في الماضي القريب، فرض الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، عقوبات على شركة «هواوي» الصينية، وذلك بقطع العلاقات التجارية بينها وبين عدد من الشركات الأميركية التي تلعب دوراً حساساً في سلاسل التوريد لـ«هواوي»، مثل شركات المعالجات الإلكترونية و«غوغل» وغيرها. وُصف هذا القرار حينها بعدد من الأوصاف، كان أقلها هو التدخل الحكومي في المنظومة التجارية، وأقساها هو وصف القرار بالأرعن غير المسؤول. لم يكن تبرير القرارات حينها بعيداً عن التبريرات الأميركية، وهو حماية الأمن القومي، وهو معتاد سماعه من المسؤولين الأميركيين. واليوم، جاءت إدارة جديدة، كانت تنتقد صدامية ترامب، وتدّعي أنها ستتبع أسلوباً أكثر دبلوماسية في احتواء الصين، ولكن الأيام أثبتت أنها لم تبتعد كثيراً عن أسلوب الإدارة السابقة لها.
فقد أصدرت الحكومة الأميركية قراراً قد يمثّل نقطة تحول في العلاقات بينها وبين الصين، هذا القرار يمنع تصدير الرقائق الإلكترونية المتقدمة إلى أي شركة أو مؤسسة صينية تعمل في أنشطة الذكاء الاصطناعي والحوسبة فائقة الأداء، دون ترخيص من الحكومة الأميركية، في حال كانت هذه التقنيات مستقاة من تقنيات أميركية. هذا هو مختصر القرار، ومعناه يفوق ذلك بكثير، فجميع الشركات في العالم التي تصنع الرقائق الإلكترونية تستخدم تقنيات أميركية، وهو ما يعني أن جميع هذه الشركات ممنوعة من التصدير إلى الصين؛ أي إن الصين – وابتداء من تاريخ إعلان القرار – لن تتمكن من الحصول على رقائق إلكترونية متقدمة. يبيّن هذا النظام أن الولايات المتحدة لا تمانع استخدام تقنياتها وتقدمها العلمي سلاحاً لقمع أي دولة تختلف معها في التوجهات السياسية والاقتصادية.
ويهدف هذا القرار بكل بساطة إلى إعادة الصين سنوات إلى الخلف، من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية. فمن خلال تصعيب حصول الشركات الصينية على الرقائق المتقدمة التي تُستخدم في مجال الذكاء الاصطناعي، لن تتمكن الشركات الصينية من منافسة الشركات الأخرى، لا سيما الأميركية والأوروبية والكورية، وسيمنع ذلك الصين من أن تصبح لاعباً عالمياً وقوة اقتصادية في المجالات الاستراتيجية. أما من الناحية العسكرية، التي يبدو أنها المحفز الرئيس لهذا القرار في هذا التوقيت، فإن الصين لن تتمكن من تطوير أجهزة حواسيب عملاقة ذات تطبيقات عسكرية، مروراً بتلك المستخدمة في نمذجة الأسلحة النووية، وصولاً إلى الطيارات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.
انتقدت الصين هذا القرار، ووصفته بأنه انتهاك لأنظمة التجارة العالمية، وأن العزل الاقتصادي يأتي بنتائج عكسية، وأن الولايات المتحدة تتجه إلى تسليح العلوم والتقنية، في حين بررت الولايات المتحدة هذا القرار بأن الصين تستخدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مراقبة مواطنيها وانتهاك حقوق الإنسان، لا سيما الإيغور، إضافةً إلى حماية الأمن القومي الأميركي. هذا القرار يوضح أن نهج الإدارة الأميركية الحالية تجاه الصين لا يختلف كثيراً عن سابقتها، بل إن قرارات سابقتها لم تكن ذات تأثير قوي، فاستهداف شركة واحدة – وإن كانت «هواوي» – لا يؤثر على صناعات بلد بأكملها، في حين يضع هذا القرار الصين تحت الضغط، فقوتها الاستراتيجية المستقبلية على المحك، بل إن الولايات المتحدة لا تنوي الوقوف عن هذا الحد، فهي تسعى إلى وضع قائمة للكيانات الصينية الممنوع التعامل معها، ولا يُستغرب أن تستخدم نفوذها في منع الشركات غير الأميركية من التعامل مع هذه الكيانات الصينية.
ويوضح ذلك أن جميع المحاولات الأميركية لاحتواء تقدم الصين التقني باءت بالفشل، إلى درجة أنها اتجهت إلى قرار قد يضر بمصالح شركاتها التي تعتمد بشكل كبير على طلب السوق الصينية، والتي شكّل نمو الصين عاملاً مهماً في ازدياد أرباحها. فعلى سبيل المثال، حين منعت الحكومة الأميركية شركة «نفيديا» من بيع الرقائق الإلكترونية إلى الصين في أغسطس (آب) الماضي، قدّرت الشركة خسائرها للربع الثالث بنحو 400 مليون دولار. ويقدر الخبراء أن الإجراءات الجديدة قد تعرض نحو 30 في المائة من إجمالي إيرادات عمالقة صناعة الرقائق الأميركية والعالمية للخطر؛ لأن السوق الصينية تمثل ثلث الطلب.
إن هذا القرار قد يعجّل من الجهود الصينية في تصنيع الرقائق الإلكترونية المتقدمة، لا سيما أن القرار نافذ بالفعل. وقد تستعمل الصين كل الخيارات المتاحة لديها لتتمكن من ذلك، سواء كانت خيارات قانونية، مثل دعم العلوم والتقنية وتكوين شراكات لتعزيز تقدمها، أو خيارات غير قانونية، مثل النقل غير الشرعي للتقنية وغيرها. ولعل تصريح أحد المسؤولين الصينيين يعبّر عن رد فعل الصين، حين قال إن القيود الأميركية قد تبطئ فقط تقدم الصين التقني، ولكنها لن تخنقه.