أرشيف التصنيف: المقالات العامة

الاقتصاد الألماني على المحك

الاقتصاد الألماني تحت الضغط، هذا هو عنوان هذا العام في ألمانيا، فالتوقعات الاقتصادية تشير إلى انكماش الاقتصاد بنسبة 0.5 في المائة ليصبح البلد صاحب أسوأ أداء اقتصادي ضمن الدول الصناعية الكبرى، والعام المقبل قد لا يختلف كثيرا عن هذا العام لاستمرار نفس مسببات الوضع الحالي. وألمانيا ليست دولة هامشية، فهي إحدى مجموعة دول السبع وهي الصخرة التي يتكئ عليها الاقتصاد الأوروبي بأكمله. فكيف وصلت ألمانيا للوضع الحالي؟ وما هي المؤشرات التي دللت على وضعها الاقتصادي؟ وكيف لها أن تخرج من هذا المأزق؟

البداية مع التجارة أو الصادرات الألمانية، حيث استفادت ألمانيا وبشدة من نمو الصين خلال العقود الثلاثة الماضية، ففي حين لم تزد صادراتها للصين عن 6.6 مليار دولار في منتصف التسعينات الميلادية، زادت هذه الصادرات سنويا بنسبة 11 في المائة لتصل إلى 121 مليارا في عام 2021. وعلاقة ألمانيا التجارية مع الصين فريدة من نوعها، فهي قائمة على الصناعة من نواحٍ متعددة، فهي تصدّر إلى الصين المنتجات الاستهلاكية، والآليات التي تستخدم في الصناعة، كما تبيع هذه الآليات كذلك للدول التي تصدّر السلع الاستهلاكية للصين. وهذه العلاقة جعلت ألمانيا ثالث أكبر مصدّر عالمي وساهمت في نموها الاقتصادي بشكل عام ونموها الصناعي بشكل خاص. وعندما عانت الصين اقتصاديا خلال العامين الماضيين، تأثرت ألمانيا وبشدة كما لم تتأثر دولة أخرى، كونها عانت من جميع هذه النواحي الثلاث.

والصناعة الألمانية تضررت كذلك كما كان متوقعا من الأزمة الروسية الأوكرانية، فقد أدمنت ألمانيا على الطاقة الرخيصة المولّدة من الغاز الروسي، وألمانيا تعتمد بشكل كبير على الصناعات ذات الاستخدام الكثيف للطاقة مثل البتروكيماويات، ويكفي معرفة أن مصنعا واحدا ألمانيا وهو (بي أي إس إف) في مدينة لودفيغسهافن الألمانية يستهلك يومياً من الطاقة ما تستهلكه سويسرا بأكملها. ولذلك فمن غير المستغرب أن تتأثر الصناعة الألمانية سواء كثيفة الاستخدام للطاقة أو غيرها، فنقص إنتاج الأولى نحو 17 في المائة مقارنة بإنتاج بداية عام 2022، بينما انخفض الإنتاج الصناعي لألمانيا بأكملها نحو 7 في المائة مقارنة بمنتصف عام 2019. ولذلك فإن العديد من المصانع الألمانية حاليا تبحث عن بدائل للانتقال خارج البلاد بحثا عن مناطق تقل فيها نسبة عدم اليقين، وتزيد فيها فرص الوصول الآمن للطاقة ذات السعر المعتدل. وتشير الإحصائيات إلى أن معدل الاستثمارات الأجنبية انخفض في العامين الأخيرين بنسبة 50 في المائة، وهي نسبة مخيفة دون أدنى شك، وهي مؤشر على أن الوضع الراهن جعل الشركات تحجم عن الاستثمار في ألمانيا.

والنموذج الألماني يعتمد بشكل كبير على الصناعة، وعلى رغبة المستهلكين في الصناعات الألمانية، وهو ما جعل الصناعات الألمانية خاضعة ومرتبطة بشكل شبه كامل بنمو الطلب العالمي. ولذلك وعندما تأثر العالم بعدد من المشكلات التي جعلته تحت الضغط الاقتصادي، كانت الصناعات الألمانية في طليعة القطاعات المتضررة. وما زاد الطين بلة أن ألمانيا وضعت ثقلها في هذا القطاع دون أن تنوع في قطاعات أخرى. فقطاع التقنية في ألمانيا على سبيل المثال متأخر مقارنة بالدول الأوروبية، وجاءت ألمانيا في المركز العاشر في الابتكار خلف دول مثل سويسرا والدنمارك. والسبب في ذلك ليس قلة الأفكار الابتكارية في ألمانيا، فهي أكبر دولة من ناحية إنتاج براءات الاختراع في أوروبا، ولكن تحويل هذه البراءات إلى أعمال تجارية لا يتناسب مع دولة صناعية متقدمة، والسبب في ذلك هو ضَعف الدعم الحكومي لهذه الابتكارات. وتأسيس الأعمال التجارية نفسها معقدة في ألمانيا حيث تبلغ المدة المطلوبة لإنشاء شركة نحو 120 يوما من الإجراءات الحكومية، مقارنة بـ40 يوما في دول مثل إيطاليا واليونان.

وليست الصناعة الألمانية وحدها التي تأثرت، فقطاع الإنشاءات في ألمانيا نال نصيبه من الوضع الاقتصادي، لأسباب منها ارتفاع نسبة الفائدة. وتكمن أهمية هذا القطاع في أنه يشكل نحو 6 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي، ويوظف واحدا من كل عشرة موظفين. وتشير الدراسات إلى أن أداء هذا القطاع انخفض إلى أقل مستوياته منذ منتصف عام 2005، وقد ألغيت نحو 22 في المائة من المشاريع السكنية في ألمانيا هذا العام وهي أكبر نسبة منذ بداية التسعينات الميلادية، كما انخفضت الطلبات الجديدة للإنشاءات. وقد عانى هذا القطاع في السابق من البيروقراطية الحكومية، حيث تستغرق تصاريح الإنشاءات في ألمانيا أطول من مثيلاتها في الدول الصناعية بنحو 50 في المائة. كما أن ارتفاع معدل الديون الحكومية وتشديد الدول على معايير الديون وضع قطاع الإنشاءات في حرج لكونه أحد أكثر القطاعات اعتمادا على الديون.

إن الوضع الاقتصادي في ألمانيا لا يتناسب مع طبيعتها كأقوى اقتصاد أوروبي، وأسباب الوضع الاقتصادي لا ترتبط بالأحداث العالمية، بل بهيكلة الاقتصاد الألماني نفسه والسياسات الحكومية المتبعة في السنوات الماضية. فألمانيا لم تستثمر في اقتصادها كبقية الدول الأوروبية، ولذلك فإن العام المقبل لن يختلف عن هذا العام كثيرا مهما كانت التغيرات العالمية. والخيار الوحيد لألمانيا للخروج من هذا المأزق هو إعادة هيكلة اقتصادها ليتناسب مع التوجهات المستقبلية للعالم، بالطبع دون إنكار أهمية صناعاتها الجوهرية.

 

د. عبد الله الردادي

كيف تواجه الشركات تحديات 2024؟

أصحاب المصلحة في الاقتصاد السعودي ليسوا فقط الحكومة والمواطنين والشركات، بل هناك المستثمرون الأفراد والمؤسساتيون كذلك.

ولهذا عندما نريد فهم أي قرار اقتصادي هذا العام يجب أن نأخذ نظرة بانورامية 360 درجة حتى يكون الحكم سليماً.

ولنبدأ بالحكومة التي رفعت أسعار الطاقة جزئياً، لكنها لم تحررها بالكامل بعد، ولن تتحرر لفترة طويلة من الوقت.

ما الذي يدفعني لقول هذا؟! بعض المنطق السليم، ففي كل أرجاء العالم تحاول الحكومات الحصول على موارد طاقة رخيصة، وهذا يفسر تمسك أوروبا وأميركا بالفحم حتى اليوم.

وقد يقول البعض إن الحكومة تحتاج لمداخيل أعلى وتخفيف العبء عليها قليلاً، حيث لا تزال أسعار الطاقة مدعومة. هذا صحيح، ولكن مراجعة أسعار الطاقة الأخيرة، خصوصاً على الشركات الصناعية، ليست وليدة اللحظة، أو ردة فعل على تراجع المداخيل النفطية العام الماضي.

في الحقيقة، أبلغت الجهات الحكومية المختلفة الشركات في 2022، أن هناك مراجعة في نهاية 2023. هذه المراجعة انتهت برفع أسعار بعض المنتجات، مثل الديزل وزيت الوقود الثقيل، لكن وقود السيارات (البنزين) ظل ثابتاً كما هو، والسبب في هذا كما ذكر وزير المالية محمد الجدعان سابقاً، أن الحكومة تريد التحكم في التضخم، وإبقاءه في مستويات لا تصل إلى 3 في المائة.

لكن من الصعب توقع أن تكاليف النقل لن ترتفع هذا العام، وبالتالي تكلفة كثير من السلع والخدمات.

في الوقت ذاته من الصعب توقع أن الحكومة تريد تراجع الأنشطة غير النفطية، وبالتالي أنشطة القطاع الخاص، حيث إنها أصبحت تشكل دخلاً مهماً في صورة ضرائب، ولو تراجعت الأنشطة ستتراجع مداخيل الحكومة غير النفطية، وهذا يعيدنا للاعتماد على النفط، وقد يكون هذا مستبعداً، لأننا نعرف سعي الحكومة الحثيث لرفع الدخل غير النفطي.

