لعل الشهر المنصرم هو أحد أكثر الأشهر صعوبة لشركة «أبل»؛ الشركة الأكبر تقييماً في العالم بقيمة سوقية تصل إلى 2.8 تريليون دولار. وشهر سبتمبر (أيلول) في العادة هو ذروة السنة لشركة «أبل»، ففيه تصدر النسخ الجديدة من هواتفها الذكية، وتجذب الأنظار بمؤتمر إطلاق هذه النسخ، وتحتفي بمطوريها وإنجازاتها السنوية. ولكن الشهر الماضي شهد حدثين لـ«أبل»، آخرهما ما انتشر عن ارتفاع درجة حرارة هاتفها الجديد، وأهمهما هو القرار الذي أصدرته الصين بخصوص هواتف «الآيفون».
فحسب تقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، فرضت الحكومة الصينية على موظفيها عدم إحضار هواتف «الآيفون» لمقرات العمل، أو حتى استخدامها لهذه الأغراض. وأضافت «بلومبرغ» في اليوم التالي لهذا التقرير، أن الحكومة الصينية تعتزم كذلك تطبيق هذا النظام على جميع الشركات المملوكة للحكومة، والتي يزيد عددها على 150 ألف شركة، ويعمل فيها أكثر من 56 مليون مواطن صيني.
والصين هي أحد أهم الدول لشركة «أبل»، فهي تقع في المركز الثالث من ناحية حجم المبيعات بنحو 20 في المائة من مبيعات «أبل». والسوق الصينية نفسها ليست هي سبب أهمية الصين، فنحو 80 في المائة من مبيعات شركة «أبل» من الأجهزة، والسواد الأعظم من هذه الأجهزة يصنع في الصين. وللدقة، فإن 90 في المائة من أجهزة «أبل» تصنع في الصين. وهنا تكمن أهمية الصين لـ«أبل»، فهي مصنع الشركة الذي لا يمكن الاستغناء عنه.
وتعد شركة «فوكسكون» من أكبر شركاء «أبل» منذ أكثر من عقدين، ففي عام 2000، وقبل ازدهار علاقتها مع «أبل»، كانت عوائد «فوكسكون» السنوية لا تتجاوز 3 مليارات دولار، وفي 10 سنوات فقط، ومع ازدهار أجهزة «أبل» بأنواعها، وصلت عوائد الشركة إلى نحو 100 مليار دولار، وفي عام 2022 وصلت عوائدها إلى أكثر من 200 مليار! ويعمل في هذه الشركة نحو 1.2 مليون موظف، وهي من أكثر الشركات من ناحية عدد الموظفين في العالم.
ويمكن اختصار صعوبة استبدال دولة ثانية بالصين في نقطتين: أولاهما هي الإجراءات الحكومية، فالحكومة الصينية سهلت لـ«أبل» العمل في الصين على مدى سنوات طويلة. فلم تكن الإجراءات الحكومية أو التوظيف يوماً عائقاً في سبيل توسع شركة «أبل» في الصين، ولا يمكن لـ«أبل» أن تجد مثل هذه التسهيلات في الدول التي يُقترح أن تكون بديلة للصين، كالهند مثلاً. ولطالما كانت العلاقة بين الحكومة الصينية و«أبل» علاقة يسودها الاحترام المتبادل، فالحكومة الصينية تتجاوب مع متطلبات الشركة الأميركية، وفي المقابل فإن «أبل» تمتثل لرغبات الحكومة الصينية؛ سواء بحذف بعض التطبيقات من متجر التطبيقات الصيني، أو بعدم التصريح علناً ضد الحكومة الصينية.
وقد انتشر سابقاً مقطع لصحافية تحاول اللحاق بالرئيس التنفيذي لشركة «أبل» وانتزاع تصريح منه بذم الحكومة الصينية واستنكار مواقفها ضد حقوق الإنسان، ولكن محاولاتها لم تسفر إلا عن صمت مطبق من الرئيس التنفيذي تيم كوك.
والنقطة الثانية هي القوى البشرية، فاليد العاملة الماهرة التي تعمل في المصانع الصينية أكثر من سكان فيتنام كلها، التي يقترح كذلك أن تكون بديلة للصين. ويجدر بالذكر أن الجزء الأنشط في فيتنام هو الجزء الشمالي منها القريب من الصين، وأحد أسباب نهضته هو قربه الجغرافي من سلاسل التوريد الصينية. وقد درّبت «أبل» منذ 2008 أكثر من 24 مليون صيني للعمل في مصانعها، وهناك من الموظفين العاملين حالياً من سبق له العمل على النسخة الأولى من «الآيفون» التي صدرت منذ نحو 15 عاماً.
هذا التراكم المعرفي والثقافة المؤسسية التي تملكها مصانع «أبل» في الصين ليست سهلة النقل إلى دولة أخرى. ولا يمكن كذلك إغفال حجم استثمارات «أبل» في الصين والتي تتمثل في الأجهزة والمكائن الصناعية التي صُنعت وصُممت خصيصاً لإنتاج الهواتف الذكية، والتي تملكها شركة «أبل»، حتى لو وُجدت في مصانع شريكة لها.
إن شركة «أبل» اليوم في موقف حرج بسبب الحرب التقنية بين الولايات المتحدة والصين، فالأولى قاطعت الصين تقنياً بحرمانها من الرقائق الإلكترونية المتقدمة؛ بل وتحفز حلفاءها كاليابان وهولندا لفعل المثل. والصين ترد بإجراءات انتقامية مشابهة بمنع المواد الأساسية المستخدمة في تصنيع هذه الرقائق، وباستثمارات مليارية تزيد على 40 مليار دولار لإنتاج رقائق متقدمة. ولا يبدو أن هذه الحرب على وشك نهايتها، فحتى المستبشرين سابقاً بقدوم الرئيس بايدن أصيبوا بخيبة أمل، من استمراره في سياسة ترمب نفسها بمحاربة الصين، ولو فاز ترمب بالانتخابات الرئاسية فلا يمكن التنبؤ بما سيقوم به حيال الصين.
وفي وسط ذلك كله تقف الشركة الأعلى تقييماً في العالم حائرة فيما تفعل، فلا يمكن لها على المدى القريب نقل عملياتها الصناعية خارج الصين، ولا تستطيع كذلك الاستمرار على حالة عدم الاستقرار التي يبدو أنها في حالة تصاعد مستمرة.
د. عبد الله الردادي