لماذا لدينا سعران رسميّان للدولار؟

نُدرك جميعاً أنّ في لبنان منذ بداية الأزمة المالية والنقدية، أسعار صرف عدّة، بدءاً من سعر الصرف الرسمي الذي ارتفع إلى 15 ألف ليرة، منذ شباط 2023، والذي يَتزامن الآن مع سعر تعميم 151، ولدينا سعر صرف تعميم 158، وسعر صيرفة الذي يتزامن مع تعميم 161، وسعر صرف السوق السوداء، وسعر صرف الشيك بالدولار، والشيك بالليرة اللبنانية وغيرها وغيرها.

لدينا سِعرا صرف رسميّان، الأول، هو السعر الرسمي المتداوَل بـ 15 ألفاً، والسعر الرسمي الآخر وهو سعر منصّة صيرفة والذي يُقارب الـ 90 ألفاً اليوم. فما هو الهدف الواضح المُبطّن جرّاء هذين السعرين الرسميين، حينما الكل يُنادي ويطالب بسعر صرف موحّد؟

شئنا أم أبينا، لقد أصبح من المستحيلات، تثبيت سعر الصرف، لأنّ هذه العملية ستتطلّب سيولة كبيرة بالعملات الأجنبية، المفقودة في الوقت الحالي، خصوصاً من جهة الدولة. ومن الصعوبة إعادة تكوينها على المَديين القصير والمتوسط. لذا، نحن تحت رحمة سعر صرف عائم، يستطيع أن يتحرّك صعوداً أو نزولاً، من دون أي مقدرة أو وسائل بُغيَة التحَكّم به.

لكن السؤال البديهي المطروح الراهن: لماذا لم نتحوّل مباشرة إلى توحيد سعر صرف رسمي وعائم؟ ولماذا لجأ الرسميون إلى الإختباء وراء سعرَين رسميين لتسعير الدولار، السعر الرسمي 15 ألفاً وسعر صيرفة العائم؟

الحقيقة المرّة جرّاء هذين التسعيرَين هي أنّ الأول (15 ألفاً) هدفه المبطّن تصفية ما تبقى من الودائع، لتُصرف بـ»هيركات» وخسارة مباشرة تتجاوز الـ 85 %. ويُمكن أن تزداد هذه الخسارة إذا أراد المودع المَطعون صرفها بأوراق نقدية، فيخسر حينها بين 15 % و20 %. فهذا السعر الرسمي الأول يُستعمل لهدر الودائع، أو أي مَدخول بالدولار اللبناني (اللولار). وقد أصبح سعر هذه المنصة لتسعير مدخول قسم كبير من اللبنانيين الذين سُرقوا وذُلّوا.

أما سعر الصرف الثاني المحدّد الذي لُقّب بمنصّة صيرفة، فهو سعر صرف عائم، يُقارب سعر صرف السوق السوداء، ويُستعمل كمنصّة جديدة بالتسعير، خصوصاً لكل التكاليف المعيشية. فسعر هذه المنصّة الجديدة بدأ يُستعمَل للضرائب والرسوم والجمارك، والضريبة على القيمة المضافة TVA، والأدوية والمحروقات… فأصبح سعر التسعير هذا يوماً بعد يوم سعر الصرف الجديد المعتمَد والذي يتقارب أكثر فأكثر مع السوق السوداء.

المُعادلة أصبحت واضحة: إنّ مداخيل وودائع اللبنانيين تُصرف حسب السعر الرسمي بـ15 ألفاً، أما كلفة معيشتهم ومصاريفهم فتُحتسب بحسب منصّة صيرفة، ما يعني بنحو 6 و7 أضعاف أكثر.

بالأرقام، من وراء هذين السعرَين الرسميين، يخسر قسم كبير من اللبنانيين 85 % من مداخيلهم وودائعهم وجنى أعمارهم، وتزداد كلفة معيشتهم أكثر من 700 %.

هذه هي الحقيقة المرة، التي نعيشها اليوم، والإستراتيجية المبطّنة لعدم توحيد سعر الصرف، لمتابعة أكبر جريمة مالية ونقدية في العصر الحالي.

إضافة إلى هذا الواقع الأليم، هناك نقاط استفهام عدّة، مفادها: كيف بعصا سِحرية فُوجِئنا بتقارب بين سعرَي صيرفة والسوق السوداء، والذي جُمّد في الوقت الحالي، بنحو 90 ألفاً إلى 100 ألف؟ هذا يعني، إذا قرأنا بين السطور، لا شك في أن هناك تقارباً لا بل تواطؤاً وعلاقة بين هذه المنصات، واحدة منها رسمية، والأخرى سوداوية. والواضح أيضاً أن هذه الدولارات والأوراق النقدية، تدور بين الأيادي وبالحلقة المُفرغة والمقفلة.