وعندما نتكلم مع المسؤولين الحكوميين عن أصحاب المصلحة مثل الشركات، سنجد الرد نفسه الذي كنا نسمعه من سنوات. هناك هدر في الطاقة، وكثير من الشركات تستفيد من الدعم، ولكنها لم تطور نفسها وأساليب عملها. ودائماً ما تتم الإشارة إلى أن سعر اللقيم في العالم مرتفع جداً، ومع هذا تحقق أرباحاً، بينما الشركات السعودية لا تربح كثيراً وهي مدعومة.

ما الحل إذن؟! هل تدفع الحكومة الشركات إلى تقليص التكاليف والحد من الترهل؟! في الحقيقة أغلب الاقتصاديين في العالم ضد الدعم، لأنه لا يجعل الشركات تتنافس بعدالة. واعتياد الشركات على الدعم على المدى البعيد ضار بالاقتصاد.

هناك بعض الصحة في ذلك، ولكن هذا يتطلب تحرير كثير من جوانب الاقتصاد، وليس الوقود فقط. وأنا من مدرسة أخرى ترفض تحرير الاقتصاد بالكامل، وهناك كثير من المسؤولين قد يوافقوني الرأي. والسبب في هذا أن الاقتصادات المتقدمة في الغرب نمت بصورة كبيرة في فترات سابقة عندما كانت تحصل على الطاقة بصورة رخيصة.

لكن الدعم غير المقنن خطير، ولنأخذ قطاعاً مثل الإعلام في السعودية، الذي لا يزال يعتمد على الدعم الحكومي. ولكن لا يمكننا لوم شركات الإعلام وحدها، لأن بيئة الإعلام ليست متحررة ونظام المؤسسات الإعلامية لا يشجع على الاستثمار فيها، ومن دون الدعم لن تتمكن شركات إعلامية كثيرة من الوفاء بالتزاماتها. هذا ليس مبرراً، ولكننا لم نصل إلى المرحلة التي نتقبل فيها إغلاق المؤسسات الإعلامية.

من ناحية أخرى، الحكومة كذلك لديها التزامات دولية لخفض الانبعاثات، وعليها دفع القطاع الصناعي لتقليص استهلاكه، حتى يتبقى لديها مزيد من الوقود لتصديره.

لقد استثمر كثير من مصافي السعودية في إنتاج الوقود النظيف، الذي يباع في الأسواق العالمية بسعر أعلى بكثير منه محلياً.

كل هذا لا يعني أصحاب المصلحة الآخرين مثل المستهلكين والمستثمرين، الذين أصبحت شهيتهم للاحتفاظ بأسهم قطاع البتروكيماويات والإسمنت أقل من قبل. هذا قد يعرقل خطط السوق المالية لأن تكبر هذا العام.

هناك دعم من نوع آخر، لا بد أن يكون موجوداً لمساعدة هذه الشركات على الاستمرار، مثل التوسع في إعطاء تراخيص تصدير الإسمنت للخارج، خصوصاً أن أسعاره محلياً لا ترتفع، وهناك توسعات في طاقات بعض الشركات أدت إلى فائض في السوق.

وبالتالي كان من اللازم أن يكون هناك تصحيح، وقد يستغرق بعض الوقت وقد يسبب بعض الألم. ولكن تاريخياً دائماً ما يتأقلم الجميع مع التصحيح والصدمات. وستحمل الأيام المقبلة كثيراً من القرارات، وقد نرى بعض الاندماجات وتقليصاً في النفقات.

هل هذا ما تحتاجه الشركات السعودية؟ أعتقد أن الشركات تحتاج للتفكير خارج الصندوق والتركيز على الإبداع والبحث والتطوير. الهدف الآن يجب أن يكون زيادة الدخل وليس تقليص النفقات، ما عدا ذلك لن يتغير الواقع كثيراً وستظل الشركات السعودية خلف الركب العالمي. الكلام سهل ولكن الفعل لا يزال صعباً.

وائل مهدي

الديون الأميركية و«زمن الماغانوميكس»

في الأيام الأولى من العام الجديد، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية، أن إجمالي الدين العام للحكومة الفيدرالية، وصل إلى 34 تريليون دولار للمرة الأولى في التاريخ.

بحلول التاسع عشر من يناير (كانون الثاني) الجاري، سوف تشهد أروقة واشنطن، معركة جديدة حول سقف الدين الأميركي، وما إذا كان يتوجب رفعه، الأمر الذي يتطلب موافقة الجمهوريين في مجلس النواب، على موازنة الإنفاق المقترحة، وهو أمر مشكوك فيه، مما يعني أن احتمالات ما يُعرف بـ«الإغلاق الحكومي»، قائمة، مع ما يترتب على ذلك من توقف أميركا عن سداد ديونها إذا طال زمن الإغلاق، وتالياً شيوع وذيوع حالة من الفوضى في الأوساط الاقتصادية العالمية.

الجمهوريون يطالبون بتخفيض الإنفاق التقديري للعام المالي 2024، إلى ما دون الحدود القصوى المتفق عليها في يونيو (حزيران) الماضي، وهو ما يرفضه الديمقراطيون، الذين يتهمون إدارة ترمب بأنها كانت السبب في خلق ديون متدفقة من خلال التخفيضات الضريبية التي أقرّوها في عام 2017، واستفادت منها الشركات الكبرى، ووجهاء القوم من الأثرياء، تلك التي تكبّد عناءها الأميركيون من الطبقة الوسطى، إذ جرى تخفيض مخصصات الضمان الاجتماعي، والرعاية الطبية، وبقية المساعدات الاجتماعية.

هل يرفض الديمقراطيون إذاً ظاهرة «الماغانوميكس»؟

باختصار يشير هذا المصطلح إلى التوجهات السياسية والاقتصادية لإدارة ترمب التي رفعت شعار «جعل أميركا عظيمة من جديد»، وخلط الشعار بالاقتصاد بنوع خاص ليظهر مسار العظمة «السياسية والاقتصادية معاً»، وحتى من دون النظر إلى تبعات هذه السياسات على الداخل اقتصادياً أول الأمر، ثم لجهة النفوذ الأميركي تالياً.

الدين الأميركي العام، أول الأمر، هو مجموع الدين العام المقرر على الحكومة الاتحادية، وهو جملة سندات الضمان المملوكة لأطراف خارج الولايات المتحدة، إلى جانب سندات الضمان التي تُصدرها وزارة الخزانة الأميركية والمملوكة لأطراف داخل أميركا، ولا يشمل هذا الدين سندات الضمان التي تصدرها حكومات الولايات.

لماذا ارتفع الدين الأميركي على هذا النحو؟

الظاهر أنه كان من المتوقع أن يصل إجمالي الدين الفيدرالي إلى 34 تريليون دولار في نهاية 2029، لكنّ تفشي فيروس كورونا، أدى إلى إغلاق جزء كبير من الاقتصاد الأميركي، إضافةً إلى أن مستويات الاقتراض الكبيرة غير المسبوقة في عهدي ترمب وبايدن، سرّعت من تراكم الديون المعلقة في رقبة العم سام.

تبدو الحقيقة المؤكدة للذين لديهم علم من كتاب «المالية العامة» للولايات المتحدة، أن «الأميركيين ينفقون كأن واشنطن لديها موارد غير محدودة»، وهو أمر غير صحيح، وعمّا قريب لن يكون هناك «خبز مجاني» للجميع.

في مقدم الأسئلة التي تراود العقول عموماً: «ما تأثير زيادة الديون في الاقتصاد الأميركي، وبالتالي في مرتبتها، وسط عالم يرى البعض أنه مُقبل لا محالة على مرحلة مغايرة من التعددية القطبية؟».

الثابت أنه على المدى القصير، قد لا يمثل عبئاً، لا سيما أن المستثمرين يرغبون في إقراض الأموال للحكومة الأميركية الاتحادية، وهو إقراض يسمح للخزانة الأميركية بمواصلة الإنفاق على البرامج من دون الحاجة إلى زيادة الضرائب على المواطنين.

غير أنه وعلى المدى الطويل قد يُعرّض الأمن القومي الأميركي، والبرامج الرئيسية للجمهورية، للخطر، بما في ذلك الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية، أي الأعصاب الرئيسية لـ«النسيج المجتمعي الأميركي».

هل بدأت رحلة القلق لدى الأطراف الدولية من إقراض واشنطن؟

غالباً الأمر كذلك، فقد خفض المشترون الأجانب للديون الأميركية، لا سيما الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، عطفاً على كثير من دول القارة الأوروبية، ممتلكاتهم من سندات الخزانة الأميركية بالفعل.

وحسب تحليل آخر لـ«مؤسسة بترسون المالية»، فإن الحيازات الأجنبية من الديون الأميركية بلغت ذروتها عند 49 في المائة عام 2011، لكنها انخفضت إلى 30 في المائة بحلول نهاية عام 2022، بتراجع قدره 40 في المائة.

