حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

حين تنظر في الخريطة الاقتصادية للعالم العربي، ربما يلفت انتباهك الانحسار المتواصل للاقتصادات القديمة، والتوسع المتسارع لأنماط الاقتصاد الحديث. بعض هذه الأنماط يملك مقومات ذاتية أو موضوعية تسمح له بالتجذر في البيئة المحلية، وبعضها الآخر مجرد نسخ سطحي من أسواق العالم.

لو تأملنا حال أي مجتمع عربي في بداية القرن العشرين، من 1901 إلى 1920 مثلاً (هذا اختيار عرضي لمجرد المقارنة)، وتساءلنا عن مصادر الإنتاج الأكثر تأثيراً، ونمط المعيشة الذي يتبعه غالبية الناس، وبموازاة هذين، نظرنا في طبيعة الثقافة السائدة يومذاك. ثم وضعنا هذه المعلومات على طاولة المقارنة، مع نظيرتها في الفترة نفسها من القرن الجديد، أي الفترة من 2001 إلى 2020.

فما الصورة التي نتوقع أن تولد من تلك المقارنات؟ وفي الأساس، لماذا نحتاج هذه المقارنة وماذا نستفيد منها؟

أنا لست خبيراً في الاقتصاد، ولذا لا أطالع الموضوع من زاوية اقتصادية بحتة. لكني أعلم أن الاقتصاد ليس عالماً مستقلاً بذاته، بل هو جزء من المنظومة الحياتية الشاملة التي نسميها «النظام الاجتماعي»، الذي يلتزم بمقولاته وحدوده غالبية أعضاء المجتمع. من هنا، فإن السؤال عن مصادر الإنتاج وأنماط المعيشة، يشكل مدخلاً لفهم الثقافة السائدة وكيفية تفاعلها مع الحياة اليومية للأفراد، وكيف يعاد إنتاج تلك الثقافة أو بدائلها، بتأثير التحولات التي يمر بها المجتمع في جانبه الاقتصادي أو السياسي. أما مقارنة نظام الحياة بين زمن وآخر، فهي تساعدنا على فهم التحولات التي جرت في هذا المجتمع، والعوامل التي حركتها أو تلك التي تسهم في استمرارها وتحدد اتجاهاتها.

بديهي أن حديثنا يتناول الثقافة بالمعنى السوسيولوجي، أي بوصفها الخلفية الذهنية التي توجه 90 في المائة من السلوك اليومي للفرد، وهي بالتالي جزء مما نسميه العقل الجمعي. الثقافة العامة لأي مجتمع هي التي تحدد المقبول والمرفوض من أنماط العيش، ما يستحق التقدير وما يستوجب اللوم، وبالتالي فهي مؤثرة جداً في تحديد نوعية الحياة والإنتاج، أي الحياة الاقتصادية لهذا المجتمع أو ذاك. وعلى الجانب الآخر، فإن هذه الثقافة لا تبقى على حال واحدة، فهي أيضاً تتحول باستمرار، ولكن ببطء. وحين تتحول، سنرى انعكاس هذا التحول على شخصيات الأفراد وعلاقتهم ببعضهم، وعلى نوعية الأعمال التي يميلون إليها أو ينفرون منها.

لقد أثرت حتى الآن قضايا كثيرة، لا يتسع المجال لشرح أي منها، وهذا عيب معروف في تناول القضايا العامة. لكن يهمني الإشارة إلى أننا بحاجة فعلاً إلى دراسة الأنماط الاقتصادية المستمرة منذ القدم، في مقابل الأنماط التي كانت ثمرة للانفتاح على أسواق العالم. وفدت بعد اتصاله بالعالم أو تغير ظروفه الاقتصادية والسياسية.

دراسة هذه الأنماط مفيدة جداً في تحديد ما هو راسخ الجذور، ثم تطويره إن كان قابلاً للتطوير، بحيث يتحول إلى مصدر إنتاج رئيسي قابل للتطور المستمر اعتماداً على تفاعلات محلية.

يمكن أن نضرب مثالاً على هذا بالسياحة (بمختلف أغراضها) والزراعة والتعدين، إضافة إلى الصناعات التي كانت في الماضي متميزة.

الذي أرى أن كثيراً من المجتمعات العربية يميل إلى التفريط في هذه الموارد، ثم يعيد استيراد وسائل إنتاجها أو منتجاتها من السوق الدولية. نحن الآن نستورد مفاهيم صناعة السياحة والفنادق، كما نستورد أساليب الزراعة وعناصر إنتاجها، وأمثال ذلك من البدائل الحديثة لقطاعات الإنتاج القديم، البدائل التي تطورت في مجتمعات مختلفة، وكان الأمثل تطويرها كجزء من نظام الحياة في مجتمعاتنا.

هل أدى هذا السلوك المزدوج إلى إضعاف روحية الإنتاج في ثقافتنا العامة (العقل الجمعي)؟ هل عزز ميلنا للاستهلاك والتفاخر بالاستهلاك؟ أم ساعدنا في التحرر من عقلية قديمة؟

 

توفيق السيف

إعادة إدراج لبنان على القائمة الرمادية ضربة قاضية لاقتصادنا

 

كانت هناك مخاوف ومخاطر وتهديدات جدية من المجتمع الدولي لإعادة لبنان وإدراجه على «القائمة الرمادية»، لعدم التنفيذ الجدي لمحاربة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وتمويل تجارة المخدرات. في آخر لحظة، مُنح لبنان فترة سماح قصيرة المدى، بِعَون اليد الإلهية التي تحميه.

