بين المدخل المالي… والمخرج النقدي: الأزمة اللبنانية أمام خيارات مصيرية…

من أبرز ما ينبغي التنبّه له أمام أزمة متعدّدة الأوجه كالأزمة الاقتصادية المالية-النقدية-المصرفية الشاملة الحالية في لبنان، هو أنّ المدخل الذي شكّل المسبّب الأساسي للولوج في الأزمة ليس بالضرورة نفس باب المخرج منها… صحيح أنّ رَصد مَكمَن الخلل الرئيسي يشكّل أولوية لحسن تشخيص المشكلة وتفادي تكرارها، لكن في خصوصية الاقتصاديات المدولرة لسنوات وبعد تكرار أزمات، من المهمّ معرفة أنّ تَشابُك أوجه الأزمة بالشكل الذي تطورت فيه الحال في لبنان مع «اشتراكات» تفشّت في الجسم الاقتصادي ونسفت «جهاز المناعة» الذي لطالما تمثّل بالجهاز المصرفي لديه، فهي تُحتّم أن يكون مفتاح مخرج الأزمة من خلال الشق النقدي تحديداً، أي خيارات المصرف المركزي للسياسة النقدية ونظام سعر الصرف الذي على أساسه يتم تحديد الموازنة الجديدة للدولة واحتساب القيمة الحقيقية للدين العام وميزانيات المصارف وكل المؤشرات الماكرو-إقتصادية… فكيف يمكن شرح هذا المسار من المدخل المالي الى المخرج النقدي للأزمة الحالية؟ وكيف تترجم الخيارات المصيرية للبنان من هنا؟

إنّ الأزمة في لبنان متعددة الأبعاد المالية والنقدية والخدمات المصرفية مع عجزٍ مزدوج (المالية العامة وميزان المدفوعات) مُتكرر في بلد شديد الاعتماد على الدولار، حتى أنه يعاني «الإدمان الذي يُحيل على الدولار الأميركي» لمدة أربعين عامًا، ويتعارض مع مبادئ عمل الثالوث المستحيل Mundell-Fleming نظرًا لأننا تحمّلنا الكثير من التكلفة واستنفدنا الكثير من الاحتياطيات بالدولار الأميركي من خلال الرغبة في إدراك بطريقة غير منطقية في نفس الوقت القمم الثلاث لهذا المثلث: ثبات سعر الصرف ، وحرية حركة رأس المال واستقلالية السياسة النقدية للبنك المركزي…

ومن الواضح أن استقلالية مصرف لبنان هي التي دفعت الثمن خاصة مع غياب الموازنة لمدة 12 عامًا (2005-2017) واستخدام التمويل النقدي لسد العجوزات المالية عبر إقرار «تخطي أنفاق» في المجالس النيابية… من ثم شراء الوقت من قبل «الهندسة المالية» من أجل تنفيذ الإصلاحات التي لم يتم إطلاقها من قبل… الودائع بالدولار الأميركي التي لم يتم تغطيتها من قبل صافي الأصول الأجنبية للنظام المصرفي (بسبب العجز المستمر في ميزان المدفوعات) تم توجيهها إلى سندات اليوروبوند الحكومية وشراء شهادات الإيداع بالدولار الأميركي من مصرف لبنان والاعتمادات بالدولار الأميركي إلى القطاع الخاص (وهي الخطيئة الأصلية التي فاقَمَت الأزمة من خلال التأثير المُضاعف لزيادتها من دون أن يغطّيها الدولار الأميركي، والذي يسمح بالتعويض بالدولار الأميركي…).

الأماكن الثلاثة التي وُضِعت فيها الودائع بالدولار الأميركي لم تُعدها بالدولار الأميركي حتى تتمكن المصارف من إعادتها بالدولار الأميركي إلى المودعين…

ثم استنفاد الاحتياطيات المتبقية بالدولار الأميركي بعد انهيار الاقتصاد بسبب سياسة الدعم التي تم تحديدها على مستوى كبار القادة السياسيين في اجتماعات صريحة في بعبدا والسرايا الكبير وطَبقها مصرف لبنان… حتى فترة البرلمان انتخابات لإرضاء الرأي العام… والتي تعرضت لانتقادات شديدة في تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي…

في عام 1993، تخلّى لبنان عن نظام سعر الصرف العائم الذي لا يتوافق مع الاقتصاد المرتفع للدولرة، وبلغت ذروة الدولرة في عام 1987 (92 ٪) بعد تضخّم مفرط بلغ 487 ٪… انتقلنا مؤقتًا إلى انزلاق نظام التكافؤ (الزحف إلى الربط المتحرّك) قبل الانتقال إلى الربط التقليدي مقابل العملة ربط ثابت تقليدي تجاه عملة واحدة بنطاق ضيق 1501-1514 وسعر متوسط 1507.5 من 1998 حتى شباط 2023 مع الانتقال إلى سعر رسمي مصطنع قدره 15000 لم يتم اعتماده وللسحب من البنوك…

في حين أنّ دَولرة الودائع كانت حاسمة للهيكل المالي الكلي لِما بعد الحرب، كذلك أدّت إلى دولرة الودائع الى دولرة أخرى في الاقتصاد، بما في ذلك دولرة الإقراض وكذلك الدين العام. يتم شرح هذه السببية بأنّ «دولرة الودائع تحفز الدولرة في القروض. تشجع المستويات المرتفعة من ودائع العملات الأجنبية لدى المصارف على إقراض المتعاملين المحليين بالعملة الأجنبية للمحافظة على مواضع الميزانية العمومية المتطابقة، ويسري مفعول ذلك بنقل عبء سعر الصرف الى المقترضين في حال تدهور سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي… أمّا في حال كان المُقترضون عاجزين عن التسديد نظراً لكون مداخيلهم بالعملة الوطنية فيكون الخطر انتقل الى المودعين، وهذا ما حصل فعلياً في لبنان حيث كل من وظفّت المصارف الدولارات لديهم توقّفوا عن تسديدها بالدولار (من الدولة وصولاً الى المقترضين من القطاع الخاص)…

أصل الأزمة هو الخلل في المالية العامة وعجوزات الموازنة أمّا مفتاح الخروج من الأزمة فهو نقدي… لماذا؟ لأنه بدون إخفاقات الميزانية وإشراك الأنظمة المصرفية في تمويلها وانعكاس وضع جميع مؤشرات الاقتصاد الكلي منذ عام 2011 على وجه الخصوص (إنخفاض في معدل النمو، والانتقال من سلسلة من الفوائض إلى تراكم العجز في ميزان المدفوعات…) لم تكن الأزمة النقدية لتحدث ولن تأخذ هذا الحجم أبدًا… علاوة على ذلك، من دون البدء بخيار نقدي ونظام سعر صرف جديد، من السخف أن تكون قادرًا على التعامل مع الركائز الأخرى (الميزانية والمصرفية للأزمة…) لأننا ببساطة نحتاج إلى معرفة كيفية حساب أرقام الموازنة لسنة واحدة وميزانيات البنوك قبل إعادة هيكلتها…