في النهاية، ما تصنعه المنصّات، سنشهده على الشاشات، وهو وعود وهميّة. أما الحقيقة فهي أن هناك استراتيجية وخطة واضحة لاستكمال التدمير الداخلي والذاتي.

سقف الدين وقوة الدولار

في السنوات الأخيرة يشهد الاقتصاد العالمي تغيرات كبيرة في ظل صعود اقتصادات الأسواق الناشئة خاصة في آسيا، وتنفيذها خطوات إنمائية ضخمة، في نفس الوقت الذي تتراجع فيه هيمنة الدول الكبرى، إذ على الرغم من أن أكثر التوقعات تشير إلى استمرار صعود اقتصادات دول مثل الصين واليابان لتعزز مكانتها ضمن أكبر الاقتصادات العالمية في السنوات القادمة، فإن الخبراء يرجحون أيضاً أن تستمر أميركا في الاحتفاظ بصدارة أكبر الاقتصادات في العالم. ووفقاً لخبراء مؤسسة «فوكس إيكونوميكس» فمن المتوقع أن تأتي الهند في المركز الخامس ضمن أكبر الاقتصادات العالمية بحلول عام 2023 بناتج محلي إجمالي اسمي يبلغ 4.3 تريليون دولار، متجاوزة بذلك كلا من فرنسا والمملكة المتحدة.

ومن المتوقع أن تحتفظ ألمانيا بالمركز الرابع بناتج محلي إجمالي يبلغ 4.6 تريليون دولار، إلا أن تراجع نموها السكاني -نفس الأزمة التي تعاني منها اليابان- قد يؤثر على نموها الاقتصادي، كما ستظل اليابان ثالث أكبر اقتصاد في العالم بناتج محلي إجمالي اسمي يبلغ 5.7 تريليون دولار في 2023، ورغم ذلك فمن المحتمل أن تخسر الدولة الآسيوية بعضاً من نفوذها لصالح منافسيها من الدول المتقدمة والأسواق الناشئة، وأيضا أن تأتي الصين في المركز الثاني بعد أميركا، بناتج محلي إجمالي متوقع يبلغ 19.5 تريليون دولار في 2023.

وستبقى أميركا محتفظة بلقبها كأكبر اقتصاد في العالم، إذ يرجحون أن يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي 24.9 تريليون دولار في 2023، ورغم ذلك سوف يتراجع نفوذ أميركا لصالح دول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، إذ إن إجمالي اقتصاد دول البريكس أكبر بنسبة 10 بالمائة من اقتصاد أميركا.وفي سياق متصل، استبعدت رؤى خبراء اقتصاديين قدرة الاقتصاد العالمي على كسر هيمنة الدولار الأميركي، وتخفيف الاعتماد عليه، وسيطرته على أغلب التجارة العالمية الدولية، خصوصاً على المديين القريب والمتوسط، إذ إن الدولار فرض نفسه على الاقتصاد الدولي عبر تمويله 80 في المائة من التجارة الدولية، وتشكيله 60 في المائة من احتياطيات البنوك المركزية، وحجم الاقتصاد الأميركي الذي يتجاوز 30 في المائة من الاقتصاد العالمي، وكذلك تقويم أهم السلع والمواد الخام العالمية كالنفط والذهب بالدولار، إلا أنهم يرون أن هيمنته لن تدوم إلى الأبد، لكنها تحتاج إلى خطط طويلة المدى لكسر هيمنته، وإزاحة سيطرته على الاقتصاد العالمي.

إن تزايد المناداة بالانتقال لعملة أو عدة عملات لتحل محل الدولار يعكس عدم الارتياح العالمي للهيمنة المستمرة له، ورغبة بعض الاقتصادات في تخفيف اعتمادها على الدولار، في ظل التحولات الاقتصادية الدولية، وربما يأتي في بعض الأحيان بدوافع سياسية. وإن صعوبة ظهور بديل قريب للدولار الأميركي تكمن في استمرار القبول العام للدولار مقارنة بغيره من العملات، وهو شرط ضروري لنجاح أي عملة تنافسه، إذ إن التحديات ما زالت كبيرة أمام اليورو ليكون بديلاً له، كما أن اليوان الصيني يعاني فجوة ثقة رغم زيادة نسبته في حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي.

