التعاون الاقتصادي المهم في المنطقة العربية

على هامش اجتماعات فعاليات «الملتقى الاقتصادي السعودي العراقي»، الذي انطلق يوم 25 مايو (أيار) 2023 بتنظيم من اتحاد الغرف السعودية والعراقية، ومشاركة أكثر من 300 شركة سعودية وعراقية وعدد من الجهات الحكومية والخاصة، يعد التعاون الاقتصادي بين السعودية والعراق محطة مهمة في العالم العربي، حيث إن السعودية أكبر اقتصاد عربي بناتج محلي إجمالي 833.5 مليار دولار بينما العراق بلغ 209.9 مليار دولار وفقا للتقرير الاقتصادي العربي الموحد 2022، فإن الملتقى فرصة لتعزيز العلاقات الاقتصادية، ورفع حجم الاستثمارات بين البلدين، حيث دعا مستثمرون سعوديون وعراقيون للإسراع بإطلاق أعمال «الشركة السعودية العراقية للاستثمار»، لتمويل مشروعات بقيمة 3 مليارات دولار، وتمكين الشركات العراقية من قروض صناديق التمويل السعودية، واتفقوا على ملامح خطة للتعاون تضمن تنمية التجارة والاستثمارات المشتركة.

ومن المهم الإشارة إلى نمو حجم التجارة البينية بين السعودية والعراق، حيث بلغ حجم التبادل التجاري 1.5 مليار دولار لعام 2022 بنسبة ارتفاع 50 في المائة مقارنةً بعام 2021، ما يعكس عمق واستدامة العلاقات الاقتصادية، وضرورة مواصلة تعزيز التبادل التجاري بين البلدين والاستفادة من افتتاح منفذ جديدة عرعر والإسراع بافتتاح منفذ جميمة الحدودي، على الرغم من الفرق في كفاءة البنية التحتية للبلدين.

يشار إلى دور النفط والغاز في رسم العلاقات الدولية ومستقبل المنطقة، ودور كل من السعودية والعراق الهام، إذ لا بد من أن نحدد العوامل أو المتغيرات التي تحدد أسعار النفط عالمياً. ومن ناحية أخرى يجب أن نشخص أكبر 10 دول تنتج النفط عالمياً، لأنها تلعب دوراً رئيسياً في رسم مستقبل العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية، وهي أميركا حيث تنتج تقريباً 16.49 مليون برميل، وروسيا 10.68 مليون برميل، والسعودية 10.66 مليون برميل، وكندا 5.4 مليون برميل، والصين 4.07 مليون برميل، ثم يليها كل من العراق والإمارات والبرازيل وإيران والكويت.

من ناحية أخرى تمثل دول الخليج العربي السعودية والإمارات والكويت بجانب العراق، اللاعب الأساسي في المنطقة العربية والشرق الأوسط في تحديد حجم ومستويات الإنتاج في العالم، وتمثل مركز الثقل الاستراتيجي من خلال دورها الفاعل في «أوبك بلس»، من خلال تحديد إنتاج وتصدير وأسعار النفط في العالم، ومن الضروري تعزيز الجهود الدولية من قبل السعودية والعراق.

ومن الجدير بالإشارة أن التعاون بين السعودية والعراق في النفط يتضمن دخول شركة «أرامكو» في تطوير أحد الحقول النفطية، الذي ينتج حالياً 60 مليون قدم مكعب من الغاز، لإنتاج ما يزيد على ‏400 مليون قدم مكعب من الغاز، ‏لتزويد الشبكة الوطنية بالغاز اللازم لتوليد الطاقة الكهربائية، إذ جرى إطلاق جولتين من التراخيص لاستثمار وتطوير عدد من الحقول الاستكشافية في المناطق الشرقية والغربية من العراق، حيث تتضمن هذه الرقع كميات كبيرة من الغاز، مع تطلع العراق إلى مشاركة الشركات السعودية لتطوير هذه الحقول، وإنتاج الغاز المطلوب لتوليد الطاقة الكهربائية، وسدّ الحاجة المحلية من هذا الغاز.

