبنك أوف أميركا، الذي يتوقع ركوداً كبيراً قادماً.

أما تقرير الناتج المحلي الإجمالي الحكومي، فيبرز مخاوف واضحة، لا سيما أن النمو الاقتصادي لم يتجاوز 1 في المائة في الأشهر الثلاثة الأخيرة، وهي نسبة أقل بكثير من التوقعات.

ما الذي يمكن أن يتسبب فيه عدم التوصل إلى رفع سقف الاقتراض؟

بحسب «الإيكونوميست» البريطانية، ستواجه أميركا إما تخلفاً عن السداد، أو تخفيضات متأرجحة في الإنفاق الحكومي، وفي الحالتين سيتعرض الاقتصاد الأميركي والعالمي لنتائج مدمرة.

من ناحية ثانية، فإن التقصير في السداد من شأنه أن يقوض الثقة في النظام المالي الأكثر أهمية حول العالم، حيث تؤدي التخفيضات الكبيرة في الميزانية إلى ركود عميق.

لا يبدو الاقتصاد الأميركي بخير، والأوضاع ليست على ما يرام، لا سيما في ظل أحوال الصناعة التي باتت تجلب دخلاً أقل، والقطاع المصرفي الذي يواجه أزمات حادة.

في الأول من مايو (أيار) الجاري، وضعت السلطات المالية الأميركية يدها على مصرف فيرست ريبابليك ومقره ولاية كاليفورنيا.

فشل المصرف الأميركي الذي تبلغ أصوله نحو 233 مليار دولار، في التوصل إلى خطة إنقاذ عملية، وتم الكشف عن خسارته التي بلغت نحو 100 مليار دولار من إجمالي ممتلكاته، وذلك في الربع الأول من العام الجاري، مما أدى إلى هبوط أسهمه.

أزمة فيرست بنك ليست الأولى التي تضرب القطاع المصرفي الأميركي، إذ تجيء بعد أقل من شهرين على انهيار بنكي سيليكون فالي وسيغنيتشر، وسط موجة من هروب الودائع من البنوك الأميركية، مما أجبر مجلس الاحتياطي الاتحادي على التدخل بإجراءات طارئة للحفاظ على استقرار الأسواق.

هل سيكون هذا هو الانهيار الأخير في سلسلة انهيارات البنوك الأميركية؟

عند عدد وافر من المراقبين الاقتصاديين وخبراء البنوك الأميركيين، سيناريو أحجار الدومينو قد بدأ، والقطع بعدم تكرار الحدث، أمر يجانبه الصواب، وأن السلطات الأميركية لن تتمكن من إيقاف مسلسل الانهيارات بشكل كامل، فيما التضخم لا يزال يمثل خوفاً كبيراً لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، وداخل المجلس يخشون من خفض أسعار الفائدة على المدى قصير الأجل.

كيف يمكن أن تنعكس أزمة سقف الدين الأميركي، وهروب الودائع من البنوك الأميركية بعد انهيارها، على الثقة الائتمانية الدولية في الاقتصاد الأميركي؟

ربما تكون واشنطن بالفعل أمام لحظات مفصلية من تاريخ عالم بريتون وودز، الذي وضعت لبناته بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية مع بقية الحلفاء على النازي.

غير أن الحديث عن ذلك النظام لا يستقيم من غير التطرق إلى وضعية «الأخضر الجبار»، ذلك الدولار، وهل سيظل المسيطر في عالم الاقتصاد العالمي، أم أنه ماض في طريق التقلص والانكماش؟

الشاهد أنه رغم احتفاظ الدولار حتى الساعة بمكانة عالية متقدمة، فإن العديد من الإشارات تشيئ بأنه سيتخلى عن عرشه في المدى الزمني المتوسط.

تقطع «الإيكونوميست» البريطانية بأن الكثير من دول العالم آخذة في البحث عن طرق للتهرب من سطوة الدولار، باستخدام عملات أخرى.

أظهرت روسيا خلال أزمتها مع أوكرانيا أن الدولار ليس قدراً مقدوراً على الخليقة، ورغم تضررها من العقوبات الغربية، الأميركية والأوروبية، فإنها لم تصب بشلل اقتصادي تام، وربما يرجع ذلك جزئياً إلى أن 16 في المائة من صادراتها تدفع الآن باليوان.

