أرشيف التصنيف: المقالات العامة

تحديات صعبة أمام الطاقة الأوروبية

تعاني أسواق الطاقة العالمية أصعب تجربة مرت بها منذ عقود بسبب حرب أوكرانيا، والقرارات الأوروبية لمقاطعة الغاز والنفط الروسيين اللذين يشكلان عماد إمدادات الطاقة لأوروبا. ومن ثم رد الفعل الروسي بقطع الإمدادات الطاقوية إلى أوروبا.
كان من المستغرب في بادئ الأمر كيف تقاطع أوروبا الإمدادات الروسية؟! من المفهوم أن أوروبا أرادت أن تعبر عن دعمها لأوكرانيا واستهجانها للغزو الروسي، كما أن الولايات المتحدة كانت ولا تزال تضغط منذ عقود لفك الاعتماد الأوروبي على الإمدادات الغازية الروسية لأوروبا؛ لكن من غير المفهوم أن تقاطع دول صناعية المصدر الأساسي لمصدر طاقاتها الرئيسة، بتبني قرارات مستعجلة، دون التحضير اللازم مسبقاً للحصول على التعويضات. فقرار المقاطعة هذا غريب من نوعه، إذ إنه ضار للدول التي وافقت عليه قبل غريمها وأكثر. وهذا ما بدأ يحصل فعلاً مع تسييس ومقاطعة الغاز الروسي لأوروبا.
شعرت أوروبا بثقل عبء قراراتها هذه. وأول رد فعل هو الارتفاع الحاد في أسعار الكهرباء للمستهلك الأوروبي. وهذا ما تشير إليه بوضوح الزيادة الشهرية العالية على فاتورة كهرباء المنازل، ناهيك عن ارتفاعها على الشركات الصناعية والخدماتية، مما أخذ يزيد من التضخم في أوروبا.
بدأت الدول الأوروبية حالاً بعد اتخاذ قرارات المقاطعة الاتصال مع دول مصدِّرة للغاز، على غرار قطر والولايات المتحدة والجزائر ونيجيريا ومصر وإسرائيل. لكن -كما هو متوقع- فإن الطاقات الإنتاجية الإضافية لهذه الدول مجتمعة من الصعب أن تعوض الإمدادات الغازية الروسية الإضافية. هذا الأمر لا بد من أنه كان معروفاً لدى الخبراء والمسؤولين الأوروبيين عند اتخاذ القرار. كما أنه من المعروف أن الاتفاق السريع مع الدول أعلاه، سيعني معادلات سعرية أعلى مما كانت تدفعه الأقطار الأوروبية باتفاقاتها الطويلة المدى مع روسيا. وهذا ما أخذ يحصل الآن فعلاً. والاهتمام الأوروبي حالياً هو تخزين أكبر كميات ممكنة من الغاز قبل حلول فصل الشتاء؛ حيث الحاجة الماسة للتدفئة في حال برد قارس.
وتبادر الأقطار الأوروبية بتبني سياسات متعددة للالتفاف على الأزمة التي تعانيها الآن. فكانت هناك أولاً قرارات المقاطعة. وقد ردت موسكو بقرار مواجه لها من جانبها، بالمبادرة بقطع الإمدادات الغازية للصيانة ولوقت غير محدد، كما هو حاصل مع خط أنبوب «نورد ستريم- 1» الذي يزود ألمانيا ودولاً أخرى في الشمال الأوروبي بالغاز. سيكون من الصعب على ألمانيا المعتمدة كلياً على استيراد الغاز عبر الأنابيب، ومن دون منشآت وعقود لاستيراد الغاز المسال عبر الناقلات، أن تعوض الغاز الروسي بسهولة.
والجولة الجديدة للسوق الأوروبية المشتركة في معركة «تسييس الطاقة» هي فرض سقف سعري على صادرات النفط الروسية. تم إصدار قرار أوروبي مؤقت بهذا الصدد في شهر يونيو (حزيران) الماضي؛ لكن لم تتم متابعته أو تنفيذه فعلاً.
تفيد المصادر النفطية بأن الرئيس الأميركي جو بايدن أعاد إحياء الاقتراح في اجتماعات زعماء دول «مجموعة السبع» الأخيرة، لأجل استمرار الضغط على روسيا وريعها البترولي، وللحد من ارتفاع أسعار المنتجات البترولية في السوق الأميركية، ومعدلات التضخم العالية التي وصلت إلى معدلات قياسية، بالذات قبل حلول الانتخابات التشريعية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
سيتم تنفيذ خطة الرئيس بايدن من خلال قرارات المقاطعة والحصار النفطي الثانوية الأميركية التي تؤهل وزارة المالية الأميركية لملاحقة ومعاقبة المصارف وشركات الشحن والتأمين التي تتعامل مع العقود الروسية، دون السقف السعري في الدول المستوردة. وتتأمل واشنطن أن يردع هذا القرار موسكو عن إمكانية الحصول على أسواق نفطية جديدة تعوض الأسواق الأوروبية.
لم تتبين حتى الآن ما هي قرارات المقاطعة الأميركية التي تنوي واشنطن تبنيها في عقوباتها. المعروف أن الشركات الروسية كانت على اتصال مع الشركات الصينية والهندية لاستيراد كميات إضافية من النفط بعد الحصار الأوروبي؛ حيث تعتبر روسيا مصدراً مهماً للنفط للدولتين الآسيويتين الكبريين.
من جانبها، قررت مصلحة الكهرباء الفرنسية (إي دي إف)، نظراً للضغوط التي يمارسها عليها وزير الطاقة، إعادة تشغيل 32 مفاعلاً نووياً عاطلاً عن العمل حالياً، للقيام بأعمال الصيانة وتشغيل المفاعلات هذه قبيل فصل الشتاء، بحسب صحيفة «فايننشيال تايمز». أدى توقف هذه المفاعلات وتوقف الغاز الروسي إلى شح موارد الطاقة في فرنسا، واضطرارها إلى استيراد الكهرباء من بريطانيا ودول مجاورة أخرى، كما ارتفعت أسعار الكهرباء.

وليد خدوري

اليابان ثملة

هل تتخذ الحكومات قراراتها بناءً على مصلحة الشعوب؟ منطقياً يبدو الأمر كذلك، فالحكومات أياً كان هيكلها، لا ترغب في اتخاذ قرارات تضر بأبناء بلدها. حتى وإن كانت بعض القرارات لا ترضي السواد الأعظم، إلا أن الأغلبية يدركون أن الحكومة – على الأقل – ترى أن هذه القرارات للمصلحة العامة، وإن كانت مؤلمة. ولذلك فعندما هجمت الجائحة على العالم، بدأت بعض الحكومات باتخاذ قرارات صعبة للحفاظ على اقتصاداتها من الانهيار، واختلفت هذه القرارات حسب الحكومات، ولكن معظم هذه القرارات كانت منطقية بشكل أو بآخر دون أي غرابة، حتى جاء قرار الحكومة اليابانية قبل عدة أيام.
فالحكومة اليابانية أطلقت مسابقة، تشجع فيها الشباب ممن دون سن الأربعين على شرب المزيد من الكحول! وتدعو هذه المسابقة الشباب إلى تقديم خطة عمل تساهم في زيادة إقبال الشباب على شرب الكحول. وانخفضت نسبة استهلاك الكحول لدى الشباب الياباني، لأسباب منها تغير أسلوب الحياة وعادات الشرب بعد العمل، إضافة إلى الجائحة التي زادت من بقاء الناس في منازلها. السبب الأخير تحديداً جعل المسابقة تركز على تقديم المقترحات لجعل اليابانيين يشربون أكثر في منازلهم. هذه المعلومات ليست من الصحافة الصفراء أو من المواقع غير الموثوقة، بل هي معلومات نشرتها الصحف اليابانية، التي تبنى الكثير منها هذه المسابقة لتحفيز الشباب على المشاركة. فلماذا أصدرت اليابان هذا القرار الغريب؟
في عام 1980، شكلت العائدات الضريبية للكحول 5 في المائة من إيرادات الضرائب في اليابان، وانخفضت هذه النسبة لتصل إلى 3 في المائة عام 2011، لتنخفض بعد ذلك إلى نحو 1.7 في المائة عام 2020، هذا الانخفاض أثر بشكل كبير على العوائد الضريبية لحكومة اليابان، التي تعاني بالفعل من عجز في ميزانيتها يزيد على 340 مليار دولار. وانخفضت عائدات الضرائب خلال العام الماضي بنحو 813 مليون دولار، وهو أكبر انخفاض في الثلاثة عقود الماضية، بعد هذا النقصان أصبحت العوائد 8.4 مليار دولار. وللتوضيح، هذا الرقم الأخير هو ما تجنيه الحكومة اليابانية من ضرائب جراء مبيعات الكحول!
والحكومة اليابانية لا تريد خسارة هذه الأموال، خصوصاً في وقت تسعى فيه لتحفيز اقتصادها، ولذلك فقد أطلقت هذه المسابقة التي أعلنتها وكالة الضرائب الوطنية في رسالة واضحة وشفافة، أن الحكومة تريد المزيد من الأموال، ضاربة صحة المجتمع عرض الحائط. هذه المسابقة هي تخبط جديد للحكومة اليابانية، التي حذرت وزارة صحتها العام الماضي من عواقب الإفراط في شرب الكحول وما يسببه من مشكلات اجتماعية كبرى.
ولم تعقب منظمة الصحة العالمية على هذه المسابقة التي مر على إعلانها أكثر من 5 أيام، وهي التي يمتلئ موقعها الإلكتروني بالتحذير من مخاطر الإسراف في شرب الكحول. وتذكر منظمة الصحة العالمية في موقعها العبارة التالية: «كلما قلت التنمية الاقتصادية في البلدان أو المناطق، ارتفع معدل الوفيات والإصابات والأمراض التي تعزى للكحول، ويرتبط ذلك بشكل مباشر بمعدل استهلاك الكحول لكل فرد»، فما هو معدل استهلاك الكحول في اليابان؟ كان في السابق نحو 100 لتر في العام لكل فرد، وهو الآن 75 لتراً في العام لكل فرد، وقد لا تعلق المنظمة على كلا الرقمين أو حتى المسابقة، لأسباب معروفة.
إن إلقاء المحاضرات عن القيم والأخلاق ومصلحة الشعوب، أمر في غاية السهولة في أوقات الرخاء. وهو أمر أصبح سماعه معتاداً من الدول المتقدمة بشكل عام. ولكن عند التقلبات وشظف العيش تختلف الموازين، فلو اتخذت أي دولة ثانية القرار نفسه، سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، لتكالبت عليها الدول منددة ومستنكرة، ولكن الموازين كذلك تختلف حسب الدولة التي تتخذ القرار. وقد يكون لليابان ما يبرر هذا القرار حسب ثقافة الشعب ودينه، ولكن الدول الأخرى كذلك، التي تحذر باستمرار من مغبة الكحول والإسراف فيه – مثل بريطانيا – لا تمانع بكل تأكيد في دعم هذه الصناعات بهدف التصدير للخارج، بل يعد ذلك أحد أهم نجاحات بعض الحكومات البريطانية السابقة، وكأن شرب الكحول غير ذي مضرة إن كان خارج الحدود، خصوصاً إذا كانت مبيعاته وصادرته تملأ الخزائن.

