صندوق النقد أكثر تفهماً والحل صار أسهل

كل المؤشرات والمعطيات تشير إلى انّ «سياسة» صندوق النقد الدولي اصبحت متفهمة اكثر للواقع اللبناني الاستثنائي، وما كان يرفضه الصندوق بالأمس، بات يقبل به اليوم، وما كان يتحاشاه بالأمس تجاوزه قبل فترة، وكسر بعض المحظورات من اجل تسهيل الامور. وبالتالي، اصبحت الكرة في ملعب اللبنانيين، وسيتحمّلون وحدهم مسؤولية إضاعة الفرصة القائمة للخروج من الانهيار المُدمّر.

منذ ان بدأت المفاوضات بين الدولة اللبنانية وصندوق النقد الدولي في شأن عقد اتفاق تمويل لخطة إنقاذية للاقتصاد، كانت نقطة الخلاف الرئيسية مسألة الفجوة المالية القائمة في مصرف لبنان، وطرق معالجتها، على اعتبار انّ القرار المتعلق بهذه الفجوة يحدّد مصير المودعين. وكان واضحاً انّ الصندوق يرفض المساس بإيرادات الدولة للمساهمة في تمويل استعادة الودائع. هذا الرفض، دفع ربما الحكومة الى تقديم خطّة للتعافي خالية عملياً من برنامج واضح لاستعادة الودائع. وكان هناك نوع من التذاكي، لتحاشي الحديث عن شطبٍ للودائع، لكن مندرجات الخطة كانت ستفضي الى هذا الواقع. طبعاً، هذه النقطة بالذات، رفضها النواب، ولم يجرؤ أي حزب او تكتل مستقل على الموافقة عليها.

واعتبر البعض، انّ الزيارة الاخيرة لوفد صندوق النقد الى بيروت، كانت الاخيرة، وانّ الاتفاق مع الصندوق سقط الى غير رجعة، بعدما أدرك مسؤولو الصندوق انّ الخطة لن تمرّ في المجلس النيابي.

هذه المشهدية تبدّلت جزئياً اليوم، ومن يقارن «سياسة» الصندوق قبل ثلاث سنوات حيال الوضع اللبناني، مع مواقف وخطوات الصندوق في الفترة الأخيرة، يدرك اهمية التغييرات التي طرأت، والتي يمكن تحسّسها من خلال الحقائق التالية:

اولاً- أدخل الصندوق تعديلات على مقاربته الملف اللبناني. وفي حين كانت الاتصالات والمفاوضات تقتصر على رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة ورئاسة المجلس النيابي، وبالتنسيق مع وزارتي المال ومصرف لبنان، انتقلت منذ فترة الى التعاطي المباشر مع الاحزاب والقوى السياسية المُمثلة في المجلس النيابي. وهذا القرار احتاج الى جهد من قِبل فريق الصندوق في بيروت، لإقناع الادارة المركزية في واشنطن بضرورة سلوك هذا النهج. وبالفعل، باشر فريق عمل الصندوق لقاءات دورية مع نواب يمثلون الأحزاب والقوى السياسية كافة. وتهدف هذه الاجتماعات الى تبادل الآراء وتوضيح المواقف، ويتمّ إشراك ادارة الصندوق المركزية في النقاشات. هذا النهج ساهم في تغيير آراء ومواقف النواب من بعض المسائل، كما ساهم ايضاً في تغيير مواقف مسؤولي الصندوق من مسائل اخرى.

ثانياً- تقدّم الصندوق خطوة في اتجاه دعم فكرة إنشاء صندوق استرداد الودائع. وفي حين كان في السابق، غير متحمّس للفكرة، ولو انّه لا يعارضها طالما انّها لا تمسّ الإيرادات التي ادرجها في خطته الخمسية لتعافي المالية العامة للدولة، اصبح اليوم داعماً للخطوة، وأبدى ليونة في الموافقة على طرق تمويل صندوق الودائع.

ثالثاً- من خلال ما يتسرّب من أجواء المشاورات المستمرة، وافق الصندوق على مبدأ اقتطاع ارباح من إيرادات الدولة لتغذية الصندوق، من خلال التفاهم على ادارة جديدة لمؤسسات القطاع العام، يفترض ان تؤدي الى تحسين ايرادات الدولة. وبالتالي، وافق الصندوق على اعتماد المبدأ الذي اعتمده في اليونان، والذي ينصّ على وضع تقديرات لحجم الإيرادات، واقتطاع نسب من الإيرادات التي قد تزيد عن هذه التقديرات.

من خلال ما تقدّم، اصبحت مسؤولية اللبنانيين مضاعفة حيال الوصول الى تفاهم مع الصندوق. إذ انّ القرارات التي كانت تُصنّف موجعة للإنقاذ اصبحت وراءنا، ومنها دعم الكهرباء، وحجم القطاع العام… وبالتالي، اصبحت الأزمة الوحيدة المتبقية لإعادة الاقلاع ترتبط بالودائع. وطالما انّ هناك نوعاً من التفاهم المثلث الأضلع حالياً، بين الدولة والصندوق ومصرف لبنان والمصارف، على مبدأ اعادة الودائع، اصبح الامر اسهل. وهناك اقتراحات متعددة في شأن تمويل صندوق الودائع، بينها ضريبة ارباح المقترضين، مردود شركة ادارة اصول الدولة، نسبة من إيرادات الغاز، إعادة رسملة مصرف لبنان، ارباح المصارف المستقبلية، وقد أبدى اكثر من مصرفي الموافقة على مشاركة المصارف من خلال اقتطاع نسبة من ارباحها لا تقلّ عن 30%.

