التكامل الاقتصادي الآسيوي

تسعى الكثير من الدول إلى التعاون مع جاراتها من البلدان للوصول إلى تكامل اقتصادي يحقق الازدهار لشعوبها، ويعطيها الثقل الاقتصادي الذي يمكّنها من تحقيق مصالحها ككتلة واحدة. ويبرز الاتحاد الأوروبي بوصفه أقوى كتلة إقليمية متعددة الدول وصلت إلى ذروة التكامل الاقتصادي في ما بينها. كما تبرز مجموعات أخرى لم تصل إلى هذه المرحلة من الاكتمال، ولكنها حققت مبتغاها مثل دول «نافتا» وهي اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية. وهناك نموذج آخر فريد من نوعه، هو لدول آسيا التي حققت تكاملاً اقتصادياً بطريقة منفردة، مكنتها من إخراج عدد كبير من سكانها من تحت خط الفقر خلال العقود الأخيرة، وهو إنجاز لم يتحقق في أي منطقة أخرى من العالم. فكيف نجحت دول آسيا في تحقيق هذا التكامل الاقتصادي في زمن شهد أزمات مالية وجيوسياسية خانقة؟

بداية، يعرّف التكامل الاقتصادي على أنه تحرير وتسهيل تدفق التجارة والسلع والخدمات والاستثمار وحركة الأشخاص عبر الحدود. هذا التعريف شبه شمولي، وقد يتحقق التكامل الاقتصادي دون تحقيق جميع عناصره. فعلى سبيل المثال، لم تلتزم مجموعة «نافتا» ببعض هذه العناصر، ولكنها نجحت في الوصول إلى بعض أهدافها، بينما التزم الاتحاد الأوروبي بكامل العناصر، ووصل إلى مستوى لم تبلغه كتلة اقتصادية من قبل. عدم الالتزام بشروط التكامل الاقتصادي لا يعني عدم النجاح فيه، وفي الحالة الآسيوية خير مثال على أن النجاح ليست له وصفة محددة، بل هو مزيج من العمل المشترك والسعي الدؤوب خلف المصالح المتبادلة، وإيجاد الحلول للعوائق التنظيمية التي تحول دون التبادل التجاري عبر الحدود.

وتختلف الدوافع لتحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول المتجاورة، فعلى سبيل المثال كان أحد الدوافع لتأسيس الاتحاد الأوروبي يكمن في الرغبة في تجنب حرب قارية أخرى، بعد سلسلة من الحروب بين هذه الدول. أما آسيا، والتي عرفها العالم خلال العقود الأخيرة بـ «مصنع آسيا»، فقد كان الدافع هو تكامل السوق لتحقيق مصالحهم الاقتصادية. وخدم ذلك الاستراتيجية المشتركة لهذه الدول وهي القائمة على التوجهات التصديرية والاندماج في سلاسل القيمة الإقليمية والعالمية.

ولم تكن طريق الدول الآسيوية في تحقيق تكاملها الاقتصادي سهلة، فصحيح أنها واجهت عالماً نامياً منفتحاً أمام التجارة العالمية وهو ما يسّر لها مهمتها، لكن العوائق الداخلية شكّلت تحدياً كبيراً لها، فالدول الآسيوية على عكس الأوروبية شديدة الاستقلالية، وحساسة للتدخلات الإقليمية فيها، وتملك إرثاً من الحروب الداخلية والكراهية المتبادلة في ما بينها تغذي هذه الرغبة الاستقلالية. كما أن أنظمتها السياسية متنوعة ومتناقضة، ففيها أنظمة ديمقراطية وعسكرية وشيوعية وملكية، وهو ما يجعل الرغبة في التعاون محل تشكك مستمر.

ومع كل ذلك، فإن نمو الدول الآسيوية والذي تؤكده أرقام النمو المذهلة لهذه الدول، لم يتحقق بفعل تجارة دول آسيا مع العالم الغربي أو الدول غير الآسيوية فحسب، بل جاء وبنسبة كبيرة بفعل التبادل التجاري بين الدول الآسيوية في ما بينها. وهذه بعض الأرقام التي تؤكد ذلك والتي نشرها بنك التنمية الآسيوي في تقريره هذا العام؛ فالتبادل التجاري داخل آسيا وصل إلى 46 في المائة في 2010، وزاد إلى 58 في المائة عام 2021، والاستثمارات الآسيوية البينية زادت من 48 في المائة إلى 59 في المائة بين هذين العامين. وزاد تدفق الاستثمارات المباشرة بين الدول الآسيوية بضعف مثيله من الاستثمارات الغربية. وحتى مع الأزمات المالية، زادت نسبة الإقراض المصرفي من 40 في المائة بُعيد الأزمة المالية إلى 54 في المائة اليوم.