هل يعكس هذا التراجع نوعاً من فقدان الثقة في حالة الاستقرار السياسي الداخلي، التي تمهد الطريق للهيمنة الاقتصادية في مرحلة لاحقة؟

المؤكد أن هناك أصواتاً دولية تعلو الآن متسائلة عن مصير ودائعها لدى «الاحتياطي الفيدرالي» الأميركي، لا سيما في حال توقف واشنطن عن سداد ديونها، وهو أمر ولو بدا في المدى المنظور غير وارد، إلا أنه في سياق «نشوء وارتقاء، ثم انهيار الإمبراطوريات» أمر تقليدي.

أهي أخطاء الداخل الأميركي التي تعيد سيناريوهات ما جرى يوماً ما في خضم عظمة الإمبراطورية الرومانية؟

حين يعاود المرء قراءة أبجديات موازنة الدفاع الأميركي لعام 2024 التي وصلت إلى حدود 886 مليار دولار، فإنه تلقائياً يتذكر حين كافحت روما لتجهيز قوات وموارد كافية لحماية الحدود من الثورات المحلية والهجمات الخارجية، وبحلول القرن الثاني الميلادي، أجبر الإمبراطور أدريان على بناء سوره الشهير في بريطانيا ليمنع تدفق جحافل الأعداء إلى أراضي دولته. غير أن ذلك كله جرى من خلال زيادة نفقات الجيش الإمبراطوري، مما كلّفه تراجع تطوراته التكنولوجية، وانهيار بنيته التحتية.

هل واشنطن اليوم هي روما الماضي؟

يحاجج المؤرخ الأسكوتلندي الأصل الأميركي الجنسية، نيل فيرغسون، بأنه قد لا تتجسد الإمبراطورية الأميركية بوصفها مجموعة من المستعمرات والمحميات على غرار بريطانيا في الزمن القريب، وروما في العصور الغابرة، لكن الرغبة في الهيمنة الدولية والتكاليف المرتبطة في التوسع في أنحاء العالم متشابهة بين الإمبراطوريتين.

هل سقف الدين الأميركي، يعزِّز ما ذهب إليه الكثيرون من أن الإمبراطورية الأميركية في زمن الأفول، وأنها تكاد تلامس «سقف الانهيار»، على حد وصف الصحافي الأميركي الشهير توم أنغلهارت في مقال له مؤخراً في مجلة «ذا نايشن» واسعة الانتشار؟

تبدو واشنطن بعد انكشافها في زمن تفشي جائحة كوفيد كأنها «إمبراطورية من غير ثياب»، فهل تُعرّي أزمة سقف الدين «ورقة التوت» المتبقية لواشنطن، لا سيما بعد انكشاف «تهافتها البيوريتاني»، خلال العقدين الأخيرين بنوع خاص؟

إميل أمين كاتب مصري

من الأسبق في تفتيت الاقتصاد العالمي؟

انتهى منذ أيام الاجتماع السنوي الأكبر مشاركة للاقتصاديين، والذي عُقد هذا العام في مدينة سان أنطونيو بولاية تكساس الأميركية، الذي تناول في ما تناوله ما تجود به القرائح والدراسات مستجدات الاقتصاد على مستوى العالم وبلدانه وقطاعاته المختلفة، وسياسات التعامل معها. وسيقت في المناقشات أدلة على بدايات لتعافي الاقتصاد الأميركي، مقارنة بالاقتصادات الكبرى الأخرى، وأنه سينجح في السيطرة على التضخم في الأجل القصير مع تفادي السقوط في الركود في ما يعرف بـ«الهبوط الناعم». جاء ذلك مدعوماً بأرقام جيدة لسوق العمل ومعدلات التشغيل، إلا أن توقعات المستقبل ما زالت ملبدة بغيوم متكاثرة.

وقد يحول تكاثف هذه الغيوم دون استمرار ارتفاع معدلات النمو لمتوسطات ما قبل الأزمات التي شهدها العالم مع بداية هذا العقد بتوالٍ لأزمات ارتبطت بمربكات الجائحة والحرب في أوكرانيا، ثم تداعيات ما يشهده الشرق الأوسط من حرب دموية لا إنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة في غزة مع مخاطر متصاعدة لتوسع نطاقها. كما أن التضخم رغم تراجعه ما زال أعلى مما يستهدفه البنك الفيدرالي بإصرار على ألا يتجاوز معدله نسبة 2 في المائة سنوياً، بما يجعل المجال مفتوحاً أمام البنك الفيدرالي لرفع آخر لسعر الفائدة، أو عدم تخفيضه، على عكس ما يأمله المستثمرون بأن تبدأ سلسلة تخفيض لتكلفة التمويل تبدأ من شهر مارس (آذار) المقبل تصل إلى 1.5 في المائة على مدار العام الحالي. وإن كان الأرجح، إن هيأت ظروف سوق العمل والنمو إجراءات تخفيض الفائدة، فلن يتجاوز هذا 0.75 في المائة.

وقد تناولت جلسات كثيرة بالنقاش احتمالات التعافي والنمو والاستقرار النقدي والمالي للاقتصاد العالمي في ظل ما يعانيه من تفتيت، فضلاً عن تغيرات في أسسه التي نشأ عليها مع النظام الدولي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية، فهناك تغير في نمط العولمة الاقتصادية مع الانتقال المتسارع من عالم ثنائي القطبين إبان الحرب الباردة إلى أحادي القطب بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وزوال الستار الحديدي، وصولاً إلى عالم اليوم المتعدد الأقطاب، مع انتقال ملحوظ لمركز الجاذبية الاقتصادية نحو نصف العالم الآسيوي الأعلى نمواً والأكبر سكاناً. ومع هذا الانتقال تزداد التوترات الجيوسياسية؛ وفي هذه الأثناء تزداد تهديدات لمربكات أخرى تأخذ تارة شكل مستجدات التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي والتطبيقات الذكية وتأثيراتها في أسواق العمل والتفاوت في الدخول والثروات. وتأخذ هذه المربكات تارة أخرى شكل اضطرابات مؤسسية وفي نظم الحكم، مع تصاعد لتأثير اليمين المتطرف والموجات الشعبوية. ولا يجمع هذه المربكات المحتدمة تزامن حدوثها فحسب، ولكن إدراك متنامٍ بأن هذا العالم أصبح متقطع الأوصال سياسياً، ويعاني من التفتيت اقتصادياً.

وترصد دراسة لصندوق النقد الدولي، عن التفتيت الجيو – اقتصادي ومستقبل النظام الدولي المتعدد الأطراف، ازدياد التوجه لسياسات منكفئة نحو الداخل بإجراءات حمائية مع تصاعد لاستخدام معوقات ضد التجارة وتدفقات رؤوس الأموال وحركة العمالة عبر الحدود، وتقييد التعاون التكنولوجي. فعلى مدار العقد الماضي شهد العالم تبنياً لسلسلة من الإجراءات الحمائية التقليدية والمستجدة، كما اتخذت السياسات الصناعية الجديدة في الولايات المتحدة وأوروبا نهجاً أعاد ذكرى الحروب التجارية في ما وصفته في مقال سابق تحت عنوان «عاد الميركانتيليون» في إشارة لممارسات سادت القرنين السادس عشر والسابع عشر بدفع البلدان إلى تراكم ثرواتها بتقييد الواردات والتوسيع في الأسواق، ولو كان ذلك كما حدث بالفعل بحروب وصراع استيطاني وتجارة البشر والسيطرة على مصادر الخامات.

وقد ازدادت صور التفتيت الاقتصادي حدة بعد الجائحة وما اعترض خطوط الإمداد من قيود، كما عمقت الحرب في أوكرانيا حدة الاستقطاب عبر الانحيازات الجيوسياسية وما جرى من عقوبات تجارية ومالية، ومن خلال تقييد نظم الدفع الدولي. ومع تباين دوافع إجراءات التفتيت لأسباب تتعلق بالأمن أو التحرر من الاعتماد على شركاء تجاريين بعينهم إلا أنها قد ترتبط بتبنٍّ لسياسات محلية التوجه كإجراءات السياسة الصناعية الجديدة كتلك التي اتبعتها الولايات المتحدة مؤخراً مساندة بقانون تخفيض التضخم وقانون الرقائق الإلكترونية والعلوم، وإجراءات دول الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالاقتصاد الأخضر والتحول الرقمي. كما يزداد التفتيت مع إجراءات لرد الفعل للمعاملة بالمثل، وعندما يستشعر أطراف المعاملات الاقتصادية أن عوائدها أمست في غير صالحهم تجارة أو استثماراً أو هجرة للعمالة. وهناك تقدير بأن إجراءات تعويق التجارة فقط قد ازدادت بثلاثة أمثال من عام 2019 حتى عام 2022، وأنها كلفت الاقتصاد العالمي تراجعاً في ناتجه يعادل 7 في المائة من ناتجه الإجمالي. ومن مخاطر هذا التوجه تراجع التعاون الدولي في مجالات مكافحة التغير المناخي، وعلاج أزمات الديون قبل تفاقمها، وتيسير حوكمة تطبيقات الذكاء الاصطناعي. فلا سبيل عملياً أن تعوق دول مسارات التعاون في مجالات التجارة والاستثمار، ثم تتوقع تعاوناً بناءً في مجالات أخرى مثل العمل المناخي والصحة العامة.