د. عبد الله الردادي

التباطؤ التكنولوجي في الصين ليس بالأمر السيئ

للمرة الأولى في التاريخ، سجلت أكبر شركتين للتكنولوجيا في الصين انخفاضاً في الإيرادات، إذ تواجه الدولة عقبات نمو غير مسبوقة وتوقعات غير مؤكدة. لكن على بعد 2000 ميل، ثمة تحديات أكبر تنتظر واحدة من أكبر الشركات في جنوب شرقي آسيا.
سجلت شركة Sea Ltd، التي تعمل في مجال تشغيل الألعاب عبر الإنترنت وبوابات التجارة الإلكترونية، نمواً بنسبة 29 في المائة، وهو الأبطأ منذ ما يقرب من خمس سنوات. فنحن نميل إلى التفكير في التوسع في الإيرادات على أنه أفضل من التراجع، ولكن في حالة شركة «Sea» التي تتخذ من سنغافورة مقراً لها، فإن كل دولار يتم جلبه من خلال أعمالها التجارية الإلكترونية يتسبب في خسارة المزيد من المال. وقد واصلت شركتا Tencent Holdings Ltd، وAlibaba Group Holding Ltd على الأقل إعادة الأرباح حتى عندما تقلص السقف.
أدى ارتفاع التضخم العالمي والنمو الاقتصادي غير المستقر إلى دفع شركة «Sea» في شهر مايو (أيار) إلى خفض توقعات إيرادات العام بأكمله من التجارة الإلكترونية، والتي تمثل حوالي 52 في المائة من إجمالي مبيعات الشركة، بمقدار 400 مليون دولار إلى نطاق يتراوح بين 8.5 و9.1 مليار دولار. لكن التوجيه بالكامل الشهر الجاري.
في إطار جهودنا للتكيف مع تزايد حالات عدم اليقين الكلية، فإننا نقوم بتحويل استراتيجياتنا بشكل استباقي لزيادة التركيز على الكفاءة والتحسين من أجل القوة والربحية على المدى الطويل لأعمال التجارة الإلكترونية.
ويبدو هنا أن الإدارة أدركت أن شراء الإيرادات غير المربحة ليس نموذجاً تجارياً مستداماً، ولكن اختيار عدم القيام بذلك يجعل التنبؤ بالمستقبل شبه مستحيل.
في بعض الأعمال التجارية عبر الإنترنت – مثل التجارة الإلكترونية وتسليم البضائع إلى المنازل – تتمتع الشركات بقوة معينة لتحقيق الأهداف العليا من خلال تعزيز التسويق، واستخدام الإغراءات والإعانات لجذب المستهلكين إلى إنفاق الأموال. يجب أن يفكر المستثمرون في هذا على أنه «نمو خاطئ»، وقد رأينا ذلك في الأيام الأولى من خدمة النقل السريع وخدمة توصيل الطعام عندما قدم مقدمو الخدمة قسائم إنفاق وخصومات لجعل العملاء يستخدمون منصاتهم حتى عندما تخسر كل معاملة إضافية أموالاً. على النقيض من ذلك، فإن «النمو الحقيقي» سيجعل كل عملية شراء تجلب ربحاً للمزود حتى لو كانت التكاليف الهيكلية مثل الموظفين الإداريين تعني أن الشركة تخسر المال بشكل عام.
كان توسع التجارة الإلكترونية لشركة «Sea» على مدار السنوات القليلة الماضية، رغم أنه مثير للإعجاب، نمواً خاطئاً إلى حد كبير. وفي الوقت نفسه، تراجعت أعمال الترفيه الرقمي، التي تشكل 44 في المائة من الإيرادات، بنسبة 12 قي المائة في الربع الثاني مع تلاشي الإنفاق على الإقامة في المنزل بسبب «كوفيد».
من نواحٍ كثيرة، تعتبر «Sea» مكان التقاء وتقاطع بين شركتي «Alibaba» و«Tencent»، وهما أكبر شركات التجارة الإلكترونية والألعاب في الصين على الترتيب.
استمرار عمليات الإغلاق، والقمع على شركات الإنترنت، وارتفاع التضخم، وأزمة الرهن العقاري المتصاعدة والتوترات الجيوسياسية المتصاعدة، تعتبر جميعها عوامل مؤثرة على توقعات الناتج المحلي الإجمالي في الصين. فبينما تستهدف الحكومة نمواً بنسبة 5.5 في المائة العام الجاري، فقد بلغ الإجماع في استطلاع أجرته «بلومبرغ» لخبراء الاقتصاد فقط 3.8 في المائة. وتعد شركتا Goldman SachsGroup Inc، وNomura Holdings Inc أحدث شركات قامت بخفض سقف توقعاتهما.
سجلت شركة «Tencent» الأسبوع الجاري انخفاضاً بنسبة 3 في المائة في الإيرادات، أكثر من المتوقع، وخفضت حوالي 5 في المائة من قوتها العاملة بعد تراجع الإعلانات بمعدل قياسي. في وقت سابق من الشهر الجاري، أعلنت شركة «علي بابا» أيضاً انخفاضاً في المبيعات. وقد انخفض صافي الدخل في كلتا الشركتين، لكنهما على الأقل ظلتا رابحتين.
نظرة شركة «Sea» تعتبر أقل وضوحاً. فخدمة «Shopee» التي تقدمها هي عبارة عن تطبيق التجارة الإلكترونية الأعلى تصنيفاً في إندونيسيا، وتايوان، وجنوب شرقي آسيا بشكل عام، بحسب الشركة، إلا أن الثروات الاقتصادية لأسواقها الرئيسية لا تزال غير مستقرة. وتتمتع إندونيسيا، أكبر اقتصاد في جنوب شرقي آسيا، بنمو قوي مدفوع بالتوسع في الصادرات التي تغذيها الزيادات في أسعار السلع الأساسية. ومع ذلك، يترك التضخم الباب مفتوحاً أمام احتمال ارتفاع أسعار الفائدة الذي قد يعيق إنفاق المستهلكين.
في وقت سابق من الشهر الجاري، خفضت سنغافورة من توقعات الناتج المحلي الإجمالي بمقدار نقطة مئوية واحدة بينما قلصت تايوان، سادس أكبر اقتصاد في آسيا، توقعات النمو مرتين العام الجاري بسبب تباطؤ الطلب على الإلكترونيات الاستهلاكية وانخفاض الاستهلاك الخاص. كما خفض «بنك التنمية الآسيوي» توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي لعامي 2022 و2023 لتايلند وماليزيا.
ومع وجود احتمال ضئيل بتحسن الاقتصاد الأوسع وزيادة الضغط على الإنفاق الاستهلاكي، فإن فرص شركة «Sea» في نشر توسع سريع في الإيرادات وتحويل المظهر المربح أخيراً يعد أمراً بعيد المنال، وهو ما أجبر الإدارة على تبني بعض الخيارات الصعبة، ومن المقرر أن يتم التضحية بالنمو نتيجة لذلك. إنه نوع من الانضباط المالي الذي يجب على المستثمرين أن يبتهجوا به، لكنهم في البداية سيحتاجون إلى قبول إيرادات ضعيفة.