ولا تزال الدول الآسيوية حتى اليوم تسعى في زيادة هذا التكامل لإزالة الحواجز التجارية من خلال اتفاقات جديدة مثل الشراكة الإقليمية الشاملة، ولعل قمة الرياض لدول «الآسيان» ودول الخليج أحد هذه المساعي من الدول الآسيوية لزيادة شراكاتها مع الدول لزيادة تبادلها التجاري، وتحقيق الازدهار لشعوبها.

إن الدول الآسيوية، وعلى الرغم من كل نزاعاتها العسكرية الدموية التاريخية، ورغم عدم امتلاكها ثقافة مشتركة، أو لغة موحّدة، أو حتى تاريخاً وكفاحاً مشتركاً، تمكنت من تجاوز ذلك كله لتحقيق الرفاهية الاقتصادية لشعوبها، وتمكّنت من إخراج مئات الملايين من تحت خط الفقر بالنظر إلى المصالح الاقتصادية، ودون المساس بسيادتها الداخلية. فما الذي ينقص الأقاليم الأخرى والتي ليس لديها حتى نصف هذه الصعوبات، والتي تمتلك من الثروة الطبيعية والبشرية والإرث التاريخي، ما لا تمتلكه الكثير من الدول الآسيوية، ولا حتى الغربية؟

د. عبد الله الردادي

إقتراحات في التداول تثير القلق والريبة

هناك حركة غير اعتيادية على المستوى المالي والنقدي، في محاولة لابتكار معالجات مؤقتة، وطرح اقتراحات تسمح بإعادة بعض الحيوية الى الوضع الاقتصادي. لكن هذه الحركة لا تخلو من الخطورة، رغم النيات الحسنة، لأنها قد تكون بديلاً هجيناً من الحل الشامل والجذري، والمنتظر منذ اكثر من أربع سنوات.

من خلال الاعمال التمهيدية الاولية التي بدأها صندوق النقد الدولي قبل اندلاع حرب غزة في 7 تشرين الاول الماضي، تحضيراً للتقرير الذي يُفترض ان يصدر في العام 2024، وفق المادة الرابعة، تبيّن انّ معطيات كثيرة تبدلت في المشهد الاقتصادي اللبناني. وكان يُفترض استكمال الاعمال تمهيداً لزيارة وفد من الصندوق الى بيروت في آذار المقبل، لإنجاز كل الاعمال لإصدار التقرير المنتظر حول الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي في لبنان. لكن النشاطات توقفت، وتمّ إخلاء مكتب صندوق النقد الدولي في لبنان. وبالتالي، أصبحت معظم النشاطات معلّقة، بانتظار سكوت المدفع، وعودة الوضع الى طبيعته. وبالمناسبة، مكتب صندوق النقد في بيروت هو مكتب اقليمي لدول المنطقة، وهذا يعكس بطبيعة الحال، موقع بيروت المميّز، رغم الكوارث والأزمات، بحيث انها لا تزال تُعتمد كمقر اقليمي لمؤسسات دولية. لكن استمرار الأزمات والاضطرابات قد يؤدّي الى تغيير هذا الوضع ايضاً.

في عودة الى تقرير المادة الرابعة، وفي حال تعذّر إصداره العام المقبل، في حال طال أمد الحرب في غزة، وتعذّر استكمال الدراسات المطلوبة لإصدار التقرير، فهذا يعني انّ فرص الحل الشامل ستكون مؤجّلة، على اعتبار ان مضمون هذا التقرير يُبنى عليه في تقدير الوضع المالي والاقتصادي، لإنجاز اي اتفاق مع صندوق النقد.

وما هو خطير في عمليات التأجيل المستمرة منذ اكثر من اربع سنوات، انها تشجّع على الاجراءات المؤقتة، والتي يمكن ان تكون مُضرّة، في حال تمّ اعتمادها كبديل من الخطة الشاملة. على سبيل المثال، جاء قرار مصرف لبنان بتوسعة قاعدة المستفيدين من التعميم 158، ليُنصف شريحة مظلومة من المودعين. لكن هذا القرار قد يصبح مشكلة في حد ذاته، في حال تبيّن ان بعض المصارف عاجزة عن تنفيذه، وفي حال تبيّن لاحقاً، انه قد يؤثّر سلباً على امكانات الحل الشامل لمشكلة الودائع.

وبالتالي، من الضروري ان يكون كل اجراء مؤقت يُتخذ اليوم، متناسقاً مع مبدأ عدم التأثير السلبي على الحل الشامل، ومن الاهم ألا تشكّل هذه الاجراءات المُجتزأة بديلاً من الحل الشامل. اليوم، هناك في الكواليس اقتراحات يتمّ درسها، تهدف الى تنشيط الوضع المالي من دون انتظار الحل النهائي. هذه الاقتراحات التي تجري تحت عنوان معالجات الضرورة، تصبح خطيرة ومميتة اذا كانت نية من يقترحها هي الاستغناء عن الحل الشامل، اي التخلي عن مشروع خطة متكاملة للتعافي تشمل الى جانب الاتفاق مع صندوق النقد، معالجة الخسائر في مصرف لبنان، واعادة تطبيع الوضع المصرفي، والتوافق على مسار حل لمشكلة الودائع. وحتى اذا كانت النية حسنة، فإنّ الخطر يكمن في ان تستفيد الدولة من الاجراءات المجتزأة، وتصرف النظر نهائياً عن المعالجات الشاملة.