في تشرين الأول 2019 سقطَ نظام سعر الصرف القائم على الربط المَرن لليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، أي عملياً يعيش لبنان منذ ثلاث سنوات من دون أي نظام سعر صرف لتفادي الجميع الانغماس بمسؤولية اختيار النظام البديل في ظل هيستيرا الدولرة الجزئية الشرسة وغير الرسمية التي تفرض نفسها على وقع فوضى الأسواق وتسحق كل من لا يصل الى يده سوى مدخول بالليرة اللبنانية… ذلك بدلاً من مواجهة الواقع من قبل السلطات الرسمية المعنية لحماية المساواة الاجتماعية بين المواطنين وحقّهم ببدل أتعاب ومداخيل بنفس العملة التي يتكبّدون فيها تدريجاً كل المصاريف، لا سيما منهم العاملين في القطاع العام الذين أصبحوا عملياً على هامش النظام الاقتصادي-الاجتماعي كَكُل. السبب هو الخطأ الفادح التي تتم فيه مقاربة الأزمة من كل الزوايا إلا الزاوية التي يفترض البدء بها أي اعتماد نظام سعر صرف جديد قبل التطرّق لكل بقية نواحي الأزمة وحتى الموازنة التي يستحيل تقديمها بأرقام حقيقية قبل بَت نظام سعر الصرف والخيار النقدي للبلاد بما يتناسب مع دولرة تتخطى نسبة 80 %.

تعزّز الدولرة غير الرسمية شبه الكاملة اليوم «تطبيع الوضع» كما وردَ في تقرير صندوق النقد الدولي من دون السماح باستقرار فعّال في غياب قرار رئيسي بشأن نظام سعر الصرف الجديد (من خلال إدراك أن السوق يفرض ارتباطًا صارمًا (حمولة العملة أو الدولرة الكاملة). وفي حالة عدم وجود قرار من مجلس العملة، فإنّ الدولرة الكاملة الزاحفة هي التي تحظى بالأولوية بعد فترة من ازدواجية العملة وسط الثنائية بين الليرة اللبنانية والدولار الأميركي مع طغيان الدولار الذي يسود كل العاملات في الأسواق من التسعير الى الدفع والادخار واحتساب الرسوم ودفع الرواتب تدريجاً لدرجة تحويلات رواتب موظفي القطاع العام فوراً بالدولار وتحويل الحسابات المصرفية الى الدولار تلقائياً من دون حتى تَرك الخيار للموظف بين العملتين… إلى جانب تقرير صندوق النقد الدولي، يشير الفصل الثاني صراحةً إلى أنّ «الميزة الخاصة لمقاربة الأزمة في لبنان تسمح بتقديم تحليل للدولرة في لبنان، ويخلص إلى أن الأزمة الحالية من المرجّح أن تعزز مستويات الدولرة المرتفعة، حتى بعد التعافي الاقتصادي الشامل. تقليديًا، أدّت أزمات العملات المتعددة إلى تباطؤ الدولرة في البلاد، واتسع نطاقها بمرور الوقت بالنسبة للودائع والقروض والدين العام».

أدّى الفشل المنهجي للنظام المصرفي اللبناني وانهيار العملة إلى ظهور اقتصاد كبير قائم على النقد القائم على الدولار، تقدر قيمته بنحو 9.86 مليارات دولار، أو 45.7 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022. لا يزال القطاع المصرفي معسراً، حيث تجاوزت الخسائر المالية في النظام المصرفي 72 مليار دولار، أي ما يُعادل أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022. ولا يزال عجز الحساب الجاري يموّل، في الغالب، من الاحتياطيات إجمالي النقد الأجنبي من بنك دو لبنان. انخفض إجمالي احتياطي النقد الأجنبي لمصرف لبنان بمقدار 2.6 مليار دولار في عام 2022 ليبلغ 15.2 مليار دولار في نهاية عام 2022 (بما في ذلك ما يَقرب من 5 مليارات دولار في شكل سندات أجنبية). إنّ منصة الصيرفة للصرافة، الأداة النقدية الرئيسية التي يستخدمها مصرف لبنان لتحقيق الاستقرار في الليرة اللبنانية، لا يُساء استخدامها فقط كأداة نقدية، ولكن الآن أيضًا كآلية للاستفادة من معاملات الصرف الأجنبي. في هذا السياق، يُخفي تطبيع حالة الأزمة حقيقة أن الاقتصاد اللبناني مستمر في التدهور السريع للغاية، وهو على منحدر بعيد جدًا عن مسار يؤدي إلى الاستقرار، وبالأحرى إلى التعافي… البدء بمراجعة واتخاذ قرار بشأن نظام سعر الصرف الجديد وحساب جديد «بالدولار الحقيقي» لجميع الأرقام (العجز، الدين العام، الميزانيات العمومية للمصارف…) لإنهاء فترة من الأرقام المُصطنعة التي حجبت الواقع وإعادة البناء. اقتصاد بأرقام فعلية تعكس الواقع. يتعلّق الأمر بإعادة التشغيل مع اقتصاد أصغر ولكن اقتصاد حقيقي…

عند الافتقاد الكلي والمزمن للثقة بالعملة الوطنية وطغيان التعامل بالعملة البديلة لا يعود الخيار بينها وبين البديل أي الدولار الأميركي في حال لبنان بل يصبح الخيار في آلية الربط الصارم المناسبة وكيفية الانتقال التدريجي اليها بُغية نجاحها بأسرع وقت وأقلّ كلفة… عام 1993 فتح لبنان صفحة جديدة من خلال نظام سعر صرف جديد لأنّ الدولرة المرتفعة أفقدَت فعالية النظام العائم وعام 1998 اضطر لبنان لتعزيز هذا الخيار… اليوم تستحيل العودة الى تعويم رسمي حرّ لسعر الصرف كونه مُكلف وغير ملائم لاقتصاد جداً مُدولَر، كل يستحيل استعادة الثقة بنظام الربط المرن لسعر الصرف… حان وقت حسم الخيارات المنقدية المصيرية، كل تأخير في الطرح الجريء لضرورة الانتقال الى نظام الربط الصارم يزيد كلفته أكثر ولا تسمح بتفاديه حتى لو تعافى الاقتصاد كما تؤكده الادبيات الاقتصادية والتجارب الدولية والتقارير المتخصّصة…

د. سهام رزق الله

مَن استفاد من حمى الذهب؟

تُعدّ مرحلة «حمى الذهب» إحدى المراحل التي شكلت ولاية كاليفورنيا؛ فقد غير اندفاع العالم نحو التنقيب عن ذهب جبال كاليفورنيا مسار الولاية بشكل راديكالي. ففي عام 1847، أي قبل استكشاف الذهب بنحو عامين، لم يزد عدد سكان الولاية على 500 نسمة، وعندما ذاع خبر اكتشاف الذهب، شهدت الولايات المتحدة أكبر موجة هجرة في تاريخها، حيث انتقل أكثر من 100 ألف للسكن في كاليفورنيا بحثاً عن الذهب في فترة لا تزيد على 20 شهراً. وجاء المهاجرون من الولايات المتحدة في البداية، وتوسع نطاق المهاجرين بعد ذلك ليشمل مهاجرين من فرنسا والصين وتشيلي وغيرها من دول العالم.