تيم كولبان

العملات المشفرة تفشل حيث قد ينجح اليوان الرقمي

هل تدوي صافرات الإنذار من الحجم الكبير، مع تباهي المؤيدين بقدرة العملات المشفرة على التهرب من عقوبات الحكومة الأميركية؟
في مارس (آذار) الماضي، أبلغ أحد مؤسسي شركة «تورنادو كاش» – ما يُسمى خدمة «ميكسر» المعنية بإخفاء معاملات العملات المشفرة، عن طريق مزجها مع غيرها – وكالة «بلومبرغ» أنه سيكون من «المُحال تقنياً» فرض عقوبات ضد البروتوكولات غير المركزية. والمفاجأة؛ فرض العقوبات على شركة «تورنادو» من قبل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، التابع لوزارة الخزانة الأميركية، ويرجع ذلك جزئياً إلى استخدام الشركة من قبل قراصنة، يُقال إنهم على صلة بغسل الأموال في كوريا الشمالية.
مع انخفاض أسهم «تورنادو» بنسبة 95 في المائة عن أعلى مستوى لها على الإطلاق، وإزالة «كود المصدر» الخاص بها من على «غيت هَب» (الشركة التابعة لمايكروسوفت والمعنية بتوفير الاستضافة لتطوير البرامج والتحكم في الإصدارات)، فإنها تعتبر آخر الضربات الموجهة لنظرية «عدم خضوع العملات المشفرة للعقوبات». وهي الكلمات التي استخدمها فيرغيل غريفيث، العالم الأسبق لدى مؤسسة «إيثريوم» عام 2019 عندما أخبر مؤتمراً لسلاسل الكتل في كوريا الشمالية حول كيفية تفادي العقوبات عبر تحويل الأموال النقدية إلى عملات مشفرة، تلك النصائح المُكلفة التي أسفرت عن إقراره بالذنب وصدور حكم بالسجن الفيدرالي لمدة 63 شهراً.
من الزاوية التقنية، تبين أن أكثر الخدمات غير المركزية لا يمكنها تجنب تطبيق القانون. وتتعرض البورصات لضغوط لمراقبة الروابط بالعملات العادية، شأنها في ذلك شأن مقدمي الخدمات الآخرين، ويمكن فحص سلاسل الكتل ذات المسميات المستعارة لرصد المعاملات المشبوهة، مثل مكاسب مجرمي الإنترنت من كوريا الشمالية الذين مروا عبر شركة «تورنادو». كما لاحظت الزميلة إيميلي نيكول من «بلومبرغ» أنه لم تتمكن صناعة العملات المشفرة من بناء كافة أصول بنيتها التحتية بعد.
ومن الزاوية الجيوسياسية، تعاني العملات المشفرة أيضاً – إذ لا تشهد ارتفاعاً – في خضم الحرب الاقتصادية الباردة. بعد جائحة «كوفيد 19» والاجتياح الروسي لأوكرانيا، كانت واشنطن تستعرض عضلاتها المالية، حتى وسط القلق الناشئ عن نوع من الارتداد السلبي الذي قد يجلبه التضخم أو العملات البديلة. إن إبقاء العملات المشفرة قيد الرصد والسيطرة يتلاءم مع تاريخ التنظيم الأميركي للتكنولوجيا المشفرة، مثل «مازجات» البريد الإلكتروني في تسعينات القرن العشرين، ولكنه أمر أساسي بالنسبة إلى مفاتيح القوة الناعمة للولايات المتحدة في زمن الحرب.
ومن المفارقات العجيبة هنا أن معارضي الاقتصاد العالمي القائم على الدولار كانوا متناقضين في أفضل تقدير حول العملات المشفرة. أما بالنسبة إلى الدول التي تشبه إيران مثلاً، وهي دول تعد منبوذة عالمياً، فإن تهديدات العملات المشفرة تقوض إمكاناتها، بينما من الناحية النظرية، تكون قادرة على الاستعانة بالعملات المشفرة في تسهيل التجارة وتجاوز الرصد الأميركي، وذلك يفوق توقعات هروب رؤوس الأموال وعدم الاستقرار وتقلب الأسعار. أيضاً تأرجحت روسيا مهتزة بين حظر الأصول الرقمية وتشجيعها، وأدركت بلا أدنى شك أنها قادرة على مساعدة النخب الخاضعة للعقوبات عند مستوى ما. لكن الروبل لا يزال صامداً، كما أظهرت السجالات الأخيرة مع الاتحاد الأوروبي بشأن مدفوعات الغاز.
وفي حين أعلنت طهران هذا الأسبوع عن أول طلب استيراد رسمي لها باستخدام عملة مشفرة لم تسمِها، بحسب «رويترز»، فإنها ليست سوى تجربة واحدة في سلسلة طويلة من اختبارات العملات المشفرة التي فشلت في اكتساب الثقل. كما كانت القيود الرقابية غير منتظمة، وهو ما اكتشفه المشتغلون بالعملات المشفرة في إيران مؤخراً.
لذا، يبدو الآن أن العالم الذي تهيمن عليه العقوبات، والصراعات، والتضخم غير المسبوق، لن يعطي دفعة كبيرة للعملات المشفرة. وكما كتب الخبير الاقتصادي إيسوار براساد مؤخراً فإن هيمنة الدولار الأميركي قد تدوم لفترة أطول كثيراً من المتوقع.
لكن هناك احتمالاً واحداً للتحول في الأمر؛ العملات الرقمية للبنوك المركزية، ولا سيما اليوان الإلكتروني الصيني. هذه الأنماط من النقود الرقمية قد تلعب دوراً جيوسياسياً كبيراً اعتماداً على كيفية تطبيقها ومن يتعامل بها أولاً.
يتصور كتاب جديد من تأليف خبيري العقوبات، أستريد فيو، وبول آرثر لوزو، عالماً جديداً، تكتسب فيه الصين ميزة المحرك الأول بعملة رقمية قابلة للتشغيل البيني مع غيرها من العملات، مع فرض معايير على بلدان أخرى تسعى إلى تجنب ممارسات التجارة بالدولار الأميركي.
يتلخص أحد السيناريوهات التي خاض مسؤولو الولايات المتحدة في مناقشتها – وفقاً لموقع «كوين ديسك» المعني بأخبار العملات المشفرة – في إنشاء يوان رقمي «قابل للانتقال بصورة كاملة»، ويعتبر البلدان الأخرى التي تستخدم البنوك ومزودي خدمات المدفوعات كنقاط تقاطع موصولة بشكل فعال مع البنية التحتية للصين. قد يؤدي ذلك إلى قيام كوريا الشمالية أو روسيا بشراء المواد بلا انتقام. وتسعى إيران كذلك إلى الحصول على عملة رقمية رسمية خاصة بها.
هذا مستقبل واحد فقط بين كثير من البلدان، ربما يمثل انطلاق العملات الرقمية للولايات المتحدة ومنطقة اليورو أولاً، أو أن مثل هذه المشروعات تنتهي إلى تفتيت الأنظمة القائمة بدلاً من تعزيزها. وفي كلتا الحالتين، كل ذلك بعيد المنال، غير أنه يشير إلى أنه على الرغم من أن مدفوعات الحرب الاقتصادية الباردة لا يزال الطريق أمامها طويلاً قبل ظهور التهديدات التي يتعرض لها الدولار الأميركي، فإنها تفتح مجالاً جديداً من الصراع يضمن عدم بقاء عبارة «عدم الخضوع للعقوبات» أكثر من مجرد شعار.