طبعاً، ولئلا تجرفنا الأوهام، لن تكون فترة استرداد الودائع قصيرة، وستمتد لـ 20 عاماً الى الأمام. وهذا الامر لا يشمل طبعاً اعادة مبلغ الـ 100 الف دولار، والذي سيتمّ في فترة اقصر بكثير. لكن فترة الـ 20 عاماً لا تعني انّ كل المودعين الكبار (فوق الـ 100 الف دولار)، سيضطرون الى انتظار عقدين للحصول على اموالهم. ذلك انّ صندوق الودائع سيُصدر الاسهم فور إنشائه، لمصلحة المودعين، تعادل قيمتها قيمة الودائع بالدولار لكل مودع، وتُدرج هذه الاسهم في البورصة. وهذا يعني انّ المودع سيمتلك حق بيع الأسهم منذ اليوم الاول. وستكون اسعار هذه الاسهم مرتبطة بالنهج الذي سيتمّ اعتماده في تمويل الصندوق. ومن البديهي انّه كلما تقدّم العمل في ضمان التمويل مع السنوات، كلما زاد الطلب على هذه الأسهم، وارتفعت اسعارها. وليس مستبعداً ان يكون الطلب مقبولاً منذ البداية، طالما انّ الامر سيترافق مع توقيع اتفاق التمويل مع صندوق النقد الدولي، بما يعني اعادة فتح ابواب التعاون والمساعدة مع المجتمع الدولي والدول المانحة. وليس مستبعداً ان يجذب الصندوق مستثمرين اجانب وصناديق استثمارية، بما يساهم في ارتفاع اسعار الاسهم الى مستويات جيدة منذ السنوات الاولى لتأسيسه.

هذه الفرصة مُتاحة اليوم للإنقاذ، ومن مسؤولية القوى السياسية والنواب الذين باتوا يتحاورون مباشرة مع صندوق النقد، الضغط في اتجاه انجاز الخطوات المطلوبة للوصول الى إقرار وبدء تنفيذ هذا المشروع.

انطوان فرح

صحافة اقتصادية بلا صحافيين

هجر كثير من الصحافيين مهنة الصحافة واتجهوا للعلاقات العامة، التي توفر لهم مناخاً مهنياً واحترافياً، وفي حالات كثيرة أجراً أعلى.

وأنا شخصياً أعدّ هذا أمراً جيداً، لأنه طريقة طبيعية لفلترة القوى العاملة في الصحافة التي يدخلها الكثير، ويبقى فيها القليل.

وهذا ما يعرف في عرف الإدارة الأميركية باسم «تنظيف بركة السباحة»، حيث تعمل الشركات على الاستغناء بصورة سنوية عن كثير من الموظفين الذين تعتقد أنهم ليس بمقدورهم أن يكونوا منتجين. في الغالب «تنظيف البركة» يستهدف الاستغناء عن 5 بالمائة من الموظفين وإحلالهم بخريجين مميزين من الجامعات. إلا أن التنظيف في الصحافة ليس مبادرة من المؤسسة؛ بل من الصحافيين أنفسهم.

الأسباب التي تدفع هؤلاء للخروج كثيرة؛ أولها أنهم في الأصل لم يكونوا صحافيين، ولكنهم كانوا ممارسين للصحافة لا غير. الأمر الثاني القيود في المهنة، حيث يواجه الصحافي أنواعاً مختلفة من الرقابة.

الأمر الثالث والأهم هو الاستقرار الوظيفي وإمكانية التدرج داخل الشركات، فيما الهيكل الإداري في الإعلام ليس بالمرونة والتشعب الذي نجده في أقسام الاتصال المؤسسي والعلاقات العامة. هذا بالإضافة إلى الحوافز المالية.

في الحقيقة كثير من هؤلاء صحافيون، حتى إن اتجهوا لمهنة أخرى، وسيظلون يفكرون كصحافيين بل يتمنون العودة لمهنة البحث عن المتاعب.

لكن الأمور ليست واحدة على كل حال لكل أنواع الصحافة. مستقبل الصحافة اليوم يعتمد على الصحافة المتخصصة، ومن بين فروعها الصحافة الرياضية والاقتصادية.

توفر الصحافة الاقتصادية اليوم فرصة كبيرة جداً لندرة من يعملون بها وحاجة السوق لهم، خصوصاً مع تطور الأسواق المالية في المنطقة وعمليات التحول الاقتصادية التي يعلن عنها.

ومع هذا ما زلنا لا نجد صحافيين مؤهلين بما يكفي، وإن وجدوا فسوف يتم إغراؤهم بالمال من قبل شركات العلاقات العامة، أو أقسام التواصل المؤسسي لاستقطابهم.

هناك فرص كبيرة في هذا المجال خصوصاً بعد إطلاق خدمة «اقتصاد الشرق مع بلومبرغ» الإخبارية بجميع منصاتها، وإطلاق قناة العربية لخدمة «العربية بزنس» على تردد مستقل.

والسؤال هنا: كيف سنواكب كل هذا التطور والتحول الاقتصادي في المنطقة من دون صحافيين اقتصاديين كفاية؟!!

المجموعة السعودية للإعلام والأبحاث من خلال أكاديميتها تحاول تأهيل الشباب في هذا المجال، لكن المشكلة أعمق من مجرد تأهيل وتدريب، بل مشكلة هيكلية في صناعة الإعلام، ولا بد أن نجد لها حلولاً، وإلا ستكون هناك فجوة مهنية كبيرة بين الإعلام والاقتصاد.

وائل مهدي