التحقيقات الأوروبية والحوافز الصينية

أطلق الاتحاد الأوروبي تحقيقاً حول الحوافز التي تقدمها الحكومة الصينية لمصانع السيارات الكهربائية، ويدّعي الاتحاد الأوروبي أن الصين «تشوّه» السوق بممارسات غير عادلة، أدّت إلى إضعاف المنافسة بين المصنّعين الصينيين وقرنائهم الأوروبيين. وصرحت رئيسة المفوّضية الأوروبية بأن الأسواق العالمية مغمورة بالسيارات الكهربائية الصينية الأرخص ثمناً. فلماذا يفتح الأوروبيون هذا التحقيق وهم أول من يسعى إلى نشر السيارات الكهربائية ضمن خططهم المناخية؟

خطّط الأوروبيون لهذا التحقيق منذ فترة طويلة، وقد يكون هذا التحقيق من أكبر التحقيقات التجارية بحكم حجم السوق المرتبطة به. ويهدف هذا التحقيق إلى أهداف، منها كسب ورقة ضغط على الحكومة الصينية لفتح أسواقها أمام الشركات الأوروبية؛ لا سيما أن العجز التجاري بينهما وصل إلى مستوى تاريخي بنحو 369 مليار يورو! كما أن مصنّعي السيارات الأوروبيين أبدوا تذمّرهم من غزو السيارات الكهربائية الصينية للأسواق الأوروبية.

وقد ارتفعت الحصة السوقية للسيارات الصينية (الكهربائية وغيرها) في الأسواق الأوروبية من أقل من 1 في المائة عام 2021 إلى نحو 2.8 هذا العام. أما السيارات الكهربائية الصينية فقد استحوذت على 8 في المائة من السوق الأوروبية، ويبدو أن هذه النسبة في ازدياد مستمر، مدفوعة بالتشريعات الأوروبية التي تضغط على السيارات التقليدية وتشجع على مثيلاتها الكهربائية.

والأوروبيون تعلموا من الدرس السابق في الألواح الشمسية المنتجة للطاقة المتجددة؛ حيث تمكّنت الصين من الهيمنة على هذه السوق، وإخراج كثير من الشركات الأوروبية خارج السوق بفضل أسعارها المنخفضة. وفي عام 2012 خصصت الحكومة الصينية حوافز ضخمة لمصانع الألواح الشمسية، حينها فرض الاتحاد الأوروبي رسوماً جمركية على هذه السلع، إلا أنه تراجع عنها في عام 2018، محاولاً زيادة مساهمة الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة الأوروبي. ولكن ذلك جاء بنتائج مخيفة، فالشركات الأوروبية المصنّعة للألواح الشمسية في موقف حرج جداً اليوم بسبب هذا القرار. فقد أرسلت جمعيّة مصنّعي الألواح الشمسية رسالة إلى الاتحاد الأوروبي، دعت فيها إلى دعمها بنحو 100 مليون يورو خلال الأسابيع القليلة القادمة، إضافة إلى المطالبة بإنشاء بنك لتصنيع الألواح الشمسية بميزانية لا تقل عن 6 مليارات يورو، وإلا فإن كثيراً من الشركات ستعلن إفلاسها في المستقبل القريب. وقد أعلنت شركة نرويجية إفلاسها بالفعل منذ فترة، وعلّقت أخرى إنتاجها إلى نهاية العام، بسبب شراسة المنافسة في هذه الصناعة.