وستتناول قمة «المستقبل» التي ستُعقد في إطار أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر (أيلول) المقبل، مسألة تفاقم حدة التفتيت الاقتصادي وآثاره المكلفة على النظام الدولي. وهناك أهمية بمكان للنظر في مسببات هذا التفتيت، وهل العدو الأول للاقتصاد العالمي يكمن في الصراعات الجيو – سياسية وليست الإجراءات الحمائية كما يذهب الاقتصادي بجامعة هارفارد داني رودريك؛ أم أن الحمائية هي التي أشعلت النيران الجيو – سياسية وفقاً لتحليل الاقتصادية بينيلوبي غولدبيرغ كبيرة الاقتصاديين السابقة للبنك الدولي. ونظراً لتعقد وتشابك مسببات تدهور الوضع العالمي الحالي سياسياً واقتصادياً لن يتيسر حسم أي المسببات سبقاً، فقد تحالفت دوافعها في الإضرار بالشأن الدولي، وتدفع كالمعتاد التكلفة الأكبر الأطراف الأضعف في العلاقات الدولية؛ وهي الأولى بالاعتبار والحماية؛ ليس لاعتبارات العدل فحسب، لكن لما يسفر عنه تجاهل المستضعفين من عواقب وخيمة على السلم والأمن الدوليين.

د. محمود محيي الدين

مشكلة الصين الاقتصادية الراهنة

في ظل المشكلة الاقتصادية الراهنة التي تمر بها الصين، فإنها تسعى إلى تحفيز الطلب المحلي وتحسين التعافي الاقتصادي في 2024؛ إذ ستواصل تنفيذ سياسة نقدية حكيمة وسياسة مالية استباقية، حيث إن التعافي الاقتصادي لا يزال في مرحلة حرجة، ومن المأمول أن تتمكن «المجموعة الاقتصادية الصينية» من تقديم المشورة لتعزيز التنمية عالية الجودة والمساعدة في توسيع الطلب المحلي، ومنع المخاطر وحلها، وبذل جهود لزيادة الطلب الداخلي وإيجاد بيئة مؤاتية للاستهلاك والاستثمار؛ إذ بلغ الناتج المحلي الإجمالي للصين عام 2022 ما قيمته 17.963 تريليون دولار وفقاً لبيانات الحسابات القومية للبنك الدولي لعام 2023.

وستسعى الصين إلى تحسين اتساق سياسات الاقتصاد الكلي بفاعلية النشاط الاقتصادي، وتتعامل مع المخاطر، وتحسن التوقعات الاجتماعية، وترسخ وتحسن التوجه الإيجابي للتعافي الاقتصادي، وتواصل تدعيم التحسن الفعال لنوعية النمو الاقتصادي المعقول، وإلى أن الجهود يجب أن تبذل لزيادة الطلب المحلي وتشكيل دورة قوية لتعزيز الاستهلاك والاستثمار معاً، والحاجة لتعميق الإصلاحات في مجالات أساسية، والضخ باستمرار محفزات قوية في عملية تنمية عالية الجودة.

وأطلقت الحكومة الصينية سلسلة من الإجراءات السياسية في الأشهر الأخيرة لدعم التعافي الاقتصادي الضعيف بعد الوباء، والذي تأثر بأزمة العقارات ومخاطر ديون الحكومات المحلية وتباطؤ النمو العالمي والتوترات الجيوسياسية؛ إذ نفذ البنك المركزي تخفيضات متواضعة في أسعار الفائدة وضخ مزيداً من الأموال في الأشهر الأخيرة لدعم النمو. وكشفت الصين عن خطة لإصدار سندات سيادية بقيمة تريليون يوان (ما يعادل 139.84 مليار دولار) بحلول نهاية 2023.

ولا يزال الانتعاش في زخم الطلب الخارجي الإجمالي للصين خارج المستوى المطلوب لنهوض الاقتصاد الصيني، على الرغم من ارتفاع قيمة اليوان بأكثر من 2.5 في المائة مقابل الدولار الضعيف؛ إذ إن فروق أسعار الفائدة وعوائد ومؤشر الدولار قد تؤدي إلى سلسلة من التقلبات؛ إذ إن التعافي الاقتصادي للصين لا يزال في مرحلة حرجة في ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وضرورة دعم النمو عبر مزيد من السياسة المالية الاستباقية والفعالة، حيث تحولت الصادرات بالدولار بشكل إيجابي قليلاً، بعد تراجع طويل، وسط مؤشرات على ضعف نشاط الصناعات التحويلية، ويتعين على الحكومة الصينية مواصلة تنفيذ السياسات المالية الاستباقية والسياسات النقدية الحكيمة.

على الصعيد العقاري، تعهدت الحكومة بتسهيل مزيد من الدعم لقطاع العقارات المضطرب، بالإضافة إلى السياسات الرامية إلى تعزيز سوق العقارات، وزيادة الدعم المالي، في الوقت الذي تظل فيه السياسة النقدية متكيفة؛ إذ إن تعافي الطلب المحلي في الصين لا يزال بحاجة إلى مزيد من الدعم.

على صعيد آخر؛ يواجه اقتراح الصين رفع مستوى الاستثمار بشكل كبير في صناديق الأسهم الخاصة ورأس المال الاستثماري، معارضة من العاملين في الصناعة الذين يشعرون بالقلق من أنه قد يؤدي إلى تراجع الصناديق الصغيرة، وخنق التمويل أمام المستثمرين في الشركات الناشئة التي تكافح في ظل اقتصاد تراجع في هذه المرحلة.

وقد أعلن البنك الدولي في تقرير أن الاقتصاد الصيني سيتباطأ في عام 2024؛ حيث سينخفض النمو السنوي إلى 4.5 في المائة من 5.2 في المائة هذا العام، على الرغم من الانتعاش الأخير الذي حفزته الاستثمارات في المصانع والبناء والطلب على الخدمات؛ إذ إن تعافي ثاني أكبر اقتصاد في العالم من انتكاسات جائحة «كوفيد19»، من بين صدمات أخرى، لا يزال هشاً، ويواجه ضعفاً في قطاع العقارات وفي الطلب العالمي على الصادرات، وارتفاعاً في مستويات الديون والتقلبات في ثقة المستهلك؛ إذ إنه من المتوقع أن يتباطأ النمو أكثر في عام 2025، إلى 4.3 في المائة من 4.5 في المائة العام المقبل، حيث أثرت القيود الصارمة على السفر والأنشطة الأخرى خلال الوباء على التصنيع والنقل، مما أدى إلى فقدان الوظائف بسبب تلك الاضطرابات والحملة الصارمة على قطاع التكنولوجيا، إلى جانب الانكماش في صناعة العقارات، مما دفع كثيراً من الصينيين إلى تضييق محافظهم.

هذا بالإضافة إلى أن معظم الوظائف التي جرى توفيرها خلال فترة التعافي في الصين كانت أعمالاً منخفضة المهارات في صناعات الخدمات منخفضة الأجر؛ إذ يتوخى الصينيون الحذر أيضاً نظراً إلى الطبيعة الهشة لشبكات الأمان الاجتماعي وحقيقة أن السكان يشيخون بسرعة، وهو ما يفرض عبئاً أثقل على الأجيال الشابة لدعم كبار السن؛ إذ سلط تقرير البنك الدولي الضوء على حاجة الصين إلى مواصلة إصلاحات هيكلية واسعة النطاق، وعلى أن التحركات التي تتخذها الحكومة لتحمل عبء دعم الحكومات المحلية التي تعاني من ضائقة مالية، من شأنها أن تساعد أيضاً في تحسين الثقة في الاقتصاد.

وفي الختام، فإن الاستثمار العقاري في الصين انخفض بنسبة 18 في المائة خلال العامين الماضيين، وهناك حاجة إلى بذل مزيد من الجهود لتسوية الديون غير المدفوعة لمطوري العقارات المثقلين بالديون، وكان التباطؤ أسوأ في المدن الصغيرة التي تمثل نحو 80 في المائة من السوق في الصين، وقد جرى تعويض بعض هذا الضعف عبر الاستثمار القوي في التصنيع، خصوصاً في مجالات مثل السيارات الكهربائية والبطاريات… وغيرها من تكنولوجيات الطاقة المتجددة وفي المجالات ذات الأهمية الاستراتيجية، مثل رقائق الكومبيوتر التي تحظى بدعم حكومي قوي.

وبالنظر إلى المستقبل؛ فإن البيئة؛ الداخلية والخارجية، التي تواجه تنمية الصين لا تزال معقدة. ولمواصلة تعزيز التعافي الاقتصادي؛ تزداد الحاجة إلى التغلب على الصعوبات والتحديات؛ إذ إن الاقتصاد الصيني يتمتع بمزايا سوق واسعة تضم 1.4 مليار نسمة وقاعدة صناعية متقدمة.

د. ثامر محمود العاني

صناعة الطاقة العالمية قبل عام 2023 وبعده

تشكل الفترة الزمنية الحالية مرحلة تغيير مهمة في تاريخ صناعة الطاقة العالمية. وقد بدأت بالفعل تتغير هذه الصناعة تدريجياً وبطيئاً منذ قرارات «مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة تغير المناخ (كوب)» في باريس عام 2015.

