النفط بين عيدين

في عيد الفطر الماضي، لم تكن أسعار النفط بهذا السوء وكان هناك تفاؤل كبير حول الطلب من الصين.

أما الآن ونحن نحتفل بعيد الأضحى المبارك، فقد تدهورت الأسعار بشكل كبير وأصبحت حالة الكنتانغو مهيمنة على الأسعار، وهنا نقصد بها أن أسعار عقود النفط آخر العام أعلى من مستوياتها القريبة وذلك لأن سوق النفط يعتقد أن فيها تخمة في المعروض حالياً وشحا بنهاية العام.

لكن هذه الحالة موجودة بقوة في السوق الورقية وهي سوق العقود الآجلة للنفط، بينما في السوق الفعلية تشهد الأسعار حالة مختلفة حيث يشعر التجار والمشترون هناك بأن إمدادات النفط بدأت تتقلص، خاصة الخامات المتوسطة والثقيلة، التي يحبها الصينيون لأنها تنتج ديزل بكميات أكبر عند التكرير.

هذا الانفصال بين السوق الفعلية والورقية نقطة محورية في سياسة منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) الحالية، التي عبر عنها وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان بأنها حالة يجب الوقوف عندها، وجار العمل على حلها.

الانفصال بين السوقين هو ما جعل أوبك وحلفاءها يقلصون الإمدادات بشكل كبير حتى تلحق السوق الورقية بالفعلية.

إلا أن السوق الورقية لا تزال لا تلحق بالفعلية، وهنا قدمت السعودية تخفيضاً إضافيا طوعيا بنحو مليون برميل يوميا يبدأ في يوليو (تموز) بعد أيام.

هذا الخفض كان هدية للسوق، وتمديده لمدة أطول هو العيدية التي ستقدمها السعودية للسوق على ما يبدو.

كل هذه التحولات يجب ألا تبعد نظرنا عن الصورة الكبرى وهي نقص الإمدادات على المديين المتوسط والبعيد، وهذا أمر سنتركه لمؤتمر أوبك الدولي الذي سينعقد في فيينا الأسبوع القادم، والذي سيكون مخصصاً لنقاش التحديات طويلة الأجل التي نواجهها ولا أحد يلتفت إليها.

وائل مهدي

التقرير الرسمي الأول بعـد الانهيار: إنسوا الودائع

من حيث المبدأ، لم يتضمّن تقرير صندوق النقد الدولي حول لبنان مفاجآت غير متوقعة، بل كان بمثابة توصيف وتوثيق لأرقام وحقائق معروفة، يتابعها اللبنانيون منذ اكثر من ثلاث سنوات ونصف. ومع ذلك، هناك ملاحظات في التقرير، لا بد من تسليط الضوء عليها، بالنظر الى حساسيتها وأهميتها.

تكمن أهمية التقرير الذي أصدره صندوق النقد الدولي حول لبنان، بناء على مناقشات المادة الرابعة، والذي يقع في 61 صفحة، تتضمّن رسومات بيانية وجداول، في انه التقرير الدولي الرسمي الاول الذي يصدر بعد أزمة الانهيار في نهاية العام 2019. ومن البديهي انّ مضمونه سوف يُعتمد كمُستند موثوق تبني عليه الدول، لاتخاذ القرارات حيال الوضع اللبناني، وكذلك يفعل المستثمرون والدائنون…

الى ذلك، تَرِد في التقرير الموسّع، مواقف وحقائق ملفتة، من أهمها:

أولاً – يعترف التقرير بتوقّف الانكماش في الاقتصاد في العام 2022، لكنه لا يوافق مصرف لبنان على تقديراته بوجود نمو قدره 2 %.

ثانياً – يشير التقرير الى الخسائر التي تكبدها لبنان بعد الأزمة، بسبب سوء الادارة، والتي أدّت الى فقدان مصرف لبنان حوالى ثلثي احتياطه من العملات، التي تراجعت من 31 مليار دولار في العام 2019، الى 9.5 مليارات دولار حالياً.

