متابعة قراءة مسح: الصناعات التحويلية في أمريكا تواصل التراجع في يونيو
الأرشيف الشهري: يوليو 2023
حقائق مذهلة عن إيلون ماسك.. كان يعيش بدولار واحد في اليوم
تتوقع ارتفاع S&P500 لمستوى قياسي قبل نهاية 2023
المؤشر نيكي الياباني يغلق عند أعلى مستوى في 33 عاماً
PIMCO: نستعد لتباطؤ اقتصادي عالمي حاد
هذا «النظام» المالي العالمي…
انتهت منذ أيام قمة باريس التي عُقدت بمشاركة نحو 50 من قادة الدول، ومشاركين من المنظمات والمؤسسات الدولية ومسؤولي القطاع الخاص والمجتمع المدني، من أجل ميثاق مالي عالمي جديد. وطرحت فكرة هذه القمة في شرم الشيخ أثناء انعقاد قمة المناخ السابعة والعشرين التي رأستها مصر في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، في الجلسة التي شاركت فيها رئيسة وزراء بربادوس ميل موتلي، مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وبعد 6 شهور من الإعداد والأخذ والجذب حول الترتيبات والأولويات لقمة باريس، سلطت أنظار المتابعين على الجلسة الختامية التي أدارها الرئيس ماكرون، مؤكداً فيها أكثر من مرة أنه يعرض نقاط توافق ككاتب للجلسة، مستدعياً إلى الأذهان الصورة الشهيرة للكاتب المصري الجالس القرفصاء. وهي صورة ليست بعيدة عن دلالة لتاريخ تطور العمل الدولي المشترك، ومدى نجاح -أو إخفاق- دبلوماسية القمم في تحقيقها لما تهدف إليه.
وهناك مبالغة في وصف مجموعة الترتيبات المختلفة المعمول بها، والتي تشكل المعاملات المالية الدولية، بأن نعتبرها نظاماً أصلاً. وهي الملاحظة ذاتها التي ساقها أندرو كروكيت في عام 2009، بعد الأزمة المالية العالمية -أثناء شغله لمنصب المدير العام لبنك التسويات الدولية- مطالباً بإصلاحات، ولكنه توقع أن النموذج المتبع سيستمر مع زيادة نسبية في دور القواعد الرقابية، وهو ما حدث بالفعل، رغم مطالبات لم تكن الأولى من نوعها، لإحداث تغيير جذري سعياً لنظام مالي مكتمل الأركان.
ولكن، هل يمكننا افتراض الاستفادة من دروس الأزمات السابقة، وأنه ستترتب على هذه القمة تغيرات ملموسة في «نظام» التمويل الدولي الراهن؛ ناهيك من إجابة العنوان ذي الدلالة الذي طرحه موقع «بروجكت سينديكيت»: «هل ثمة ثورة تمويل في باريس؟» وإجابتي: لا! وأرجو مخلصاً أن تثبت الأيام القادمة خطأ هذا التقدير. فالثورة بما تعنيه من انتقال النظام المالي العالمي الراهن إلى نظام جديد أكثر كفاءة وعدلاً، أو على الأقل تحقيق نقلة نوعية في إطار النظام المالي العالمي الراهن، تتطلب مزيداً من الطموح والإجراءات العملية لتحقيقها، مساندة بمناخ سياسي مواتٍ.
بعض الرسائل الإيجابية من باريس
كانت أولويات التمويل تعاني من غموض غير مبرر، بسبب ما تم إقحامه عمداً من جدل بأن العمل المناخي يتعارض مع تحقيق التنمية المستدامة، والعكس. وقد أكدت قمة شرم الشيخ أن العمل المناخي ينبغي إدراجه وفقاً لنهج شامل لتحقيق الاستدامة. وقد ذكرت في إطارها أن «لا خير في عمل مناخي يزيد الفقر ويسبب البطالة ويعوّق النمو». ويبدو أن هذا النهج الذي تبنته بداية البلدان النامية وجد صدى قد انعكس في المقال الذي صدر بتوقيع الرئيس الفرنسي ومعه 12 من قادة دول العالم المشاركين، ممثلين لاقتصادات نامية ومتقدمة، أكدوا في مقالهم المعنون «انتقال أخضر لا يستثني أحداً»، تشابك الأزمات والصدمات التي سببت زيادة الفقر والديون وتفاوت الدخول وتدهور المناخ… واتفقوا على العمل معاً للتصدي لها.