مصير لبنان معلّق بخيط رفيع جداً: فمِن جهة يُمكن تمكينه بإصلاحات وتنفيذ المطالبات الدولية، ومن جهة أخرى قَطعه وفَصله نهائياً عن الدورة الإقتصادية والمالية والنقدية الدولية، والتي ستكون الضربة القاضية للبنان واقتصاده وشعبه.

بعد اندلاع ما أُطلِق عليها من قبل صندوق النقد الدولي، أكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية في تاريخ العالم، منذ نحو ثلاث سنوات ونصف السنة، كانت الدولة اللبنانية المسؤولة المباشرة عن هذا التدمير الذاتي، أسوأ بإدارة الأزمة، وعدم اتخاذ أي عملية إصلاح، أو إعادة هيكلة، لوَقف النزف ومحاولة إعادة لبنان على السكة الصحيحة، لا بل سَرّعت في الإنهيار وباتت تحفر في الخندق عينه، العميق جداً نحو القعر.

على الصعيد الدولي، فقد صبرَ المجتمع الدولي ووكالات المراقبة وحتى أنها غَضّت النظر، عن اقتصادنا الذي أصبح عشوائياً، من دون ضوابط ومراقبة والذي تحوّل إلى إقتصاد الكاش وهو أخطر اقتصاد في العالم. فاقتصادنا النّامي والمُراقب الذي كان يجذب المبتكرين والرياديين والمستثمرين، تحوّل إلى اقتصاد أسود وغامض، يجذب المروجين والمهربين والمُبيّضين. فدول العالم فضلت إعطاءنا فترة سماح دامت ثلاث سنوات ونصف السنة، جراء مواجهتنا لهذه الأزمة الإقتصادية والإجتماعية الفريدة من نوعها، المتزامنة مع ثالث أكبر انفجار في العالم، والآتية في ظل محاربة جائجة كورونا، التي هزّت كل اقتصادات العالم.

لكن بعد ثلاث سنوات ونصف السنة من دون إظهار أي رؤية أو نية جدية من قبل السياسيين اللبنانيين، وغياب أي خطة جدية لإعادة الهيكلة والإصلاح، ومتّبعة الإنزلاق نحو الأسوأ وتشجيع التهريب وتبييض الأموال، بدأت المنظمات الدولية تفقد الصبر ودقت آخر ناقوس الخطر قبل فصل لبنان نهائياً عن الدورة الإقتصادية الدولية.

من الواضح لهم أنّ هناك خسائر كبيرة، لكن الأموال غيّرت ملكيّتها وتحوّلت من الإقتصاد الأبيض المراقب ومن الودائع الشريفة المكتسبة بعرق الجبين، إلى الإقتصاد الأسود المدمر، وإلى الأرباح الفادحة للمافيات التي تنمو في ظل الأزمات. فحتى إذا لم ينزل على حدود «القائمة الرمادية»، فقد أصبح لبنان في عين العاصفة وتحت المجهر، في كل تحويلاته، وكل عمليات التصدير والإستيراد التي ستخضع لتدقيق مفصل، وسيكبد الإقتصاد خسائر أكبر. إضافة إلى ذلك، إن هذه المخاطر سيكون لها مردود ونتائج مباشرة على القطاع العقاري وتجميده، لأنّ أي عملية بيع أو شراء ستكون بالكاش، وهذا الأخير لن تقبل به المصارف الداخلية ولا الإقليمية أو الدولية، وحتى بتحويله أو استعماله في أي مكان.

إنّ إدراج لبنان على «القائمة الرمادية» سيكون المحطة الأخيرة قبل إدراجه على «القائمة السوداء»، ليصبح رسمياً بلد المافيات والتهريب والتبييض، ومنبع المخدرات.

في ظل هذه المخاطر الجدية والمخيفة، وإعادة إدراج لبنان على هذه القائمة، ومخاطر عقوبات جديدة علينا، لن نتوقع أي ردة فعل جدية من السياسيين الذين برهنوا في الماضي أنهم غير مُكترثين وغير مهتمين بهذه التصنيفات. وقد مررنا بالتجربة عينها منذ بضع سنوات، عندما تراجعنا في تصنيفات «ستاندرد أند بورز» (S&P)، و«موديز»، عندما أعادت إدراج لبنان من المرتبة الـ B-، إلى –B، ومن ثم إلى C+، ومن ثم C-، وصولاً إلى «التعثر المالي»، Restricted Default – RD ولم يرفّ لهم جفن، وبرهنوا في الماضي أنهم غير معنيين وغير مهتمين بتصنيف لبنان، وأولوياتهم هي توزيع المقاعد وتوزيع المشاريع وتوزيع المكاسب، وخلافاتهم الظاهرة وتحالفاتهم من وراء الستارة.

في المحصّلة، إن فترة السماح، التي مُنحت للبنان استثنائياً، لن تدوم وهي فقط محطة قبل عقوبات صارمة، ستقطع جذورنا، وأدوات تنفّسنا الإصطناعية، فنحن على مفترق طرق، فإمّا نعود إلى اقتصاد مراقَب دولياً يلحق كل المتطلبات الدولية، أو نكرّس وضعنا كبلد المافيا والمافيات، المُنعزِل عن الدورة الإقتصادية الدولية، وأخذ شعبنا رهينة هذه الجماعات الفاسدة والسوداوية.

د. فؤاد زمكحل