وتتمتع المصانع الصينية بميزات عديدة، منها انخفاض أسعار الطاقة المستخدمة في مصانعها، وانخفاض أسعار اليد العاملة، والتسهيلات التشريعية التي تقدمها الحكومة الصينية. كل ذلك أدى إلى أن تكون تكلفة التصنيع فيها أقل بكثير من مثيلاتها الأوروبية، كما أن الصين لم تعانِ من التضخم كما حصل في أوروبا. نتيجة ذلك كله أن أصبحت تكلفة تصنيع الألواح الشمسية في أوروبا ضِعف أسعار (وليس تكاليف) الألواح الصينية. هذا الفارق الشاسع أنهى المنافسة بين الشركات الصينية والأوروبية، وجعل المنتجات الأوروبية تبقى في المخازن دون مشترٍ. وأصبحت اليوم الألواح الشمسية الصينية تشكل نحو 75 في المائة من إجمالي الألواح في أوروبا، ولو استمرت الحال كما هي الآن فقد تزيد هذه النسبة.والأوروبيون يحاولون كذلك إطلاق تحقيق مشابه يختص بمكوّنات طاقة توربينات الرياح، والتي تتميز بها الصين كذلك. والهدف هنا واضح جداً، أن أوروبا لا تريد استبدال منتجات الطاقة المتجددة الصينية بالغاز الروسي. ولكن الأوروبيين يخشون من ردة الفعل الانتقامية للصينيين في حال اتخذوا هذا الإجراء، لا سيما أن الصينيين للتو حظروا تصدير المواد الخام لإنتاج الرقائق الإلكترونية لأوروبا، بعد ما اتبعت أوروبا حذو الولايات المتحدة بمنع صادرات الرقائق المتقدمة للصين.

إن أوروبا بالفعل تحذو الآن حذو الولايات المتحدة في سياسة الحماية الاقتصادية التي بدأها الرئيس السابق (ترمب) وامتعض منها بعض الأوروبيين حينها. وقد سبق للغرب محاربة سياسة الإغراق الصينية سابقاً في سلع مثل الحديد والصلب، ولكنهم الآن يحاربونهم في منتجات هم في أمسّ الحاجة إليها بحكم سياساتهم المناخية، وحاجاتهم الاستراتيجية للاستغناء عن الغاز الروسي. في المقابل فإن الصين حتى مع استنكارها سياسات الحماية الاقتصادية، اتفقت مع الأوروبيين لإيجاد (آلية شفافة) لحل هذه المشكلة وتخفيف حدة التوتر بين الطرفين. ويبدو أن الطرفين يريدان على الأقل تأجيل هذه المشكلة حتى لا تتفاقم، وحتى يتوصلا إلى حل يحافظ على ما يريده الأوروبيون، وهو السيادة الصناعية لقطاع السيارات الكهربائية، وما يريده الصينيون، وهو استمرار التوسع في هذا المجال خارج الأسواق الأوروبية.

د. عبد الله الردادي

طوفان… والشعرة التي قد تقصم ظهر البعير

أيّ كلامٍ في الاقتصاد في مرحلة الانتظار التي تفصلنا عن معرفة اذا ما كان «طوفان الأقصى» سيصل الى لبنان، هو بمثابة مجازفة بالنظر الى حساسية الوضع، وسهولة سوق الاتهامات في حق من يُذكّر بالوقائع. ومع ذلك، لا بدّ من التذكير والتحذير وتقدير ما قد يحدث لاحقاً.

رغم مرور حوالى 17 عاما على حرب تموز 2006، لا يزال هناك غموض في تقدير دقيق للخسائر الاقتصادية التي أصابت البلد، خصوصا ان احصاء الخسائر في حالات مماثلة لا يمكن ان يتم اختصاره بالخسائر المباشرة، بل ينبغي احتساب الخسائر غير المرئية المتعلقة بالاعاقة الدائمة التي قد تكون أصابت البلد، لجهة النظرة الى مستقبله، وما يعنيه ذلك على مستوى جذب الاستثمارات، أو هجرة المواطنين، او رسم مخططات خارج البلد للأجيال المقبلة.

وقبل الخوض في التذكير بالاضرار والخسائر، لا بد من استعادة حقائق رقمية لا نقاش فيها. اذ عندما اندلعت حرب تموز 2006، كان حجم الموازنة العامة حوالى 10 مليارات دولار، في حين ان تقديرات الانفاق اقتربت من 12 مليار دولار (استناداً الى ارقام موازنة 2005، وهي آخر موازنة أُقِرّت حتى العام 2017). وفي الانتقال الى العام 2017 وصل حجم الانفاق الحكومي المقدّر في الحكومة الى حوالى 15 مليار دولار. وفي العام 2019، السنة الأخيرة قبل الانهيار وصل حجم الانفاق الحكومي في الموازنة الى حوالى 21 مليار دولار. ووصل حجم الناتج المحلي الى ما يُقارِب 51 مليار دولار.