ومن الإيجابيات التي جرت على هامش الاجتماعات، ما تم إعلانه من تمويل للسنغال بمبلغ 2.5 مليار يورو، من خلال مبادرة الانتقال العادل للطاقة التابعة لمجموعة الدول السبع، على مدار 3 إلى 5 سنوات. وإن كان المطلوب أيضاً لعموم أفريقيا الاستثمار في صناعات تتطلب تخفيض الكربون فيها، مثل الصلب والأسمدة والإسمنت وغيرها، وهو مطلب لم تتحرك مجموعة الدول السبع قدماً في تنفيذه أو حتى دراسته بموضوعية، رغم نتائجه الواعدة.
وقد تم الإعلان أيضاً عن نجاح زامبيا في التوصل لاتفاق لمعالجة ديونها الخارجية، وفقاً لآلية مجموعة العشرين، بعد جهد مضنٍ استمر لسنوات، تقوم بمقتضاه بإعادة هيكلة نصف مديونيتها البالغة 13 مليار دولار.
وكانت هناك فاعليات تعكس تطوراً لدور المشاركات مع القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني، في العمل المناخي والتنمية، شملت أسواق الكربون، والهيدروجين الأخضر، ومبادلة الديون باستثمارات في مجالات التخفيف والتكيف والطبيعة، فضلاً عن استعراض أدوات جديدة للتمويل والائتمان الميسر، ومخاطر الاستثمار، وزيادة عوائده، قدمتها المؤسسات المالية الدولية.
مطالب تستدعي العزم في متابعتها
ظهر جلياً التنسيق بين قادة البلدان النامية، وخصوصاً الأفريقية، في مطالبهم المحددة فيما يتعلق بتخفيض الديون وزيادة التمويل والتعاون التكنولوجي وزيادة فرص التجارة، مع أهمية التزام الدول المتقدمة بتعهداتها، خصوصاً بالنسبة لتمويل التنمية والعمل المناخي، مع توضيح تفصيلي لما تحقق من التزام فعلي بالتعهدات. وقد انعكس ذلك بالتأكيد في تلخيص الجلسة الأخيرة على إصدار تقرير أداء نصف سنوي.
رغم شمول قمة باريس خطوات في الاتجاه الصحيح؛ لكن تحديات وفرص عالم اليوم تتطلب ثباتاً لتجاوز عقبات التنمية المستدامة؛ فقد تجاوزنا منتصف الطريق زمناً لتحقيقها، فإذا بالعالم ينجز فقط أقل من 15 في المائة من الأهداف، بينما أكثر من 50 في المائة من الأهداف بعيد عن المسار المطلوب، و30 في المائة منها أسوأ مما كان عليه الوضع في عام 2015، عندما دشنت هذه الأهداف ومعها اتفاق باريس للمناخ الذي يعاني من بطء التنفيذ رغم كثرة التعهدات.
هذه الأهداف تستلزم علاجاً فورياً لأزمة الديون التي تعاني من حدتها البلدان النامية، بما فيها من يلتهم خدمة الديون ومخصصات التعليم والصحة، فضلاً عن التصدي لتداعيات تغيرات المناخ على عموم الناس وحياتهم وأسباب معيشتهم.
ولن يتصدى لهذه التحديات عالم تعاني مؤسساته المالية الدولية من انخفاض لرؤوس أموالها، تعجز معه عن تلبية احتياجات تمويل المناخ والتنمية، ما يجعل كثيراً من الافتراضات المطروحة في باريس عن قدرة هذه المؤسسات للقطاع الخاص، وتخفيض المخاطر، واستخدام أساليب الابتكار المالي، إلى غير ذلك، ضرباً من الخيال. ففي عالم المال؛ الصغيرُ ليس جميلاً دائماً، وفجوات التمويل التريليونية لن تجسرها وعود بمليارات محدودة، وهي إنْ أتت تأتي متناثرة وعادة متأخرة.