وفي الحديث عن تقرير صندوق النقد تحت البند الرابع، لا بد من طرح اسئلة حول طريقة تعاطي الدولة بكل أجهزتها مع هذا التقرير الذي صدر في حزيران 2023، وكان يُفترض ان يشكّل مادة دسمة للمراجعة واتخاذ القرارات، واذا به يدخل غياهب الاهمال والنسيان، تماماً كما حصل مع تقرير التدقيق الجنائي الذي أنجزته «الفاريز اند مارسال».

في تقرير صندوق النقد، ما يفيد بأن حجم الفجوة المالية في بداية العام 2020، كانت في حدود الـ20 % فقط، بما يعني ان 80 % من الودائع كان مغطّى. فهل كانت هذه الفجوة تستحق اعلان التوقف عن الدفع في آذار 2020 ؟ والاهم، من المسؤول عن وصول هذه الفجوة اليوم الى ما نسبته 85 %، بما يعني ان الودائع صارت مُغطاة بنسبة 15 % فقط، بانخفاض قدره 65 %. وهل من دليل اوضح على مسؤولية «الدولة» في الافلاس والانهيار؟

وفي تقرير «الفاريز اند مارسال»، ورد انّ القرارات في مصرف لبنان كانت تُتخذ بالاجماع في المجلس المركزي، اي بموافقة مفوض الحكومة، وممثلي الدولة مثل المدير العام لوزارة المالية، ومدير عام وزارة الاقتصاد. بما يعني انّ «التمويه» في القيود المحاسبية، والذي كان يهدف الى إخفاء خسائر مصرف لبنان، كان يتمّ بموافقة المجلس المركزي مجتمعاً، بدليل انه كان يجري استبدال الخسائر بأرباح وهمية تُمنح سنوياً الى وزارة المالية، وهي حصّتها القانونية في الارباح. وهذا الامر لم يكن يجري لدعم وزارة المال، بل للتمويه ايضا، لأن الدولة كانت ستضطر الى اعادة رسملة مصرف لبنان، وفق قانون النقد والتسليف، في حال اعترفت بوجود خسائر. وهكذا يتبيّن ان الدولة ومصرفها المركزي كانا شريكين في جرم تزوير الحقائق، بهدف الاستمرار في استنزاف الاموال، وتكديس الخسائر من دون محاسبة.
يبقى السؤال، ما نفع التقارير المحاسبية والجنائية، التي تصدر تباعاً، اذا كان التعامل معها يتم على قاعدة انّ مكانها في سلّة المهملات.

اشتداد الأخطار الجيوسياسية والآثار على الصناعة البترولية

صرّح لورينزو سيمونيللي، الرئيس التنفيذي لشركة «بيكر هيوز»، بأن المخاطر الجيوسياسية حالياً على أشدها مقارنةً بأحداث نصف القرن الماضي، الأمر الذي أخذ يؤدي إلى «مخاوف متزايدة بخصوص إمدادات النفط من ناحية، والطلب المتزايد على الغاز المسال من ناحية أخرى».

حسب سيمونيللي، الرئيس التنفيذي لواحدة من ثلاث شركات خدمات هندسية كبرى عالمياً (شلمبرجير – هاليبورتون – بيكر هيوز)، في مقابلة مع صحيفة «فاينانشيال تايمز»، هناك اعتقاد سائد عند البعض أنه «إذا رجعنا إلى المقاطعة النفطية لعام 1973 سنجد الكثير من الأمور المتشابهة». لكن، أضاف رئيس شركة «بيكر هيوز» أنه «خلال فترة عملي، لم يكن الوضع الجيوسياسي هشاً بهذه الدرجة… هذا من الناحية السياسية، حيث الوضع متقلب جداً».

تأتي أهمية تقييم «بيكر هيوز» من أن الشركة الهندسية تعمل في الأغلبية الساحقة من الحقول النفطية حول العالم، فهي على اطِّلاع دقيق على ما يجري في الدول البترولية والمجريات السياسية فيها. كما تتزامن تصريحات سيمونيللي مع الحرب الفلسطينية – الإسرائيلية في الشرق الأوسط، التي تتزامن بدورها مع الحرب الروسية – الأوكرانية في أوروبا التي هي الآن في عامها الثاني.

قفزت أسعار النفط إلى أكثر من 130 دولاراً للبرميل عند الغزو الروسي لأوكرانيا. وارتفعت الأسعار خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إلى نحو 100 دولار للبرميل بعد هجوم حركة «حماس» في 7 أكتوبر، وبعد انخفاض القلق الأولي من توسع الحرب إلى دول شرق أوسطية أخرى، وفي غياب عوامل اقتصادية تدفع إلى زيادة الأسعار، انخفضت الأسعار إلى نحو 79 – 80 دولاراً للبرميل.