‏وتضمَّن الملتقى عدداً من الاتفاقيات التي تخص موضوعات الطاقة، كان على رأسها الاتفاق مع السعودية لتحويل كمية من الطاقة الكهربائية إلى العراق تصل إلى 1000 ميغاواط، وقيام الشركات السعودية بإنشاء محطات لتوليد الطاقة الكهربائية باستخدام الطاقة الشمسية في محافظة النجف، وهذه المحطة ستكون أكبر محطة في العراق باستخدام الطاقة الشمسية. كما جرى الاتفاق بين الطرفين على إنشاء بعض المدن الصناعية في الحدود المشتركة بين البلدين، وهو ما يسهم في تطوير الصناعة والتجارة لكلا البلدين.

وفي إطار الربط الكهربائي، عمل الفريق المشترك لتنفيذ مشروع الربط الكهربائي السعودي-العراقي، بقدرة 1000 ميغاواط، وفق مبادئ الاتفاق الموقعة بين الجانبين، مؤكدين حرصهما وتطلعهما إلى سرعة إنجاز إجراءات الطرح والترسية لتنفيذ المشروع، وعلى أهمية توفير المتطلبات اللازمة لتنفيذ مشروعات الطاقة المتجددة، بقدرة 1000 ميغاواط، واستمرار المشاورات واللقاءات لتنفيذ مشروع نبراس الشرق للبتروكيماويات.

وفي الختام، يشار إلى ضرورة استمرار التعاون في مجالات التجارة والاستثمار والنقل والخدمات اللوجستية بين البلدين، وتسهيل حركة المنافذ البرية والجوية والبحرية وإجراءات السفر ونقل البضائع، واستئناف الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين، وتكثيف التعاون وتبادل وجهات النظر بخصوص المسائل والقضايا التي تهم البلدين على الساحتين الإقليمية والدولية، بما يسهم في دعم وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.

 

د. ثامر محمود العاني

التحويلات المالية وأهميتها في كل المراحل

تؤدي التحويلات المالية دورًا حيويًا في الاقتصادات العالمية. ويشير مصطلح «التحويلات المالية» إلى الأموال التي يرسلها الأفراد المغتربون أو العاملون في الخارج إلى بلدانهم الأصلية. ويعتبر لبنان واحداً من البلدان التي تعتمد بشكل كبير على هذه التحويلات، وذلك بسبب العديد من العوامل التي تؤثر في اقتصاده، ومنها الصراعات الداخلية والأزمة المالية التي يعانيها البلد.

تُعتبر التحويلات المالية مصدراً مهماً للعملة الأجنبية في الاقتصاد اللبناني. فعندما يقوم اللبنانيون المغتربون بإرسال الأموال إلى أهلهم في لبنان، فإنّها تعزّز مخزون العملة الأجنبية في المصارف المحلية. وبدورها، تؤدي زيادة مخزون العملة الأجنبية إلى تحسين قيمة العملة المحلية وتعزيز سعر صرفها مقابل العملات الأجنبية، وهنا يأتي دور البنوك المركزية في ضبط سعر الصرف لضمان استقرار الاقتصاد.

وتعزّز التحويلات المالية أيضاً الاستهلاك والإنفاق في الاقتصاد اللبناني، حيث يعتبر استقبال العملة الصعبة نتيجة لتلك التحويلات دعماً مالياً للأسَر والأفراد في لبنان، ويساهم ذلك في زيادة القوة الشرائية للمستهلكين المحليين. وبالتالي، يتزايد الطلب على السلع والخدمات المحلية، ما يؤدي إلى تحسين الأعمال التجارية المحلية وتعزيز النمو الاقتصادي.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تساهم التحويلات المالية في تعزيز الاستثمار في الاقتصاد اللبناني. فعندما يستقبل البنك المحلي العملة الصعبة من التحويلات، تُتاح له إمكانية توجيه هذه الأموال نحو الاستثمارات المحلية. ويمكن استخدام هذه الأموال لدعم الشركات المحلية وتوسيع نطاق أعمالها، وبناء مشاريع البنية التحتية، وتطوير قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة. ومن خلال زيادة الاستثمارات، يتمّ تعزيز فرص العمل وتحسين الأوضاع المالية للأفراد والأسر.

الجدير بالذكر أن التحويلات المالية تساعد أيضاً في تخفيف الأعباء المالية على الأسَر والأفراد في لبنان، إذ يعتمد الكثيرون منها على هذه التحويلات كمصدر رئيسي للدخل. وبفضل هذه الأموال، يمكن للأسر تلبية احتياجاتها الأساسية مثل المعيشة والتعليم والرعاية الصحية، ما يُخفّف الضغط المالي عن الحكومة ويقلل من حاجتها لتوفير المزيد من الخدمات الاجتماعية.