وإن استمرار البنك الفيدرالي الأميركي في استخدام سياسات نقدية متشددة ورفع سعر الفائدة، حتى وصلت إلى 5.25 في المائة، وسيطرة الدولار على أهم مفاصل التجارة العالمية، هو ما أدى إلى تفكير بعض الدول والاقتصادات العالمية في الخروج من دائرة الدولار، واستبدال عملات الاقتصاديات الكبيرة مثل الين واليوان واليورو وغيرها به.

إن صعوبة الخروج من دائرة الدولار الأميركي في المديين القريب والمتوسط، لكونه سيؤدي لتعرض استثمارات الدول الخارجية في سندات الخزينة الأميركية إلى تكبد خسائر كبيرة، قد لا تتحملها تلك الدول، لذلك من الأفضل لها أن تبقى وتحافظ على مصالحها في السوق الأميركية، إذ إنه على تلك الدول التي تنوي الخروج من دائرة الدولار التفكير في حلول منطقية ونظرة مستقبلية، ولذلك فإن أقل ما يقال عن تأثير التخلف عن السداد أنه كارثي على الاقتصاد العالمي، فالدولار هو العملة الاحتياطية الأولى في العالم، والتخلف عن السداد سيقلل من قيمته بلا أدنى شك.

وفي الختام، فإن ضبابية سياسة الدين الأميركية تجعل مستقبل اقتصاد أميركا في خطر، فحتى بعد الاتفاق على رفع سقف الدين هذه المرة، فما سيحدث في المستقبل سيكون تأثيره كبيرا على الاقتصادين الأميركي والعالمي، ويؤثر على سقف الدين في المستقبل، وأيضا قوة الدولار وموقعه في السوق الدولية، إذ سيتراجع موقع الدولار مع كل مراجعة لسقف الدين، وسيعطل تطبيق «قانون المسؤولية المالية» الذي يمدد سلطة الإقراض الحكومي، وفي النهاية الدعوة إلى خفض الإنفاق الفيدرالي غير الضروري لحفظ استقرار الاقتصاد العالمي ومكانة الدولار.

عائدات الغاز تلامس الشعبوية… «أوعا» الأجيال المقبلة

لا نكتشف البارود عندما نقرر أن نُنشئ صندوقاً خاصاً بإدارة العائدات النفطية المتوقعة. ومن البديهي ان نستنسخ تجارب دول ناجحة لوضع هيكلية الصندوق وطريقة ادارة الاصول، لكنّ الاستنساخ لا يُغني عن التعاطي مع الخصوصية اللبنانية بعناية، وهذا هو بيت القصيد في نجاح مشاريع الصناديق المطروحة أو فشلها.

ما قامت به اللجنة الفرعية النيابية برئاسة النائب ابراهيم كنعان مميّز، لجهة البنية الهيكلية والتنظيمية التي أقرّتها لقانون الصندوق السيادي المتعلق بعائدات النفط والغاز المستقبلية. لكن، والى جانب تفاصيل الحوكمة والشفافية، لا بد من مراعاة مسألة اساسية ترتبط بالأزمة المالية والاقتصادية. اذ لا يكفي ان نَقتبِس نسَباً مئوية من التجارب الناجحة، (20% للتنمية، و80% للادخار والاستثمار)، لأن المطلوب من كل الخطوات التي يقوم بها المشرّع اليوم، أو حتى السلطة التنفيذية، ان تأخذ في الاعتبار اولوية تأمين الخروج الآمن من النفق، وضمان الانتقال الى وضع مالي واقتصادي طبيعي، ضمن جدول زمني مرتبط، بطريقة أو بأخرى، بخطة التعافي التي سيتم الاتفاق عليها في النتيجة.

وهنا لا بد من التركيز على أنّ مقولة ان عائدات النفط من حق الاجيال المقبلة، كلام حق، لكن لا يمكن تأمين هذا الحق من خلال نقل العائدات الى المستقبل فحسب. اذ انّ ضمان حقوق الاجيال يكمن في تأمين وطن قابل للحياة، ودولة سليمة يمنح اقتصادها هذه الاجيال الفرص الحياتية اللائقة. أمّا أن نفصل بشكل عَمودي بين الاحتفاظ بالعائدات للمستقبل، ونترك الاقتصاد مدمّراً، بذريعة عدم المَس بهذه الاموال، فهذه تصبح خطيئة لا تغتفر. والمقصود هنا، ليس التشجيع على انفاق العائدات، بل التسليم بأن الاولوية في كل ما تنتجه الدولة اليوم، يجب ان يصبّ في خانة الانقاذ وتطوير الدولة، لأنها الارث الأثمن الذي يمكن منحه للأجيال الطالعة.