انعقد «مؤتمر باريس» في ظل حملة عالمية ضخمة لا تدعو فقط لمكافحة تغير المناخ؛ بل ضمت أيضاً حملة لوقف استهلاك الوقود الأحفوري (النفط الخام والغاز الطبيعي والفحم الحجري) دون إعارة اهتمام كافٍ لمصادر الطاقة الأخرى؛ إذ جرى اعتبار الوقود الأحفوري السبب الرئيسي والأساسي للتلوث العالمي، مما أدى إلى تبني معايير غير متوازنة لمعالجة مكافحة تغير المناخ. فقد استثنيت مصادر طاقوية أخرى من مسؤولية التلوث، أو همشت تأثيراتها على تغير المناخ، مما أدى إلى تمييزها عن الوقود الأحفوري بعدم شمولها بإجراءات منع استعمالها في عصر «تصفير الانبعاثات».

تغيرت وجهات النظر نحو الوقود الأحفوري تدريجياً منذ «مؤتمر باريس» عام 2015، نتيجة التجارب العالمية الصعبة مع جائحة «كورونا»، ثم نشوب حرب أوكرانيا، والآن معركة غزة. والتغيير الأول الذي حدث هو الزيادة المستمرة في الطلب والإحساس العالمي المادي بضرورة استعمال البترول (النفط والغاز) بالذات لتلبية الارتفاع المستمر في الطلب العالمي السنوي على الطاقة، وأن الطاقات المستدامة (مثل طاقتي الشمس والرياح) مفيدة ومساعدة، لكن غير وافية أو مرنة لتلبية الطلب العالمي المزداد على الطاقة، خصوصاً خلال الأزمات والتقلبات الجوية. لكن هذا الشعور بالحاجة الماسة للبترول لم يكن وحده كافياً للإقرار بالحقائق الجديدة الصعبة إثر جائحة «كورونا» وإغلاقاتها أو ارتباك الأسواق إثر نشوب حرب مدمرة في أوروبا. ولم يكن سهلاً على الدول الصناعية الغربية الاعتراف علناً بتقصيرها في محاولة إيقاف استعمال البترول، بل استمرت هذه المجموعة من الدول، مستغلة شعار مكافحة التغير المناخي، في محاولتها «تصفير الانبعاثات بحلول عام 2050 من دون البترول».

على أثر ذلك، تحملت الدول المنتجة والشركات المسؤولية في توفير الدليل بأنه «بالإمكان إنتاج بترول منخفض الانبعاثات» ويجري هذا حالياً وبالفعل عبر تشييد وتطوير صناعة «تدوير الكربون». من ثم؛ يستنتج أنه من الممكن استمرار الاعتماد على البترول مع انبعاثات منخفضة لثاني أكسيد الكربون من خلال التقاط الكربون من البترول المنتج، فتخزينه في الآبار والكهوف الفارغة، وهي الوسيلة التي تبنتها بعض كبرى الدول النفطية والشركات، التي عبدت الطريق المتعثرة سابقاً أمام التوصل إلى قرار مؤتمر «كوب28» في دبي لاستمرار استعمال البترول منخفض الانبعاثات.

وهذا سيعني أننا أمام مرحلة طاقة جديدة؛ فبعد هيمنة الفحم الحجري خلال القرن التاسع عشر والبترول في القرن العشرين، فإن العالم اليوم سيبدأ التنافس بين البترول منخفض الانبعاثات والطاقات المستدامة (الرياح والشمس) من خلال المجال السعري، عبر الاحتياطات المتوفرة لكل مصدر طاقوي والتفوق العلمي بالذات لتطوير صناعة تدوير الكربون وتخفيض تكلفتها، بالإضافة إلى إمكانية الدول المنتجة في توفير الإمدادات بطرق مستمرة دون انقطاعات.

كما أن هذا سيعني أيضاً أنه سيتوجب على أكبر عدد من الدول المنتجة للبترول تبني صناعة «تدوير الكربون» لاستعماله لاحقاً دون انطلاق الانبعاثات جواً. وهذه عملية صناعية حديثة العهد؛ لكن تحت التشييد والتطوير. وهي ضرورية نظراً إلى ضخامة الاحتياطات البترولية التي لا تزال كامنة تحت الأرض، وإلى المنشآت التي قد جرى استثمار مليارات الدولارات فيها عالمياً.

يأتي الاعتراف في «كوب28» بتقليص الانبعاثات الكربونية للبترول بفاتورة بالغة التكاليف للدول المنتجة، لكنها مهمة لاستقرار الصناعة والاعتراف بها وبمستقبلها رسمياً، بعيداً عن استمرار الاحتجاجات والضغوط.

كما تأتي هذه المرحلة الجديدة مع مسؤوليات جمة على الدول الأخرى أيضاً؛ خصوصاً الصناعية منها، التي انطلق التلوث المناخي منها مع بدء الحرق الواسع للفحم الحجري مع نشوء الثورة الصناعية في أوروبا والولايات المتحدة قبل قرنين من الزمن.

لكن، في الوقت نفسه، ستستمر الصعوبات للفترة المستقبلية، فهناك اختلالات في موازين القوى العالمية، مع تعدد الدول الكبرى الطامحة لاحتلال المركز الأول اقتصادياً وسياسياً عالمياً، ومع تقدم اقتصادات عدد من الدول النامية.

وكذلك في الدول الأوروبية، التي لا تجد ضرورة إلى التحول نحو الاستثمار في الطاقات المستدامة قبل أن تحصل على الوقود التقليدي للكهرباء، ومن ثم تطالب بزيادة فرصها في استكشاف وإنتاج البترول محلياً لمساندتها في التمويل، هذا بالإضافة طبعاً إلى عدم كفاية المساعدات والقروض الميسرة من الدول الصناعية لتمويل برامجها للطاقات المستدامة، في حال إقرار تشييدها عندها.

وفي مجال مكافحة التغير المناخي، تكمن مسؤولية كبرى على الدول ذات الغابات الشاسعة في العناية بهذه الغابات التي تساعد أشجارها في توفير الأكسجين واحتواء ثاني أكسيد الكربون. أما بالنسبة إلى الدول العربية، فإن هذا التحول في صناعة الطاقة يوفر فرصة مهمة للدول النفطية، وغير النفطية منها، لما لعبه البترول من دور في التنمية العربية خلال القرن الماضي، رغم الفرص الضائعة الكثيرة بسبب الحروب الدولية والإقليمية والداخلية التي نكلت بشعوب المنطقة دون هوادة حتى يومنا هذا. وعليه؛ فإن الاعتراف الجماعي الدولي بإمكانية استعمال البترول منخفض الانبعاثات هو مناسبة وفرصة يتوجب انتهازها في الدول العربية.

وليد خدوري

3 نصائح مالية قبل أن تدخل 2024

مع التوجه إلى العام 2024، يتعين على المستهلكين وضع ميزانياتهم وسداد الديون وتوفير المال، وذلك من أجل تعزيز مواردهم المالية الشخصية، كما تقول كبيرة الاقتصاديين في The Conference Board، دانا بيترسون.

تشير بيترسون إلى خطة عمل مكونة من ثلاث نقاط، وتعتقد بأنها مهمة للأسر نظرًا لوجود “خطر كبير للركود” في العام 2024، ربما في النصف الأول من العام. ومع ذلك، من المحتمل ألا يستمر هذا الركود طويلاً، فقدرت أنه سينتهي في النصف الثاني من العام.

أولاً- الميزانية:

تبعاً لبيترسون، فإن المستهلكين يمكنهم الاقتصاد، من خلال النظر في ميزانياتهم الأسبوعية وتقليص النفقات حيثما أمكن ذلك.

وترى أن ذلك قد يشمل إعادة النظر في شراء العناصر ذات العلامات التجارية، علاوة على التحول إلى أنواع مختلفة من الترفيه، مثل بث الأفلام في المنزل بدلاً من الخروج إلى السينما، على سبيل المثال.

أثر التضخم في عصر الوباء على ميزانيات الأسر بأسرع وتيرة منذ 40 عامًا. وعلى الرغم من انخفاضه بشكل كبير من ذروته في صيف 2022، فمن المرجح ألا يتراجع التضخم بالكامل إلى المستوى المستهدف عند حوالي 2% حتى وقت ما من العام المقبل.

ثانياً- سداد الديون:

رفع بنك الاحتياطي الفدرالي أسعار الفائدة بقوة لكبح جماح التضخم. وقد أدى ذلك إلى زيادة تكاليف الاقتراض بشكل كبير بالنسبة للأسر، لكل شيء بدءًا من القروض العقارية وحتى قروض السيارات وقروض الطلاب وديون بطاقات الائتمان.

تقول بيترسون: “ضع أي أموال إضافية لسداد الديون”.. ويوصي الخبراء الماليون عمومًا بإعطاء الأولوية للديون ذات الفائدة الأعلى أولاً، ودفع الفواتير في الوقت المحدد وبالكامل كل شهر، إن أمكن، بحسب CNBC.

ثالثاً: ادخر ما استطعت

أما النصيحة الثالثة التي تقدمها كبيرة الاقتصاديين في The Conference Board، فهي “حتى لو لم يكن لدى المستهلكين الكثير من الدخل المتاح لادخاره، فإن ”كل دولار له أهميته”.