وعلى الرغم من أن التحويلات المالية تعتبر موردا هاما للاقتصاد اللبناني، إلا أنه يجب أن ندرك أنها ليست الحل الوحيد لمشاكل الاقتصاد. يجب على الحكومة اللبنانية أن تبني سياسات اقتصادية شاملة وإصلاحات هيكلية لمعالجة التحديات الهيكلية التي يواجهها البلد، مثل الفساد والبطالة وعجز الموازنة. إن تعزيز المناخ الاستثماري وتشجيع الابتكار وتنمية القطاعات الاقتصادية المختلفة يلعبان أيضاً دوراً هاماً في تحسين الوضع الاقتصادي في لبنان.

باختصار، توضح أهمية تدفّق التحويلات المالية على سعر الصرف وكيف يمكن أن تساهم في تعزيز الاقتصاد اللبناني. إن استقبال الأموال من التحويلات يحسّن مخزون العملة الأجنبية، ويدعم الاستهلاك والإنفاق المحلي، ويعزز الاستثمارات ويخفف الأعباء المالية. ومع تبنّي سياسات اقتصادية شاملة، يمكن أن تؤدي هذه التحويلات دورا مهما في تعزيز النمو الاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة في لبنان.

وعليه، كيف يمكن أن يحسّن تدفّق العملة إلى لبنان مستوى المعيشة؟

إن العملة القوية والتدفق السليم لها إلى أي اقتصاد هما مفتاحان لتحسين مستوى المعيشة. وبالنسبة للبنان، الذي يعاني أزمة اقتصادية ومالية خانقة، فإنّ تدفق العملة إلى البلاد يمكن أن يكون عاملاً حاسماً لتحقيق التنمية وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين. ولكن، كيف يمكن أن يحدث ذلك؟

أولاً، يؤدي تدفق العملة القوية إلى تحسين القدرة الشرائية للأفراد في لبنان. عندما تكون لدى المواطنين القدرة على شراء السلع والخدمات التي يحتاجونها، يرتفع مستوى راحتهم وحياتهم اليومية. وهذا يعني توفر الغذاء والإسكان والرعاية الصحية والتعليم وغيرها من الاحتياجات الأساسية التي تؤثر بشكل كبير في جودة الحياة.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدّي تدفّق العملة الى تحسين البنية التحتية في لبنان. ويمكن استخدام الأموال المستلمة لتمويل مشاريع البنية التحتية مثل بناء الطرق والجسور وتطوير شبكات النقل والمياه والكهرباء. هذه المشاريع تعزز البنية التحتية وتُسهم في تحسين الحياة اليومية للمواطنين، فضلاً عن دعم قطاع البناء وخلق فرص عمل جديدة.

من الناحية الاقتصادية، يمكن أن يعزّز تدفق العملة الواردة، استثمارات لبنان. فعندما يكون هناك استقرار في الاقتصاد وتدفق العملة، يصبح لبنان وجهة جذابة للمستثمرين المحليين والأجانب. ويمكن أن تترجم هذه الاستثمارات بتوسيع الشركات المحلية، وخلق فرص عمل جديدة، وتحفيز الابتكار وتطوير الصناعات المحلية. كل هذا يُسهِم في تحسين الاقتصاد وزيادة فرص العمل وتعزيز المستوى المعيشي.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي تدفق العملة إلى تحسين قدرة البنوك والمؤسسات المالية على تقديم الخدمات المالية للمواطنين. إذا كانت البنوك مزوّدة بمخزون قوي من العملة الأجنبية، فإنها يمكن أن تعزّز قدرتها على توفير القروض والتمويل للأفراد والشركات. كما يعزّز ذلك النشاط الاقتصادي ويفتح آفاقًا جديدة للأعمال والاستثمارات والابتكار.

في الختام، يتّضِح أن تدفق العملة إلى لبنان يمكن أن يحسّن مستوى المعيشة بطرق عديدة. ويساهم في تحسين القدرة الشرائية للمواطنين، وتعزيز البنية التحتية، ودعم الاستثمارات، وتحسين الخدمات المالية. ولتحقيق هذه الفوائد، يجب أن يعمل القطاع الحكومي والقطاع الخاص على توفير بيئة استثمارية مستدامة وتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد. إن العمل المشترك والتزام جميع الأطراف سيساهمان في تحقيق التنمية المستدامة وتحسين مستوى المعيشة في لبنان.