أما في الصين، فهناك عالم آخر بديل عن نظام السويفت الأميركي يتشكل، ودول العالم الراغبة في التعامل مع الصين باليوان هرباً من الدولار يتعاظم عددها.

هل يمكن للمرء أن يوفر ما يجري في عالم التقنيات المدفوعة بالعملات الرقمية، التي تجري خارج إطار البنوك المركزية، وبعيداً عن الفوقية الإمبريالية الدولارية، إن جاز القول؟

لينتظر القارئ شهر أغسطس (آب) القادم، حيث مؤتمر دول البريكس، في جنوب أفريقيا، والمرجح أن يكون حدثاً استثنائياً، لا سيما في ضوء الدول الراغبة في الانضمام إليه، ما يعني أن عالماً متعدد الأقطاب والعملات على الأبواب.

هل الدولار في مأزق وبالتالي اقتصاد أميركا ونظام بريتون وودز؟

بحسب أرقام الوكالة الأميركية لتأمين الودائع، فإن ما تمتلكه في الحال يصل إلى 125 مليار دولار فقط من إجمالي الأموال المودعة في المصارف الأميركية، التي يصل حجمها إلى 18 تريليون دولار، أي أن التأمين يغطي فقط 1.5 في المائة فقط… ماذا ستفعل واشنطن؟

لا سبيل سوى طباعة الدولارات لتمويل عجز الميزانية من جهة، وتأمين الودائع البنكية من جهة ثانية، ما يعني ارتفاع التضخم أميركياً وانهيار الدولار في المدى المتوسط.

هل هو وقت النفخ في أبواق القرن البنكية العربية قبل فوات الأوان؟

إميل أمين

إقتراح قانون وقف انهيار سعر صرف الليرة

 

تقدمنا بإقتراح قانون يهدف الى وقف إنهيار سعر صرف الليرة اللبنانية. وجاء في الاقتراح:

الأسباب الموجبة

بعد عقود من ترويج أركان السلطتين السياسية والنقدية استقرار الليرة وثباتها رسمياً على 1507 ليرات لكل دولار، تخطّى سعر صرف الدولار في السوق الموازية 140 ألف ليرة للدولار الواحد ليعود إلى 100 ألف ليرة، ما يعني فقدان العملة نحو 98 % من قيمتها. وقد ترافقَ ذلك مع تسجيل لبنان في العام 2022 أحد أعلى معدلات التضخم في العالم بنسبة 186 بالمئة وفقاً لتقرير البنك الدولي. كما أثرت الأزمة النقدية على الاقتصاد وحياة المواطنين، فتآكلت مدخراتهم والقدرة الشرائية لمداخيلهم، وارتفعت نسبة الفقر المدقع من 19.8 % سنة 2019 إلى 50 % سنة 2021 استناداً إلى تقرير الإسكوا. كما غذّى انهيار الليرة ارتفاع أسعار المحروقات، ما يهدد بانهيار المؤسسات العامة والتعليمية بسبب عدم قدرة الموظفين على تغطية تكلفة الوصول إلى أشغالهم. وقد تؤدي الأزمة النقدية إلى القضاء على ما تبقّى من مدخرات واقتصاد لدى الناس وإلى الفوضى وعدم الاستقرار في الأسعار، وهو ما يُعزز الهجرة الجماعية.

وقد استمرت الأسعار في الارتفاع مع ارتفاع الدولار مقابل الليرة في مقابل عدم انخفاضها عندما ينخفض سعر الصرف. ولمعالجة صعوبة التسعير في ظل تقلبات سعر الصرف، بدأت القطاعات، الواحد تلو الآخر، في احتساب أسعار السلع بالدولار، وهو ما يُعرَف بالدولرة. كما يعاني لبنان من مشكلة تعدد أسعار الصرف، حيث يفتقر إلى سعر صرف موحد للّيرة مقابل الدولار، الأمر الذي أثقلَ كاهل اللبنانيين. وقد فاقمت المشاكل السياسية الأزمة النقدية من خلال إضعافها الثقة بقدرة لبنان على الإصلاح.