توطين التنمية في عالم شديد التغير (4)

أثارت قمة تجمع «بريكس» التي انعقدت في جوهانسبرغ الشهر الماضي، ردود أفعال وتعليقات تظهر أنه لا يمكن تجاهل هذه القمة، ليس فقط لما أسفرت عنه من قرارات من أهمها ضم أعضاء جدد، ولكن لما عبرت عنه من توجه مزداد التأثير عن الضيق ذرعاً بالنظام الدولي الذي خلفته الحرب العالمية الثانية. ففي هذا العالم شديد التغير؛ لم تعد حوكمة منظماته ومؤسساته المالية معبرة عن تغير الأوزان الاقتصادية، فضلاً عن اختلاف القوى السياسية عما كانت عليه الأوضاع في منتصف القرن الماضي، حيث لم يكن كثير من بلدان عالم الجنوب متمتعة باستقلالها أو معترفاً بوجودها أصلاً. ولم يتواكب التغير الطفيف في أسس عمل وتنظيم المؤسسات الدولية منذ تأسيسها ليستوعب التغيرات الكبرى بين القوى التقليدية والقوى الصاعدة.

«بريك»، و«نيكست 11»، و«كيفيتس»، و«مينت»:

دأبت بنوك استثمار كبرى على استشراف آفاق نجوم صاعدة من الدول في الساحة العالمية اعتماداً على بعض مؤشرات قائمة وواعدة لأدائها. فإذا اشتركت هذه الدول في أرقام، ولا أقول خصائص، النمو المرتفع، جمعتها وفقاً لحروفها الأولى في مجموعة بدعوى التشابه في مستقبل واعد. ومن أشهر هذه الاجتهادات ما خرج عن بنك «غولدمان ساكس» في عام 2001، حيث ارتأى الاقتصادي جيم أونيل رئيس قسم بحوث الاقتصاد العالمي بالبنك حينئذ، أن البرازيل وروسيا والهند والصين أو دول «بريك»، تحقق افتراضات النمو الدافع للاستثمار فيها، ثم ضُمت إليها بعدها دولة جنوب أفريقيا فأصبح اسم المجموعة «بريكس».

وفي عام 2005، اختار البنك نفسه مجموعة دول سماها «نيكست إليفين» بمعنى الأحد عشر اقتصاداً تالياً في الصعود لـ«بريكس»، ناصحاً المستثمرين بها لما ينتظرها من نمو وتوسع اقتصادي؛ وكانت الدول وفقاً لترتيبها أبجدياً باللغة الإنجليزية هي: بنغلاديش ومصر وإندونيسيا وإيران والمكسيك ونيجيريا وباكستان والفلبين وجنوب أفريقيا وتركيا وفيتنام. كما عدّت وحدة أبحاث «الإيكونوميست» في عام 2009، أي بعد أشهر من اندلاع الأزمة المالية العالمية، أن ست دول هي: كولومبيا وإندونيسيا وفيتنام ومصر وتركيا وجنوب أفريقيا، سمتها مجتمعة بالأحرف الأولى لها «كيفيتس»، تتمتع بفرص أعلى للنمو باقتصادات ديناميكية ومتنوعة وقطاعات مالية متطورة نسبية وبمميزات ديموغرافية. وفي عام 2013، روج جيم أونيل مصطلح دول «مينت»، الذي صاغه من قبل صندوق الاستثمار «فيدليتي» في عام 2011، اختصاراً بالأحرف الأولى لدول المكسيك وإندونيسيا ونيجيريا وتركيا؛ ورغم تباين هذه المجموعة من حيث خصائصها الاقتصادية والسياسية، كسابقاتها، جمعها كبر حجم اقتصاداتها ومواقعها الجغرافية الحيوية وشبابية هيكل السكان فيها، بما يحمله ذلك من فرص زيادة النمو بارتفاع الاستهلاك المحلي وزيادة الاستثمارات المطلوبة لتلبيته فضلاً عن التصدير.

ما هو أبعد من الاستثمارات الواعدة:

هناك اعتراف بتنامي دور هذه الدول المشكلة للتجمعات المذكورة في الاقتصاد العالمي والشؤون الدولية عامة، بما يستوجب إفساح المجال لها في الحوكمة العالمية وعدالة وفاعلية تمثيلها في المؤسسات والمنظمات المعنية. وبمرور الأعوام على هذه الاجتهادات التجميعية لدول بحسبان ما قد يعود على المستثمر فيها من نفع صادف الاستثمار في بعضها ما هو متوقع، انحرف الأداء ببعضها الآخر عما كان مأمولاً. ولكن الهدف الأكبر لصاغة هذه المجموعات بأحرفها التسويقية المشهورة، تشكيل فئة استثمارية مميزة تحفز توجيه الاستثمارات بالتركيز عليها، بدلاً من المصطلح الفضفاض الذي يضم دولاً عديدة تحت اسم الأسواق الناشئة؛ والذي اقترحه الاقتصادي أنتوان فان أجتمل في عام 1981، أثناء عمله بمجموعة البنك الدولي، واصفاً بذلك دولاً في حالة انتقالية بين وضعها كاقتصادات نامية وطموحاتها لتصبح ضمن الاقتصادات المتقدمة. وقد تعدد وصف وتصنيف الأسواق الناشئة من قبل المحللين، فكان لإيان بريمر خبير السياسة الدولية تعبير لوصف الاقتصادات ذات الأسواق الناشئة بأنها «تلك التي تشكل الاعتبارات السياسية فيها ما لا تقل أهميته للأسواق العالمية عن مقوماتها الاقتصادية».

وفي حين انزوت بعض التصنيفات المذكورة فكاد يطويها النسيان، إلا أن تجمع «بريكس» صمد وتطور عبر العقدين الماضيين وبخاصة لما كان من شأن الصين والهند تحديداً؛ ومن عوامل تماسك هذا التجمع اعتماده على دبلوماسية اجتماعات القمة والإعداد لها بمزيج من البراغماتية والطموح. ورغم تراجع نسبي لجنوب أفريقيا والبرازيل وروسيا بمعيار معادل القوة الشرائية في الاقتصاد العالمي، فإن الدول الخمس مجتمعة يفوق اقتصادها حالياً مجموعة الدول السبع، بالمعيار ذاته، بعدما كان نصيبها لا يتجاوز 40 في المائة من تلك الاقتصادات المتقدمة عام 1995. وستضيف الدول الست المدعوة للانضمام لـ«بريكس»، ومنها 3 دول عربية هي الإمارات والسعودية ومصر، زخماً اقتصادياً وتنوعاً جغرافياً للتجمع.

وهناك 3 أسئلة أختم المقال بإجابات مختصرة لها لأفصلها في مقال مقبل:

1- هل جوهانسبرغ 2023 بمثابة باندونغ 1955 الجديدة لعدم الانحياز؟

– لا! فنحن في عصر الانحياز حيثما تكون المصلحة الوطنية للدولة.

2- هل سيتخلى الدولار عن عرشه؟

– الإجابة تأتي شعراً من أحمد شوقي «ما نيل المطالب بالتمني…»، فالامتياز السخي للدولار كعملة صعبة كان محل نقد منذ الستينات؛ وقد تراجع انتشاره نسبياً كعملة احتياطية مفسحاً المجال لعملات أخرى، كما زادت حدة النقد ومحاولات التخلي عنه مؤخراً بعد «تسليحه». لكن تصور مستقبل العملات، والصعبة منها تحديداً، كعملة دولية تستدعي استحضاراً لتفاعل قوى الاقتصاد والسياسة والقانون والتكنولوجيا وثقافة العصر الرقمي.

3- هل هي بداية نظام عالمي جديد؟

– بل هي إرهاصات لبداية النهاية لترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية التي ولى عهدها ولن تجدي محاولات الترقيع معها نفعاً؛ فالعالم قد تغير واتسع الخرق مع تغيره على الراقع!

د. محمود محيي الدين

الاقتصاد والحب!

قد يكون هذا العنوان غريباً لأن الكلمتين أساسهما مختلف. الاقتصاد نظام اجتماعي مبني على تبادل المنفعة وإدارة الموارد، وقرارته كلها مبنية على أرقام. أما الحب فهو نظام اجتماعي كذلك مبني على تبادل المنفعة، ولكن قرارته مبنية على المشاعر.

ما علاقة هذا بذاك إذن؟ أولاً الاقتصاد في الأساس مبني على حب الذات، هكذا قال أبو علم الاقتصاد الحديث الأسكوتلندي آدم سميث قبل 300 عام في كتابه المؤثر «ثراء الشعوب».

في أشهر اقتباس في الكتاب، يقول سميث إننا نحصل على عشائنا من الخباز والقصاب ليس بسبب اهتمامهما بعمل الخير لنا، بل بسبب حبهما لذاتهما، ولهذا لا نتكلم معهما عن احتياجاتنا بل عن مصالحهما.

هذا هو الاقتصاد باختصار نظام اجتماعي قائم على حب كل فرد لذاته ومصلحته الخاصة. ولهذا عندما يغيب حب الذات والمصلحة الخاصة، يحصل تشوه في النظام. ولهذا فشلت الأنظمة الشيوعية والاشتراكية لأن الدولة تبحث عن مصالح الناس ولا تعطي المجال للفرد للبحث عن مصلحته وإدارة الموارد الطبيعية بالطريقة التي تناسب السوق والمشتري.