إسرائيل، من جهة، دولة غير منتجة للنفط، حتى الغاز الذي تُنتجه ضئيل الحجم. من ثَمَّ، فأهميتها محدودة جداً في الأسواق العالمية. لكن من جهة أخرى، تبقى الأسواق حذرة من تدخل مباشر لإيران في الحرب، نظراً إلى علاقتها بحركة «حماس»، إذ إن احتمال تدخلها المباشر، سيؤدي إلى ارتفاع كبير في الأسعار. وذكر سيمونيللي في هذا الصدد أن «المتوقع في استمرار التطورات على حالها المؤسف والحزين، سيعني بقاء الأسعار مضطربة. ولكن في نفس الوقت، فإنه من الواضح أيضاً، إذا تصاعدت أو توسعت الحرب ستؤدي إلى ما هو أسوأ، إذ ستتغير الأمور».

لقد أدت حرب أوكرانيا إلى تغييرات جذرية في صناعة الغاز المسال، نظراً لمقاطعة أوروبا غاز الأنابيب الروسي وتركيز روسيا على صناعة الغاز المسال. كما توسعت بسرعة صناعة الغاز المسال، بالذات في الولايات المتحدة، التي زادت صادراتها الغازية لأوروبا، إذ تلعب شركة «بيكر هيوز» دوراً في تزويد الخدمات الهندسية والأدوات الفنية.

تشير توقعات «بيكر هيوز» إلى أن مجمل الطلب على خدماتها وأدواتها الفنية في مجال صناعة الغاز المسال خلال عامي 2022 و2023 سيبلغ نحو 9 مليارات دولار، ويشكّل هذا الطلب زيادة ثلاث مرات على ما كان عليه لشركة «بيكر هيوز» في صناعة الغاز المسال خلال السنتين السابقتين 2020 و2021. ويتوقع سيمونيللي إمكانية ارتفاع الطاقة الإنتاجية العالمية للغاز المسال إلى 800 مليون طن سنوياً بحلول نهاية هذا العقد، مقارنةً بنحو 410 ملايين طن سنوياً في عام 2023. ويكمن السبب في ارتفاع صناعة الغاز المسال عالمياً في إمكانية شحن الغاز المجمَّد عبر مسافات طويلة من البحار والمحيطات، ومن ثم الاستفادة لاستغلال الغاز في أسواق جديدة وبعيدة، غير الأسواق الإقليمية والمحلية فقط. وهذا ما يحدث بتصدير غاز الخليج مسالاً إلى الأسواق الآسيوية أو الغاز الأميركي إلى الأسواق الأوروبية.

وأضاف سيمونيللي أن «بيكر هيوز» لديها «عقود في مجال صناعة الغاز المسال حتى عام 2050، في الوقت الذي لا يتوقع فيه نهوض قطاع غاز الأنابيب الروسي في المدى القصير كمنافس للغاز المسال، حتى في حال انتهاء الحرب الأوكرانية».

ارتفعت أسعار الغاز في الأسواق الأوروبية إلى أكثر من 300 يورو للميغاواط-ساعة بعد غزو أوكرانيا. وتبقى الأسواق قلقة للمنافسة الأوروبية في حال تعويض الغاز الروسي. وقد ساعد الشتاء قليل البرودة في أوروبا السنة الماضية في الحفاظ على مخزون عالٍ من الغاز. أما بالنسبة إلى الشتاء المقبل، فأجاب سيمونيللي: «ساعد الشتاء المعتدل العام الماضي على التقاط الأنفاس في أوروبا. ويتضح لحد الآن، أن فصل الشتاء المقبل سيكون قليل البرودة أيضاً. لكن، إذا كان قارس البرودة، فسيترك بصماته على أوروبا».

وليد خدوري

الذكاء الاصطناعي يعزز الاقتصاد الرقمي

يعرف الاقتصاد الرقمي بأنه هو النشاط الناتج عن الاتصالات اليومية عبر الإنترنت، كما أن العمود الفقري له هو الارتباط التشعبي، ويعني ازدياد الارتباط والترابط بين الأشخاص والمؤسسات والآلات، وتكنولوجيا الهاتف المحمول وإنترنت الأشياء، وهو عموماً عبارة عن تصور ل‍قطاع الأنشطة الاقتصادية ذات الصلة ب‍التقنية الرقمية. وهو ذلك النوع من الاقتصاد الذي يقوم في مجمل عملياته على المعلومات، ويستند في أغلب خطواته على استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي ألغت كل الحدود والحواجز أمام تدفق المعلومات والسلع والخدمات، وحركة رؤوس الأموال من وإلى أي نقطة في العالم، وفي أي وقت. يتميز الاقتصاد الرقمي بدخول تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في مختلف الأنشطة الاقتصادية.