 

بروفسور غريتا صعب

الإقتصاد الموازي يُعادل نصف قيمة الناتج المحلي

 

يتساءل الجميع، كيف يعمل ويدور الإقتصاد اللبناني، في ظل أكبر أزمة اقتصادية، اجتماعية، مالية ونقدية في تاريخ العالم مُتواصلة من دون حدود منذ نحو أربع سنوات. من أين تأتي الكتلة النقدية، والعملة الورقية بالدولار الأميركي، وبقية السيولة الأجنبية؟ وكيف يُمكن أن نحصي حجم الإقتصاد الموازي أو الأسود، مقارنةً بالناتج المحلي الرسمي.

بكل موضوعية وشفافية وواقعية، سنركز في دراستنا على بعض الأرقام التي تردُنا من الجهات المسؤولة الإقليمية والدولية. من الواضح أنّ حجم الإستيراد إلى لبنان، بحسب البيانات الرسمية والجمركية، تخطى الـ 17 مليار دولار سنوياً، هذا ما عدا البضائع المهرّبة وغير المعلنة، التي تمرُّ كالأشباح. أما الناتج المحلي لسنة 2022، بحسب مرصد البنك الدولي، فلن يتخطى الـ 20-22 ملياراً.

إضافة إلى ذلك، إن التحويلات الخارجية إلى لبنان، بحسب المصادر المالية الرسمية، وصلت إلى نحو 6.8 مليارات أو 7 مليارات دولار، في الحد الأقصى في العام 2022. وهذا رقم إيجابي بأن التحويلات الخارجية كما كانت قبل الأزمة، وهي تشكل المحرك الأساسي للإقتصاد اللبناني.

فالسؤال الذي يطرح نفسه بكل منطق، هو كيف يُموَّل الـ 17 ملياراً استيراداً، فيما انه ليس في حوزتنا لا أكثر من 7 مليارات دولار للتمويل، إذا إستُعملت كل السيولة فقط للإستيراد؟! هذا يعني أن هناك فجوة كبيرة في الإقتصاد تبلغ نحو 10 مليارات دولار من تحويلات غير معلنة، لتمويل الإقتصاد الموازي والذي يبلغ حجمه نصف الإقتصاد المعلن الذي لا يتعدّى الناتج المحلي 20-22 ملياراً تقريباً. ما يعني أنّ الفجوة الـ 10 مليارات دولار تُموّل عبر الحقائب، والتحويلات غير المعلنة، وعبر تبييض الأموال، التهريب والترويج، ولا يمكن إحصاؤه لأننا تحوّلنا من الإقتصاد المراقب إلى الإقتصاد الكاش الذي هو أخطر اقتصاد لأي بلد في العالم.

أُذكّر دولياً، أن كل المصارف المركزية بدأت تتّجه وتحوّل كل عملاتها وسيولتها النقدية إلى العملات الإلكترونية e-currencie، بهدفٍ مُعلن، هو زيادة الرقابة ومحاربة تبييض الأموال، والفساد وغيرها.

أما لبنان، فيسير مرة أخرى، بعكس القطار الدولي، حيث كل بلدان العالم تتّجه وتتحوّل إلى الإقتصاد الرقمي والإلكتروني، فيما نتراجع عقوداً إلى الوراء، وعُدنا إلى الإقتصاد الكاش والورقي غير المُراقَب الذي يُهرّب المستثمرين، ويجذب المبيّضين، وسيقودنا إلى العقوبات والضغوطات الدولية أكثر فأكثر.

في هذا السياق، نُحذّر حيال صَبر المنظمات الدولية على لبنان نحو أربع سنوات، ولكن هناك حدود لصبرهم، ويُمكن في أي وقت، أن يقوم النظام المصرفي الدولي بمنع المصارف المراسلة من العمل مع لبنان، أو تُفرض عقوبات على الإقتصاد اللبناني، وبدأنا نسير على هذه الخطى عندما كدنا نُدرج من جديد على القائمة الرمادية، فيما مُنحنا فترة سماح لمدة سنة أخيرة، من أجل إعادة توجيه البوصلة. فإنّ فجوة الـ 10 مليارات دولار هي تقريباً حجم الإقتصاد غير المعلن والأسود، والذي لا يخضع لأي رقابة، ونظام وانضباط، وغير معروف مصدره أو تمويله، أو بالأحرى الكل يعلم مصدره المخيف والخطر للبلاد وأبنائها.