ثالثاً – في معرض توصيفه للاسباب التي أوصلت الاقتصاد الى ما هو عليه اليوم، يذكر التقرير قرار الحكومة اللبنانية التوقّف عن دفع سندات اليوروبوندز في آذار 2020، بما يؤكد مسؤولية الحكومة آنذاك في دفع الأزمة الى تعقيدات كان يمكن التخفيف منها، فيما لو لم يتخذ قرار «الافلاس».

رابعاً – يشير التقرير الى ان الاموال التي كانت متوفرة في العام 2017 في القطاع المالي (مصرف لبنان والمصارف) كانت تكفي لضمان الودائع، بما يعني انّ الفجوة المالية التي وصلت الى 73 مليار دولار، حصلت في قسمٍ كبير منها بعد الانهيار، وبسبب سوء ادارة الأزمة.

خامساً – يتضمّن التقرير اشارة الى الخسائر التي تكبدها القطاع المالي جرّاء اعادة القروض الدولارية بالعملة اللبنانية او بسعر صرفٍ غير واقعي. ويورِد انّ حجم الودائع تراجع حوالى 30 مليار دولار منذ بداية الأزمة، بينها حوالى 27 مليار دولار، عبارة عن قروض جرى تسديدها بالليرة او باللولار. وهذا يؤكد ان ما حصل لم يكن بمثابة تذويب للودائع، بقدر ما كان عملية تكبيد القطاع المالي خسائر كبيرة، وكشفه أكثر على مصرف لبنان، اذ زادت مطلوبات المصارف على المركزي بسبب عمليات تسديد القروض بهذه الطريقة. ويصف التقرير ما جرى بأنه عملية دعم للمقترضين، ويقدّر حجم هذا «الدعم» بحوالى 15 مليار دولار، وهذا الرقم يعكس حجم خسائر المصارف نتيجة هذا الاجراء.

سادساً – يتحدث التقرير عن سياسة الدعم، والتي أدّت الى خسارة مصرف لبنان حوالى ثلثي احتياطه من العملات.

سابعاً – لا ينتقد التقرير عمل منصة صيرفة، ولو انه لا يوافق على استمرار سياسة دعم الليرة، ويدعو الى تطوير هذه المنصة لاستخدامها في عملية توحيد سعر الصرف، وتحويلها الى أداة مالية للتداول.

في المقابل، يبدو واضحاً انّ سياسة صندوق النقد لم تتغير بعد حيال النظرة الى اعادة الودائع، ولا يزال هناك إصرار على عدم المس بإيرادات القطاع العام للمساهمة في عملية التعافي. ويظهر بوضوح هذا النهج من خلال اختيار العبارات في توصيف هذا الامر. وعلى سبيل المثال، يَرِد في المقطع المخصّص لسيناريو التعافي، والذي يرسم خارطة طريق للوصول الى استدامة الدين العام، وانخفاضه الى ما نسبته 80 % من حجم الاقتصاد (GDP) في العام 2027، ان هذا الامر ممكن شرط ألا يُستَخدَم جزء من ايرادات الدولة في اعادة هيكلة المصارف. وهكذا، يتم توصيف ديون الدولة على غير حقيقتها. اذ ان المطروح ليس مساهمة الدولة في اعادة هيكلة المصارف، بل ان تعمُد الدولة الى تسديد ديونها، او جزء من هذه الديون، كما سيجري في ملف اليوروبوندز.

اما الحديث عن ان القطاع العام منهار، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليه لتأمين ايرادات تكفي للتعافي ولدفع الديون، فهذا الامر منطقي وفقاً للدراسات التي تجري على القطاع العام في حالته الراهنة. لكن ارقام الايرادات وقيمة مؤسسات وأصول هذا القطاع قد تتغير وتتضاعف في حال الموافقة على إشراك القطاع الخاص في ادارة هذا القطاع، وهذا هو الامر المطلوب، لكي تصبح الدولة قادرة على التعافي، من دون ان تضطر الى التنكّر لديونها، بحيث تضيع حقوق المودعين.