«حمى الذهب» فيها العديد من الدروس على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ فعندما تنازلت المكسيك عن كاليفورنيا لأميركا قبل «حمى الذهب» بسنوات قليلة، لم تكن كاليفورنيا مؤهلة لتكون ولاية، ولكن الهجرة الجماعية لها مكَّنتها من ذلك، وأهَّلتها لتكون إحدى أقوى الولايات الأميركية من الناحية الاقتصادية. فمع النزوح الجماعي للمنقبين عن الذهب، ظهرت الحاجة إلى إنشاء طرق جديدة، فازدهرت وسائل المواصلات وسكك الحديد وغيرها، كما ازدهرت الزراعة مع عدم نجاح كثير من المهاجرين في التنقيب وتحولهم للزراعة، خصوصاً أولئك الذين كانوا في الأصل مزارعين ووجدوا في كاليفورنيا بيئة مناسبة للزراعة، وساعد في ذلك النمو السكاني وزيادة الطلب المحلي على الأغذية، الذي ساهم كذلك في نمو تجارة الجملة والتجزئة. كذلك فإن حاجة المهاجرين للتواصل مع ذويهم في بلدانهم أوجد فرصة لإنشاء شركات للخدمات البريدية.

وتطورت صناعة آليات التعدين والمعدات للعمليات الهيدروليكية، فاستوردت الولايات المعدات في البداية، ولم تلبث أن أصبحت مركزاً لهذه الصناعات، وساهمت في ازدهار صناعة الأخشاب. كما دعت الحاجة إلى استحداث ملابس تتناسب مع مهنة التنقيب، فانتعشت صناعة الملابس والجلود، وانبثقت عن هذه الحقبة إحدى أشهر شركات تصنيع بناطيل «الجينز»، وهي شركة «ليفاي».

ولكن ماذا عن المنقبين أنفسهم؟ والذين ساهموا في كل هذا الحراك الاقتصادي؟ هل كوَّنوا ثروات من التنقيب عن الذهب؟ الواقع أن قصص المنقبين عن الذهب ليست مشرقة كما هو متوقَّع، فالعديد منهم عاد إلى بلاده مُفلِساً، والبعض الآخر تحول إلى صناعات أخرى. وخسر غالبيتهم سنوات من عمره في اللحاق وراء سراب الذهب دون أن يجمع أي ثروة حقيقية.

أما المستفيد الأكبر من هذا الحراك، كان التجار الذين استفادوا من بيع المنتجات التي يحتاج إليها المنقبون ابتداء من الأغذية والملابس وحتى معدات الحفر والتنقيب. ولعل إحدى أشهر قصص المستفيدين من هذه الحقبة قصة «صامويل برانان» الذي قد يكون أول مليونير في تاريخ الولاية؛ فعندما علم «برانان» باستكشاف الذهب، حاول جاهداً نشر هذا الخبر، وفي الوقت نفسه، قام بشراء معدات الحفر الموجودة في الولاية، وبدأ في طلب معدات من ولايات أخرى. كل ذلك كان قبل توافد المهاجرين إلى كاليفورنيا، وما إن وصل المنقبون، بدأ «برانان» في بيع سلعته بكل نجاح، حتى وصلت مبيعاته الشهرية في ذلك الوقت إلى نحو 150 ألف دولار (وهو ما يعادل 4 ملايين دولار في الوقت الحالي). ولكن «برانان» نفسه لم يستمر بهذا الثراء، ويقال إنه أفلس قبل وفاته حتى لم يجدوا من أمواله ما يغطي تكاليف جنازته، وهي نهاية حزينة أخرى من هذه الحقبة.

وبالنظر إلى حميات مشابهة في العصر الحديث، نجد أن المستفيد الأكبر من أي اندفاع خلف قطاع معين هو القطاعات المساندة له، وهناك العديد من الأمثلة على ذلك. أول هذه الأمثلة، وبما أن الحديث عن التعدين، «حمى بتكوين»، حيث يعدّن الأفراد بحل الخوارزميات المعقدة للحصول على العملات المشفرة. ولكن هامش ربح المعدنين منخفض للغاية، فما بين تكاليف الكهرباء المستخدمة لعمليات التعدين، وتكاليف الأجهزة المتقدمة التي تحل الخوارزميات، لا يبقى للمعدن إلا الفتات. بالمقابل، فإن الرابح الأكبر من هذه الحمى شركات أشباه الموصلات، وشركات المعالجات الدقيقة التي تصنع «وحدات الغرافيكس»، بل حتى متداولو العملات المشفرة غالباً ما يحققون أرباحاً أكثر من المعدنين أنفسهم.

إن ما حدث في «حمى الذهب» يتكرر في العصر الحالي في العديد من القطاعات، مع التوجه الكثيف للذكاء الاصطناعي، حيث تندفع الشركات لتطوير أدوات وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، بينما لا تتعرض شركات القطاعات المساندة للمنافسة ذاتها، مثل قطاعات الحوسبة السحابية وتحليل وتخزين البيانات. كذلك يتكرر الأمر ذاته في قطاع المطاعم والمقاهي، حيث تكون أغلب المنافسة في المحلات التجارية، حيث يخسر كثيرون أموالهم بسبب شراسة المنافسة، بينما تكسب الشركات المزودة للأجهزة والأنظمة المشغلة، وهي في العادة مَن يسوق لنجاح هذه القطاعات لمصلحتها في انتعاشه، وقد انتشرت مقولة أثناء «حمى الذهب» في كاليفورنيا، قد تنطبق على العصر الحالي، وهي «أثناء حمى الذهب… بِـع المعاول».

د. عبد الله الردادي

خرافة نهاية النفط وتغيير النظام

«دعونا لا نسيّس النفط!».