ليونيل لورانت

تداعيات أزمة الغاز في ألمانيا

انخفض الطلب على الغاز في ألمانيا خلال النصف الأول من هذا العام نحو 47 مليار متر مكعب (نحو 14.7 في المائة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي)، ويعود السبب الرئيس لتدهور الطلب للارتفاع العالي في أسعار الغاز.
وقد أعرب وزير المالية الألماني، كريستين لندنير، عن مخاوفه من الآثار المترتبة على ارتفاع أسعار الغاز في أهم اقتصاد أوروبي، فالوضع الاقتصادي «هش» والتنبؤات الاقتصادية تخفض من معدلات النمو المستقبلية. كما حذر لندنير من ارتفاع مستوى التضخم إلى معدلات عالية، بحيث لا يستطيع الكثير من الناس تحمل الأسعار العالية للغاز والطاقة والطعام.
وبما أن ألمانيا، بصناعاتها الضخمة، تعد قاطرة الاقتصاد الأوروبي، فقد تغيّرت الصورة الآن، إذ تحول الاقتصاد الألماني ليصبح اليوم المركز الأضعف أوروبياً. إذ انخفضت معدلات النمو الاقتصادي في ألمانيا خلال الربعين الأول والثاني من عام 2022، في الوقت نفسه الذي ارتفع فيه النمو الاقتصادي في دول اليورو. كما قلّص صندوق النقد الدولي في الشهر الماضي توقعه للنمو الألماني لعام 2023 بنحو 1.9 في المائة إلى 0.8 في المائة، ليجعل منه أعلى نسبة تخفيض متوقعة لدول أوروبا في العام المقبل.
لعبت عوامل عدة دوراً في الانتكاسة الاقتصادية الألمانية، أبرزها فواتير الطاقة العالية، التي أدت إلى تقليص الاستهلاك والطلب المحلي. كما تأثرت سلباً حركة التجارة الخارجية؛ حيث تعتمد الكثير من المصانع على الشحن عبر نهر الراين المجاور لعديد من المصانع. لكن انخفاض مستوى النهر قلّص من حجم الصادرات، ناهيك عن الانخفاض الذي طرأ على التجارة الخارجية بسبب إغلاقات الجائحة، بالذات في أسواق الصين.
اعتمدت ألمانيا على روسيا لاستيراد 50 في المائة من حاجتها للغاز المستورد عبر شبكة الأنابيب بين البلدين. وآخر أنبوب هو خط «نورد ستريم – 2»، لذا فمقاطعة الغاز الروسي بسبب الحرب الأوكرانية وضع ألمانيا في وضع صعب جداً للحصول على إمدادات غازية بديلة بسرعة. وكان الأمر سيصبح أسهل لو استوردت ألمانيا الغاز المسال الذي يشحن بالناقلات المتخصصة، كما في جنوب أوروبا.
ذكرت صحيفة «فايننشال تايمز»، الأسبوع الماضي، أن «أسعار الغاز في أوروبا قفزت نحو 251 يورو لميغاوات/ساعة، أو ما يعادل أكثر من 400 دولار لبرميل النفط، نظراً للمنافسة الحادة لتأمين إمدادات غازية قبل حلول فصل الشتاء». وتضيف الصحيفة البريطانية أن «الأسعار قد تضاعفت مقارنة بالمستوى السعري العالي ليونيو (حزيران) الماضي». والأسباب هي نقص الإمدادات الروسية بسبب الحرب الأوكرانية، والمنافسة الحادة بين الأسواق الأوروبية والآسيوية لشراء الغاز قبل حلول فصل الشتاء المقبل.
الحال أن الحكومة الألمانية تعمل حالياً في المرحلة الثانية من برنامجها لتخفيض الطلب على الغاز نحو 20 في المائة، بالإضافة إلى الحصول على 4 ناقلات لتخزين الغاز ومراجعة الضرائب المفروضة على استهلاك الغاز، ناهيك عن إعادة العمل في مناجم الفحم التي تم إغلاقها، برغم الأضرار البيئية الناتجة عن ذلك، لتعويض استخدام الغاز لتوليد الكهرباء في بعض المحطات. هذا، بالإضافة للجوء للطاقات المستدامة، كالرياح، لتوليد الكهرباء.

وليد خدوري

الاقتصاد الذي أثبت صعوبته البالغة للخبراء

«الضوضاء» هي أحدث كلمة رنانة يجري استخدامها بين العديد من خبراء الاقتصاد والمستثمرين، حيث يجري استخدامها للإشارة إلى أي نوع من البيانات الاقتصادية التي لا تتناسب مع الرواية السائدة، وهو ما يحدث كثيراً هذه الأيام. لا تفهموني خطأ، فقد ثبت أن هذا النوع من الاقتصاد صعب الفهم. فهو قوي جداً في بعض النواحي وضعيف جداً في جوانب أخرى. فالبيانات الحكومية الرسمية تظهر أن الناتج المحلي الإجمالي انكمش لربعين متتاليين، بما يتوافق مع التعريف الفني للركود، لكنه لا يبدو وكأنه ركود حقيقي.
لم تكد وزارة العمل تذكر في وقت سابق من الشهر الحالي أن الاقتصاد أضاف 528 ألف وظيفة في يوليو (تموز)، أي أكثر من ضعف التوقعات، وتجاوز جميع تقارير واستطلاعات وكالة «بلومبرغ» للأنباء، حتى رفض خبراء الاقتصاد النتائج باعتبارها مجرد «ضوضاء». فقد تحدثوا مرة أخرى عندما قالت الحكومة في 10 أغسطس (آب) إن مؤشر أسعار المستهلك لم يتغير في يوليو عن الشهر السابق، وهي نتيجة توقعها جميع خبراء الاقتصاد البالغ عددهم 63 باستثناء أربعة توقعوا الزيادة.
الأسبوع الحالي فقط، سمعنا الكثير من خبراء الاقتصاد، وقد استجابوا بعمل «ضجيج» عندما قالت وزارة التجارة الأسبوع الحالي إن مبيعات التجزئة لشهر يوليو بين المجموعة الضابطة التي تُستخدم لحساب الناتج المحلي الإجمالي قد ارتفعت أكثر من المتوقع.
كان كل ذلك محيراً للغاية للكثيرين، وأنا أتفهم ذلك. لكن لمجرد أن البيانات لا تتناسب مع نماذج «وول ستريت» القديمة التي عملت في حقبة ما قبل الجائحة لا يعني أنها «ضوضاء». ربما يعني ذلك أن النماذج في حاجة ماسة إلى التحديث.
خذ بيانات التضخم كمثال. كان عدم وجود تغيير في مؤشر أسعار المستهلكين الشهري مفاجئاً، ولكن ربما لم يكن استثناء، حيث يقوم مكتب إحصاءات العمل بعمل رائع في جمع البيانات وتحليلها. إذا أظهر أن التضخم لم يتغير، فهذا يعني حقاً أن التضخم قد تباطأ، ويعني هذا أيضاً أنه لا يزال بإمكاننا النقاش حول سبب تباطؤ التضخم. نظريتي المفضلة هي أن التضخم الأسرع كان نتيجة للتأثيرات المتأخرة للحافز المالي استجابة لإغلاق الأيام الأولى للوباء، والآن بعد أن تحرك الحافز بعيداً في مرآة الرؤية الخلفية، فإن مكاسب الأسعار ستتباطأ. فالبيانات على ما هي عليه، ولكن لا يزال من الممكن أن تخضع للتفسير.
قد يتم أيضاً تجاهل رقم مبيعات التجزئة القوي باعتباره «ضوضاء». فقد ارتفعت مبيعات التجزئة باستثناء شراء السيارات بنسبة 0.4 في المائة في يوليو، مقابل انكماش متوقع بنسبة 0.1 في المائة في استطلاع «بلومبرغ». وارتفعت المبيعات بين المجموعة الضابطة 0.8 في المائة، أعلى بكثير من المتوسط الشهري لما قبل الوباء البالغ 0.3 في المائة. النتائج الأخيرة لا تتناسب مطلقاً مع الرواية القائلة إن الاقتصاد في حالة ركود.
لذلك فإن الخيارات هي إما رفض البيانات التي لا تتوافق مع الأرقام التي تبثها النماذج أو استخدام بعض القدرات العقلية لمعرفة السبب الذي يجعل النماذج تبدو خاطئة بدرجة كبيرة في الآونة الأخيرة. ربما لا يؤثر التضخم على المستهلكين بهذه الدرجة الكبيرة. وربما لا يزال المبلغ الهائل من المال موجوداً في حسابات المدخرات المنزلية بفضل التحفيز المالي غير المسبوق عندما يقترن بمعدل بطالة يبلغ 3.5 في المائة يعتبر أدنى مستوى له منذ 53 عاماً، مما يعني أن المستهلكين لا يعرقلهم ارتفاع الأسعار.
هذا لا يعني عدم وجود تقلب في البيانات الاقتصادية. فهناك حالات شاذة عرضية. ففي بعض الأحيان، يتم إيقاف الحسابات الموسمية بسبب حدث غير عادي، مثل إغلاق حكومي غير متوقع بسبب بلوغ سقف الديون أو حدوث كارثة طبيعية. وهذا هو السبب في أن العديد من خبراء الاقتصاد ينظرون إلى المتوسطات المتحركة وسلسلة البيانات على مدى فترة زمنية للحصول على صورة أكثر صدقاً للاتجاهات.
كل ما يحدث في الاقتصاد الآن يحدث لسبب – وهو سبب يكافح العديد من الاقتصاديين والمستثمرين لفهمه. وكما كتبت من قبل، لا تفيد أي من النماذج التي يستخدمها خبراء الاقتصاد في التنبؤ بآثار الاقتصاد الذي يتوقف عند عشرة سنتات، ويتخلص من حوالي 17 مليون شخص من القوى العاملة على مدار أسبوعين ويبرم تعاقدات بنسبة 31 في المائة لينتعش بالسرعة نفسها في عودة البرامج الحكومية ذات الأموال المجانية التي ضخت تريليونات الدولارات مباشرة في جيوب المستهلكين لتتماشى مع أسعار الفائدة الحقيقية السلبية وسياسات التيسير الكمي من البنك المركزي. علاوة على ذلك، تعطلت سلاسل التوريد العالمية بشكل كبير، مما أدى إلى نقص في السلع، مما أدى بدوره إلى ارتفاع أسعار السلع المتوفرة.
سوف يستغرق الأمر بضع سنوات قبل أن يتم حل كل هذا ونعود إلى شيء يشبه دورة العمل العادية. ومن المحتمل ألا يكون التباطؤ الاقتصادي الواسع الذي نشهده أكثر من تراجع عن الانتعاش الحاد المصطنع من عمليات الإغلاق. قد لا يتناسب مع نموذج دورة الأعمال التقليدية، ولكن بمجرد قبولك أن هذه ليست دورة عمل عادية وعرض البيانات من خلال عدسة مختلفة، فإن ما هو غير متوقع سيبدأ في أن يكون منطقياً وليس شيئاً يمكن تجاهله باعتباره مجرد «ضوضاء».