د. محمود محيي الدين
تحرير الصرف أخطر خيار لبلد مُدَولر كلبنان: الدولرة الشاملة أثبتت طغيانها!
في الواقع، حتى ما قبل حرب 1975-1990 في لبنان، في نهاية عام 1974، كانت الودائع بالعملات الأجنبية (823 مليون دولار أميركي) لم تتجاوز 18 ٪ من إجمالي الكتلة النقدية للبلاد، وكانت أقل بكثير من الأصول بالعملات الأجنبية للنظام المصرفي (2.11 مليار دولار). هذا يعني أنّ معظم العملات الأجنبية التي كانت تدخل إلى لبنان كانت تتحوّل إلى ليرة لبنانية، ما ساهمَ في ارتفاع قيمة العملة الوطنية. منذ اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975، بدأت التحويلات من الدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانية تتضاءل تدريجاً لينعكس الوضع مع بداية عملية الدولرة الجزئية غير الرسمية الناتجة عن الاختيار الحر للقطاع الخاص بعد التدهور للقوة الشرائية للعملة الوطنية وافتقاد الثقة بإمكانية ثباتها خلال الأزمة النقدية في الثمانينات.
قبل عام 1993، تخلّى لبنان عن نظام سعر الصرف العائم Free Floating. لذلك، وبعد اعتماد نظام ربط زاحِف حتى الانتقال عام 1998 الى Crawling peg، واعتمدَ على تخفيض سعر الصرف تدريجاً حتى تطبيق الربط التقليدي لنظام عملة واحد مُلزم Conventional soft peg to one currency LBP إلى USD بسعر 1501-1514 بمتوسط 1507.5 منذ 1997.
تؤكد الأدبيات الاقتصادية في جميع المنشورات الدولية في السياسة النقدية للبلدان المدولرة من ميشكن وسافاستانو (2001) مروراً بكالفو وفاك (2002)، كالفو وميشكن (2003)، غارسيا وسوتو (2004)، أوسيتفيلد (2006 و 2008، 2009)، اينشغرين (2007 و 2008 و 2009)، كالفو (2008)، اللييغريت (2011، 2015) وهوسمن (1999، 2000) وبونسو في مختلف منشوراته عن البلدان المدولرة جدا (2005… 2019) وجميع تقارير صندوق النقد الدولي والنظريات حول سياسات المصرف المركزي أنّ السياسة النقدية التي لا يمكن أن تكون فعّالة في ضبط الكتلة النقدية حيث معظم السيولة المتداولة هي بالدولار الأميركي وليس بالعملة الوطنية ما يُحتّم الانتقال الى ضبط سعر الصرف… وهذا بالأساس سبب الانتقال من نظام سعر الصرف العائم الى الربط المَرن في لبنان عام 1993 نظراً للمستوى المرتفع الذي بلغته الدولرة وتأكيد تقرير الاقتصادي مولير (1994) أن الدولرة في لبنان تعكس حالَ هيستيريا يَستحيل تخفيضها حتى بعد تعافي الاقتصاد… وهذه هي العبارة نفسها التي وردت في تقرير البنك الدولي في تشرين الثاني 2022 عن لبنان بالتأكيد على الطابع الثابت للدولرة وغير القابل للتراجع حتى بعد تعافي الاقتصادي اللبناني بعد الانهيار الذي أسقطَ منذ العام 2019 القدرة على الحفاظ على الربط المَرِن لسعر الصرف.