يبقى تساؤل أخير، كيف تم احتساب خسائر المودعين منذ 2020 وتقديرها بـ10 مليارات دولار، اذا كان التقرير نفسه يشير الى فقدان حوالى 22 مليار دولار من احتياطي مصرف لبنان، وحوالى 15 مليار دولار خسائر تسديد الديون الدولارية بالليرة او باللولار؟

انطوان فرح

الطاقات المستدامة وتغير موازين القوى

تقود الصين بقية دول العالم في كل من الاستثمارات والتقنية لتصنيع الطاقات المستدامة. ومن جهتها شرَّعت الولايات المتحدة مؤخراً «قانون تخفيض التضخم» الذي يقدم مساعدات حكومية بقيمة 300 مليار دولار خلال العقدين المقبلين، لدعم تخفيض الانبعاثات الكربونية بتشييد الطاقات المستدامة.

أثار هذا القانون، رغم مئات المليارات من الدولارات المخصصة له، كثيراً من النقاش في معاهد البحوث الأميركية؛ خصوصاً حول إمكانية تحقيق دور ريادي للولايات المتحدة في صناعة الطاقات المستدامة.

ناقش معهد «بروكينغز» في واشنطن هذا الأمر في ندوة تم نشر مداولاتها مؤخراً. شكَّلت إمكانية تعاون الدولتين في صناعة تخفيض انبعاثات الكربون مستقبلاً محوراً مهماً في الندوة.

أثارت حقيقة النمو العالي لإمكانات الصين في تصنيع الطاقات المستدامة حفيظة العواصم الغربية؛ لأن إمكانات الصين لإنتاج الطاقة تفوق إمكانات الأقطار الثلاثة عشر في منظمة «أوبك» التي لديها نحو 40 في المائة من الطاقة النفطية العالمية. ومما يضيف إلى مخاوف الدول الغربية هو أن لدى الصين الطاقة لإنتاج نحو 50 في المائة من كل من معدن الليثيوم والنيكل، ونحو 70 في المائة من الكوبالت، الضرورية في إنتاج الطاقات المستدامة.

هذا يعني أن الصين تتفوق على الدول الصناعية الغربية في مجالات طاقوية مستقبلية متعددة في الوقت نفسه، وفي كل من إنتاج المعادن النادرة لتصنيع آلات الطاقات المستدامة، وتصنيع وتسويق الآلات والسلع للصناعة. هذا، ناهيك عن التنافس السعري والتسويقي للسلع الصينية.

استراتيجياً، هيمنت الصين على كل من إنتاج المواد الأولية والتقنيات والمنافسة السعرية لصناعات الطاقة المستدامة منذ وقت مبكر. هذا بينما سيطرت أقطار «أوبك» في العصر الهيدروكربوني على إنتاج النفط، وليس تصنيع المعدات والآلات لصناعة النفط.

في الوقت نفسه، هناك فروق واضحة بين الصناعة النفطية وصناعة الطاقات المستدامة؛ إذ تعتمد الصناعة النفطية إلى حد كبير على توفر احتياطات الثروة النفطية في دولة أو منطقة ما. بينما تعتمد صناعة الطاقات المستدامة على التقنية لتصنيعها، وهي تقنية منتشرة عالمياً. كما أن استعمال الطاقات المستدامة متاح تقريباً في معظم أنحاء العالم (بدرجات مختلفة). ولا تعتمد الطاقات المستدامة إلى حد كبير على ثروة معدنية متمركزة في دولة أو منطقة معينة من العالم. ومن ثم، تعتبر بعض الدول الغربية أن هذا سيقلص من التهديدات الحالية لأمن الطاقة.

لكن، كأي صناعة عالمية، تواجه الطاقات المستدامة تحديات وتهديدات بسبب التنافس الاقتصادي ما بين الدول والتشريعات المحلية التي تحاول حماية الصناعة الوطنية. فعلى سبيل المثال، أثار اتفاق شراكة بين شركة «فورد» وشركة «الصين أمبركس للتقنية- كاتل» بقيمة 3.5 مليار دولار، لتصنيع البطاريات الكهربائية في ولاية ميشيغان، اهتمام الكونغرس الأميركي، وبعد نقاش طويل تخللته معارضة مشتركة من قبل بعض أعضاء الحزبين، وافق الكونغرس على مساندة الاتفاقية ما بين الشركتين (التي تشمل مصانع عدة) ودعم الاتفاق بنحو 9 مليارات دولار، لمساندة وتسريع صناعات الطاقات المستدامة الأميركية.