جاريد ديليان

إنه الاقتصاد يا…

قول «إنه الاقتصاد يا غبي» لجيمس كارفيل، مستشار حملة الرئيس الثاني والأربعين للولايات المتحدة (1993 – 2001) بيل كلينتون في 1992 (وقتها حاكم أركنسو وتكتب أركنساس 1983 – 1992) كان مناسباً انتخابياً لكل مكان، تاريخياً؛ لكن ما مدى ملائمته لبريطانيا اليوم؟
ومدى تأثيره على حظ المتنافسين على زعامة حزب المحافظين، وبالتالي رئاسة الحكومة بعد اثنين وعشرين يوماً، وهما وزيرة الخارجية ليز ترس، وخصمها وزير المالية السابق ريشي سوناك؟
الإجابة، في التعبير الإنجليزي «لا… ولكن»، أو لا المشروطة.
السبب أنها ليست انتخابات عامة، الخيار فيها لعموم مواطني المملكة المتحدة، وإنما يقتصر التصويت على أعضاء حزب المحافظين الحاكم (نحو 180 ألف). والأمر مماثل مهما كان لون الحزب الحاكم لأنه سيخضع للائحة الداخلية للحزب. في 1976. عندما قرر رئيس الحكومة العمالية (1974 – 1979) السير هارولد ويلسون (1916 – 1995) الاستقالة فور علمه بإصابته بالزهايمر (وكتم الأمر على كل من حوله)، انتخب أعضاء حزب العمال – حسب اللائحة الداخلية – وزير الخارجية وقتها، السير جيمس كالاهان (1912 – 2005) ليخلفه.
فالنظام السياسي في أقدم الديمقراطيات أساسه تمثيل الأحزاب المنتخبة عبر الدوائر البرلمانية الـ650 وليست بانتخاب مباشر لرئيس الدولة كحال فرنسا مثلاً. الحزب، أو الكتلة الائتلافية، الفائز بالعدد الأكبر من مقاعد مجلس العموم، تكلف الملكة زعيمه بتشكيل الحكومة باسمها (ولذا تعرف رسمياً، وفي المراسلات الداخلية والخارجية، بحكومة صاحبة الجلالة).
الإجرائيات المألوفة (التقاليد والأعراف البرلمانية، والسوابق وهي في قوة القانون وربما أكثر تأثيراً في الحياة السياسية وسير العدالة في المحاكم لغياب الدستور المكتوب؛ فالدستور، عرفياً، هو تراكمات السوابق والمواثيق والممارسات، والأحكام القضائية) لتغيير رئيس الحكومة في فترة بين انتخابين برلمانيين؛ ولذا فالقول: «إنه الاقتصاد يا غبي» يفترض محدودية تأثيره هنا. لكن «لا المشروطة» لعدة عوامل، أهمها، خروج المناظرات بين المرشحين (كانا زميلين في وزارة بوريس جونسون حتى الشهر الماضي)، عن الحلبة التقليدية في داخل الأحزاب البريطانية المعروفة بالهستينغ husting، والتي تقام أمام الجمعيات (أو معهد أو نادٍ حسب تسميات القاعدة الحزبية في الدائرة) إلى العلن على مستوى المملكة كلها (راجع مقالتنا نهاية الشهر الماضي في «الشرق الأوسط»). استجابة إدارة الحزب لإلحاح شبكات التلفزيون على بث المناظرات علناً، ينقلنا إلى عامل آخر، يلعب فيه الحظ العاثر (الذي أتت به رياح لم تشتهيها سفينة المحافظين) دوراً أقوى وأكثر تأثيراً من سياسات الحكومة التي كانت الأكثر نجاحاً في حكومات العقود الثلاثة الماضية. فبجانب تدهور الاحتياطي النقدي للخزانة بسبب دعم الاقتصاد أثناء إغلاق وباء «كوفيد – 19». وتسليح أوكرانيا وتأثير الحرب الاقتصادية على روسيا، فإن التوقيت (باستقالة جونسون ومنافسة اختيار زعيم جديد) أيضاً زاد طين المحافظين بلة.
المناظرات التلفزيونية تخرج تحديد الأجندة السياسية من يد الناخب دافع الضرائب الذي رتبها حسب أولوياته في مانيفستو الحزب الذي اختاره (بأغلبية ساحقة) في انتخابات 2019 (منح المحافظين قرابة 44 في المائة من الأصوات، ترجموا إلى 365 مقعداً في مجلس العموم)، إلى المؤسسات الصحافية، ويفقد الحزب الحاكم زمام المبادرة برسم استراتيجية مخاطبة الرأي العام. فالأولويات تتغير، حسب مزاج، أو تقديرات معد البرنامج ومقدميه، ورد فعل جمهور الاستوديو والتفاعل على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة «تويتر» اللحظي، التي قد تغير اتجاه أسئلة المذيع أو المذيعة في إدارتهم للمناظرة.
وكانت الحملة الصحافية، واتهامات تعمد تضليل البرلمان، وما أعقبها من ضغوط باستقالة عدد من الوزراء، أدت إلى استقالة جونسون في وقت ليس لدى الحزب فيه برنامج انتخابي محدد باستراتيجية للاقتصاد، فالانتخابات المتوقعة هي خريف عام 2024 حسب قانون الانتخابات البريطانية المعدل بتثبيت الفترة البرلمانية بخمس سنوات.
وبينما أولويات أعضاء الحزب الحاكم، وأصواتهم فقط ترجح كفة أحد المتنافسين، هي البقاء في الحكم بالفوز في الانتخابات القادمة؛ فإن تعميم المناظرات على الوسائل التلفزيونية يؤثر، سلبياً، على المحافظين، بدفع كل مرشح، ومعسكره إلى الإسراع بارتجال سياسات أغلبها غير مدروس بدقة.
وهنا يظهر تأثير مقولة كارفيل عن الاقتصاد، حيث يحتل القلق على المستوى المعيشي، قبل الخدمات، قائمة أولويات الناخب، وهي لا تتجزأ عن ارتفاع أسعار الطاقة والوقود الذي أصبح أزمة حقيقية في الرأي العام البريطاني بصرف النظر عن التفضيل الحزبي للمواطن. بل إن الحرب بالنيابة ضد روسيا، لا تحفل باهتمام البريطانيين إلا من زاوية واحدة فقط، هي ارتباطها بارتفاع أسعار الوقود بأمل أن يؤدي حل الأزمة الأوكرانية الروسية إلى خفض أسعار الطاقة.
ترس، وسوناك، غيرا من سياستهما المعلنة في بداية المنافسة استجابة لردود فعل الرأي العام، وليس فقط أعضاء الحزب.
سوناك بدأ حملته مجادلاً بضرورة التقشف وزيادة الضرائب لدفع الديون للتحكم في معدلات التضخم (بجانب رفع بنك إنجلترا سعر الفائدة) مستدلاً بنجاحها أثناء ولاية الليدي ثاتشر (1979 – 1990) بدلاً من الاقتراض؛ لكنه تراجع، (في مقالته في التايمز أول من أمس،) معلناً أنه سيلجأ للاقتراض لتوفير الدعم للأسر محدودة الدخل لدفع فواتير الطاقة.
لكن التضخم هذه المرة ليس بسبب النشاط الاقتصادي الداخلي، بل لأسباب خارجية أهمها أسعار الوقود وحرب أوكرانيا، وهي عوامل خارج سيطرة حكومة بريطانيا سواء رفعت الضرائب أم خفضتها داخلية.
ترس تتبع نظرية آرثر لافر المستشار، الاقتصادي لإدارة ريغان، بأن تخفيض الضرائب يزيد من قدرة المواطن الإنفاقية، ويحفز الشركات والأعمال لجذب استثمارات تخلق وظائف يسهم شاغلوها بدفع ضرائب، وبالتالي يرتفع دخل الخزانة وينتعش الاقتصاد تدريجياً، وتجادل بأنه بدلاً من تحصيل الضرائب ثم دفع بعض الدخل كإعانة للفقراء، فلا داعي لتحصيلها أصلاً، وتعارض اقتراح الضرائب الاستثنائية على أرباح شركات البترول (بعكس سوناك). وقرابة أربعة ملايين لا يدفعون ضرائب أصلاً (فدخولهم أقل من 12750 جنيهاً أو 15500 دولار، وهي الرقم الحدي لبداية دفع الضرائب)، وبالتالي لن تؤثر سياستها على أزمة فواتير الطاقة أو مستوى معيشتهم، فتراجعت هي الأخرى قبل ثلاثة أيام عن سياستها المعلنة سابقاً بعدم تقديم دعم فواتير الطاقة وغلاء المعيشة لمحدودي الدخل.
إنه الاقتصاد… للأذكياء والأغبياء معاً!