ولا بد على الهامش من التأكيد انه مهما كانت قوانين الصندوق محبوكة بعناية لضمان الشفافية والحوكمة، فإنّ خطر الهدر يبقى قائماً في هيكلية الدولة بمفهومها السياسي، اي من خلال سلطاتها. والمقصود هنا، ورغم انّ قانون الصندوق يمنع ان تقترض منه الدولة المال، لزوم سَدّ حاجاتها المالية، لكن ذلك لا يؤدي الى مكان، لأنّ الدولة تستطيع ان تقترض من اي مكان آخر، وستكون اموال الصندوق مكشوفة لتغطية هذه القروض لاحقاً، طالما انها اموال عامة. ولا ننسى ان هذه الدولة اقترضت الاموال من الناس بالتحايُل، من خلال مصرفها المركزي، وهي تحاول اليوم التملّص من مسؤولية اعادة هذه الاموال لأصحابها. في حين ان الوضع سيكون مختلفاً مع الصندوق، لأنّ امواله ملك الدولة، بصرف النظر عن القوانين التي تحكم ادارة أصوله. هذا الكلام لا يقلّل من اهمية سنّ قانون مُحكَم لإدارة اصول الصندوق، بل يسلّط الضوء على ضرورة معالجة أصل المشكلة، أي فَرض الحوكمة والشفافية في السلطة التنفيذية، وبقية السلطات التي تتكوّن منها هيكلية الدولة.

ولأنّ الاولوية هي للانقاذ، وبناء دولة للأجيال المقبلة، لا بد من انشاء صندوقين إضافيين الى جانب صندوق النفط. واذا كانت تسمية صندوق تثير حساسية البعض بالنظر الى التجارب المريرة مع صناديق الهدر والفساد التي أُنشئت في السابق، يمكن استخدام كلمات اخرى، مثل مؤسسة او هيئة… والمقصود هنا، مؤسسة تدير كل اصول الدولة ومؤسساتها العامة، بقيادة قطاعٍ خاص قادر على تحقيق نقلة نوعية تسمح بزيادة العائدات بنسَب مرتفعة، وتؤدي الى زيادة قيمة هذه الاصول بنسَب مرتفعة ايضا. وهذه النتائج مضمونة، لأنّ عائدات الدولة وقيمة اصولها منخفضة جداً نتيجة الادارة السيئة القائمة منذ عقود من الزمن.

كذلك، ينبغي انشاء مؤسسة متخصصة لادارة الاحتياطي من الذهب، والذي وصلت قيمته حالياً الى اكثر من 18 مليار دولار. هذا الاحتياطي، وإن كان اللبنانيون يحرصون على منع التصرّف به، انطلاقاً من قناعتهم بأنه سيهدر كما هدرت اموال المودعين، من قِبل سلطة جاهِلة وغير مسؤولة، إلا انه لا بد من تغيير نمط التعاطي مع هذه الاصول، للافادة منها في تأمين عائدات اضافية، سواء من خلال حركة البيع واعادة الشراء ضمن ادارة استثمارية متخصصة قادرة على تأمين أرباح، او من خلال تجيير هذه الاصول الى مؤسسات استثمارية تضمن عائدات ثابتة ومضمونة، ولو انها قد تكون اقل من عائدات الاستثمار المباشر في السوق. ولا بد من التذكير انّ الذهب من الاصول الاكثر تحركاً وتأرجحاً هبوطاً وصعوداً، ولا بد من مواكبة هذه الحركة لتكبير الثروة. وعلى سبيل المثال، وصلت قيمة الذهب اللبناني في خلال العام 1999 الى حوالى مليارين ونصف مليار دولار، في حين ارتفعت الى حوالى 17 مليار دولار في العام 2011. هذه الارقام تعطي فكرة عن نسبة التغيير الدائمة في سعر المعدن الاصفر. وبالتالي، لا بد من الافادة من هذا الواقع لضمان عائدات وضمان نمو الثروة الذهبية.

ضمن هذا المثلّث: عائدات النفط والغاز المستقبلية، ادارة خاصة لأصول ومؤسسات الدولة، وادارة استثمارية للذهب، وفي ظل حوكمة وشفافية في الدولة، يمكن ضمان بناء دولة للمستقبل القريب والبعيد. امّا الاكتفاء بمقولة الثروة من حق الاجيال المقبلة، والمزايدات في هذا الاتجاه، فلا تختلف عن اللغة الشعبوية التي لا يجيد سواها غالبية من يتعاطى الشأن السياسي. والمشكلة الاكبر، انّ قسماً كبيراً من اللبنانيين يحبّذون هذه اللغة على لغة الوقائع والحقائق!