أما لماذا لا يتم العمل لتخفيض معدّل الجولرة بدلاً من اعتماده كمُعطى ثابت غير قابل للانخفاض، فالجواب وبكل بساطة أنّ الادبيات الاقتصادية أيضاً تؤكد أن ثمة عوامل تمنع تراجع الدولرة حتى بعد تعافي اقتصادات معينة منها ما يُعرف بحالة «الادمان على الدولرة وهيستيريا الدولرة»، وغياب عناصر الطمأنة في البلاد علماً أن معظم البلدان التي تشهد حالات مماثلة تكون قد عرفت حرباً أو أزمة هوية ونزاعات سياسية حادة وصراعات تفقد الثقة بالمناخ الاستثماري فيه، وتجعل العملة الوطنية هشّة، وهي معظمها أيضا بلدان صغيرة الحجم منفتحة الاسواق ويطغى فيه قطاع الخدمات ويَتَّكِل فيها ميزان المدفوعات على اجتذاب الرساميل أكثر منه على حجم التصدير…
إنّ تخفيض الدولرة كان يفترض أن يحصل في فترة الاستقرار النقدي ووجود احتياطات فعلية من الدولار في البنك المركزي أو بعد صدمات إيجابية، ولكن حتى وَقتذاك لم تَزدْ ثقة الناس بالليرة اللبنانية وبقيت معدلات الدولرة تفوق 70 %… فكيف اليوم بعد سقوط استقرار سعر الصرف واستنزاف احتياطات البنك المركزي حيث لا يبقى سوى جزء من الاحتياطات الالزامية وفق ميزانية المصرف المركزي؟
في تشرين الأول 2019 سقط نظام سعر الصرف القائم على الربط المَرن لليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، أي عملياً يعيش لبنان منذ ثلاث سنوات بدون أي نظام سعر صرف لتفادي الجميع الانغماس بمسؤولية اختيار النظام البديل في ظل هيستيريا الدولرة الجزئية الشرسة وغير الرسمية التي تفرض نفسها على وقع فوضى الأسواق، وتسحق كل من لا يصل الى يده سوى مدخول بالليرة اللبنانية، وذلك بدلاً من مواجهة الواقع من قبل السلطات الرسمية المعنية لحماية المساواة الاجتماعية بين المواطنين وحقّهم ببَدل أتعاب ومداخيل بنفس العملة التي يتكبّدون فيها تدريجاً كل المصاريف، لا سيما منهم العاملين في القطاع العام الذين أصبحوا عملياً على هامش النظام الاقتصادي – الاجتماعي ككل.
ووفق التقرير السنوي عن ترتيبات نظام الصرف وقيود الصرف (2018) تُمثِّل البلدان التي تعتمد تقييد أو ربط سعر الصرف حوالى 42 ٪ من مختلف البلدان، تليها البلدان التي تعتمد أطر السياسة النقدية الأخرى (24 ٪)، والبلدان التي تحدد مستوى التضخم (21 ٪)، وتلك التي تعتمد غيرها من الأهداف النقدية (13 ٪). وتحاول بعض الدول التي تستهدف سعر الصرف التحرك نحو مزيد من المرونة فيه، كما فعلت دول أخرى في السابق، في حين فَضّلت بعض البلدان الاستقرار في إطار تثبيت سعر الصرف بشكل مستدام…
في ظل حرية حركة الرساميل وسعر الصرف الثابت مقابل عملة واحدة، على سبيل المثال، يمكن للبنك المركزي أن يعتمد سياسة التدخّل فقط وفق مبدأ منع حصول انحرافات كبيرة في سعر الصرف أو شرط التكافؤ في أسعار الفائدة بين العملة المحلية والدولار الأميركي… في ظل نظام ربط موثوق به، من غير المتوقع أن تتغير الفائدة على العملة المحلية بالنسبة إلى العملة التي ترتبط بها سوى بفارق علاوة المخاطرة. وإذا كان هناك انحراف مقصود عن شرط تعادل سعر الفائدة، يمكن للرساميل، نظريًا، أن تتدفق إلى الدولة وهي ذات معدل الفائدة الأعلى والأقل خطرًا.
ومع ذلك، فإن السياسة النقدية في ظل ربط سعر الصرف أكثر تعقيدًا من رد الفعل البسيط وفقًا لقاعدة معينة من قواعد السياسة النقدية، إذ لا تحتاج السياسة فقط إلى إدارة فرق سعر الفائدة وسد فجوة التضخم مع البلدان التي تشهد استقرارا راسخا.