اليوم، هناك مشروعٌ «طموح» للحكومة تريد من خلاله اقرار موازنة تستطيع من خلالها انفاق اقل من 4 مليارات دولار، وتقدّر ايراداتها السنوية بأقل من 3 مليارات دولار. وهو مشروع قد لا يمر كما هو، وبالتالي فإنّ حجم الايرادات والانفاق سيتم خفضهما من قبل المجلس النيابي، لتخفيف حجم الضرائب الاضافية عن كاهل اللبنانيين المَسحوقين اقتصادياً في غالبيتهم (حوالى 90% من المواطنين يعانون ضيقة معيشية). وقد انخفض الناتج المحلي من 51 مليار دولار قبل الانهيار الى 18 مليار دولار حالياً.

ولا حاجة الى التذكير بالمساعدات التي تلقاها لبنان بعد حرب 2006 لكي يقف على رجليه مجدداً، ويعيد إعمار ما تهدّم، وقد يكون من المفيد نقل ما ورد في كتاب «أطلس لبنان» (Atlas du Liban)، وهو ثمرة تعاون فرنسي- لبناني. وقد جاء في احد نصوص هذا الكتاب في شأن المساعدات التي حصل عليها لبنان بعد الحرب ما يلي: «لقد تضاعفت المساعدات الدولية لإعادة الإعمار في أواخر كانون الثاني 2007، خلال المؤتمر الذي أطلق عليه إسم مؤتمر باريس الثالث، وذلك من خلال دعم إضافي لسياسة الإصلاحات التي أعلنتها الحكومة اللبنانية، وبلغت ما مجموعه 7,6 مليارات دولار. ونجد من بين المساهمين الرئيسيين المملكة العربية السعودية وفرنسا والولايات المتحدة… وكان يجب أن تسمح هذه المبالغ الكبيرة للبنان بتسديد ديونه على المدى القصير والبدء بالإصلاحات الهيكلية التي كانت تطالب بها هذه الجهات المانحة. كانت هذه المظاهر المختلفة من التضامن الدولي من أجل لبنان استثنائية؛ ولا بد من الإشارة إلى حجم المبالغ التي تم جمعها، بعد سنوات قليلة جداً من مؤتمر باريس الثاني الذي وُعد فيه لبنان بمساعدة تبلغ 4,5 مليارات دولار، صُرف منها بالفعل حوالى 2 مليار. وتشهد هذه المساعدات بوضوح أن هذه القوى المختلفة تعتبر لبنان عنصراً في استراتيجياتها الإقليمية. وهناك فقط حوالى 10 % من هذه الأموال على شكل منح، مخصصة للحالات المالية الطارئة وللمساعدة المالية المباشرة لإعادة الإعمار».

هنا ينتهي الاقتباس، ولا بد من التذكير بأن مساعدات مالية كبيرة وصلت في الفصل الاخير من العام 2006، وساهمت كلها في اعادة اعمار جزء كبير من الدمار الذي أحدثته الحرب.

السؤال الوحيد الذي ينبغي أن يكون مطروحاً اليوم هو: ما هو حجم الاضرار الاقتصادية التي قد تحلّق بلبنان اذا وصل «الطوفان» الى اراضيه عبر بوابة الجنوب؟ ما هي مقومات الصمود والبقاء التي يتمتّع بها اللبنانيون العاديون في مواجهة وضع مماثِل؟ ما هو حجم التضامن والمساعدات التي قد يحظى بها البلد بعد انتهاء الحرب في حال وصلت إلينا؟

الاجوبة عن هذه الاسئلة تسهّل مهمة تقدير ما ينتظر اللبنانيون اذا ما وصلت نيران الحرب الى بلادهم. وفي الامثال اللبنانية الرائجة مقولة «الشعرة التي قصمت ظهر البعير»، وهي مقولة تهدف الى الدلالة على ان التراكمات تصل الى مرحلة يصبح فيها اضافة ضغط بسيط (شعرة) كافياً لإحداث كارثة، فما بالك اذا أضفنا الى تراكماتنا «الطوفان»؟

أنطوان فرح