كم مرة سمعت هذا التحذير؟ صيغت هذه العبارة للمرة الأولى نهاية القرن الـ19، عندما بدأ النفط في الظهور بوصفه زيت التشحيم الرئيسي داخل المجتمع الصناعي الحديث. بدأت صناعة النفط بوصفها مشروعاً جديداً على يد مجموعة من رواد الأعمال من القطاع الخاص، إلا أنها سرعان ما نجحت في جذب اهتمام جميع الدول الصناعية الكبرى. وبحلول مطلع القرن العشرين، كانت غالبية هذه الدول قد أنشأت شركات نفط وطنية، أي مملوكة للدولة، ما أضفى على صناعة النفط صبغة سياسية، في الوقت الذي ظلت هذه الدول تشدد على ضرورة عدم تسييس النفط. (الولايات المتحدة الوحيدة التي لم يكن لديها، ولا تزال لا تملك، شركة نفط وطنية). ومنذ البداية، تضمن تاريخ النفط موضوعاً آخر: الخوف من نفاد النفط في العالم. على سبيل المثال، في ثلاثينات القرن الماضي، حذّر تقرير صادر عن الأميرالية البريطانية من أن النفط ربما يصبح «مورداً نادراً» في غضون عقدين.

الخوف من نفاد النفط سيطر على النظام النازي في ألمانيا. وبعد الاستيلاء على حقول النفط الرومانية، حاولت ألمانيا النازية السيطرة على حقول نفطية عبر القوقاز في عملية أدت إلى كارثة ستالينغراد للرايخ.

عام 1970، تنبأ «نادي روما»، الذي حشد «أفضل العقول» على مستوى أوروبا، بنفاد النفط من العالم بحلول عام 2000. في ذلك الوقت، بلغ الاستهلاك العالمي للنفط نحو 46 مليون برميل يومياً. عام 2023، من المتوقع أن يصل استهلاك النفط العالمي إلى 100 مليون برميل يومياً. عام 1995، أخبرني وزير النفط السعودي آنذاك، علي النعيمي، في مقابلة بيننا، أن النفط قد يفقد مكانته المهيمنة في غضون ثلاثة عقود، ليس بسبب تضاؤل الاحتياطات، وإنما جراء تطور مصادر الطاقات البديلة.

من جهته، نشر باتريك دينين من جامعة «جورج تاون» في واشنطن العاصمة كتاباً بعنوان «لماذا فشلت الليبرالية؟»، عام 2018، ادّعى خلاله أنه مع نفاد النفط في العالم، تجابه المجتمعات الليبرالية الغربية تهديداً وجودياً. من بين الأفكار المكررة والمبتذلة في هذا السياق أيضاً، أن الدولة المثالية المنتجة للنفط هي دولة تتسم بعدد سكان ضئيل واحتياطيات ضخمة من النفط.

وغنيّ عن القول إن أياً من هذه الادعاءات لم تثبت صحتها، ذلك أن النفط كان ولا يزال يتسم بطابع سياسي، أو على الأقل جيوسياسي. الحقيقة أن النفط لا ينفد من العالم، أما المصادر البديلة للطاقة فلا تزال تبدو مجرد وعود، أكثر من كونها واقعاً يمكن بناء ما وصفه دينين بـ«نظام ما بعد ليبرالي» عليه. علاوة على ذلك، فإن التوازن بين سكان الدول المنتجة للنفط وصادراتها النفطية شهد تحولاً جذرياً. على سبيل المثال، بدأت إيران تصدير النفط عام 1908، في وقت كان عدد سكانها 9 ملايين نسمة فقط. اليوم، يقدَّر عدد سكانها بـ90 مليون نسمة. وبالمثل، ضاعفت دول أخرى منتجة للنفط، مثل المكسيك وإندونيسيا وفنزويلا ونيجيريا، عدد سكانها أربع مرات. عام 2021، كانت الولايات المتحدة وروسيا أكبر منتجي النفط في العالم، ولا يمكن النظر إلى أيٍّ منهما بوصفه قزماً ديمغرافياً. في الوقت ذاته، فإن التعامل مع النفط بوصفه أداة للسياسة الدولية ظهر جلياً في عدد من المواقف. مثلاً، عام 1951، أمَّمت إيران نفطها، ورفضت تقديم تعويضات للشركة البريطانية التي كانت تستغله، ما أشعل أزمة استمرت أربع سنوات، أرَّقت عواقبها الإيرانيين طوال سبعة عقود تالية. بعد ذلك، جاءت «الصدمة النفطية» عام 1973، تلتها محاولات لتأديب نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا من خلال حرمانه من النفط. مثال آخر نجده في العقوبات التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ضد صناعة النفط الإيرانية، والتي شكَّلت خطوة سياسية واضحة، ونجحت في كبح جماح روح المغامرة المجنونة لدى الجمهورية الإسلامية لفترة قصيرة. وبالمثل، جاء قرار الرئيس جو بايدن بتجاهل تلك العقوبات، والسماح لإيران ببيع أكبر قدر ممكن من النفط، معظمه للصين والهند، وكذلك ما تسمى «السوق البنّية»، سياسياً هو الآخر. وسعى القرار لإحياء الاتفاق النووي الذي أبرمه أوباما مع طهران.

جاء أحدث استخدام للنفط بوصفه سلاحاً سياسياً مع الحظر الذي فرضته قوى غربية ضد روسيا. أسفر تسييس النفط، هذه المرة أيضاً، عن عواقب غير مقصودة، والتي حملت طابعاً سياسياً، فقد وجدت روسيا نفسها مضطرة إلى بيع نفطها للصين بسعر جذاب يساعد الاقتصاد الصيني على تجنب الركود الذي توقعه النقاد.

من ناحيتها، تستفيد الهند هي الأخرى من النفط الروسي الرخيص، من خلال خفض تكاليف الطاقة. في الوقت ذاته، تبيع جزءاً من النفط ذاته للأوروبيين بأسعار السوق الحقيقية. وفي مرحلة ما خلال التسعينات، في أعقاب انهيار الإمبراطورية السوفياتية، كان الحضور في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس يدرسون التعامل مع النفط بوصفه «شيئاً يخص البشرية جمعاء كالهواء الذي نتنفسه».

كان ذلك كلاماً سياسياً أيضاً -لكنه فارغ من أي معنى حقيقي. تأتي المحاولة الأخيرة لاستغلال النفط، أو «نهايته الوشيكة»، لأسباب سياسية مرة أخرى من المنظّر دينين في كتاب جديد بعنوان «تغيير النظام: نحو مسار ما بعد الليبرالية».