في المحصّلة، إن المخاطر على لبنان واللبنانيين تتزايد يوماً بعد يوم، بعد أن سُرقت وهُدرت مدّخراتهم وجنى عمرهم. إن المخاطر تلحقهم اليوم، لدولاراتهم الفريش، التي إستطاعوا تكوينها وتخبئتها تحت الوسادة. فهناك مخاطر من أنه حتى هذا القرش الأبيض لن نستطيع استعماله ليومنا الأسود، لأنّ الإقتصاد الأسود يتزايد يوماً بعد يوم، وقد أصبحنا تحت المجهر أمام كل السلطات العالمية، ووكالات التصنيف والمراقبة الدولية. فالعالم اليوم يُحوّل عملاته الورقية إلى العملات الإلكترونية، لأنها أكثر انضباطاً ومراقبة وشفافية، فيما نحن في لبنان فقد تحوّلنا إلى اقتصاد الكاش المَبني على العملات الورقية، لزيادة التبيض والترويج والفساد.

د. فؤاد زمكحل

توطين التنمية في عالم شديد التغير (2)

تجاوز العالم نصف المسافة المحددة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي تم الاتفاق عليها في عام 2015 في قمة خاصة في الأمم المتحدة على أن يتم الانتهاء منها في عام 2030. وفي تقرير أممي صدر مؤخراً عن الوضع العالمي لما تم إنجازه من الأهداف السبعة عشر للتنمية التي تتفرع إلى 169 هدفاً تفصيلياً تشمل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية، فضلاً عن التصدي لتغيرات المناخ، اتضح أن الأهداف التي يمكن تقييمها بلغت 140 هدفاً، كان منها 12 في المائة فقط على المسار السليم لتحقيقها في عام 2030، وأن أكثر من 50 في المائة من أهداف التنمية منحرفة عن جادة المسار، بينما تراجع الأداء عما كان عليه الوضع عند نقطة البداية في عام 2015 في أكثر من 30 في المائة من هذه الأهداف بما في ذلك تلك المعنية بمواجهة الفقر والجوع.

دفعت هذه النتائج المفجعة الأمين العام للأمم المتحدة إلى توجيه نداء لسرعة تحفيز التمويل الموجه للتنمية بأن تخفض أعباء الديون الخارجية التي باتت تشكل عبئاً يلتهم حصيلة صادرات الدول النامية وتتجاوز فيها خدمة الديون من أقساط وفوائد ما ينفق على التعليم والرعاية الصحية وخدمات أساسية للمواطنين. إذ ارتفعت نسبة الديون الخارجية للدول النامية من 71 في المائة من إجمالي صادراتها في عام 2010 لما يتجاوز 110 في المائة في عام 2022. ومع ارتفاع نسبة الديون الخارجية من مقرضي القطاع الخاص إلى 62 في المائة مقابل 24 في المائة من المؤسسات الدولية و14 في المائة من القروض الثنائية بين الدول، ازدادت نسبة الفائدة المدفوعة لتبلغ في المتوسط 12 في المائة في أفريقيا مقارنة بنحو 1.5 في المائة تدفعها ألمانيا قبل الزيادات الأخيرة.

لا غرو إذن أن البلدان النامية إلا قليلاً أمست في مواجهة أزمات وكوارث لديونها الخارجية، وأن نصف البلدان النامية أصبحت مطالبة بتخصيص ما لا يقل عن 7.4 في المائة من صادراتها لخدمة الديون، وأن منها ما هو مطالب اليوم بدفع مضاعفات هذا الرقم.

