ذهب لبنان “يَهرُب” من بوابة الصادرات

كان من المتوقع أن ينعكس إنهيار سعر الصرف إيجاباً على الميزان التجاري. كما كان ينتظر أن يَخرج من معمودية نار الأزمة كائن اقتصادي أكثر اعتدالاً، يصدّر أكثر ويستورد أقل. فالعجز البنيوي الهائل في هذا الميزان والذي لامس 16 مليار دولار العام الماضي ما هو إلا مرآة فقدان الدولار، سبب كل علة.

ما تفتعله الحكومات قصداً بتخفيض قيمة عملتها لتحسين وضعية الميزان التجاري، جرى في لبنان من دون “منّة” مباشرة منها. فمن جهة تخفيض قيمة العملة يجعل أسعار السلع المستوردة أغلى بالنسبة للمقيمين، ويشجع على الإقبال على المنتجات الوطنية، ومن جهة أخرى تصبح أسعار السلع المصنعة محلياً أرخص بالنسبة للأجانب، ما يفترض تعزيز قدرتها التنافسية للمنتجات الوطنية ويرفع بالتالي من حجم الصادرات إلى الخارج. إلا أن هذا ما لم يحدث في لبنان. حيث أظهرت نتائج الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي (لغاية نهاية تموز) تراجع الصادرات بنسبة 8.3 في المئة بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي، حيث انخفضت قيمة الصادارت من 2.4 مليار دولار في العام 2019 إلى 2.2 مليار منذ بداية العام ولغاية شهر تموز من العام الحالي.

أسباب تراجع الصادرات

ما يظهر على انه تراجع في الصادارت بنسبة 8.3 ما هو إلا “وسام على صدور الصناعيين اللبنانيين الذين يمثلون النسبة الأكبر من المصدّرين”، يقول رئيس اتحاد المستثمرين اللبنانيين وعميد الصناعيين جاك صرّاف. ويشكر الله “على انها لم تتراجع أكثر”. فالأزمة الخانقة التي يمر بها لبنان، ترافقت مع مشكلتين أساسيتين أعاقتا رفع قيمة الصادارت على الرغم من الجهود الجبارة التي يبذلها المصنّعون المصدرون وهما: – إنتشار فيروس كوفيد-19 الذي أقفل الحدود بين الدول، وجعلها اكثر انغلاقاً على نفسها، ومنها العراق على سبيل الذكر لا الحصر. حيث يتكبد المصدّر اللبناني أكلافاً باهظة للوصول إلى أسواقها عبر منافذ البصرة أو تركيا. – صعوبة استيراد المواد الأولية للصناعة بسبب إجبار المصدرين على تأمين الدولار الطازج بسعر السوق الثانوية. هذا الواقع ترافق بحسب صراف مع “عدم وضع آليات الدعم التي وعُد بها الصناعيون موضع التنفيذ. فعلى الرغم من جهود وزير الصناعة لتأمين التمويل للصناعيين، عبر أكثر من طريقة فان كل الوعود بقيت حبراً على ورق ولم ينفذ منها الشيء الكثير لغاية اللحظة”.

صندوق “أوكسيجين”

بعدما أرخى إنهيار سعر صرف الليرة بثقله فوق كاهل المصدرين وتهديده الجدي بتعطيل الصناعة، أصدر مصرف لبنان بعد مطالبات حثيثة من جمعية الصناعيين التعميم رقم 556، حيث كان من المفترض ان يؤمن 100 مليون دولار على سعر 3200 ليرة للصناعيين من أجل استيراد المواد الاولية. وعلى الرغم من ولادة القرار مشوهاً، حيث لا يمكن ان يستفيد منه اكثر من 333 معملاً، لغاية مبلغ حده الاقصى 300 الف دولار سنوياً، مقابل حرمان أكثر من 5 آلاف معمل من الدعم، فهو لم يطبق بالشكل المطلوب. أما بالنسبة لصندوق cedar oxygen fund، الذي ينص على تحويل عوائد الصادرات الصناعية المقدرة بـ 3 مليارات دولار بشكل كامل الى الصندوق، على ان يعود ويقرضها إلى الصناعيين كاملة من أجل تمويل شراء حاجاتهم من الخارج، فهو لم يتوقف. وعلى الرغم من ضعف إقبال الصناعيين عليه حيث لم يتخطَّ لغاية اللحظة عدد الطلبات المقدمة العشرين طلباً، فان “العمل بالصندوق مستمر، والأموال جاهزة والجهد ينصب على تطوير آلياته وجعله مألوفاً اكثر للصناعيين”، بحسب الصناعي وعضو المجلس الإستشاري لـ “الصندوق” بول أبي نصر. “ولأن الصندوق موجود في اللوكسمبورغ، وإجراءات التدقيق بالملفات والعملاء مشددة وتتطلب أوراقاً ومستندات أكثر من التي يجب تقديمها في لبنان، فان العملية تأخذ بعض الوقت. إلا ان هذا لا يعني أبداً ان العمل في الصندوق قد توقف”.