من ناحية أخرى، لقد أصبح الذكاء الاصطناعي مصطلحاً شاملاً للتطبيقات التي تؤدي مهام مُعقدة كانت تتطلب في الماضي إدخالات بشرية، مثل التواصل مع العملاء عبر الإنترنت. ويُستخدم غالباً هذا المصطلح بالتبادل مع مجالاته الفرعية، والتي تشمل التعلم الآلي والتعلم العميق، ومن المهم أن نلاحظ أنه على الرغم من أن كل سُبل التعلم الآلي ما هي إلا ذكاء اصطناعي، فإنه ليس كل ذكاء اصطناعي يُعد تعلماً آلياً، والحصول على القيمة الكاملة من الذكاء الاصطناعي.

وتعمل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على تحسين أداء المؤسسات وإنتاجيتها، عن طريق أتمتة العمليات أو المهام التي كانت تتطلب القوة البشرية فيما مضى، كما يمكن للذكاء الاصطناعي فهم البيانات على نطاق واسع لا يمكن لأي إنسان تحقيقه، وهذه القدرة يمكن أن تعود بمزايا كبيرة على الأعمال، وفيما يتعلق بالعوامل الدافعة لاعتماد الذكاء الاصطناعي، فهناك 3 عوامل تحث على تطوير الذكاء الاصطناعي عبر الصناعات، وهي توفر إمكانية الحوسبة عالية الأداء بسهولة، وبأسعار معقولة، مع وجود كميات كبيرة من البيانات المتاحة للتعلم، إضافة إلى أنها توفر تقنية الذكاء الاصطناعي التطبيقي، وتعطيه ميزة تنافسية.

وجاء إنشاء مركز خاص بالذكاء الاصطناعي ليعزز الاقتصاد الرقمي في السعودية، على خلفية ارتفاع الطلب على الذكاء الاصطناعي الذي يلعب دوراً متزايد الأهمية في دفع الاقتصاد السعودي في المستقبل، وفي محاولة لتسريع نمو التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، إذ جاءت الحاجة بإنشاء مركز دولي لأبحاث وأخلاقيات هذا القطاع، من شأنه أن يعزز دور الدولة إقليمياً وعالمياً؛ حيث إن المركز الجديد جاء عقب إنشاء الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) في 2019.

إن «رؤية السعودية 2030» و«برنامج التحول الوطني 2020»، يحددان التحول الرقمي هدفاً رئيسياً لتنشيط القطاعات الاقتصادية، ودعم الصناعات وكيانات القطاع الخاص، والدعوة إلى تطوير نماذج الأعمال بين القطاعين العام والخاص، والحد في نهاية المطاف من اعتماد السعودية على عائدات النفط من خلال تنويع الاقتصاد؛ إذ إن إنشاء المركز الجديد يعزز دور السعودية القيادي الإيجابي الفاعل في الصناعة التي تكتسح العالم، ويعزز الاقتصاد الرقمي، إلى جانب تحسين الجهود البحثية وتحقيق الاستخدام المسؤول.

إن إنشاء المركز الدولي الجديد يؤكد اهتمام السعودية الجاد بتبني التقنية وتطبيقاتها وتحدياتها، ويؤكد أيضاً دورها القيادي الإيجابي الفاعل في هذه الصناعة؛ إذ إن السعودية من خلال مؤسساتها المعنية، بما فيها «سدايا»، وهيئة الحكومة الرقمية، تبنّت واستغلت تطبيقات الذكاء الاصطناعي في كثير من الخدمات والتحليلات والاستنتاجات، والأتمتة، والقياس وغيرها، إذ إن القطاع الحكومي في السعودية هو القائد الفعلي والمستخدم الرئيسي لهذه التطبيقات بجانب القطاع الخاص.

يذكر أن التقنية، بقدر ما توفر من فرص، فهي تجلب كثيراً من التحديات الجديدة التي لم تكن معروفة سابقاً، وبالتالي أدركت السعودية تلك المخاطر بإنشاء مركز الذكاء الاصطناعي، ليساهم في معالجة هذه المعضلة ذات الوجهين، إذ إن التوجه العالمي للمركز جاء بناءً على طبيعة التقنية، ويعنى بالبحوث والأخلاقيات، وسيكون تركيزه على دعم الأبحاث وتبنّي نتائجها عالمياً، كما أن إنشاء مركز دولي لأبحاث وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، يأتي في إطار الجهود المتواصلة للبقاء في طليعة الابتكار والتقدم؛ إذ يعد المركز الأول من نوعه في العالم، ويعزز التوجه نحو تسارع الخطوات لاستشراف المستقبل، والاستفادة الكاملة من التقنيات الحديثة.

وفي الختام، يتسق وجود المركز مع مُستهدفات «رؤية 2030» في ظل الدعم غير المحدود لجعل السعودية مركزاً تقنياً عالمياً لأحدث التقنيات المتقدمة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، إذ أطلقت السعودية خلال أعمال القمة العالمية للذكاء الاصطناعي في نسختها الثانية بمدينة الرياض، مبادئ أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، ضمن حزمة من المشروعات والمبادرات التي تسهم في تعزيز ريادة السعودية عالمياً في الصناعة، وتحقيق أهداف «رؤية 2030»، بما يعزز الاقتصاد الرقمي.