تخوف الكونغرس في بادئ الأمر من أن الاتفاق ما هو إلا بداية لسلسلة من الاتفاقات التجارية- التكنولوجية ما بين الولايات المتحدة والصين في قطاع الطاقات المستدامة. كما أبدت الصين نفسها وفي الوقت ذاته المخاوف من استعمال تقنيتها لدعم صناعة الطاقات المستدامة الأميركية؛ خصوصاً في الجو المضطرب ما بين الدولتين الكبريين.

هناك شعور عام عند المسؤولين عن قطاع تخفيض الانبعاثات الكربونية في الولايات المتحدة، بأنه من دون التعاون الوثيق ما بين الولايات المتحدة والصين في هذا المجال الصناعي- العلمي، فإن الصناعة الأميركية هذه ستتأخر في النمو، وتكاليفها ستكون أعلى من غيرها.

لكن رغم الخلافات الاستراتيجية ما بين الدول الكبرى، نمت صناعة الطاقات المستدامة عالمياً، لتزداد الاستثمارات فيها خلال 2022، أكثر من تريليون دولار.

شكلت الطاقة تاريخياً دوراً محورياً في العلاقات ما بين الدول. وهذا ليس بالأمر الجديد، فكان هناك الصراع والتنافس على الفحم الحجري، ودوره في توسع وتحسن سرعة النقل بالسكك الحديدية. ثم النفط الذي شاع استعماله في القرن العشرين في توليد الكهرباء وتغذية المصانع، الوقود المفضل لجميع وسائل النقل الحديثة، كما أنه الوقود لآلات الحرب المختلفة. والآن الطاقات المستدامة لتخفيض الانبعاثات أحد أهم أولويات العالم المعاصر، لإنقاذ الكرة الأرضية من التلوث البيئي والتغير المناخي.

ورغم اختلاف العوامل الذاتية لكل فترة، يستمر التباين في المصالح الاقتصادية والاستراتيجية ما بين الدول؛ خصوصاً ما بين الدول الكبرى والأقطار المنتجة والمستهلكة للطاقة، والدول الصناعية الحديثة، مثل كوريا الجنوبية والهند والبرازيل. وهذا هو صلب النقاش الدائر حالياً.

لا نحصر النقاش اليوم في الطاقات المستدامة. إذ تستمر الدول والشركات المنتجة للنفط والغاز، وتصر على موقفها بضرورة التوسع والاستثمار في الصناعة النفطية والغازية. فقد طالب رئيس شركة «بتروبراس» البرازيلية بضرورة الاهتمام بتأمين احتياطات نفطية وافية من أجل استقرار «المرحلة الانتقالية».

ومن جانبه، صرح الرئيس التنفيذي لشركة «شل» وائل صوان، بأهمية استمرار الاستثمار في الصناعة الغازية؛ خصوصاً صناعة الغاز المسال. والهدف المشترك للشركتين، ومعهما الدول المنتجة، هو تأمين استقرار مرحلة «تحول الطاقة»، والعقود المستقبلية؛ حيث من المتوقع استمرار أهمية دور النفط والغاز في سلة الطاقة المستقبلية؛ خصوصاً مع تخفيض الانبعاثات الكربونية منهما.

وليد خدوري

التدمير المُبرمَج لليرة اللبنانية

 

صُنّفت الليرة اللبنانية، في التقرير الدولي الأخير عن العملات الصادر في أواخر أيار 2023، من أضعف 5 عملات في العالم، إلى جانب العملة الإيرانية، والغينية، وعملات أوغندا، الفيتنام وسيراليون.

مرة أخرى، لسوء الحظ، يقع لبنان في أدنى المراتب حيال التصنيفات الدولية. ولا شك في أن هناك استراتيجية مبرمجة وممنهجة لتدمير ما تبقّى من اقتصادنا وعملتنا الوطنية ونسبة عيش الشعب وقدرته الشرائية.