بحسب أبي نصر فان “محاولة الصندوق توفير تمويل قائم على إرجاع قسم من أموال الصادرات بالعملة اللبنانية، لإفساح المجال أمام تأمين الدولار للصناعيين غير المصدرين بسعر أقل من السوق، عقّدت العملية قليلاً وأخافت الصناعيين”. إلا ان الصندوق في طور اطلاق خدمة جديدة تتمثل في التمويل الكلاسيكي قصير المدى. حيث يفتح الصندوق للصناعي اعتماداً مالياً LC لفترة شهرين أو ثلاثة مقابل فائدة بسيطة. وهو ما سيسهل على الصناعيين والمصدّرين استئناف عملياتهم مع الخارج بسهولة ومن دون أي تعقيدات لوجستية. ومن بعدها يصبح أسهل على الصندوق بحسب أبي نصر تأمين التمويل التعاضدي البالغ الأهمية.

الاعتماد على الذات

هذا الواقع دفع بالمصدّر للاعتماد في التمويل على نفسه. حيث يؤمن بدل مشترياته ويحافظ على مؤسسته وعماله من صادراته. “ولا يتكل على العقلية الفاشلة عند السياسيين، كل السياسيين، التي لا تشبه ثقافة الصناعة والتصدير”، يقول صراف. من دون ان ننسى ان أهمية الصناعة الوطنية لا تقتصر على التصدير بل أهميتها أيضاً بالدور الذي تلعبه كبديل عن الاستيراد وهذا ما لمسناه بتراجع استيراد الادوية بنسبة 16 في المئة رغم دعمها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المنظفات والمعقمات والسلع الغذائية والكثير غيرها من الصناعات الوطنية”.

هروب الذهب

بحسب الارقام، إحتلت صادرات الاحجار الكريمة وشبه الكريمة والمعادن الثمينة المركز الاول بحصة بلغت 40.6 في المئة من مجمل الصادارت. تلتها منتجات صناعة الأغذية بنسبة 11.1 في المئة. فالآلات والأجهزة والمعدات الكهربائية بنسبة 9.4 في المئة. ثم منتجات الصناعة الكيماوية بنسبة 8.7 في المئة. فالمعادن العادية ومصنوعاتها بنسبة 8.2 في المئة.

اللافت للنظر كان الارتفاع الكبير في حجم الصادرات إلى سويسرا حيث سجلت الصادرات منذ بداية العام زيادة بنسبة 22 في المئة لتبلغ حصتها 33.9 في المئة من مجمل الصادرات السلعية وبقيمة تقدر بحوالى 766 مليون دولار، من أصل مجموع الصادرات البالغ 2.2 مليار دولار. هذه الزيادة الكبيرة بالتصدير إلى سويسرا تمثل الوجه الآخر لارتفاع صادرات المعادن الثمينة. وبالتالي تتخطى موقع لبنان كوسيط لاعادة تصدير الذهب والمعادن النفيسة القادمة من جنوب أفريقيا، وترتبط بحسب أبي نصر بعملية “اخراج المودعين ما يملكون من ذهب يحتفظون به في القطاع المصرفي على شكل حلى ومجوهرات أو سبائك وليرات، وارساله إلى الجهة الاكثر أماناً المتمثلة بدولة سويسرا”. هذا الإخراج الشرعي والقانوني يرتبط بانعدام الثقة بالقطاع المصرفي والخوف من مصادرة المجوهرات والسلع النفيسة بعد مصادرة الدولارات.

ماكينزي والصادرات

العودة إلى الرؤية الإقتصادية التي وضعتها ماكينزي للسنوات الخمس المقبلة 2020-2025 تعتبر اكثر من ضرورة بالنسبة إلى الصناعيين. خصوصاً ان الخطة تشدد على تعزيز القطاعات الانتاجية من صناعة وزراعة، والعمل إلى رفع مساهمتها من الناتج المحلي إلى 35 في المئة. وبحسب صراف فان “على الحكومة الجديدة إعادة وضع الخطة على طاولتها وتفعيلها”، لما للانتاج من أهمية في تأمين السلع والمواد الغذائية والطبية وزيادة الصادرات وتعزيز دخول الدولار إلى الاقتصاد.​
خالد ابو شقرا.