 

عادل درويش

معلّق سياسيّ مصري مراسل في برلمان ويستمنستر وداوننغ ستريت، ومؤرخ متخصص فى السياسة الشرق اوسطية.

لبنان والعالم في مهبّ الـ «Shrink Flation»

بعد عامين ونصف على بدء جائحة كورونا التي شكّلت صدمةً اقتصاديةً عالمية دفعت بالمصارف المركزية، كالفدرالي الاميركي والمركزي الاوروبي والمركزي الصيني والمصرف المركزي الروسي … لطباعة عشرات تريليونات الدولارات وضخها في الاسواق المالية، ما خلق وفرة في النقد وأتاح تمويلات ميّسرة من دون فوائد، شكّلت الحرب الروسيه -الاوكرانية منعطفاً اكثر خطورة على استدامة النمو الاقتصادي، خصوصاً انّه لا يمكن توقّع نهايتها حتى الآن.

تزاوج فائض السيولة مع ارتفاع المخاطر وشح الإمدادات خصوصاً الطاقة والمواد الأساسية كالحبوب، فارتفعت أسعار المواد الاولية والسلع والخدمات في كافة أرجاء العالم بنسب كبيرة جداً وصلت إلى اكثر من 200% على معظم السلع، ومعها ارتفعت ايضاً اسعار الخدمات، في دوامة مستمرة منذ شباط، ولا أفق لحلها بعد.

عالمياً، مداخيل المستهلك عادة ما تكون ثابتة وتنمو بمعدل 3% إلى 5% سنوياً، بنسبة لم تعد تتماشى ومستويات التضخم المرتفعة، ما يُترجم تراجعاً في القدرة على شراء السلع والمنتجات. اقتصادياً، ارتفاع مستويات التضخم بشكل صاروخي في موازاة استقرار في الدخل، يعني تراجع الطلب على السلع، ومعها يتراجع تصنيع السلع والخدمات المرافقة، فتتأثر الدورة الاقتصادية التي تشهد ركوداً، فيما الاسعار ترتفع تدريجياً لتصل إلى مستويات قياسية. وهو بالتحديد ما يمكن تسميته «shrink flation».

ما هو shrink flation؟
المصطلح الجديد يحدّد وبوضوح ومن خلال عبارة «Shrink» التقليص المستجد في حجم وكمية المنتج بحسب الطلب، وتدريجياً لعدم خلق صدمة في الاسواق. أما مصطلح «flation» فيشير إلى الارتفاع في اسعار المنتجات او الخدمات.

مثال على ذلك: إذا كانت علبة البسكويت تحتوي على 100 غرام وكان سعرها 3$، يعمد المنتجون في اوقات الـ shrink flation إلى تخفيض وزنها الى 75 غراماً وزيادة سعرها إلى 3.50$، بذلك لا يشعر المستهلك بتقليل الكمية، كما انّه لا ينتبه كثيرًا إلى زيادة السعر، فيستمر المستهلك بشراء المنتجات التي اعتاد استعمالها او الخدمات، من دون الحاجة إلى تغيير نمط الاستهلاك.

واقع اقتصادي مستجد فرضته أحداث غير اعتيادية، ما دفع بالمصنّعين والمنتجين ومقدّمي الخدمات إلى التكيّف لإرضاء المستهلك بأقل الخسائر الممكنة.

واقع أثّر سلباً على كل دول العالم، وانما تأثيره تضاعف في لبنان. وإلى كل العوامل الاقتصادية الخارجية التي طبعت الاقتصاد اللبناني، تُضاف العوامل الداخلية، من الأزمة المالية إلى النقدية والاقتصادية. فتراجع سعر صرف الليرة وحده فرض تضخماً قياسياً في الاسعار لامس 1000% او اكثر في بعض الاحيان.

كما تأثر لبنان بارتفاع كلفة المحروقات مع رفع الدعم عنها، ليدخل في دوامة تقلّص الانتاج وارتفاع الاسعار بشكل اسوأ من الدول الاخرى. ولا بدّ من الاشارة، انّه بالرغم من لجوء المنتجين والمصنّعين ومقدّمي الخدمات الى تقليص حجم انتاجهم ومحاولة عرض اسعار تنافسية، الّا انّ نمط الاستهلاك في لبنان قد تغيّر.

فعلياً، لبنان امام أزمات اقتصادية ونقدية ومعيشية صعبة، تتفاقم يوماً بعد يوم، فيما لا يزال افق الحل غائباً. وفيما تصدّر لبنان بأزمته المراكز الاولى عالمياً، قد يصنع مرة اخرى العنوانين او يخلق واقعاً اقتصادياً مختلفاً على حساب الشعب والمواطن والرفاهية والعيش الكريم.

د. باسم البواب

«أوبك»: آثار التطورات العالمية على أسواق النفط

شرح «تقرير أوبك الشهري للأسواق النفطية» الصادر الأسبوع الماضي، منحى وحيثيات التقلبات في أسعار النفط الخام والمنتجات البترولية في ضوء ظاهرة «الكساد التضخمي» العالمي، وإعادة انتشار جائحة كورونا عالمياً، كما استمرار الحرب الأوكرانية دون هوادة منذ نهاية شهر فبراير (شباط) الماضي، والتشنجات الأميركية – الصينية على ضوء زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركية لتايوان.
فبحسب منظمة «أوبك»، استمرت العوامل الأساسية في أسواق النفط باسترداد عافيتها القوية لمستواها ما قبل نشوب الجائحة خلال النصف الأول لعام 2022. لكن رغم استرداد العافية هذه، فقد ظهرت في الوقت نفسه مؤشرات عن تباطؤ في النمو الاقتصادي العالمي، من ضمنها بعض الدول النفطية نفسها. ومما ترك بصماته على أسواق النفط أيضاً الانخفاض النسبي للاستثمارات في قطاع الإنتاج النفطي بسبب التشريعات لتصفير الانبعاثات بحلول 2050، ما أدى إلى محدودية إمكانية زيادة الإنتاج من الأقطار المنتجة للنفط من خارج منظمة «أوبك».
نتيجة لهذه التقلبات انخفضت أسعار سلة «أوبك» 9.17 دولار للبرميل، أو 7.8 في المائة بشهر يوليو (تموز)، مقارنة بشهر يونيو (حزيران)، ليسجل معدل سعر السلة خلال شهر يوليو 108.55 دولار للبرميل.
وانخفضت في الوقت نفسه مؤشرات النمو الاقتصادي العالمي نحو 3.1 في المائة لعامي 2022 و2023. وتعزو أسباب هذا إلى انخفاض ناتج الدخل القومي الأميركي خلال الربع الثاني من عام 2022. فقد انخفض ناتج الدخل القومي الأميركي 1.8 في المائة خلال الأشهر الماضية لعام 2022. ويتوقع استمرار انخفاضه إلى 1.7 في المائة في 2023. ويتوقع نمو اقتصاد منطقة السوق الأوروبية المشتركة لعام 2022 نحو 3.2 في المائة، فيما التوقعات بانخفاض هذا المعدل لدول السوق الأوروبية لعام 2023 نحو 1.6 في المائة.
وقد سجل الطلب العالمي على النفط خلال عام 2022 زيادة معتدلة مقدارها 3.1 مليون برميل يومياً، ما زاد من معدل الطلب العالمي إلى نحو 100 مليون برميل يومياً. وتشير التوقعات لعام 2023 إلى أن ارتفاع الطلب على النفط سيستمر بنحو 2.7 مليون برميل يومياً، ليسجل ارتفاع الطلب العالمي على النفط 102.7 مليون برميل بومياً.
ولتحديد مشهد الاستهلاك النفطي العالمي، يذكر تقرير «أوبك»، أنه بصورة عامة تهيمن العوامل السلبية على توقعات عام 2023، نظراً للنزاعات الجيوسياسية، واستمرار الجائحة، وزيادة معدلات التضخم، كما ارتفاع معدلات الديون السيادية في دول متعددة.