أسباب انهيار سعر صرف الليرة

ضَخ الليرة: تعود مشكلة انهيار سعر صرف الليرة وارتفاع الأسعار في لبنان إلى زيادة كمية الليرة في التداول، والتي ارتفعت بحوالى عشرين ضعفاً عمّا كانت عليه في بداية الأزمة. فقد بلغ حجم الكتلة النقدية المتداولة بالليرة اللبنانية في العام 2022 بحسب أرقام مصرف لبنان حوالى 70 تريليون ليرة بعد أن كان 4 تريليونات ليرة في العام 2019. كما أدى فائض الليرة اللبنانية إلى زيادة الطلب على الدولار، الأمر الذي ولّد عجزاً في ميزان المدفوعات وفاقم عجز الميزان التجاري.

عجز الموازنة: راكَم لبنان عجوزات في الموازنة العامة أفضَت إلى دين عام كبير ولكنه فشل بالتوازي في إنتاج بنية تحتية تعزّز النمو. وتشكل زيادة كمية الليرة في التداول المصدر الأساسي لتمويل عجز الموازنة العامة في ظل تدهور الإيرادات العامة من الرسوم والضرائب، ما يؤدي إلى رفع الطلب على الدولار ويُسارع تدهور سعر صرف الليرة. فقد أصبح النقد المورد الوحيد لتمويل العجز بعد تخلّف الحكومة عن سداد مستحقاتها من سندات اليوروبوند، الأمر الذي جعلها تفقد الثقة على المستوى الدولي.

الأزمة المصرفية: أدت سياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية المتبعة منذ تسعينات القرن الماضي وعلى مرّ عقود من الزمن إلى تبخّر مئات المليارات من الدولارات من دون أي عائد أو منفعة اقتصادية. وراح المصرف المركزي يقترض الدولارات من المصارف لسد فجوة الطلب على العملة الصعبة وتأمين استقرار سعر الصرف على 1507 ليرات للدولار. ومع عدم قدرة المصرف المركزي والحكومة على سداد ديونهما للمصارف، تفاقمت أزمة الملاءة وانهارت الثقة في النظام المصرفي وتوقفت تدفقات رؤوس الأموال، ما أدى إلى حرمان المصارف التجارية والمصرف المركزي من مليارات الدولارات. وقد قرر المصرف المركزي معالجة الأزمة المصرفية عن طريق إعادة أموال المصارف بالليرة اللبنانية، أو ما أصبح يُعرَف اصطلاحاً بـ”لولرة الودائع”، الأمر الذي ساهم في ارتفاع التضخم. وقد ضخ مصرف لبنان تريليونات الليرات في التداول ليقوم بدفع بعض الودائع التي أودِعَت بالدولار على أسعار صرف تدرجت من 3900 إلى 8000 فـ 15000 ليرة لكل دولار. وقد تسببت سياسة تحميل الخسائر للمواطنين في فشل ذريع، إذ عززت توقعات العملاء بأن الآتي سيكون أعظم، وبالتالي بأن الطلب على الدولار سيرتفع.

وَهن الاقتصاد وانهيار الثقة: سجّل الاقتصاد اللبناني معدلات نمو منخفضة على مدار سنوات قبل أن يسجل ركوداً تجاوز – 25 % في العام 2020، ناهيك عن توقف التدفقات المالية من الخارج وتراجع احتياطي العملات الأجنبية لمصرف لبنان. وقد ساهم الفراغ السياسي وعدم تشكيل حكومة على مدى عامين ونصف وتأخّر الإصلاحات وغياب برنامج شامل للإصلاح المالي وإعادة هيكلة الديون والمصارف في فقدان الثقة بالليرة وبالسلطة السياسية. كما بدأ تحلّل الدولة في مسارها القضائي والإداري في الظهور، وهو ما ينعكس على عوامل عدة مثل تفكّك القدرة على إدارة السياسة النقدية والمالية وتوسع الأسواق المالية الموازية غير المنظمة وانتشار الفساد وتفاقم التهريب المتفلّت عبر المعابر غير الشرعية.