د. ثامر محمود العاني

توطين التنمية في عالم شديد التغير (2)

تجاوز العالم نصف المسافة المحددة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي تم الاتفاق عليها في عام 2015 في قمة خاصة في الأمم المتحدة على أن يتم الانتهاء منها في عام 2030. وفي تقرير أممي صدر مؤخراً عن الوضع العالمي لما تم إنجازه من الأهداف السبعة عشر للتنمية التي تتفرع إلى 169 هدفاً تفصيلياً تشمل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية، فضلاً عن التصدي لتغيرات المناخ، اتضح أن الأهداف التي يمكن تقييمها بلغت 140 هدفاً، كان منها 12 في المائة فقط على المسار السليم لتحقيقها في عام 2030، وأن أكثر من 50 في المائة من أهداف التنمية منحرفة عن جادة المسار، بينما تراجع الأداء عما كان عليه الوضع عند نقطة البداية في عام 2015 في أكثر من 30 في المائة من هذه الأهداف بما في ذلك تلك المعنية بمواجهة الفقر والجوع.

دفعت هذه النتائج المفجعة الأمين العام للأمم المتحدة إلى توجيه نداء لسرعة تحفيز التمويل الموجه للتنمية بأن تخفض أعباء الديون الخارجية التي باتت تشكل عبئاً يلتهم حصيلة صادرات الدول النامية وتتجاوز فيها خدمة الديون من أقساط وفوائد ما ينفق على التعليم والرعاية الصحية وخدمات أساسية للمواطنين. إذ ارتفعت نسبة الديون الخارجية للدول النامية من 71 في المائة من إجمالي صادراتها في عام 2010 لما يتجاوز 110 في المائة في عام 2022. ومع ارتفاع نسبة الديون الخارجية من مقرضي القطاع الخاص إلى 62 في المائة مقابل 24 في المائة من المؤسسات الدولية و14 في المائة من القروض الثنائية بين الدول، ازدادت نسبة الفائدة المدفوعة لتبلغ في المتوسط 12 في المائة في أفريقيا مقارنة بنحو 1.5 في المائة تدفعها ألمانيا قبل الزيادات الأخيرة.

لا غرو إذن أن البلدان النامية إلا قليلاً أمست في مواجهة أزمات وكوارث لديونها الخارجية، وأن نصف البلدان النامية أصبحت مطالبة بتخصيص ما لا يقل عن 7.4 في المائة من صادراتها لخدمة الديون، وأن منها ما هو مطالب اليوم بدفع مضاعفات هذا الرقم.

ومن عجب أن ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية طالبها المجتمع الدولي بما لا يتجاوز 5 في المائة من صادراتها لسداد ديون الحرب؛ حتى لا تتعثر جهودها في إعادة البناء وفقاً لاتفاقية لندن المبرمة في عام 1953. ولا نعلم أي حرب شنّتها البلدان النامية حتى تكبل بأصفاد الديون الخارجية التي انتهى بعضها في كثير من الحالات إلى سداد ديون سابقة، والبعض الآخر تسأل عنه تدفقات مالية غير مشروعة إلى ملاذات آمنة خارج البلدان النامية، وما تبقى وجه لمشروعات بعضها بعوائد اقتصادية وأخرى بلا عائد اقتصادي أو اجتماعي يذكر؛ ولا نغفل أن من هذه المشروعات بمكون استيرادي مرتفع تستفيد منه أيضاً بلدان دائنة. فمن أين سيأتي السداد إذن إلا خصماً من الاستثمار الموجه للتنمية وعلى حساب الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية، ومن فرض أعباء تنوء بها كواهل المواطنين والقطاع الخاص العامل في البلدان النامية. فلا سبيل لتنمية تذكر إلا بتمويل ضخم ليس منه حتماً هذا النوع من الديون الذي جلب شراً أكبر من أي نفع، ولو زُينت الأرقام بحيل أكروباتية لتجمل واقعاً لبلدان في الجنوب أمست فيه أقرب للتخلف منها إلى التنمية.

ويذكر أن مشروع الإعلان، الذي سيعرض على قمة التنمية المستدامة التي ستعقد في إطار الجمعية العامة في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل يتضمن مطالبة عاجلة بزيادة تمويل التنمية إلى 500 مليار دولار سنوياً مع مطالبة بتدعيم صناديق مواجهة الطوارئ. تزامن مع هذه المطالبات لمنع جهود التنمية من الانزلاق إلى هوة الفشل دعوة ملحة لإصلاح (النظام) المالي العالمي، الذي من قبيل المبالغة أن نطلق على الترتيبات المتناثرة المعمول بها في المعاملات الدولية وصف نظام أصلاً.