إن الليرة اللبنانية، بعدما خسرت نحو 95 % من قيمتها، شهدت تدهوراً غير مسبوق، بعدما كان سعرها مُثبّتاً على الـ 1500 ليرة، حيث بقي على هذا النحو منذ تسعينات القرن الماضي، حتى ولو كان ذلك بشكل خيالي. وقد وصل سعر الصرف مؤخراً إلى نحو 145 ألفاً، ومن ثم ثُبّت وهمياً بعصا سحرية على نحو 95 ألفاً، ويُستعمل سعر الصرف كسلاح اقتصادي واجتماعي، ووسيلة ضغط سياسية، وطريقة جديدة للفساد والنهب وبناء ثروات جديدة على حساب الشعب المنهوب والمذلول.

ما نشهده اليوم هو جريمة اغتيال العملة الوطنية، ومن عبرها إغتيال الوطن، وإغتيال العملة الوطنية حيث يُغتال يومياً الشعب اللبناني، ولقمة ونسبة عيشه، وتأسيس قسم كبير من الفقراء الجدد، عبر إجبارهم على التسوّل وقَرع باب المسؤولين والأحزاب، لتأمين الرغيف والدواء والإستشفاء.

شئنا أم أبينا، لقد تحوّلنا من إقتصاد مراقب دولياً، إلى إقتصاد عشوائي، وحتى يمكن تلقيبه بإقتصاد المافيات. لقد تحوّلنا من إقتصاد مصرفي إلى إقتصاد الكاش الذي هو أخطر إقتصاد في العالم، والذي يَجذب المروّجين والمهرّبين والمبيّضين. لقد تحوّل إقتصادنا بالعملة الوطنية إلى إقتصاد مدولر بإمتياز. لكن هذا الإقتصاد المدولر الجديد لا يُشبه أبداً الإقتصاد المدولر الذي عشناه في إقتصاد الحرب في ثمانينات القرن الماضي. حينئذ كان المودع يستطيع الوصول إلى ودائعه، وصرف وتحويل مدّخراته، وخصوصاً استعمال قرشه الأبيض ليومه الأسود.

أما اليوم في الدولرة الجديدة فقد سُرقت كل القروش البيضاء ونُهبت وهُدرت، ومدّخرات الشعب الكادح، ولم يعد يستطيع استعمالها في الأيام السوداء الحالية. ففي ظل الدولرة الجديدة، بات حاملو هذه الدولرة الجديدة والمستفيدون منها هم أساساً المافيات وروّاد تبييض الأموال، والترويج والفساد.

إن دولرة اليوم لا تُشبه الدولرة الماضية، لأنّ حاملي الدولارات، من عرق جبينهم، لا يستطيعون الحصول على سِنت منها، لكن الذين يتحكّمون بهذه السوق المدولرة الجديدة هم الذين نهبوا وسرقوا أموال الشعب المطعون.

فالدولارات الشريفة، ملك الشعب، والشركات والإقتصاد الأبيض، حيث سُرقت رسمياً، ولا تزال تُسرق حتى تاريخه. أما الدولارات الجديدة والثروات المحققة فهي من وراء الإقتصاد الأسود، وإنهيار مؤسسات الدولة، ومن ورائها الأسواق السوداء وغيرها.

في المحصّلة، إن إدراج لبنان في أدنى المراتب الدولية، ليس سراً ولا مفاجأة، لكنه مخطط مبرمج ومُمنهَج بِفَصل لبنان عن دوره الإقليمي والدولي، كما وفصله عن المنصّات الدولية، وتحويل إقتصاده الأبيض إلى الإقتصاد الأسود، وتحويل مؤسساته العامة إلى مؤسسات المافيات، وتدمير عملته الوطنية، على حساب الدولار الفريش الجديد الذي سُرق من الأيادي البيضاء، ومُنح من جديد لملوك الحروب والتدمير.