وليد خدوري
كاتب عراقي متخصص في شؤون الطاقة

نظرة على بريطانيا ما بعد «بريكست»

انتهى عهد بوريس جونسون لكن الاضطرابات بدأت لتوها. للمرة الثالثة في أقل من عقد من الزمان، أدت أزمة في قيادة حزب المحافظين إلى الإطاحة برئيس الوزراء من منصبه. ففي حين جرى إسقاط أسلافه بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فقد انهار عهد جونسون بسبب سلسلة من الأزمات، بعضها، مثل نقص العمالة وارتفاع تكاليف المعيشة، كان ماديا، والبعض الآخر، ولا سيما قرار جونسون التغلب على الوباء، كان أخلاقيا. في النهاية، كانت المشكلة في الأساس انتخابية وتمثلت في سلسلة من الهزائم واستطلاعات الرأي البائسة التي أقنعت المشرعين المحافظين بأن قوة الجاذبية الانتخابية لجونسون قد انتهت.
ورغم ذلك، من غير المرجح أن يقدم المرشحان اللذان يتنافسان على استبداله أي بديل أفضل. فقد خدم كلاهما في حكومة جونسون – ريشي سوناك كوزير للخزانة، وليز تروس كوزيرة للخارجية – وهما متورطان، بشكل مباشر أو عن طريق الجمعيات، في الفضائح التي أسقطته. والأكثر أهمية أن أيا منهما عرض أي فكرة عن كيفية التعامل مع المشاكل الهيكلية لبريطانيا، سواء بتقديم تخفيضات في الضرائب أو في الإنفاق. لذلك، بالنسبة للدولة، كلا الخيارين سيئ. ولذلك فالفوضى في الأشهر الأخيرة لم تبارح مكاناها.
لكن استقالة جونسون ستساهم في وضع نهاية لشيء ما أيضا. لما يقرب العامين بعد انتخابه في ديسمبر (كانون الأول) 2019، تمتعت البلاد بفترة من السلم الاجتماعي النسبي والاستقرار السياسي. مدعومة بقرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وإطلاق التطعيمات الناجحة لـ«كوفيد 19»، أحرزت الحكومة تقدما كبيرا على معارضة حزب العمال الضعيفة والمحبطة. علاوة على ذلك، بدا أن الدولة – في الفضاء الزمني الغريب والوباء – قد تضافرت جهودها. ففي هذه الفترة القصيرة البينية التي خلت فيها البلاد من رئيس للوزراء بدا أن بريطانيا، التي يغذيها حس الدولة القومية، كانت تعود إلى الحياة من جديد.
لكن هذا لم يعد موجودا. ففي ظل الركود الاقتصادي، والانقسام الاجتماعي، والانحراف السياسي، يجري تقليص حجم البلاد. فقد انتهى وهم وخيال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي المتمثل في إنعاش بريطانيا، وتحررها من قيود أوروبا وقدرتها على تأكيد نفسها بثقة في الداخل والخارج.
على الرغم من إفساح المجال الآن لكابوس مألوف، بدا هذا الخيال لفترة من الوقت يسود البلاد. فقد جرى التقاط الشعور الثقافي والعاطفي الغريب لمذهب جونسون من خلال اثنين من أكثر البرامج الإذاعية مشاهدة في التاريخ البريطاني، وكلاهما حدث خلال فترة ولايته. الأول كان خطاب جونسون للأمة في 23 مارس (آذار) 2020، حيث أعلنت حالة الإغلاق الوطني. والثاني كان نهائي يورو 2020، حيث حظيت إنجلترا بفرصة واقعية للفوز على إيطاليا، في 11 يوليو (تموز) 2021. كلا الحدثان شهده عشرات الملايين من الناس وكانا سببا في ظهور لحظات من الحس الوطني. كلاهما أنذر بتعليق الحياة الطبيعية باسم النضال الوطني، وهي تجربة ارتبطت بشكل غامض بالذكريات الشعبية للحرب العالمية الثانية.
الهدوء المخيف للإغلاق – بشوارعه الفارغة، والرحلات للاستمتاع بالحياة البرية – كان يقابله هوس الحشود المكسوة بالأعلام والسكر والهذيان التي تتجول في الشوارع التجارية الفارغة وتردد بحماس، «عدنا إلى البيت» (عودة الجنود إلى ديارهم) كانت لحظات قومية واضحة، لكن الحدثين غير متطابقين. كان أحدهما يمثل القومية من أعلى إلى أسفل، والآخر على مستوى القواعد الشعبية. أحدهما كان «بريطانيا» القومية المؤسسية، والآخر «إنجليزيا» بلهجات أكثر بروليتارية. ومع ذلك فقد صنعا معا لفترة وجيزة شعورا بالأمة.
كانت بالطبع لحظات قومية شهدت وفاة عشرات الآلاف من كبار السن البريطانيين في المستشفيات جراء الوباء الذي اجتاح البلاد بسبب التأخير في إعلان الإغلاق. ارتفع استخدام بنوك الطعام إلى أعلى مستوياته، حيث تلقى أكثر من 2.5 مليون شخص طرودا تحوي طعاما. وبحلول نهاية عام 2020، شهدت تسع من كل 10 أسر متدنية الدخل تدهورا خطيرا في دخلها، وتضاعفت نسبة الأشخاص الذين أبلغوا عن اكتئاب وقلق كبير إكلينيكيا ثلاث مرات، حيث ارتفعت من 17 في المائة إلى 52 في المائة. ومع ذلك، نجح مشروع الوحدة الوطنية غير المستقر، المدعوم بالإنفاق العام الهائل لإدارة الوباء، لفترة وجيزة: تقدم المحافظون في استطلاعات الرأي وكانوا بمنأى عن الفضائح والاستياء.
في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، بدأ الاستقرار يتزعزع. بدأ نقص الوقود، الناجم عن ندرة سائقي شاحنات الوقود، ليساهم في تراجع شعبية ودعم جونسون. في ديسمبر (كانون الأول)، طفت على السطح أولى روايات عن إقامة حفلات غير قانونية في 10 داونينغ ستريت، المقر الرسمي لرئيس الوزراء. وبحلول فبراير (شباط)، أدى ارتفاع أسعار الطاقة إلى الضغط على مستويات المعيشة، وزاد الطلب المتزايد على بنوك الطعام. عانت المستشفيات – التي تعاني من ضغوط ونقص في التمويل في الأساس – في ظل تراكم أعداد المرضى لتبلغ حوالي ستة ملايين مريض، وألغت المطارات التي تعاني من نقص الموظفين الرحلات الجوية. في «وستمنستر»، تحولت الأزمة التي عمت البلاد إلى صخب متزايد يرغب في إزاحة جونسون، الذي تشبث بمكانه لبعض الوقت، لكن بحلول منتصف الصيف، انتهى الأمر.
يتجه الاقتصاد الآن صوب فترة سيئة: فأسعار الطاقة المرتفعة، والتضخم الجامح، والصادرات المتعثرة، وارتفاع أسعار الفائدة، بحسب تعبير الخبير الاقتصادي دنكان ويلدون، شكلت في النهاية «عاصفة رعدية». وردا على ذلك، وعدت السيدة تروس، المرشحة لتحل مكان جونسون، بخفض الضرائب – التي يتعين دفعها عن طريق تأجيل سداد الديون بدلا من خفض الإنفاق. وعلى النقيض من ذلك، سيستمر السيد سوناك على المدى القصير في سياسته الحالية المتمثلة في زيادة الضرائب مع الإشارة إلى أن تخفيضات الإنفاق تسير على الطريق الصحيح. لا يمكن لأي من المقاربتين، من اليمين المحافظ أو الخزانة، معالجة الأسباب الكامنة وراء أزمة تكلفة المعيشة بسبب الافتقار إلى الأفكار.
قد يكون الرضا عن النفس هنا أمرا قاتلا. فالتيارات المعارضة، التي احتوتها تعويذة جونسون، عاودت الظهور تدريجيا حيث تستعد اسكوتلندا مرة أخرى لإجراء استفتاء على الاستقلال، ومن المفترض أن يجري ذلك في أكتوبر (تشرين الأول) القادم. وفي إيرلندا الشمالية، أصبح الحزب الجمهوري الحزب الأكبر، مما أضعف المؤسسة الوحدوية. وفي إنجلترا، اندلعت موجة من الإضرابات ذات المغزى الرمزي – في السكك الحديدية ومراكز الاتصال والمطارات – مما أعطى الأمل للعمال الذين شهدوا انخفاض مستويات معيشتهم لأكثر من عقد من الزمان. وبلغ مستوى الرضا عن الحكومة أدنى مستوياته منذ ثلاث سنوات، ولم يعد هناك زعيم محتمل قادر على إلهاب حماس الجماهير، وأخذ حزب المحافظين البريطاني في التفكك.
لكن ما هي بريطانيا؟ يقول المؤرخ ديفيد إدجيرتون إن الأمة البريطانية لم تكن موجودة إلا لبضعة عقود بعد الحرب العالمية الثانية. حتى ذلك الحين، كانت الهوية البريطانية عالمية، مرتبطة بإمبراطوريتها. وقد أصبحت أمة فقط في سنوات ما بعد الحرب، عندما جرى تنظيم الرأسمالية من قبل الدولة وحظي المواطنون بالرفاهية «من المهد إلى اللحد». منذ ذلك الحين، مع مبيعات الصناعات الوطنية وتبوؤ لندن مركز الصدارة، أصبحت بريطانيا مجرد مركز الشركات متعددة الجنسيات، مجردة من أي صدى اجتماعي أو مدني واسع. كانت الأمة البريطانية النائمة في حقبة ما بعد الحرب هي التي كان من المفترض أن تعيد إحياء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
يمثل خروج جونسون، المشجع الأكثر سحرا لبريكست، نهاية لهذا الخيال. وها هي قد جاءت الأزمة التي لا لبس فيها ولا حدود لها.