هدر دولارات الإحتياطي ومفاقمة الأزمة

ضَخ الدولار: حاول مصرف لبنان الحفاظ على سعر الصرف الرسمي عند ١٥٠٠ ليرة للدولار ومن ثم رفعه إلى ١٥ ألف ليرة للدولار. ومع فشل سياسة التعاميم في التأثير الإيجابي على سعر الصرف في السوق السوداء، راح المصرف المركزي يضخ العملة الصعبة في الأسواق محاولاً إيقاف التدهور مؤقتاً، وهو ما يؤدي إلى استنزاف احتياطاته من دون فائدة. إذ بلغ الاحتياطي من العملات الصعبة قبل بداية الأزمة في العام 2019 نحو 31 مليار دولار، ثم تراجع في غضون أشهر ليصل إلى 16 مليار دولار، وهو اليوم أدنى من 10 مليارات دولار. وقد أدى هذا التدخل إلى استقرار مؤقت في عدة فترات قصيرة كان أطولها صيف العام 2020، وبمعدلات تتراوح بين 8 و9 آلاف ليرة للدولار، بسبب ضخ المصرف المركزي لمبالغ ضخمة من الدولارات في الأسواق (ما يقرب من 5 مليارات) تبخرت جميعها في السوق السوداء. واستمراراً لهذه الخطوة، أنشأ مصرف لبنان منصة مدعومة من قبله أطلق عليها اسم “منصة صيرفة”، يضخّ بموجبها الدولارات من احتياطه في محاولة للحد من انهيار سعر صرف العملة. وقد ذهبت هذه المحاولة أدراج الرياح من دون أن تؤتي ثمارها المرجوّة، ما أدى إلى انحدار الاحتياط الإلزامي وجعل المصرف المركزي غير قادر على التدخل في سوق القطع.

زيادة عجز الموازنة العامة: حاولت الحكومة اللبنانية التخفيف من وطأة الأزمة عبر دعم بعض السلع مثل المحروقات والأدوية والخبز، ما أدى إلى زيادة التهريب وعدم استفادة الشرائح المستهدفة منها. ثم عادت الحكومة ورفعت الرواتب والأجور، ما أدى إلى عجز كبير في موازنة العام 2022 يتم تمويله عن طريق زيادة النقد والتضخم وانهيار سعر الصرف. وبالتوازي مع زيادة نفقاتها، لم تفلح الحكومة في تحسين إيراداتها بسبب التأخر في تطبيق الإصلاحات الضريبية والجمركية وشح الهبات والمساعدات الخارجية. وقد أملت الحكومة إنجاز اتفاق مع صندوق النقد الدولي يساعد على إعادة التوازن، لكن الاستعصاء السياسي والشغور الرئاسي وعدم وجود حكومة بصلاحيات كاملة أخّر تنفيذ تعهدات لبنان. وعلى الرغم من الدلالة المهمة لنتائج الانتخابات، إلا أنها لم تغير من واقع المخاوف من عدم الاستقرار السياسي وتراجع تدفق الأموال وهجرة الإيداعات.

وحيث أنّ إصدار تشريع يلزم مصرف لبنان وقف طباعة الليرة بغرض تمويل نفقات القطاع العام ولا ينعكس إيجاباً على سعر الصرف فحسب، بل يؤدي في الوقت نفسه إلى إلزام الدولة بإعادة هيكلة القطاع العام وتخفيض نفقاته وتعويم الليرة والانتقال إلى سعر صرف واحد.

وحيث أن إلغاء منصة صيرفة والبحث عن إصدار عملة نقدية تستطيع أن تحوز ثقة المواطن ممكن من خلال ضبط طباعتها وربطها بالدولار والموجودات مثل الذهب.

تم اقتراح القانون التالي نصه:

الجمهورية اللبنانية

مجلس النواب

قانون وقف انهيار سعر صرف الليرة

مادة وحيدة:

1 – بصورة استثنائية، وخلافاً لأي نص آخر، يمنع منعا مطلقا أن تتخطى كمية النقد في التداول مبلغ الـ 70 الف مليار ليرة لبنانية، كما يمنع منعا مطلقا التصرف باحتياطات التوظيفات الإلزامية في مصرف لبنان (احتياط العملات الأجنبية) ويتوقف استخدامها على منصة صيرفة فوراً.

2 – يعمل بهذا القانون فور نشره في الجريدة الرسمية.