د. فؤاد زمكحل

أسئلة وأجوبة نقدية مطمئنة: هذه هي خيارات مصرف لبنان علمياً وتطبيقياً…

من الطبيعي بعد انهيار نظام رَبطٍ مَرِن لسعر الصرف دامَ 22 سنة في لبنان أن تكون ردة فعل كثيرين بالاعتقاد أنّ سبب الانهيار هو تثبيت سعر الصرف نفسه، فيَميلون تلقائياً لتأييد تحرير سعر الصرف أيّاً تكن النتائج إقتصاديا وإجتماعيا، خاصة إذا كانوا هم أنفسهم من ذوي المداخيل بالعملات الأجنبية… إلّا أن مسؤولية كل مُتخصّص بالسياسة النقدية وحريص على عدم تفكّك نسيج الوطن ومؤسساته الرسمية أن ينشر التوعية على خصوصية البلدان المدولرة بشكل مزمن والتي لها خياراتها الخاصة للمصرف المركزي وفق المعطيات العلمية والتجارب الدولية… باختصار، علمياً وتطبيقياً، تحرير سعر الصرف ضروري فقط بشكل مرحلي مؤقت للوصول الى سعر الصرف الحقيقي الذي يعكس توازن السوق، ليتمّ على أساسه الانتقال الى الربط الصارم لسعر الصرف عبر الدولرة الشاملة الرسمية أو مجلس النقد. نحن اليوم في مرحلة ازدواجية العمليات مع دولرة شبه شاملة تفرض نفسها وانطلاقاً من الفصل الرابع لصندوق النقد الدولي الصادر منذ أيام، لبنان يحتاج نظام نقدي جديد بعد انعدام الثقة باللليرة اللبنانية… هذه هي خيارات مصرف لبنان العلمية والفعّالة في أسئلة-أجوبة سريعة مطمئنة:

لماذا لبنان بحاجة الى نظام نقدي جديد؟

بعد حدوث انهيار نقدي كبير ضمن أزمة متشعبة الأوجه (اقتصادية، مالية، نقدية، مصرفية) وسط تغيّر كبير في خصوصية الاقتصاد كلياً وخضّات كبيرة (حرب أو نزاع سياسي أو أزمة هوية أو صراع سلطة حاد يوصِل الى فراغ متكرر ومُتمادٍ في الحكم…) وبالتالي سقوط الثقة بالعملة الوطنية والسلطات السياسية والاقتصادية المالية النقدية… تحتاج البلاد الى نظام نقدي جديد، لأنّ الناس لن تتجاوا ولن تمنح الثقة لتكرار استخدام سياسات نقدية سابقة وسيستمرون في الهروب أكثر من العملة الوطنية (أي اعتماد الدولرة الجزئية المرتفعة ولو بشكل غير رسمي، أي أن الدولة لا تزال تفرض استخدام العملة الوطنية لتسديد الضرائب والرسوم حتى لو تم احتسابها بالدولار ثم تحويلها الى الليرة وفق سعر صرف منصة صيرفة أو غيرها) إن لم يجدوا صدمة إيجابية كبيرة وتغيير جذري في الخيارات النقدية… بعد الحرب اللبنانية وارتفاع معدّل الدولرة بين 80 و 90 % اضطر لبنان عام 1993 الى التخلّي عن النظام العائم لسعر الصرف والانتقال الى الربط المَرن عبر الربط الزاحف بين 1993 و1998 ثم الربط بعملة واحدة، أي الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي مع هامش ضيق وسعر وتوسّط ثابت بعد عام 1998 وحتى الانهيار الحالي، بدئاً من خريف عام 2019… بعد تراكم عجوزات ميزان المدفوعات وسقوط كل المؤشرات الاقتصادية بشكل متزاكم منذ العام 2011 وسط نزاع سياسي حاد تركَ لبنان من دون إقرار موازنات عامة لمدة 12 سنة بين 2005 و2017، وجَمّد عمل المؤسسات مع سنوات فراغ إن كان ذلك في موقع رئاسة الجمهوية أو الحكومة أو انتظام عمل المجلس النيابي…