ريتشارد سيمور

تقييم لاغارد قبل نهاية شهر تمّوز

عام 2013 كانت #اليونان تشكو من أزمة كبيرة على صعيد الاقتصاد والقدرة على التجاوب مع سياسات #البنك المركزي الأوروبي الذي كان يرأسه حينئذٍ ماريو دراغي الذي أعلن في حينه، رغم معارضة ممثلي الألمان في مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي، أن على البنك إقرار السياسات التي تسهّل تجاوز الأزمة المستحكمة في حينه باليونان، والى حدّ أقل، البرتغال والاقتصاد الايرلندي الذي نما بسرعة نتيجة خفض معدلات الضريبة على أرباح الشركات الكبرى واندفاع العديد من شركات المعلوماتية والمصارف الى تأسيس وحدات ناشطة في إيرلندا.

اليوم الوضع مختلف لأسباب متعدّدة. فالنموّ تراجع الى حدّ بعيد بسبب أزمة الكورونا التي تسببت باختناق وسائل توزيع المنتجات سواء منها المنتجات الزراعية أو قطع الغيار الأساسية لوسائل النقل والمصانع كما انخفضت نسب العمّال الناشطين في المؤسسات هرباً من العدوى. وهذه الوضعية دفعت العديد من البلدان الى الإجازة لموظفيها الرسميين إما العمل من المنزل اعتماداً على وسائل الاتصال الحديثة، أو اختصار أيام العمل في الاسبوع.

 

كل ذلك، إضافة الى انطلاق حرب روسيا على أوكرانيا، واستمرار واشتداد الحرب، أمور أسهمت في توتير الاوضاع الدولية ورفع أسعار النفط ومشتقاته بسرعة وارتفاع أسعار الغاز بصورة أكبر.

الجوّ كان مختلفاً في شهر تموز وخلال انعقاد مؤتمر دولي لحكام البنوك المركزية في البرتغال، وقد شدد رؤساء البنوك المركزية على ضرورة مجابهة ضغوط التضخم وتقلص حجم الإنتاج وانخفاض توقعات النمو الى مستوى 1% في غالبية البلدان الاوروبية بعدما كان التوقع أن يكون النمو على مستوى 3-3.5%، وأصبح هنالك تفارق ما بين توجّهات الولايات المتحدة المتشددة تجاه روسيا والمساندة لأوكرانيا بما في ذلك منحة مالية تجهيزية على مستوى 44 مليار دولار إضافة إلى تجهيزات عسكرية تزيد قيمتها على 1.5 مليار دولار.

الألمان، والفرنسيون، والإيطاليون، بالتأكيد اعتبروا أن مصالحهم متضررة وقد سارعوا الى تبنّي خطوات لاختصار استهلاك الطاقة في أشهر الشتاء المقبل، كما أن اعتماد إيطاليا – التي تمر في أسوأ أزمة اقتصادية بين الدول الاوروبية – على الغاز الروسي لا يمكن إلغاؤه وتبدو الصورة مشابهة في ألمانيا، وفرنسا، وعلى العكس من الدول الاوروبية هنالك ثلاث دول تستفيد من استمرار القتال، واحدة منها النروج لأنها تصدّر كميات ملحوظة من الغاز والنفط، والمستفيد الأكبر هو الولايات المتحدة حيث نموّ العمالة مستمرّ، وسعر صرف الدولار مقابل اليورو ارتفع بنسبة 20% في وقت قصير، والمملكة العربية السعودية أكبر دولة مصدرة للنفط استفادت من ارتفاع أسعار النفط الخام والمشتقات وأصبحت شركة آرامكو السعودية أكبر شركة نفط في العالم برأسمال يتجاوز تريليوني دولار.

وسط هذه الاجواء، إضافة الى أن #كريستين لاغارد كانت قد نبهت منذ صيف 2021 الى أن مديونية البلدان الصناعية تتجاوز المردود المقبول وأن من الضروري ضبط عجز موازنات غالبية الدول الصناعية وتقليص توافر الدعم النقدي لدول الاتحاد الأوروبي واستمرار دعم الشركات بشراء أسهمها من قبل البنوك المركزية التي كل ما تفعله طبع العملة للإسهام في إصدارات سندات جديدة.

قبل نهاية شهر تموز كان المناخ قد تغير – ونذكر أن كريستين لاغارد – أشارات الى ضرورة ضبط التسهيلات المالية للدول الاعضاء في السوق قبل سنة.

المفاجأة كانت أن صندوق النقد الاوروبي رفع معدل الفوائد قبل نهاية شهر تموز بنسبة نصف من واحد في المئة ولم تكن الخطوة متوقعة لأن صندوق النقد الاوروبي حافظ دائماً على سياساته التسهيلية من عام 2013 وبالتالي ظهرت الخطوة وكأنها تمثل تبدلاً في فلسفة ومناهج صندوق النقد الاوروبي والواقع هو كذلك.

أكدت كرستين لاغارد أن سياسة البنك المركزي الاوروبي من الآن وصاعداً تستند الى الإحصاءات المتوافرة حول النشاطات الاقتصادية، وحسب تأكيد رئيسة صندوق النقد الأوروبي فإن القرارات ستراجع شهرياً وستقر خطوة خطوة بدراسة معمقة للتأثيرات الاوروبية والدولية.
استناداً الى مناخ التحليل والاوضاع الاقتصادية خاصة في أوروبا، فإن البنك الاوروبي في اجتماعه المقبل سيسعى الى تنسيق سياساته مع التوجهات الدولية العامة.

رأى عدد من المحللين الاقتصاديين والمصرفيين أن السياسة الجديدة للبنك المركزي الاوروبي لا تتناسب مع الانكماش الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم واستمرار مفاعيل القروض القائمة.

على سبيل المثال، كان ماريو دراغي قد حصل على التزام من البنك الاوروبي بقرض يبلغ 40 مليار يورو يوفر خلال مدة سنتين وقد توافر منه حتى تاريخه 19 مليار يورو، واليوم بعد استقالة دراغي من رئاسة الوزراء وفشله في الحصول على غالبية نيابية تساند مشاريعه، السؤال هو: الى أي حد ستؤثر الازمة الايطالية على الاتحاد الاوروبي وأوضاعه الاقتصادية التي تعاني من تأثيرات انتشار الكورونا وتراجعها ومخاوف الناس من الاوبئة؟ والجدير بالذكر أن الدول الاوروبية التي أقرت إجراءات وقائية كانت قليلة العدد. فألمانيا على سبيل المثال التي ودّعت ميركل بأجمل وداع وشكر جماهيري تأخذ على المستشارة السابقة أنها لم تشجع على تبنّي السياسات الوقائية المطلوبة، ولا شك في أن هنالك دولاً أوروبية تعاني من نتائج النقص في العلاج وأكلاف الاعتكافات لتفادي الاصابات على مستوى الأداء الاقتصادي والصحّي الإجمالي.

مروان اسكندر