كما ينبغي على البلد، الذي يتمسّك بربط عملته المحلية بعملة أجنبية دولية مستقرة، أن يأخذ على عاتقه مستوى الاحتياطيات لديه بالعملات الأجنبية التي تعتبر كافية لدعم مصداقية الربط، وذلك يتطلّب الحرص على تأمين فائض سنوي بميزان المدفوعات ما يعني دخول عملات أجنبية أكثر من خروجها سنوياً من البلد المعني. أكثر من ذلك، تحتاج السياسة النقدية إلى معالجة الاختلالات المُحتملة في أسعار الصرف التي يمكن أن تنشأ عن التغيرات المتوقعة في العملات الأساسية، أو الاختلالات في أسواق المال والعملات الأجنبية.
وغالبًا ما يكون الحجم الإجمالي لتدفقات العملات الأجنبية – المرتبطة بالمعاملات الجارية وحسابات رأس المال – بدلاً من درجة حرية حركة الرساميل، هو المحرك للمراجحة بين أسواق المال وأسواق العملات الأجنبية، ما يؤدي بدوره إلى تشكيل طبيعة انتقال النقد. الصدمات الخارجية يمكن أن تكون صدمات االميزان الجاري أو ميزان الرساميل، ويمكن أن يكون للبلد حرية حركة الرساميل من دون أن يعني ذلك حتماً إمكانية تدفقها إليه. من ناحية أخرى، حتى عندما تكون حركة الرساميل مقيّدة نسبيًا، فإنّ قدرة البنك المركزي على التحكّم بالفائدة يمكن أن تكون صعبة، خاصةً عندما تكون احتياطيات العملات الأجنبية منخفضة، ويكون الاقتصاد معرّضًا لصدمات كبيرة في شروط التجارة والعملات، فيكون الخيار الأمثل باعتماد سعر صرف يتماهى مع طبيعة الصدمات – سواء كانت فعلية أو اسمية – ودرجة حرية حركة الرساميل.
ويلاحظ عادة خوف العديد من البلدان النامية من تعويم سعر الصرف وتسعى الى ربط سعر صرفها أو إدارته بإحكام لعدد من الأسباب، لا سيما منها زيادة احتياطياتها بالعملات الأجنبية، والحفاظ على التنافسية، والحد من الضغوط التضخمية في غياب ربطٍ اسمِيّ بَديل. وتربط بعض البلدان سعر الصرف الخاص بها بسعر الصرف للاقتصاد الأكبر والأكثر ثباتا وخاصة عندما يكون البلد المعني مُدَولراً…
وعادة ما يلعب سعر الصرف دورًا مُهَيمنًا في اقتصادات الأسواق النامية والناشئة مقارنة بالاقتصادات المتقدمة، حيث تتم المعاملات الأجنبية بالعملة المحلية، وتكون الأسواق أعمق، والقطاع الخاص أكثر استعدادًا للتعامل مع مخاطر العملات الأجنبية.
يمكن إدارة سعر الصرف من خلال التدخلات التقديرية أو القائمة على القواعد، أو من خلال استخدام معدّل الفائدة الذي يقلّل من الحاجة إلى تدخلات كبيرة في العملات الأجنبية، وبالتالي الحفاظ على احتياطيات العملات الأجنبية. وتسمح السياسات النقدية وسياسات أسعار الصرف التقديرية بالكامل بتحقيق أكبر قدر من المرونة في الاستجابة للصدمات غير المتوقعة، ولكنها قد تؤدي إلى إشارات مُتضاربة حول أهداف البنك المركزي، ما يُقَوّض مصداقية السياسة النقدية.