يقوم الكتاب على افتراض ضمني مفاده أن الأنظمة الليبرالية لا يمكنها الازدهار، أو حتى البقاء، من دون نفط رخيص. تتكون النخبة القائدة الحالية داخل الديمقراطيات الغربية، بخاصة الولايات المتحدة، من أفراد متوسطي المستوى يسيطرون على الأمة، بفضل الازدهار الذي يضمنه النفط الرخيص والابتكارات التي صنعها أشخاص موهوبون يعملون بمفردهم.

وعليه، ثمة انفصال بين القلة المسيطرة على الحكومة، وبفضل قوتها، جزء كبير من الاقتصاد الوطني، وبين الكثيرين الذين يدفعون ثمن أخطاء هذه القلة.

كانت مسألة العلاقات بين القلة والكثرة من القضايا الساخنة في الفكر السياسي منذ أفلاطون الذي دافع عن نظام يحظى فيه الفلاسفة، أي القلة بحكم التعريف، بالسلطة. وصاغ المفكرون السياسيون في الإمبراطورية الرومانية حجة مماثلة لإظهار أن الأرستقراطيين يجب أن يسيطروا على العامة. في الفكر اللينيني، تعمل البروليتاريا التي يمثلها «حزب الطليعة» بوصفها القلة التي تقود الكثيرين. في الخمينية، آيديولوجية النظام الإيراني الحالي، يجري إيجاز القلة بشكل أكبر في شخص «المرشد الأعلى». وفي خطاب ألقاه حديثاً آية الله علي خامنئي، قال إن «الناس العاديين» لا يمكنهم أن يحسموا قضية مهمة. من جهته، يقترح دينين «إنشاء نخبة جديدة واعية بذاتها»، والتي يسميها «الأرستوي» لرعاية «الناس العاديين» الذين يفتقرون إلى المعرفة والخيال، ولا يريدون شيئاً سوى الاستقرار والاطمئنان إلى الاعتماد على سلطة قوية. بمعنى أننا بحاجة إلى حكومات استبدادية، قادرة على التخلص من المحن والفتن التي تحملها معها الديمقراطية، وضمان مستويات معيشية جيدة لشعوبها -بخاصة إذا نفد النفط.

أمير طاهري

لماذا لدينا سعران رسميّان للدولار؟

نُدرك جميعاً أنّ في لبنان منذ بداية الأزمة المالية والنقدية، أسعار صرف عدّة، بدءاً من سعر الصرف الرسمي الذي ارتفع إلى 15 ألف ليرة، منذ شباط 2023، والذي يَتزامن الآن مع سعر تعميم 151، ولدينا سعر صرف تعميم 158، وسعر صيرفة الذي يتزامن مع تعميم 161، وسعر صرف السوق السوداء، وسعر صرف الشيك بالدولار، والشيك بالليرة اللبنانية وغيرها وغيرها.

لدينا سِعرا صرف رسميّان، الأول، هو السعر الرسمي المتداوَل بـ 15 ألفاً، والسعر الرسمي الآخر وهو سعر منصّة صيرفة والذي يُقارب الـ 90 ألفاً اليوم. فما هو الهدف الواضح المُبطّن جرّاء هذين السعرين الرسميين، حينما الكل يُنادي ويطالب بسعر صرف موحّد؟

شئنا أم أبينا، لقد أصبح من المستحيلات، تثبيت سعر الصرف، لأنّ هذه العملية ستتطلّب سيولة كبيرة بالعملات الأجنبية، المفقودة في الوقت الحالي، خصوصاً من جهة الدولة. ومن الصعوبة إعادة تكوينها على المَديين القصير والمتوسط. لذا، نحن تحت رحمة سعر صرف عائم، يستطيع أن يتحرّك صعوداً أو نزولاً، من دون أي مقدرة أو وسائل بُغيَة التحَكّم به.

لكن السؤال البديهي المطروح الراهن: لماذا لم نتحوّل مباشرة إلى توحيد سعر صرف رسمي وعائم؟ ولماذا لجأ الرسميون إلى الإختباء وراء سعرَين رسميين لتسعير الدولار، السعر الرسمي 15 ألفاً وسعر صيرفة العائم؟

الحقيقة المرّة جرّاء هذين التسعيرَين هي أنّ الأول (15 ألفاً) هدفه المبطّن تصفية ما تبقى من الودائع، لتُصرف بـ»هيركات» وخسارة مباشرة تتجاوز الـ 85 %. ويُمكن أن تزداد هذه الخسارة إذا أراد المودع المَطعون صرفها بأوراق نقدية، فيخسر حينها بين 15 % و20 %. فهذا السعر الرسمي الأول يُستعمل لهدر الودائع، أو أي مَدخول بالدولار اللبناني (اللولار). وقد أصبح سعر هذه المنصة لتسعير مدخول قسم كبير من اللبنانيين الذين سُرقوا وذُلّوا.

أما سعر الصرف الثاني المحدّد الذي لُقّب بمنصّة صيرفة، فهو سعر صرف عائم، يُقارب سعر صرف السوق السوداء، ويُستعمل كمنصّة جديدة بالتسعير، خصوصاً لكل التكاليف المعيشية. فسعر هذه المنصّة الجديدة بدأ يُستعمَل للضرائب والرسوم والجمارك، والضريبة على القيمة المضافة TVA، والأدوية والمحروقات… فأصبح سعر التسعير هذا يوماً بعد يوم سعر الصرف الجديد المعتمَد والذي يتقارب أكثر فأكثر مع السوق السوداء.

المُعادلة أصبحت واضحة: إنّ مداخيل وودائع اللبنانيين تُصرف حسب السعر الرسمي بـ15 ألفاً، أما كلفة معيشتهم ومصاريفهم فتُحتسب بحسب منصّة صيرفة، ما يعني بنحو 6 و7 أضعاف أكثر.

بالأرقام، من وراء هذين السعرَين الرسميين، يخسر قسم كبير من اللبنانيين 85 % من مداخيلهم وودائعهم وجنى أعمارهم، وتزداد كلفة معيشتهم أكثر من 700 %.

هذه هي الحقيقة المرة، التي نعيشها اليوم، والإستراتيجية المبطّنة لعدم توحيد سعر الصرف، لمتابعة أكبر جريمة مالية ونقدية في العصر الحالي.

إضافة إلى هذا الواقع الأليم، هناك نقاط استفهام عدّة، مفادها: كيف بعصا سِحرية فُوجِئنا بتقارب بين سعرَي صيرفة والسوق السوداء، والذي جُمّد في الوقت الحالي، بنحو 90 ألفاً إلى 100 ألف؟ هذا يعني، إذا قرأنا بين السطور، لا شك في أن هناك تقارباً لا بل تواطؤاً وعلاقة بين هذه المنصات، واحدة منها رسمية، والأخرى سوداوية. والواضح أيضاً أن هذه الدولارات والأوراق النقدية، تدور بين الأيادي وبالحلقة المُفرغة والمقفلة.

