تُعدّ مرحلة «حمى الذهب» إحدى المراحل التي شكلت ولاية كاليفورنيا؛ فقد غير اندفاع العالم نحو التنقيب عن ذهب جبال كاليفورنيا مسار الولاية بشكل راديكالي. ففي عام 1847، أي قبل استكشاف الذهب بنحو عامين، لم يزد عدد سكان الولاية على 500 نسمة، وعندما ذاع خبر اكتشاف الذهب، شهدت الولايات المتحدة أكبر موجة هجرة في تاريخها، حيث انتقل أكثر من 100 ألف للسكن في كاليفورنيا بحثاً عن الذهب في فترة لا تزيد على 20 شهراً. وجاء المهاجرون من الولايات المتحدة في البداية، وتوسع نطاق المهاجرين بعد ذلك ليشمل مهاجرين من فرنسا والصين وتشيلي وغيرها من دول العالم.
«حمى الذهب» فيها العديد من الدروس على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ فعندما تنازلت المكسيك عن كاليفورنيا لأميركا قبل «حمى الذهب» بسنوات قليلة، لم تكن كاليفورنيا مؤهلة لتكون ولاية، ولكن الهجرة الجماعية لها مكَّنتها من ذلك، وأهَّلتها لتكون إحدى أقوى الولايات الأميركية من الناحية الاقتصادية. فمع النزوح الجماعي للمنقبين عن الذهب، ظهرت الحاجة إلى إنشاء طرق جديدة، فازدهرت وسائل المواصلات وسكك الحديد وغيرها، كما ازدهرت الزراعة مع عدم نجاح كثير من المهاجرين في التنقيب وتحولهم للزراعة، خصوصاً أولئك الذين كانوا في الأصل مزارعين ووجدوا في كاليفورنيا بيئة مناسبة للزراعة، وساعد في ذلك النمو السكاني وزيادة الطلب المحلي على الأغذية، الذي ساهم كذلك في نمو تجارة الجملة والتجزئة. كذلك فإن حاجة المهاجرين للتواصل مع ذويهم في بلدانهم أوجد فرصة لإنشاء شركات للخدمات البريدية.
وتطورت صناعة آليات التعدين والمعدات للعمليات الهيدروليكية، فاستوردت الولايات المعدات في البداية، ولم تلبث أن أصبحت مركزاً لهذه الصناعات، وساهمت في ازدهار صناعة الأخشاب. كما دعت الحاجة إلى استحداث ملابس تتناسب مع مهنة التنقيب، فانتعشت صناعة الملابس والجلود، وانبثقت عن هذه الحقبة إحدى أشهر شركات تصنيع بناطيل «الجينز»، وهي شركة «ليفاي».
ولكن ماذا عن المنقبين أنفسهم؟ والذين ساهموا في كل هذا الحراك الاقتصادي؟ هل كوَّنوا ثروات من التنقيب عن الذهب؟ الواقع أن قصص المنقبين عن الذهب ليست مشرقة كما هو متوقَّع، فالعديد منهم عاد إلى بلاده مُفلِساً، والبعض الآخر تحول إلى صناعات أخرى. وخسر غالبيتهم سنوات من عمره في اللحاق وراء سراب الذهب دون أن يجمع أي ثروة حقيقية.
أما المستفيد الأكبر من هذا الحراك، كان التجار الذين استفادوا من بيع المنتجات التي يحتاج إليها المنقبون ابتداء من الأغذية والملابس وحتى معدات الحفر والتنقيب. ولعل إحدى أشهر قصص المستفيدين من هذه الحقبة قصة «صامويل برانان» الذي قد يكون أول مليونير في تاريخ الولاية؛ فعندما علم «برانان» باستكشاف الذهب، حاول جاهداً نشر هذا الخبر، وفي الوقت نفسه، قام بشراء معدات الحفر الموجودة في الولاية، وبدأ في طلب معدات من ولايات أخرى. كل ذلك كان قبل توافد المهاجرين إلى كاليفورنيا، وما إن وصل المنقبون، بدأ «برانان» في بيع سلعته بكل نجاح، حتى وصلت مبيعاته الشهرية في ذلك الوقت إلى نحو 150 ألف دولار (وهو ما يعادل 4 ملايين دولار في الوقت الحالي). ولكن «برانان» نفسه لم يستمر بهذا الثراء، ويقال إنه أفلس قبل وفاته حتى لم يجدوا من أمواله ما يغطي تكاليف جنازته، وهي نهاية حزينة أخرى من هذه الحقبة.
وبالنظر إلى حميات مشابهة في العصر الحديث، نجد أن المستفيد الأكبر من أي اندفاع خلف قطاع معين هو القطاعات المساندة له، وهناك العديد من الأمثلة على ذلك. أول هذه الأمثلة، وبما أن الحديث عن التعدين، «حمى بتكوين»، حيث يعدّن الأفراد بحل الخوارزميات المعقدة للحصول على العملات المشفرة. ولكن هامش ربح المعدنين منخفض للغاية، فما بين تكاليف الكهرباء المستخدمة لعمليات التعدين، وتكاليف الأجهزة المتقدمة التي تحل الخوارزميات، لا يبقى للمعدن إلا الفتات. بالمقابل، فإن الرابح الأكبر من هذه الحمى شركات أشباه الموصلات، وشركات المعالجات الدقيقة التي تصنع «وحدات الغرافيكس»، بل حتى متداولو العملات المشفرة غالباً ما يحققون أرباحاً أكثر من المعدنين أنفسهم.
إن ما حدث في «حمى الذهب» يتكرر في العصر الحالي في العديد من القطاعات، مع التوجه الكثيف للذكاء الاصطناعي، حيث تندفع الشركات لتطوير أدوات وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، بينما لا تتعرض شركات القطاعات المساندة للمنافسة ذاتها، مثل قطاعات الحوسبة السحابية وتحليل وتخزين البيانات. كذلك يتكرر الأمر ذاته في قطاع المطاعم والمقاهي، حيث تكون أغلب المنافسة في المحلات التجارية، حيث يخسر كثيرون أموالهم بسبب شراسة المنافسة، بينما تكسب الشركات المزودة للأجهزة والأنظمة المشغلة، وهي في العادة مَن يسوق لنجاح هذه القطاعات لمصلحتها في انتعاشه، وقد انتشرت مقولة أثناء «حمى الذهب» في كاليفورنيا، قد تنطبق على العصر الحالي، وهي «أثناء حمى الذهب… بِـع المعاول».
د. عبد الله الردادي