ولكن عندما نجرد الاقتصاد من كل حب ما عدا حب الذات، هل سنتحول إلى وحوش يفترس بعضنا بعضاً؟ نعم، ولهذا دور الدولة هو حماية الضعفاء والفقراء من تسلط الأقوياء والأثرياء.

ومن هنا وجبت الزكاة في النظام الإسلامي لحماية المجتمع من احتكار طبقة ما للمال والموارد.

ماذا عن صور الحب الأخرى؟ هل لها مكان في الاقتصاد؟ المجموعات البشرية تحتاج روابط قوية حتى تستمر، ونحتاج روابط الحب بين أفراد المجموعة حتى تواجه الظروف متحدة ويدعم كل من الأفراد الآخر، ولكن هذا ليس ضرورياً. المهم أن تكون هناك شخصية يجتمع حولها الكل ويحبونها ويؤمنون بها، أو وجود كيان يحبونه ممثلاً في شركة أو مؤسسة.

هذا الحب حتى يدوم يحتاج أن تكون القيم متشابهة أو متقاربة بين المجموعة.

ماذا لو كان الأشخاص غير قادرين على الحب سوى حب أنفسهم؟! هذه هي مأساة الرأسمالية الحديثة حيث يغرق الفرد في حب ذاته ناسياً حبه المجتمع والأفراد من حوله.

إن الحب أساس في نجاح كل عمل، وكل الناجحين يعملون أشياء يحبونها وفي الوقت نفسه يحبون ذواتهم ويرون أنها تحقق لهم ذواتهم.

غياب الحب في حد ذاته مأساة، ولا توجد عاطفة تحرك الإنسان أكثر من حب ذاته إلا حب الأم لأبنائها؛ فذلك حب يفوق الذات بمراحل.

ولعل أفضل الأنظمة التجارية سابقاً هي الشركات العائلية الصغيرة، حيث تكون هناك روابط محبة قوية توحد الجميع للحفاظ على الشركة. وقبل ذلك عرفت البشرية الأنظمة الزراعية الصغيرة، حيث تعمل العائلة في الأرض نفسها حتى الممات، ويتشاركون الموارد كافة.

وبعد عقود طويلة رجعنا لنظام المشروعات الصغيرة والمتوسطة، حيث أجواء العمل أجمل، وروابط الموظفين ببعضهم أعمق من الشركات الكبيرة. وهذا سر نجاح العديد منها اليوم.

خطورة الحب هي أنه «أعمى»، ولهذا بعض الشركات يغرق مؤسسوها في حبها لدرجة أنهم لا يرون عيوبها أو عيوب منتجهم، وهذا سر انهيار وفشل شركة «بلاك بيري» للجوالات، لأن مؤسسها تعلق بالمنتج الذي اخترعه وهو «الكيبورد» المتصل بشاشة، لدرجة أنه تجاهل أهمية «الكيبورد» الافتراضي على شاشة الموبايل. هذا الحب كلفه شركة قيمتها مليارات، بالطبع هذا إضافة إلى مشكلات إدارية أخرى.

باختصار، عندما نتحدث عن الاقتصاد، لا ينبغي أن نتجرد من أحاسيسنا، فالاقتصاد الكمي ليس هو كل شيء. والحب مهم… ولكنه بدون تقنين يصبح مدمراً، سواء كان للذات أو للشركة أو المنتج.

وائل مهدي

«كوب 28»: تحول الطاقة يجب أن يكون منصفاً وعادلاً وغير منحاز

استطاع مؤتمر «كوب 28» بعد ثلاثة عقود من المناقشات والعشرات من المؤتمرات أن يحوز الموافقة بالإجماع لنحو 200 دولة على خطة عمل مناخية للحفاظ على إمكانية تفادي تجاوز الارتفاع في درجة حرارة الأرض مستوى 1.5 درجة مئوية، وأن يكون التحول للطاقة منصفاً، وغير منحاز لوقود على الآخر، وأن تنفذ الدول مهامها حسب إمكاناتها. فالمطلوب هو تقليص الانبعاثات. واعترف القرار ضمنياً بأهمية الوقود الأحفوري الخالي من الانبعاثات، وشموليته في أنواع الوقود الأخرى مستقبلاً.

صرح وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان بأن «اتفاق (كوب 28) يشدد بالأساس على أهمية تحول الطاقة»، مشيراً إلى أن «مراجعة نص البيان الختامي لاتفاق (كوب 28) تمت كلمة بكلمة».

وأكد الأمير عبد العزيز بن سلمان في تصريح لقناة تلفزيون «العربية»، أن «التركيز كان على معالجة التحديات بالتوافق مع المصالح الوظيفية»، عادّاً أن «الاتفاق الحالي أعاد اتفاق باريس للواجهة مجدداً»، ولافتاً الانتباه إلى أن «المستهدف هو خفض الانبعاثات، وللدول حق اختيار المنهجية التي تحافظ على مصالحها، وأنه يجب النظر بطريقة متكاملة للنصوص حسب الاتفاق». وفيما يخص الصادرات الهيدروكربونية المستقبلية للسعودية، أضاف الأمير عبد العزيز لقناة تلفزيون «العربية»، أن «النص يقدم بدائل، لكنه لا يؤثر في صادرات بلادنا، أو في قدراتها على البيع».

كما أكد وزير الطاقة السعودي، أن «برامج المملكة تعمل على تخفيض البصمة الكربونية لمنتجاتها»، مبيناً أن «تحول الطاقة يمكن المملكة من الموازنة بين خفض الانبعاثات ونشاطها النفطي».

من الجدير بالذكر، أن انتقادات الدول النفطية للدراسات المقدمة لمؤتمرات «كوب» خلال السنوات الماضية، كانت نحو انصباب هذه التقارير على الانبعاثات المنبثقة من الوقود الأحفوري، أكثر من غيرها من الوقود التقليدي، ومن ثم الحملات للإسراع بتقليص أو إيقاف استعمال الوقود الأحفوري دون غيره. كما انتقدت الدول النفطية المواعيد المبكرة والسريعة التي دعت لها بعض التقارير، مثل تلك الصادرة عن وكالة الطاقة الدولية، والتي عدّتها الدول النفطية غير عملية، بالذات لعدم كفاية إمكانات الطاقات المستدامة التي تم تشييدها حتى الفترة الحالية، وللزيادة المستمرة للطلب على البترول على المدى المنظور والطويل الأمد، كما تشير إلى ذلك الأسواق والعقود للشركات مع الدول المنتجة، مما يدل على استمرار أهمية البترول في قطاع الطاقة العالمي. وأخيراً، انصبت انتقادات الدول النفطية على إهمال التقارير السابقة لأهمية صناعة «تدوير الكربون» التي يتم من خلالها التقاط الكربون من البترول المنتج وخزنه في آبار وكهوف فاضية، ومن ثم إعادة استعمال الكربون دون تسربه في الفضاء. وهذه صناعة حديثة العهد، منتشرة في العديد من الدول النفطية.

تشير دراسة صادرة في عام 2005 عن اللجنة العلمية لدول الأمم المتحدة المتخصصة بشؤون المناخ، إلى أنه من الممكن تخزين نحو 99 بالمائة من الانبعاثات الكربونية الملتقطة من البترول لمدة 100 عام؛ إذ بالإمكان تخزين الغالبية العظمى من هذه الانبعاثات لمدة 1000 سنة أو أكثر.

وتضيف الدراسة أن صناعة «تدوير الكربون» منتشرة في معظم الدول المنتجة، لكن بمراحل متباينة ما بين التخطيط والتشييد. وتساعد هذه الصناعة الحديثة في إنتاج الوقود الخالي من الانبعاثات، ثم المساعدة في صناعة الهيدروجين الخالي من الانبعاثات؛ إذ من المتوقع أن يلعب وقود الهيدروجين دوراً مستقبلياً مهماً.

تستثمر الدول المنتجة أموالاً باهظة في تشييد صناعة «تدوير الكربون» التي تؤهل الدول البترولية لاستمرار الإنتاج لثرواتها الطبيعية مع التوصل إلى حياد كربوني في نفس الوقت.

وتدل المعطيات المتوفرة على أن الطلب على النفط في ازدياد مستمر؛ نظراً إلى ازدياد الطلب على المنتجات البتروكيماوية في الأسواق الاستهلاكية، وفي تصنيع السيارات الكهربائية وذات محرك الاحتراق الداخلي.

المدير العام والممثل الخاص لرئاسة دولة الإمارات لمؤتمر الأطراف للمناخ «كوب 28»، ماجد السويدي، قال خلال مؤتمر صحافي: «تمكنا من جمع ما يزيد على 83 مليار دولار من الالتزامات المالية الجديدة، إضافة إلى توقيع 130 دولة على إعلان زيادة القدرة الإنتاجية لمصادر الطاقة المتجددة ثلاث مرات ومضاعفة كفاءة الطاقة، فضلاً عن تقديم عدد كبير من شركات النفط والغاز للمرة الأولى التزاماً بمعالجة انبعاثات غاز الميثان، إلى جانب 11 إعلاناً تغطي مختلف جوانب العمل المناخي، بدءاً من التمويل إلى الزراعة والصحة».