طبعاً، من مدخولهم بالدولار الأميركي لن يتأثروا في حال اعتماد تحرير سعر الصرف وربما هم ينادون به! ماذا عن بقية اللبنانيين؟ كيف سيعيش من مدخول بالليرة اللبنانية وسط تأرجحها بنظام سعر صرف متحرر في بلد مدولر بأكثر من 80 %؟ كيف تحفظ القدرة الشرائية لرواتبهم وقيمة تعويضاتهم لنهاية الخدمة؟ كيف يمكن التبرير لهم أن تكون الدولرة شبه شاملة ولكن غير رسمية لكي لا تشملهم وهم عاملون في القطاع العام؟! هل نريد أن يمشي لبنان على خطى زمبابوي فتتفكّك فيه المؤسسات العامة وتفرط الدولة؟! أم الأفضل الاعتراف بنجاح نموذج الاكوادور حيث تم الاعتراف بالدولرة رسميا بعد أن أصبحت شبه شاملة، وتم فرض الضرائب بالدولار على الأرباح والمداخيل بالدولار حتى يصبح للدولة ايرادات بالدولار وموازنة تصمد لسنة ونفقات لموظفيها بالدولار حتى يقدموا الى العمل يومياً وليس مرة في الأسبوع ؟! بقيت في الأكوادور العملة الوطنية تطبع بكميات قليلة للابقاء على رمزيتها، ولتسديد مبالغ صغيرة لصعوبة استيراد العملات المعنية للسندات بالدولار… المسألة مسالة عدالة إجتماعية وحفاظ على ما تبقّى من دولة… ما من قطاع خاص يعيش في بلد بدون دولة!!!
د. سهام رزق الله
حرب عالمية ضدّ العملات الورقية
لا شك في أنّ أولوية الشعب اللبناني أصبحت اليوم سعر الصرف، ومستقبل الودائع، ومنصّة صيرفة، والتي أصبحت المحرّك الأساسي للسوق المحلية، ومحاولة تكوين مدّخرات جديدة، بالدولار الفريش، وتخبئتها مثل أجدادنا، تحت البلاطة، أو في عمق الشجرة، وتحت السجادة. أما العالم من حولنا، فقد تغيّر ويتحوّل من اقتصاد مالي ونقدي إلى اقتصاد رقمي وتكنولوجي.
إذا نظرنا إلى خارج الحدود، نرى أنّ أيّ مودع في العالم، إذا حاولَ سحب أو طلب أي عملات ورقية نقداً، يخضع لمساءلات عدة، وحتى لتدقيق عن سببب وكيفية استعمال هذه العملات الورقية. أما في أوروبا، فهناك تقييد في كل السحوبات النقدية، والتي من المستحيل أن تتعدى الألف أورو، وعلى كل مودع أن يُبرهِن بدقة سبب طلب أي عملة ورقية وتفاصيل صرفها.
أما في بعض المصارف الدولية الأخرى، فقد بات ممنوعاً أي سحب بالأوراق النقدية، وقد بدأ التحوّل رويداً رويداً من الاقتصاد النقدي، إلى اقتصاد رقمي، ومن العملات الورقية إلى العملات الرقمية والمشفّرة، التي تُصدرها المصارف المركزية. فبدأت الحرب العلنية على العملات الورقية وتزداد يوماً بعد يوم، حتى إزالتها نهائياً، إلاّ في البلدان المتخلّفة، وبأيادي المافيات السوداء.
هناك أسباب عدة لهذا التحويل المعتمد والمبرمج من خلال استراتيجية وخطط مدروسة بدقة:
أولاً: إن الهدف الظاهر من إصدار العملات الرقمية، وتخفيف استعمال العملات الورقية، هو أساساً لمواجهة تبييض الأموال، وتمويل الإرهاب، والمخدّرات ومواجهة الفساد… باعتبار أنه من الصعوبة ضبط استعمال العملات الورقية وخصوصاً بعد طباعتها بطريقة مكثفة خلال السنوات الاخيرة في ظل «كوفيد19». فالخطة الراهنة هي سحبها من السوق، لمنع تضخُّم مفرط واستبدالها بعملات رقمية تمكن إدارتها وملاحقتها بطريقة أسرع وأمكَن وأدق.
ثانياً: إن تحويل اقتصاد العالم وعملاته إلى اقتصاد رقمي، يُفسح في المجال لكل المصارف المركزية التابعة لوزارات المالية أن تفرض في أي وقت كان، مقايضة على استعمال العملات وحتى الودائع، عندما تشاء، وتقر حتى بطريقة دقيقة «الكابيتال كونترول» عندما تشاء، وتراقب استعمال كل سنت، سنتاً سنتاً، للأفراد والشركات وغيرها.