في النهاية، ما تصنعه المنصّات، سنشهده على الشاشات، وهو وعود وهميّة. أما الحقيقة فهي أن هناك استراتيجية وخطة واضحة لاستكمال التدمير الداخلي والذاتي.

سقف الدين وقوة الدولار

في السنوات الأخيرة يشهد الاقتصاد العالمي تغيرات كبيرة في ظل صعود اقتصادات الأسواق الناشئة خاصة في آسيا، وتنفيذها خطوات إنمائية ضخمة، في نفس الوقت الذي تتراجع فيه هيمنة الدول الكبرى، إذ على الرغم من أن أكثر التوقعات تشير إلى استمرار صعود اقتصادات دول مثل الصين واليابان لتعزز مكانتها ضمن أكبر الاقتصادات العالمية في السنوات القادمة، فإن الخبراء يرجحون أيضاً أن تستمر أميركا في الاحتفاظ بصدارة أكبر الاقتصادات في العالم. ووفقاً لخبراء مؤسسة «فوكس إيكونوميكس» فمن المتوقع أن تأتي الهند في المركز الخامس ضمن أكبر الاقتصادات العالمية بحلول عام 2023 بناتج محلي إجمالي اسمي يبلغ 4.3 تريليون دولار، متجاوزة بذلك كلا من فرنسا والمملكة المتحدة.

ومن المتوقع أن تحتفظ ألمانيا بالمركز الرابع بناتج محلي إجمالي يبلغ 4.6 تريليون دولار، إلا أن تراجع نموها السكاني -نفس الأزمة التي تعاني منها اليابان- قد يؤثر على نموها الاقتصادي، كما ستظل اليابان ثالث أكبر اقتصاد في العالم بناتج محلي إجمالي اسمي يبلغ 5.7 تريليون دولار في 2023، ورغم ذلك فمن المحتمل أن تخسر الدولة الآسيوية بعضاً من نفوذها لصالح منافسيها من الدول المتقدمة والأسواق الناشئة، وأيضا أن تأتي الصين في المركز الثاني بعد أميركا، بناتج محلي إجمالي متوقع يبلغ 19.5 تريليون دولار في 2023.

وستبقى أميركا محتفظة بلقبها كأكبر اقتصاد في العالم، إذ يرجحون أن يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي 24.9 تريليون دولار في 2023، ورغم ذلك سوف يتراجع نفوذ أميركا لصالح دول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، إذ إن إجمالي اقتصاد دول البريكس أكبر بنسبة 10 بالمائة من اقتصاد أميركا.وفي سياق متصل، استبعدت رؤى خبراء اقتصاديين قدرة الاقتصاد العالمي على كسر هيمنة الدولار الأميركي، وتخفيف الاعتماد عليه، وسيطرته على أغلب التجارة العالمية الدولية، خصوصاً على المديين القريب والمتوسط، إذ إن الدولار فرض نفسه على الاقتصاد الدولي عبر تمويله 80 في المائة من التجارة الدولية، وتشكيله 60 في المائة من احتياطيات البنوك المركزية، وحجم الاقتصاد الأميركي الذي يتجاوز 30 في المائة من الاقتصاد العالمي، وكذلك تقويم أهم السلع والمواد الخام العالمية كالنفط والذهب بالدولار، إلا أنهم يرون أن هيمنته لن تدوم إلى الأبد، لكنها تحتاج إلى خطط طويلة المدى لكسر هيمنته، وإزاحة سيطرته على الاقتصاد العالمي.

إن تزايد المناداة بالانتقال لعملة أو عدة عملات لتحل محل الدولار يعكس عدم الارتياح العالمي للهيمنة المستمرة له، ورغبة بعض الاقتصادات في تخفيف اعتمادها على الدولار، في ظل التحولات الاقتصادية الدولية، وربما يأتي في بعض الأحيان بدوافع سياسية. وإن صعوبة ظهور بديل قريب للدولار الأميركي تكمن في استمرار القبول العام للدولار مقارنة بغيره من العملات، وهو شرط ضروري لنجاح أي عملة تنافسه، إذ إن التحديات ما زالت كبيرة أمام اليورو ليكون بديلاً له، كما أن اليوان الصيني يعاني فجوة ثقة رغم زيادة نسبته في حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي.

وإن استمرار البنك الفيدرالي الأميركي في استخدام سياسات نقدية متشددة ورفع سعر الفائدة، حتى وصلت إلى 5.25 في المائة، وسيطرة الدولار على أهم مفاصل التجارة العالمية، هو ما أدى إلى تفكير بعض الدول والاقتصادات العالمية في الخروج من دائرة الدولار، واستبدال عملات الاقتصاديات الكبيرة مثل الين واليوان واليورو وغيرها به.

إن صعوبة الخروج من دائرة الدولار الأميركي في المديين القريب والمتوسط، لكونه سيؤدي لتعرض استثمارات الدول الخارجية في سندات الخزينة الأميركية إلى تكبد خسائر كبيرة، قد لا تتحملها تلك الدول، لذلك من الأفضل لها أن تبقى وتحافظ على مصالحها في السوق الأميركية، إذ إنه على تلك الدول التي تنوي الخروج من دائرة الدولار التفكير في حلول منطقية ونظرة مستقبلية، ولذلك فإن أقل ما يقال عن تأثير التخلف عن السداد أنه كارثي على الاقتصاد العالمي، فالدولار هو العملة الاحتياطية الأولى في العالم، والتخلف عن السداد سيقلل من قيمته بلا أدنى شك.

وفي الختام، فإن ضبابية سياسة الدين الأميركية تجعل مستقبل اقتصاد أميركا في خطر، فحتى بعد الاتفاق على رفع سقف الدين هذه المرة، فما سيحدث في المستقبل سيكون تأثيره كبيرا على الاقتصادين الأميركي والعالمي، ويؤثر على سقف الدين في المستقبل، وأيضا قوة الدولار وموقعه في السوق الدولية، إذ سيتراجع موقع الدولار مع كل مراجعة لسقف الدين، وسيعطل تطبيق «قانون المسؤولية المالية» الذي يمدد سلطة الإقراض الحكومي، وفي النهاية الدعوة إلى خفض الإنفاق الفيدرالي غير الضروري لحفظ استقرار الاقتصاد العالمي ومكانة الدولار.