ولكن هذه المطالب، المنتظر عرضها في اجتماعات جمعية الأمم المتحدة القادمة ما زالت تواجَه برفض وتحفظات من دول متقدمة على النحو الذي لخصه الكاتب الصحافي كولوم لينش في مقال صدر في مطلع هذا الشهر دورية «ديفيكس» المتخصصة في شؤون التنمية الدولية. ويبدو أن ممثلين لدول متقدمة ما زلوا منشغلين برغبات قديمة في الإبقاء على الحدود البيروقراطية الفاصلة بين مؤسسات التمويل والمنظمات الدولية مع الإبقاء على ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية لضمان استمرار الهيمنة والسيطرة على حوكمتها ومقدراتها وأولياتها. ولكن مثل هذا التعنت قد يكون من معجلات التغيير في نظام دولي هرم لم يعد ملائماً لتوازنات القوى الجديدة.

وتأتي هذه المطالب بزيادة التمويل المدعومة من البلدان النامية، خاصة مع التراجع النسبي في المساعدات الإنمائية وركود التمويل المقدم من بنوك التنمية الدولية عند أرقام متواضعة مقارنة بفجوة التمويل. فرغم زيادة محدودة في التمويل المقدم من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن هذه الزيادة وُجّهت لمواجهة تبعات الحرب في أوكرانيا في مساعدات إنسانية وغوث اللاجئين إلى غير ذلك. كما أن رؤوس الأموال المدفوعة لبنوك التنمية الدولية لم تواكب زيادة حجم الاقتصاد العالمي والنواتج المحلية للبلدان النامية فصار القادم منها لتمويل التنمية هزيلاً، خاصة فيما يتعلق بالبلدان متوسطة الدخل التي أصبحت أسقف التمويل المتاحة لها منخفضة وبشروط تمويل غير محبذة من حيث التكلفة وعمولات الارتباط وفترات السماح ومدد السداد.

وتأتي هذه المطالب أيضاً وفقاً لوثيقة تمويل التنمية المتفق عليها في أديس أبابا في عام 2015 التي تعهدت البلدان المتقدمة أثناء مناقشتها بمساندة تحقيق أهداف التنمية المستدامة وهو ما لم يتم، ووعدت المؤسسات المالية الدولية بزيادة قدراتها التمويلية وهو ما لم يحدث؛ واستخدام أسلوب الرافعة وتخفيف المخاطر وتقديم الضمانات لدفع الاستثمارات الخاصة للمشروعات التنمية وهو ما لم يتحقق منه إلا النذر اليسير.

 

د. محمود محيي الدين

الأسهم الأوروبية تغلق عند أعلى مستوى في شهرين

أغلقت مؤشرات الأسهم الأوروبية على ارتفاع طفيف اليوم الخميس مع استمرار ‏المستثمرين في البحث عن اتجاه تزامناً مع إغلاق الأسواق الأميركية.‏

وأغلق مؤشر ‏Stoxx 600‎‏ الأوروبي مرتفعاً بنسبة 0.3%. ارتفعت أسهم النفط ‏والغاز بنسبة 1.4% على الرغم من الانخفاض المستمر في أسعار النفط بعد أن ‏أجلت أوبك اجتماعها لوضع السياسات، فيما قادت أسهم شركات السفر الخسائر ‏متراجعة 1%.‏

وأظهرت بيانات مؤشر مديري المشتريات الأولية من منطقة اليورو لشهر نوفمبر ‏انخفاض التوظيف للمرة الأولى منذ ما يقرب من ثلاث سنوات.‏

واستمر النشاط التجاري في الانخفاض، على الرغم من تباطؤ معدل الانكماش في ‏الإنتاج والأعمال الجديدة.‏

متابعة قراءة الأسهم الأوروبية تغلق عند أعلى مستوى في شهرين

لئلا تنهار الشركات القاصرة النظر

يشير قصر النظر في الشركات إلى التوجه قصير المدى في عملية صنع القرار، مع إعطاء الأولوية للمكاسب الفورية على الاستدامة طويلة المدى. وهذا السلوك، الذي غالباً ما يكون مدفوعاً بضغوط الأرباح الفصلية وتوقعات السوق، يمكن أن تكون له آثار عميقة في الاقتصاد الجزئي والنشاط الاقتصادي للشركات، كما قد يؤدي السلوك قصير النظر إلى قرارات تضحي بالتخطيط الاستراتيجي والابتكار والعلاقات مع أصحاب المصلحة. وقد تنتج عن هذا السلوك نكسات للشركات على مستويات عدة تمتد آثارها إلى الاقتصاد الوطني، وهو ما قد يستلزم تدخلاً حكومياً لا سيما في الشركات الكبرى التي تعتمد عليها البلدان استراتيجياً واقتصادياً وحتى اجتماعياً.