ثالثاً: إن تحويل العالم إلى العملات الرقمية والمشفّرة سيحجب نهائياً قسماً كبيراً من الحريات والخصوصيات، وسيُفسح في المجال أمام تدقيق داخلي ومعرفة تفاصيل الإستهلاك من أبسط الأمور البديهية والأساسية مثل الطعام والشراب، وأيضاً استعمال الوقود، والصرف على الكماليات والرفاهية، والسهر وغيرها، فتزول نهائياً كل الخصوصيات الشخصية، فتُنتهك الحريات الشخصية.
رابعاً: إن نظام العملات الرقمية سيتواكَب مع إعادة هيكلة النظام الضريبي أيضاً، الذي يُمكن أن يتماشى حسب الصرف وكيفيته، وحسب الأشخاص، والمؤسسات، واستهلاكها واستثماراتها.
في المحصّلة، إننا نتلهَّى في لبنان بمشاكلنا الداخلية الضيّقة، وبوحول السياسة المتحركة ونتجاهَل التغيرات الدولية، وإعادة هيكلة الإقتصاد والنقد والمال العالمي، والحرب الشرسة والمخطّط لإزالة العملات النقدية، فهناك خطر ليس على مُدّخراتنا القديمة، المهدورة والمسروقة، لكن أيضاً على تلك الجديدة المختبئة، والتي يُمكن أن تزول صلاحيتها، إذا لم تُستثمَر أو من دون قطاع مصرفي جديد ومتين. فعلينا ملاحقة هذه التغيرات العميقة، واستثمار أي مدّخرات جديدة كأجدادنا بالذهب والمعادن والعقارات لحمايتها قبل فوات الأوان، وعبور القطار.
د. فؤاد زمكحل
مصدر الخطر الحقيقي إذا طالت مرحلة الانتظار
من خلال ما نَشهده في ملف انتخابات رئاسة الجمهورية، ومن خلال طريقة التعاطي مع الاتفاق الأولّي الذي عُقِد مع صندوق النقد الدولي، مُضافاً الى ذلك، حال العَجز السائدة على مستوى تشريع القوانين المطلوبة لتنظيم المرحلة، ومن ثم تحضير الأرضية لاتفاق نهائي مع صندوق النقد، يبدو أنّ فترة الانتظار ستكون طويلة، ولا بدّ من تنظيم القطاع العام، الى أن يحين موعد الحل الشامل.
بعد ما يُقارب الأربع سنوات من بداية أزمة الانهيار المالي والاقتصادي، تَظَهّرت بعض الحقائق التي أفرزتها هذه الأزمة المُهملة من قبل الدولة، بحيث ان الوضع اصبح على الشكل التالي:
اولاً – إستعاد جزء من القطاع الخاص حيويته، بحيث ان الحركة في بعض المؤسسات عادت الى ما كانت عليه قبل الأزمة. لكنّ ذلك لا يمنع وجود قطاعات لا تزال بعيدة عن استعادة حيويتها السابقة. وقد ساهمت عوامل عدة في هذا الوضع، منها أن مؤسسات كثيرة استفادت من تسديد ديونها الدولارية بالليرة او باللولار، الامر الذي ساهم في استعادة هذه المؤسسات حيويتها.
ثانياً – بدأت في اواخر العام 2022، امتداداً الى النصف الاول من العام 2023، حركة تأسيس شركات ومؤسسات جديدة، خصوصاً في قطاعات يكفي اقتصاد الـ20 % لتشغيلها، او لديها قدرة التصدير الى الاسواق الخارجية. وهذا يعني عودة الاستثمارات، رغم استمرار غياب القطاع المصرفي عن المشهد. وفي حال عادت المصارف الى تأدية دورها في اللإقراض، فإنّ هذه الحركة، على تَواضعها حتى الان، سوف تتضاعف بسرعة تماهياً مع متطلبات السوق.
ثالثاً – أصبح هناك وَفرة من الدولارات في التداول، لأسباب متعددة، من ضمنها ضَخ مصرف لبنان للدولارات عبر “صيرفة”، بالاضافة الى التحويلات من الخارج والتي بات القسم الاكبر منها يتم إنفاقه، بدلاً من ادّخاره، كما كان يجري قبل الأزمة. وبالاضافة الى عودة الحركة الى قسم من القطاع الخاص.