ومن عجب أن ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية طالبها المجتمع الدولي بما لا يتجاوز 5 في المائة من صادراتها لسداد ديون الحرب؛ حتى لا تتعثر جهودها في إعادة البناء وفقاً لاتفاقية لندن المبرمة في عام 1953. ولا نعلم أي حرب شنّتها البلدان النامية حتى تكبل بأصفاد الديون الخارجية التي انتهى بعضها في كثير من الحالات إلى سداد ديون سابقة، والبعض الآخر تسأل عنه تدفقات مالية غير مشروعة إلى ملاذات آمنة خارج البلدان النامية، وما تبقى وجه لمشروعات بعضها بعوائد اقتصادية وأخرى بلا عائد اقتصادي أو اجتماعي يذكر؛ ولا نغفل أن من هذه المشروعات بمكون استيرادي مرتفع تستفيد منه أيضاً بلدان دائنة. فمن أين سيأتي السداد إذن إلا خصماً من الاستثمار الموجه للتنمية وعلى حساب الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية، ومن فرض أعباء تنوء بها كواهل المواطنين والقطاع الخاص العامل في البلدان النامية. فلا سبيل لتنمية تذكر إلا بتمويل ضخم ليس منه حتماً هذا النوع من الديون الذي جلب شراً أكبر من أي نفع، ولو زُينت الأرقام بحيل أكروباتية لتجمل واقعاً لبلدان في الجنوب أمست فيه أقرب للتخلف منها إلى التنمية.

ويذكر أن مشروع الإعلان، الذي سيعرض على قمة التنمية المستدامة التي ستعقد في إطار الجمعية العامة في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل يتضمن مطالبة عاجلة بزيادة تمويل التنمية إلى 500 مليار دولار سنوياً مع مطالبة بتدعيم صناديق مواجهة الطوارئ. تزامن مع هذه المطالبات لمنع جهود التنمية من الانزلاق إلى هوة الفشل دعوة ملحة لإصلاح (النظام) المالي العالمي، الذي من قبيل المبالغة أن نطلق على الترتيبات المتناثرة المعمول بها في المعاملات الدولية وصف نظام أصلاً.

ولكن هذه المطالب، المنتظر عرضها في اجتماعات جمعية الأمم المتحدة القادمة ما زالت تواجَه برفض وتحفظات من دول متقدمة على النحو الذي لخصه الكاتب الصحافي كولوم لينش في مقال صدر في مطلع هذا الشهر دورية «ديفيكس» المتخصصة في شؤون التنمية الدولية. ويبدو أن ممثلين لدول متقدمة ما زلوا منشغلين برغبات قديمة في الإبقاء على الحدود البيروقراطية الفاصلة بين مؤسسات التمويل والمنظمات الدولية مع الإبقاء على ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية لضمان استمرار الهيمنة والسيطرة على حوكمتها ومقدراتها وأولياتها. ولكن مثل هذا التعنت قد يكون من معجلات التغيير في نظام دولي هرم لم يعد ملائماً لتوازنات القوى الجديدة.

وتأتي هذه المطالب بزيادة التمويل المدعومة من البلدان النامية، خاصة مع التراجع النسبي في المساعدات الإنمائية وركود التمويل المقدم من بنوك التنمية الدولية عند أرقام متواضعة مقارنة بفجوة التمويل. فرغم زيادة محدودة في التمويل المقدم من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن هذه الزيادة وُجّهت لمواجهة تبعات الحرب في أوكرانيا في مساعدات إنسانية وغوث اللاجئين إلى غير ذلك. كما أن رؤوس الأموال المدفوعة لبنوك التنمية الدولية لم تواكب زيادة حجم الاقتصاد العالمي والنواتج المحلية للبلدان النامية فصار القادم منها لتمويل التنمية هزيلاً، خاصة فيما يتعلق بالبلدان متوسطة الدخل التي أصبحت أسقف التمويل المتاحة لها منخفضة وبشروط تمويل غير محبذة من حيث التكلفة وعمولات الارتباط وفترات السماح ومدد السداد.

وتأتي هذه المطالب أيضاً وفقاً لوثيقة تمويل التنمية المتفق عليها في أديس أبابا في عام 2015 التي تعهدت البلدان المتقدمة أثناء مناقشتها بمساندة تحقيق أهداف التنمية المستدامة وهو ما لم يتم، ووعدت المؤسسات المالية الدولية بزيادة قدراتها التمويلية وهو ما لم يحدث؛ واستخدام أسلوب الرافعة وتخفيف المخاطر وتقديم الضمانات لدفع الاستثمارات الخاصة للمشروعات التنمية وهو ما لم يتحقق منه إلا النذر اليسير.

د. محمود محيي الدين