قبل 53 سنة، نشر عالم الاقتصاد الحاصل على جائزة «نوبل»، ميلتون فريدمان، مقالاً في جريدة «نيويورك تايمز» يهاجم فيه فكرة المسؤولية الاجتماعية للشركات، مدافعاً عن قناعته بأن المسؤولية الاجتماعية الوحيدة لها هي تعظيم الأرباح للمساهمين.
فريدمان معروف بإيمانه الشديد بالرأسمالية، ومن هنا كان هذا المقال دفاعاً عن الرأسمالية التي عدّ فريدمان أن فكرة المسؤولية الاجتماعية هي محاولة لتحويلها إلى نظام أشبه بالاشتراكية.
كلام فريدمان في ذاك الوقت قد يكون مقبولاً لدى العديد من المفكرين وقادة الأعمال، ولكنه اليوم قد يُنظر له على أنه دعوة للجشع والأنانية التي عُرفت بها الرأسمالية الغربية. وفي أميركا اليوم من الصعب أن يصدر أحد ليقول هذا الكلام.
ولو أراد فريدمان نشر كلامه اليوم في نفس الصحيفة (نيويورك تايمز) لتعرض لسيل من الانتقادات من جيل الألفية الذين يريدون أن يجعلوا الشركات تبحث عن القيمة والهدف وليس الربح.
في الحقيقة، أنا مع فريدمان في طرحه، وقد يزعج كلامي هذا العديد من الذين يتبنون المسؤولية الاجتماعية كمنهج أو كوظيفة.
المسؤولية الاجتماعية الوحيدة التي أومن بها هي توفير (بطريقة مباشرة أو غير مباشرة) وظائف لأبناء المجتمع وتوظيفهم، بغض النظر عن الدين والطائفة والعرق والجنس والجنسية التي ينتمون لها.
أما برامج إطعام الفقراء وتوزيع سلات غذائية على المحتاجين، وأخذ أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة في رحلات… فكل هذه الأمور مجرد صور نفاق اجتماعي، وليس دور الشركات، بل هو دور المجموعات الاجتماعية والجهات الحكومية.
فريدمان كان على حق عندما قال إن برامج المسؤولية الاجتماعية تأخذ أموالاً من أرباح المساهمين بلا وجه حق وتوزعها بالنيابة عنهم.
إحدى النقاط المهمة في مقال فريدمان هي أنه في الوقت الذي يدفع فيه المساهمون والشركات ضرائب للحكومة لكي تقوم برعاية أكثر الفئات احتياجاً، يتم اقتصاص أموال إضافية منهم من دون موافقة ورغبة لتحسين صورة الشركة، وبالتالي تكون الشركة قد أضافت ضريبة جديدة لهم.
حتى لو أردنا النظر إلى مفهوم العمل الاجتماعي للشركات في ظل النظام الإسلامي، فسنجده قريباً مما دعا إليه فريدمان؛ إذ إن الزكاة هي طهارة للمال وللأثرياء (المساهمين في هذه الحالة) تذهب إلى الفقراء. وهنا ليس المسؤول عن جبايتها وتوزيعها الشركات، بل الدولة.
نقطة أخرى في صميم هذا الموضوع، وهي أن أي مشروع حتى يكون مستداماً، يجب أن يكون ربحياً. ولنأخذ مثالاً على هذا من واقعنا؛ إذ تقوم بعض الشركات ببناء مراكز صحية لأمراض معينة، وبعض الأثرياء يبنونها من باب الصدقة الجارية. إدارة هذه المراكز عمل يتطلب خبرة، ويجب أن تكون هناك غاية تجارية منها حتى تستطيع مواصلة عملها لسنوات.
ما عدا ذلك فمن الأفضل أن تتبرع هذه الشركات بالمال للدولة لبناء هذه المراكز، وتدع الدولة تقوم بعملها بعد ذلك.
ما يجري في العالم اليوم هو منافٍ لكل الفكر الاقتصادي السليم، ولهذا نجد شركة تنتج ملابس مستدامة وصديقة للبيئة، ولكن في الحقيقة هذه الملابس قبيحة شكلاً وقماشاً ومضموناً. ولهذا تعتمد هذه الشركات على دعم المشترين لها لا على جودة منتجاتها وقدرتها على التنافس في سوق حرة مفتوحة.
لا يوجد شيء اسمه مشروع تجاري إنساني، ولكن يمكن أنسنة بعض الأعمال من خلال إضافة لمسات إنسانية لها.
وفي العالم اليوم حركة لتحويل اقتصاد المساهمين إلى اقتصاد أصحاب المصلحة، وهنا نتحدث عن أن الشركة يجب أن تترك تفكيرها في تعظيم الربح للمساهمين وتركز على إرضاء الموظفين والزبائن والمجتمع والموردين.
هؤلاء بطبيعة الحال يتم حسابهم في النظام التجاري للشركة، فالشركة الناجحة هي التي تضع أنظمة وتعطي حوافز للحفاظ على الزبائن والموظفين والموردين، ما عدا ذلك فسيتجهون لغيرها.
وفي عصر اتسمت فيه الشركات بالنفاق في الأغلب، وأصبح التوجه نحو ما يُعرف بالمسؤولية الاجتماعية، وتلاها الاهتمام بمعايير الحوكمة والمجتمع والبيئة، صار من الصعب أن يدافع أحد عن مبادئ الرأسمالية الأصيلة.
فما الحل إذاً؟! الحل أن تركز الشركات على عملها وتعظيم الربحية لمساهميها، وتقوم الدولة بدورها الحقيقي في تحصيل الزكاة والضرائب من الشركات لدعم أقل الفئات حظاً في المجتمع ولتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين. والأهم من هذا أن تضع الدولة قوانين صارمة لحماية أصحاب المصلحة والبيئة وتفرضها بالإكراه على الشركات حتى لو أدى هذا لتراجع ربحيتها.
وقتها ستقوم الشركات بعملها الحقيقي، ونتوقف عن هذه الموجة التي هي في حقيقة الأمر نفاق اجتماعي في أغلبها. وسأختم بنتيجة لدراسة حديثة لشركة «بي دبليو سي» أظهرت أن 88 في المائة من قادة الأعمال يعتقدون أن تقارير الاستدامة للشركات هي محاولة «تبييض للوجه» التي تُعرف باسم «الغسيل الأخضر».
لهذا أرى أن فريدمان على حق.
وائل مهدي