احتفل البنك المركزي الأوروبي، الأسبوع الماضي، بمرور 25 عاماً على إطلاق عملة اليورو، وكرر مسؤولو الاتحاد الأوروبي خلال الحفل نيتهم إصدار عملة اليورو الرقمية خلال الثلاث سنوات المقبلة. وقد شهدت أوروبا بعض الاحتجاجات بشأن هذه العملة خلال الأشهر الماضية كان أبرزها مظاهرات أمستردام في فبراير (شباط) الماضي. فما هي عملة اليورو الرقمية؟ ولماذا يحرص البنك المركزي الأوروبي على إصدار هذه العملة على الرغم من الاحتجاجات؟ وماذا عن بقية الدول؟
عملة اليورو الرقمية هي أحد أشكال (العملات الرقمية للبنوك المركزية) وهي العملات غير المرتبطة بسلعة مادية والصادرة عن الحكومات، وتشبه إلى حد ما العملات المشفرة المستقرة (Stablecoin) وهي نوع محدد من العملات المشفرة المربوطة بعملة أو سلعة أو أداة مالية للحفاظ على استقرار قيمتها. وقد زاد توجه البنوك المركزية إلى دراسة جدوى إصدار عملات رقمية خلال السنوات القليلة الماضية. وأوضحت دراسة أن نحو 90 دولة في العالم تدرس إصدار عملات رقمية، وأن بعض هذه الدول أصدرتها بالفعل مثل نيجيريا وجامايكا والصين. ولهذا التوجّه عدد من المحفزات، مثل انخفاض التعامل بالنقد خلال السنوات الأخيرة، لا سيما أثناء الجائحة، كما أن البنوك المركزية تحاول بدورها الاستفادة من زخم الابتكار الذي يحرك العالم الآن، والذي قد يفيدها في زيادة الشمولية المالية وتسريع التسوية المالية.
أما البنك المركزي الأوروبي فله مبررات عديدة بشأن إصدار هذه العملة، وهي متغيرة مع الزمن، فالبداية كانت قبل سنوات عدة، حين أعلنت شركة «ميتا» («فيسبوك» حينها) عملتها الرقمية «ليبرا»، تخوّفَ آنذاك البنك المركزي الأوروبي من أن يزيد نفوذ الشركات التقنية الأميركية في أوروبا، فأعلن هو الآخر بدء دراسة إمكانية إصدار «يورو رقمي». ولكن «ليبرا» اندثرت بعد فقدان «ميتا» الاهتمام بها. ومن ثم راقب «المركزي الأوروبي» بزوغ نجم العملات المشفرة، وأراد إيجاد بديل أكثر استقراراً من العملات المشفرة، ولكن العملات المشفرة لم تعد تهديداً الآن بعد أن انخفض سعر «بتكوين»، ملكة العملات المشفرة، واهتزاز عالم العملات المشفرة بعد انهيار عدد من شركاتها.
ومبررات الاتحاد الأوروبي اليوم مختلفة، أبرزها أنه لا يمتلك شركة مدفوعات ضخمة مثل «فيزا» أو «ماستر كارد» أو حتى «أبل باي» و«غوغل باي»، وهو لا يريد الاعتماد على هذه الشركات الأميركية، لا سيما أنه جرب ويلات الاعتماد على مصدر وحيد في الطاقة. ولذلك فهو يريد من الآن بناء نظام المدفوعات الخاص به، الذي قد يخدمه كذلك بزيادة متانة اليورو. كما يرى الاتحاد الأوروبي أن العملات الورقية قد لا تتناسب مع التطورات المستقبلية.
إلا أن هذا النظام يلاقي احتجاجات من الأفراد ومن البنوك، فالأفراد يخشون أن تكون هذه العملة وسيلة لانتهاك خصوصيتهم، لا سيما أن التعامل بين المستهلكين والبنك المركزي سيكون مباشراً، وليس عن طريق البنوك التجارية كما جرت العادة. إحدى هذه المخاوف هي أن تفرض الحكومة قيوداً على بعض المشتريات بحسب معدل الأعمار (مثل منتجات التبغ أو الكحول)، أو بحسب الأحداث المعاصرة (مثل منع السفر أثناء الجائحة). أما البنوك التجارية فقد كان تخوفها أكثر واقعية، ففي حال تعامل المستهلك مع البنك المركزي مباشرة، فإن البنك المركزي سيكون في مقام المنافس للبنوك التجارية، وقد يتسبب في التأثير سلباً في ودائع البنوك التجارية، وبالتالي على إمكانية منحها القروض.
إن جدوى العملات الرقمية للبنوك المركزية تختلف باختلاف الدول وظروفها، فالولايات المتحدة على سبيل المثال ليس لديها كثير من مبررات الاتحاد الأوروبي، ولذلك فإنها أقل إقداماً على إصدارها، لا سيما مع زيادة تكاليف إصدارها مقارنة بميزاتها القليلة. بالمقابل، فقد وجدت كل من السعودية والإمارات مبرراً لإصدار عملة رقمية مشتركة (مشروع عابر) وذلك لاستخدامها في عمليات التسوية بين البلدين، وهي عملة غير مخصصة للمستهلكين، وهدفها الرئيسي تعزيز التجارة بين البلدين. أما الصين فإنها قد تستخدم عملتها الرقمية في زيادة انتشار عملتها وزيادة الاعتماد عليها عالمياً، ويتضح أن الاتحاد الأوروبي له أهدافه السياسية خلف إصدار عملته الخاصة به، بينما أعلنت كل من كندا وسنغافورة عدم جدوى هذا الإصدار. ولذلك فإن إصدار العملة الرقمية الحكومية يعتمد بشكل جوهري على ظروف الدولة وهدفها خلف إصدار عملتها، حتى لا تكون العملة، كما وصفت صحيفة «الفاينانشيال تايمز» عملة اليورو الرقمية بأنها، «حل يبحث عن مشكلة».
د. عبد الله الردادي