رابعاً – تأقلم قسم من المواطنين مع الوضع، وبات انفاق الدولارات “أسهل” نفسياً مما كان في الفترة الاولى من الانهيار. طبعاً، هذا لا يمنع ان قسماً كبيراً من اللبنانيين ليس قادراً على التأقلم لأنه لا يملك القدرة على ذلك، والموضوع ليس نفسياً هنا.
هذا المشهد بكل تفرعاته يُقابله مشهد آخر يتعلق بالقطاع العام، الذي ينهار تباعاً، وأصبع عاجزاً بنسبةٍ كبيرة عن تأدية دوره في المساهمة في دعم الحركة الاقتصادية التي تنمو حاليا، قبل الانتقال الى خطة التعافي الشاملة. هذا العجز على مستوى القطاع العام، بات يشمل المخاطر التالية:
اولاً – عرقلة نمو حركة القطاع الخاص.
ثانياً – اعاقة الشؤون الحياتية اليومية للمواطنين.
ثالثاً – المساهمة في تقليص حماسة لبنانيي الخارج للعودة الدائمة والدورية الى البلد، مقابل تغذية نزعة الهجرة لدى الموجودين في البلد.
رابعاً – تشكيل خطر حقيقي على المستقبل. وقد تجلّى ذلك في الاضرابات التي شهدها قطاع التعليم، بما حَرم الطلاب من قسم من البرامج المقررة. واستُكمل امس بإلغاء الشهادة المتوسطة. وقد نشهد المزيد من الالغاءات والأزمات في الايام المقبلة، بما يهدد أهم “ثروة” يملكها لبنان وهي مستوى التعليم الذي يؤدي الى تخريج كادرات بشرية مميزة في دول المنطقة.
هذه الحقائق ينبغي ان تشكّل جرس إنذار للدولة. وبما ان تصريف الاعمال قد يستمر لفترة غير قصيرة، لا بد من تشكيل لجنة وزارية مهمتها إنجاز دراسة سريعة ولكن دقيقة يتم فيها تحديد الدوائر الحكومية الحيوية لهذه المرحلة. والمقصود هنا الدوائر التي تنجز معاملات الناس والشركات، والدوائر التي تساهم في إدخال الايرادات الى خزينة الدولة. وبعد تحديد هذه الدوائر، ينبغي تنظيم العمل فيها سواء لجهة تحديد ايام عمل اسبوعية دائمة، او تأمين مداخيل كافية للموظفين للتمكّن من القيام بعملهم. ويمكن الاستعانة بموظفين من قطاعات عامة مختلفة لملء الشواغر في الدوائر التي سيجري تصنيفها على اساس انها حيوية وحساسة، وينبغي ان تعمل وتنتج مهما كانت الظروف.
هذا التدبير المؤقت ينبغي ان يتم اعتماده في اقرب وقت ممكن. أما الاصلاح الشامل الذي ينبغي ان يشمل القطاع العام، والذي شكّل في السابق ثقلاً كبيراً ساهمَ في غرق السفينة بسبب الفائض الفوضوي الناتج عن الزبائنية والتوظيف الانتخابي والعشائري والسياسي وقلة الانتاجية والرشاوى والفساد، فإنّ وَقته سيكون بالتماهي مع بدء تنفيذ خطة التعافي الشاملة بالتعاون مع صندوق النقد الدولي والدول المانحة والمجتمع الدولي.
يبقى انّ القوى الامنية والعسكرية في حاجة الى عناية خاصة، خصوصاً انها واصلت مهامها كالمعتاد، وكانت بمثابة اسثناء ايجابي ضمن القطاع العام.
كل هذه الاجراءات الفورية المطلوبة يمكن تنفيذها رغم الظروف الصعبة للخزينة، وستشكل نواة صلبة لتسهيل التعافي الشامل، يوم يعود الانتظام السياسي، ومن ثم الانتظام المالي والاقتصادي ضمن خطة الانقاذ الشاملة برعاية دولية. واذا تأخر الانقاذ الى مستويات غير متوقعة، فإنّ هذه الاجراءات ستكون محطة الانتظار الآمِن نسبياً، الى أن يأتي الفرج.
انطوان فرح