عائدات الغاز تلامس الشعبوية… «أوعا» الأجيال المقبلة

لا نكتشف البارود عندما نقرر أن نُنشئ صندوقاً خاصاً بإدارة العائدات النفطية المتوقعة. ومن البديهي ان نستنسخ تجارب دول ناجحة لوضع هيكلية الصندوق وطريقة ادارة الاصول، لكنّ الاستنساخ لا يُغني عن التعاطي مع الخصوصية اللبنانية بعناية، وهذا هو بيت القصيد في نجاح مشاريع الصناديق المطروحة أو فشلها.

ما قامت به اللجنة الفرعية النيابية برئاسة النائب ابراهيم كنعان مميّز، لجهة البنية الهيكلية والتنظيمية التي أقرّتها لقانون الصندوق السيادي المتعلق بعائدات النفط والغاز المستقبلية. لكن، والى جانب تفاصيل الحوكمة والشفافية، لا بد من مراعاة مسألة اساسية ترتبط بالأزمة المالية والاقتصادية. اذ لا يكفي ان نَقتبِس نسَباً مئوية من التجارب الناجحة، (20% للتنمية، و80% للادخار والاستثمار)، لأن المطلوب من كل الخطوات التي يقوم بها المشرّع اليوم، أو حتى السلطة التنفيذية، ان تأخذ في الاعتبار اولوية تأمين الخروج الآمن من النفق، وضمان الانتقال الى وضع مالي واقتصادي طبيعي، ضمن جدول زمني مرتبط، بطريقة أو بأخرى، بخطة التعافي التي سيتم الاتفاق عليها في النتيجة.

وهنا لا بد من التركيز على أنّ مقولة ان عائدات النفط من حق الاجيال المقبلة، كلام حق، لكن لا يمكن تأمين هذا الحق من خلال نقل العائدات الى المستقبل فحسب. اذ انّ ضمان حقوق الاجيال يكمن في تأمين وطن قابل للحياة، ودولة سليمة يمنح اقتصادها هذه الاجيال الفرص الحياتية اللائقة. أمّا أن نفصل بشكل عَمودي بين الاحتفاظ بالعائدات للمستقبل، ونترك الاقتصاد مدمّراً، بذريعة عدم المَس بهذه الاموال، فهذه تصبح خطيئة لا تغتفر. والمقصود هنا، ليس التشجيع على انفاق العائدات، بل التسليم بأن الاولوية في كل ما تنتجه الدولة اليوم، يجب ان يصبّ في خانة الانقاذ وتطوير الدولة، لأنها الارث الأثمن الذي يمكن منحه للأجيال الطالعة.

ولا بد على الهامش من التأكيد انه مهما كانت قوانين الصندوق محبوكة بعناية لضمان الشفافية والحوكمة، فإنّ خطر الهدر يبقى قائماً في هيكلية الدولة بمفهومها السياسي، اي من خلال سلطاتها. والمقصود هنا، ورغم انّ قانون الصندوق يمنع ان تقترض منه الدولة المال، لزوم سَدّ حاجاتها المالية، لكن ذلك لا يؤدي الى مكان، لأنّ الدولة تستطيع ان تقترض من اي مكان آخر، وستكون اموال الصندوق مكشوفة لتغطية هذه القروض لاحقاً، طالما انها اموال عامة. ولا ننسى ان هذه الدولة اقترضت الاموال من الناس بالتحايُل، من خلال مصرفها المركزي، وهي تحاول اليوم التملّص من مسؤولية اعادة هذه الاموال لأصحابها. في حين ان الوضع سيكون مختلفاً مع الصندوق، لأنّ امواله ملك الدولة، بصرف النظر عن القوانين التي تحكم ادارة أصوله. هذا الكلام لا يقلّل من اهمية سنّ قانون مُحكَم لإدارة اصول الصندوق، بل يسلّط الضوء على ضرورة معالجة أصل المشكلة، أي فَرض الحوكمة والشفافية في السلطة التنفيذية، وبقية السلطات التي تتكوّن منها هيكلية الدولة.

ولأنّ الاولوية هي للانقاذ، وبناء دولة للأجيال المقبلة، لا بد من انشاء صندوقين إضافيين الى جانب صندوق النفط. واذا كانت تسمية صندوق تثير حساسية البعض بالنظر الى التجارب المريرة مع صناديق الهدر والفساد التي أُنشئت في السابق، يمكن استخدام كلمات اخرى، مثل مؤسسة او هيئة… والمقصود هنا، مؤسسة تدير كل اصول الدولة ومؤسساتها العامة، بقيادة قطاعٍ خاص قادر على تحقيق نقلة نوعية تسمح بزيادة العائدات بنسَب مرتفعة، وتؤدي الى زيادة قيمة هذه الاصول بنسَب مرتفعة ايضا. وهذه النتائج مضمونة، لأنّ عائدات الدولة وقيمة اصولها منخفضة جداً نتيجة الادارة السيئة القائمة منذ عقود من الزمن.

كذلك، ينبغي انشاء مؤسسة متخصصة لادارة الاحتياطي من الذهب، والذي وصلت قيمته حالياً الى اكثر من 18 مليار دولار. هذا الاحتياطي، وإن كان اللبنانيون يحرصون على منع التصرّف به، انطلاقاً من قناعتهم بأنه سيهدر كما هدرت اموال المودعين، من قِبل سلطة جاهِلة وغير مسؤولة، إلا انه لا بد من تغيير نمط التعاطي مع هذه الاصول، للافادة منها في تأمين عائدات اضافية، سواء من خلال حركة البيع واعادة الشراء ضمن ادارة استثمارية متخصصة قادرة على تأمين أرباح، او من خلال تجيير هذه الاصول الى مؤسسات استثمارية تضمن عائدات ثابتة ومضمونة، ولو انها قد تكون اقل من عائدات الاستثمار المباشر في السوق. ولا بد من التذكير انّ الذهب من الاصول الاكثر تحركاً وتأرجحاً هبوطاً وصعوداً، ولا بد من مواكبة هذه الحركة لتكبير الثروة. وعلى سبيل المثال، وصلت قيمة الذهب اللبناني في خلال العام 1999 الى حوالى مليارين ونصف مليار دولار، في حين ارتفعت الى حوالى 17 مليار دولار في العام 2011. هذه الارقام تعطي فكرة عن نسبة التغيير الدائمة في سعر المعدن الاصفر. وبالتالي، لا بد من الافادة من هذا الواقع لضمان عائدات وضمان نمو الثروة الذهبية.

ضمن هذا المثلّث: عائدات النفط والغاز المستقبلية، ادارة خاصة لأصول ومؤسسات الدولة، وادارة استثمارية للذهب، وفي ظل حوكمة وشفافية في الدولة، يمكن ضمان بناء دولة للمستقبل القريب والبعيد. امّا الاكتفاء بمقولة الثروة من حق الاجيال المقبلة، والمزايدات في هذا الاتجاه، فلا تختلف عن اللغة الشعبوية التي لا يجيد سواها غالبية من يتعاطى الشأن السياسي. والمشكلة الاكبر، انّ قسماً كبيراً من اللبنانيين يحبّذون هذه اللغة على لغة الوقائع والحقائق!