وبينما يتضمن التفكير طويل المدى نهجاً استراتيجياً حيث تعطي الشركات الأولوية للاستثمارات في الابتكار وتطوير الموظفين والممارسات المستدامة، يميل السلوك قصير النظر إلى التركيز على المكاسب المالية الفورية، وغالباً ما يكون ذلك على حساب النمو على المدى الطويل. وفي حين أن التفكير طويل الأمد يعزز المرونة والقدرة على التكيف والممارسات الأخلاقية، فإن قصر النظر قد يؤدي إلى الركود وتشويه السمعة. ويعزز هذا السلوك رغبة المساهمين في الحصول على أرباح سريعة، وانعكاس ذلك على أسعار الأسهم بغض النظر عن خطط الشركات طويلة المدى، وذلك لا يبرر أن تتصرف الشركات على نحو يؤثر سلباً في مستقبلها.

ويمكن تلخيص مضارّ قصر النظر في نقاط عدة، أولاها أنه قاتل للابتكار في الشركات، فالابتكار استثمارٌ طويل المدى، وتزيد فيه نسبة عدم اليقين، وفي الشركات التي تعطي الأولوية للمكاسب قصيرة المدى قد تنخفض ميزانيات الابتكار. والأمثلة كثيرة لشركات أغفلت جانب الابتكار في استثماراتها فانتهى بها المطاف خارج السوق بعدما كانت اللاعب الرئيسي في صناعتها على مستوى العالم. ثانيتها، الأثر السلبي في الموظفين، فالشركات قصيرة النظر غالباً ما تبحث عن الموظفين الجاهزين، وهي بذلك لا تستثمر في موظفيها من ناحية التدريب والتطوير والمزايا المالية، وهو ما يؤدي حتماً إلى إحباط الموظفين وانفصالهم عن العمل. ثالثتها أن الكيانات ذات المصالح مع الشركات قصيرة النظر تدرك تبعات هذا السلوك عليها، لا سيما أن أبرز مظاهره هو إهمال العلاقات طويلة الأمد مع العملاء والموردين وهو ما يتسبب في تآكل الثقة فيما بينهم.

ويمكن معرفة هذه الشركات من خلال عدد من السلوكيات، فعلى سبيل المثال، هناك الشركات التي تنخرط بشكل مفرط في عمليات إعادة شراء الأسهم لتضخيم أسعار الأسهم قصيرة الأجل، بدلاً من الاستثمار طويل المدى والذي يرفع كذلك أسعار الأسهم، ويعظّم معها ثروة المساهمين. كذلك هناك الشركات التي تتجاهل القوانين البيئية الوطنية، مضحية بسمعتها على المدى الطويل مقابل أرباح قصيرة المدى، ومعرضة نفسها لعقوبات وغرامات حكومية قد تدفع بأسعار أسهمها للنزول. كما أن معدل دوران الموظفين في الشركات دليل آخر على قصر نظر الشركات، وعادة ما يقضي الموظفون سنوات قليلة في هذه الشركات قبل الانتقال إلى أخرى لغياب الرؤية فيها، وبالمقابل فإن الموظفين عادة ما يستقرون فترة أطول في الشركات العريقة ذات الاستثمارات طويلة المدى، وهي الشركات التي عادة ما تخرّج قادة لقطاعاتها.

وبمعرفة ذلك كله، يتضح أن التدخل الحكومي ومعالجة هذا السلوك هما ضرورة أساسية لتحقيق النمو المستدام للشركات وبالتالي للاقتصاد الجزئي؛ ولذلك فإن الكثير من الحكومات تتدخل في الشركات من خلال حوكمة الشركات التي تلتفت للأطر التنظيمية للشركات وتحديداً من خلال مجالس الإدارات. وقد تأتي هذه التدخلات على شكل مطالبات للشركات بالكشف عن خططها طويلة المدى للاستدامة المالية، أو من خلال توفير السبل للمساهمين بالتعبير عن مخاوفهم بشأن الممارسات قصيرة النظر.

إن ضبابية الرؤية لدى الشركات بشأن مستقبلها، وعدم مواءمة هذه الرؤية محيطها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي هما أسهل وصفة لخروجها من السوق. والتاريخ ممتلئ بشركات فكَّر صنّاع القرارات فيها بأرباحها الربعية والسنوية دون النظر إلى الاستثمارات طويلة المدى، لأسباب منها معرفتهم بعدم استمراريتهم مدداً طويلة في مناصب قيادية، أو خوفهم من التشكك في الاستثمارات التي تؤتي أُكلها بعد سنوات، أو حتى استجابة لضغوطات المساهمين الذين يبحثون عن جني الربح السريع؛ ولذلك فإن تدخُل الحكومات لحماية هذه الشركات ضرورة تحمي من خلالها اقتصاداتها الوطنية، ولأنها في حال خسارة هذه الشركات، قد تضطر إلى مساعدتها حمايةً لاقتصاداتها. والشواهد على هذه الخسائر والمساعدات كثيرة، كان أبرزها تدخُل الحكومات لحماية المؤسسات المصرفية خلال الأزمة المالية، التي فُرضت بعدها قواعد صارمة على هذه المؤسسات للابتعاد عن السلوكيات قصيرة النظر.

 

د. عبد الله الردادي