وليد خدوري

مستقبل الطاقة في «كوب 28»

تشير الأخبار الواردة من مؤتمر «كوب 28» في دبي، قبيل اختتامه المقرر اليوم الثلاثاء، مع الأخذ في الاعتبار إمكانية تمديده كما حصل في معظم المؤتمرات السابقة، إلى استمرار التباينات حول الاهتمام بمدى الانبعاثات التي تنطلق من وقود معين، أو التركيز على أنواع الوقود المستعملة في سلة الطاقة المستقبلية لما بعد عام 2050، يعني ذلك في الآراء والمصالح استمرار النقاش حول قرارات المناخ في المؤتمرات المقبلة.

المداولات حتى الأيام الأخيرة من المؤتمر تعكس اختلاف وجهات النظر ما بين الأقطار النفطية التي تطرح صناعة تدوير الكربون بالتقاطه عند إنتاج النفط وتخزينه في الآبار والكهوف. من ثم، فإنه يصبح بالإمكان استهلاك النفط بانبعاثات منخفضة. ومن ثم إمكانية ضم هذا البترول المنخفض الانبعاثات في سلة الطاقات المستقبلية لما بعد عام 2050. بهذا، يصبح المعيار المعتمد منذ النصف الثاني من القرن هو كمية الانبعاثات المنطلقة وليس الوقود نفسه.

من جهة أخرى، لا تزال بعض الأقطار الأوروبية ودول الجزر المنخفضة في البحار والمحيطات تطرح الاستمرار في البديل المعتمد في المؤتمرات السابقة، بالذات مؤتمر باريس لعام 2015، الذي يدعو إلى الالتزام بأهداف طاقوية محددة تستوجب وقف استعمال الوقود الأحفوري، متأثرة بحملات سياسية هادفة.

في رسالة وجهها الأمين العام لمنظمة «أوبك» هيثم الغيص في 6 ديسمبر (كانون الأول) (نشرت مقتطفات منها في نشرة «بلاتس أويل غرام») إلى الأقطار الأعضاء والأقطار النفطية الأخرى، قال: «أود أن أنتهز هذه الفرصة لأطلب من جميع الأقطار المحترمة في منظمة (أوبك) وغير (أوبك)… رفض أي تعبير أو معادلة تستهدف الطاقة: أي الوقود الأحفوري بدلاً من الانبعاثات».

توصلت المباحثات ما بين الوفود في الأيام الأخيرة قبيل المؤتمر إلى صياغة 5 بدائل يتم الاتفاق النهائي على واحد منها في الجلسة الأخيرة للمؤتمر.

تتلخص البدائل الخمس إما في إعطاء الأهمية للانبعاثات، أو في الاستمرار بمعارضة استعمال الوقود الأحفوري بحلول عام 2050 من خلال تقليص استعماله منذ العقد المقبل تحضيراً لموعد منتصف القرن، مما يعني الالتزام الكامل بقرارات مؤتمر باريس لمكافحة تغير المناخ لعام 2015.

وفيما تستمر الدول النفطية داعية إلى تبني مقياس مدى الانبعاثات بدلاً من نوع الوقود المستعمل، مستندة بذلك على إمكانية اقتصاد «تدوير الكربون» في تقليص انبعاثات البترول من النفط والغاز، من ثم إمكانية ضمه لسلة الطاقة لما بعد عام 2050، فقد ساندت الدول النفطية العديد من دول العالم الثالث الفقيرة التي تعاني من عدم توفر الكهرباء وضغوطاً من الدول الصناعية الغنية بعدم الاستثمار في الصناعة النفطية التي تستطيع أن توفر لها الأموال اللازمة لتعزيز اقتصاد بلادها من كهرباء ومياه صالحة للشرب.

من ثم، فإن استمرار الفرق الشاسع ما بين الأطراف المتعددة سيعني صعوبة التوصل إلى اتفاق تاريخي في اجتماع دبي. والسبب في ذلك يعود إلى ضرورة الحصول على إجماع الـ197 دولة المشاركة في المؤتمر.

وليد خدوري

«كوب 28» وصندوق الخسائر والأضرار

قرر مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ (كوب 28) تفعيل صندوق الخسائر والأضرار، والحرص على نهج جديد في مواجهة التغير المناخي.

فقد شهدت أعمال مؤتمر «كوب 28» أول قرار أساسي لتفعيل صندوق الخسائر والأضرار، للدول الأكثر تضرراً من تغيّر المناخ.

كما تم إعلان إنشاء صندوق بقيمة 30 مليار دولار للحلول المناخية على مستوى العالم لسد فجوة التمويل المناخي، وتيسير الحصول عليه بتكلفة مناسبة.

وركز منتدى المناخ للأعمال التجارية والخيرية المنعقد على هامش «كوب 28»، على تنفيذ حلول عملية ملموسة لتحديات المناخ والطبيعة على مستوى عالمي. وناقش الحلول التي تعالج القضايا ذات الأولوية المحددة في أجندة عمل مؤتمر «كوب 28»، مثل تحول الطاقة، وتمويل العمل المناخي، والحفاظ على الطبيعة والشمول، وحماية التراث الطبيعي لكوكب الأرض وتنوعه الحيوي، وتمويل خطط التكيّف، وتكوين أنظمة غذائية وآليات زراعية أكثر استدامة. والهدف الأساسي للمنتدى هو إتاحة المجال للقطاع الخاص لأخذ خطوة فعلية عملية تخرجهم من دائرة الاتفاقيات والتعهدات النظرية إلى عالم التنفيذ العملي والنتائج الملموسة.

وقد دعا رئيس مؤتمر «كوب 28» إلى نموذج جديد يقوم على العمل الملموس والتغيير الفعال بالاستفادة من الديناميكية ورأس المال وشبكات العمل التي توفرها الأعمال التجارية والخيرية التي نحن بأمسّ الحاجة إليها لتحقيق أهداف إدارة المناخ وحماية الطبيعة.

وسيشكل الحصول على التمويل من أجل التصدي للخسارة والأضرار، وبالأخص، توزيع التمويل المخصص للخسائر والأضرار، اختباراً حاسماً لمقياس مدى نجاح «كوب 28». ويكشف تقرير يتناول الخسائر والأضرار في النظم الزراعية والغذائية، تم إطلاقه خلال المؤتمر، عن أن أكثر من ثلث الالتزامات المناخية للدول، أي المساهمات المحددة وطنياً، تشير صراحة إلى الخسائر والأضرار. وبالنسبة إلى الدول التي تشير إلى الخسائر والأضرار، يتبيّن أن الزراعة بشكل عام هي القطاع الوحيد الأكثر تضرراً لديها.

من الضروري الالتزام بدعم الدول، من أجل تقييم مدى الخسائر والأضرار الناجمة عن آثار أزمة المناخ على قطاعات الإنتاج الزراعي والغذائي، وحجم تلك الخسائر، وتعبئة الموارد المالية الكافية التي يمكن التنبؤ بها لدعم تنفيذ إجراءات التصدي للخسائر والأضرار في القطاع، وتقييم المخاطر المناخية، والحد من الخسائر والأضرار في الزراعة، وتطوير تكنولوجيات وممارسات جديدة يمكنها أن تقلل من تعرض منتجي الأغذية ومستهلكيها للمخاطر المناخية، كالمحاصيل التي تتحمل الجفاف، ونظم الري المقتصدة في استخدام المياه، ونظم الإنذار المبكر.

ويذكر أنه لا يمكن الفصل بين أزمة المناخ وأزمة الغذاء، ومن شأن الاستثمار في حلول النظم الزراعية والغذائية لتغير المناخ أن يعود بمنافع جمّة على الناس وعلى كوكب الأرض. ولكن لا يمكن حتى لأكثر المزارعين قدرةً على الصمود أن يتكيّفوا مع جميع آثار أزمة المناخ، فيجب أن نضع صغار المزارعين والدول النامية المعتمدة على الزراعة في طليعة جهودنا الجماعية الرامية إلى معالجة الخسائر والأضرار الناجمة عن تلك الأوضاع.

وفي الختام، يمتلك العلماء المهتمون في موضوع التلوث، أدوات تراقب تتتبع مصدر غازات التلوث، وبالتالي لديهم القدرة على تحديد أكبر الدول الملوثة للبيئة في العالم. ووفقاً للإحصاءات الدولية والبحوث المنشورة في الدوريات العالمية العلمية المحكمة، فإن أميركا والصين والاتحاد الأوروبي والهند هي المسؤولة عن أكثر من 60 في المائة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم. في وقت لا تزال فيه الدول الملوثة للبيئة في العالم بعيدة تماماً عن الوفاء بوعودها بشأن تمويل المبادرات المناخية حول العالم، رغم استثماراتها المحلية الضخمة في الطاقة النظيفة. وهي أخفقت في تقديم الضروري المطلوب الذي وعدت به منذ فترة طويلة لمساعدة الدول النامية على تبني الطاقة الخضراء، والتكيف مع العواصف الشديدة وموجات الحرارة الحارقة، والحد من الجفاف الذي تسبب في تفاقم المشكلة.

د. ثامر محمود العاني