هموم الجيل «زد»

أصبح من شبه المسلّم به أن كل جيل يعيش في رفاهية أكثر من الجيل السابق له، ولذلك فإن كثيراً من الآباء يؤمنون اليوم أنهم عاشوا حياة ذات جودة أفضل من آبائهم، كما يتوقعون كذلك أن يعيش أبناؤهم حياة أفضل من حياتهم. لكن هذا الانطباع قد لا يكون صحيحاً على أي حال، فكثير من الدراسات اليوم تظهر أن الجيل «زد» – وهو الجيل الذي ولد بين عامي 1997 و2004 – قد لا يتمتع بكثير من المميزات التي امتازت بها الأجيال السابقة.

اختلاف الأجيال من الناحية الاقتصادية أمر طبيعي، ويفرض هذا الاختلاف الظروف الاقتصادية والسياسية، كذلك هذه الظروف تتفاوت بحسب المناطق الجغرافية. لكن جيل «زد» له ميزة لم تمتلكها الأجيال السابقة، وهو وجود الثقافة المشتركة بين هذا الجيل حول العالم، بحكم نشأته على وسائل التواصل الاجتماعي، فمعظم هذا الجيل نشأ بعد انتشار الهواتف الذكية، وكثير منهم لا يعرفون كيفية استخدام بعض الأجهزة القديمة التي كانت تعد صيحة في التطور، مثل الفاكس وأجهزة الفيديو كاسيت!

نشأ هذا الجيل في ظل التقنية التي مكّنته من القدرة على استيعاب المعلومات، وجعلت تسخير التقنيات لحل المشكلات أشبه بالبديهيات، كما أن التقنية سهلت له تعلم تخصصات مختلفة، ونوّعت أساليب التعلم له، مقارنة بأجيال لم تجد مصدراً للتعليم إلا مقاعد الدراسة. كل هذه الظروف تقود إلى توقع واحد، هو أن المستقبل يبدو أكثر إشراقاً للجيل «زد». إلا أن نظرة هذا الجيل، وبعض التحليلات الاقتصادية، تشير إلى عكس ذلك تماماً.

ففي دراسة أجرتها شركة «ماكينزي»، أظهرت نتائجها أن نحو ربع جيل «زد» يرون أنهم قد لا يتمكنون من التقاعد على الإطلاق، وأن نسبة 41 في المائة منهم فقط يؤمنون بقدرتهم على امتلاك منزل. كما أظهرت دراسات أخرى أن هذا الجيل أقل ميلاً إلى الادخار وأكثر رغبة في الإنفاق، لأسباب، منها كثرة المغريات التي توفرها التقنيات، وسهولة وسائل الدفع. وفيما قد يلام هذا الجيل في هذه الأسباب، تظهر أسباب أخرى تدعو إلى عكس ذلك، منها أن التعليم الجامعي أكثر كلفة لهذا الجيل من سابقه، ولذلك فهو قد لا يتمكن من الادخار لدفع تكاليف التعليم. ولذلك يلاحظ أن الأجيال السابقة كانت تقترض في العادة لشراء منازل، بينما زادت القروض التعليمية في الجيل الجديد، بعد أن كانت شبه منعدمة لدى بعض الأجيال السابقة. وأظهرت بعض الدراسات نتائج أكثر تطرفاً، حيث أبدى البعض من هذا الجيل عدم رغبتهم في الادخار لمسكن، لإيمانهم التام بعد جدوى هذا الادخار لشراء مسكن.

هناك عدد من المبررات لتشاؤم الجيل «زد» تجاه المستقبل، منها أن هذا الجيل نشأ على الأزمة المالية في عام 2007، ورأى تأثيرها على أسرته وكيف خسر كثير من الموظفين وظائفهم بسببها، لذلك فهو لا يأمن بالوظائف التقليدية لتأمين مستقبله، ويرى أن خسارة الوظيفة أمر وارد. كما أن هذا الجيل عاصر الجائحة بكل ما فيها من تفاصيل، سواء كان على مقاعد الدراسة، أو في بداية مسيرته المهنية، هذه التجربة جعلته أقل اقتناعاً بالتعليم لما رآه من تساهل في التعليم عن بعد، خلال فترة الجائحة، إضافة إلى تأثره الواضح بنصائح المشاهير من غير المختصين بعدم جدوى التعليم العالي. كما أنه اكتسب ثقافة وقيم للعمل مختلفة عما سواه من الأجيال بسبب ما عاصره من أزمات، ورأى كيف خسر كثير من الناس تجارتهم ووظائفهم لأسباب خارجة عن إرادتهم بشكل كلي، ولا يلامون عليها بتاتاً.في نفس الوقت، يرى بعض أبناء الجيل «زد» أن الأجيال السابقة حمّلت الاقتصادات الحالية ديوناً عالية، سبّبتها زيادة الإنفاق الحكومي في السابق، لأسباب، منها ما يراه منطقياً، ومنها ما يراه عكس ذلك. هذه النظرة تسببت في تغيير مثير للاهتمام في بعض الدول، فبعد أن كان التصويت في الانتخابات عادة ما يكون بين قطبين مثل «الأغنياء والفقراء» أو «المحافظين والعمال» أو «الجمهوريين والديموقراطيين»، أصبحت الآن أطراف التصويت بين الكبار والصغار، وهو نتيجة لنظرة الجيل الجديد أن التوجه الحالي قد لا يخدمهم في المستقبل بأي حال.

وقد يكون الجيل «زد» هو أول جيل، منذ 100 سنة على الأقل، يعيش حياة أقل رفاهية من الجيل السابق له، وهو في الوقت الحالي يمتلك أصولاً أقل من سابقه، ويعود ذلك إلى أسباب اقتصادية هيكلية، حوّلت العقار من سلع إلى استثمار، وتسببت في تضخم أسعاره. كما أن التعليم أصبح امتيازاً لا يمكن للجميع الحصول عليه، بعد أن كان أقرب للبديهي للجيل السابق له، ولذلك فالجيل «زد» قد يمتلك شهادات أقل من سابقه، وهو بذلك قد لا يتمكن من الحصول على وظائف ذات دخل عالٍ، ما قد يقلل من دخله. وفي زمن يراهن الجميع فيه على الشباب، وبعيداً عن التقارير المكتوبة والمؤتمرات المكتظة، هل سيجد العالم حلاً للهموم الاقتصادية للجيل «زد»؟