لماذا الخيار الفعّال هو الربط الصارم Hard peg وماذا يعني؟

نظام الربط الصارم يشمل إمّا الاعتراف الرسمي بالدولرة الشاملة أي اعتماد العملة الأجنبية البديلة كعملة وطنية (في وضع لبنان هي الدولار الأميركي) ووقف طباعة العملة الوطنية سوى لتسديد فروقات صغيرة بالمدفوعات (أقل من قيمة دولار واحد، لتفادي استيراد العملات المعدنية للسندات من الولايات المتحدة الأميركية)، أو اعتماد مجلس نقد Caisse d’emission / Currency Board، وبالتالي الحفاظ على العملة الوطنية ولكن ضبط طباعتها بشكل لا يَتخطّى فيه تَوَفّر تغطيتها مئة بالمئة بالإحتياطي الذي لا يزال موجودا بالعملات الأجنبية لدى المصرف المركزي… الهدف أن تصبح العملة الوطنية مُغطاة كلياً بالعملات الأجنبية المتوفرة ومن الممكن استبدالها بها بأي لحظة، ما يُطمئِن العملاء الاقتصاديين الى القدرة الشرائية لعملتهم الوطنية والى تَوقّف خطر طباعة المزيد منها بما يفقد قيمتها… ما يستدعي إصلاحات حاسمة في المالية العامة لكي تعرف السلطات الرسمية أنه لن يكون بالامكان التمادي في العجز المادي والاتكال على اللجوء الى المصرف المركزي لطباعة العملة الوطنية لتغطية حاجات تمويل القطاع العام… في هذه الحال يمكن الاحتفاظ بالليرة اللبنانية أو اعتماد اسم جديد لها مثل «عملة الأرز»… فقط من أجل إحداث صدمة إيجابية بأنه تمّ وَقف عملة فقدت الثقة، وتصدر عملة جديدة إسمها «عملة الأرز» وهي مُغطاة كلياً بالدولارات المتبقية في المصرف المركزي ولن يتم طباعة أكثر منها لتمويل الدولة وعجوزاتها المالية، وبالتالي ستكون مضطرة الى تنفيذ سلة إصلاحات مالية إقتصادية شاملة…

أي فئة بلدان تضطر للربط الصارم لسعر الصرف؟

في الواقع ليس كل بلد يشهد أزمة نقدية يحتاج الى الربط الصارم لأنه لا يوجد نظام واحد فعّال ومناسب لكل البلدان وليس هناك نظام واحد مناسب للبلد نفسه مع اختلاف الحالات التي يشهدها… مثلاً في لبنان، وبعد الأزمة النقدية الأولى في الثمانينات من دون انهيار القطاع المصرف ومع اعادة انتظام المالية العامة عام 1993 والدعم الدولي المرافق لفترة إعادة الاعمار. وبما أنّ الاقتصاد اللبنانية كان قد أصبح مدولراً جداً (أي بمعدل يفوق 80 %) أصبح غير فعّال اعتماد أدوات نقدية تقوم على ضبط المصرف المركزي للسيولة بالعملة الوطنية (بما أنّ معظمها بالدولار الأميركي وليس بالليرة اللبنانية)، فتم اللجوء الى الربط المَرِن لذي يقوم على ضبط سعر الصرف بالاعتماد على تدخّل المصرف المركزي في سوق القطع عبر استخدام احتياطاته بالعملات الأجنبية ما يتسدعي تعزيزها بشكل دائم، أي بذل أفضل الجهود لتحقيق استدامة فوائض ميزان المدفوعات…). ولكن عندما تستمر الدولرة مرتفعة على الرغم من سنوات تثبيت سعر الصرف ثم يسقط نظام الربط المَرن لسعر الصرف وسط انهيار شامل متعدد الأوجه… فإنه لا يعود بالامكان تكراره لأنّ الناس تكون قد فقدت الثقة به وستستمر في طَلب الدولار، كما لا يمكن العودة الى تحرير سعر الصرف بعد ثبات الدولرة المرتفعة لأكثر من أربعين سنة (وفق كل التقارير للبنك الدولي وصندوق النقد والأدبيات الاقتصادية والتجارب الدولية…). في هذه الحال، وخاصة إذا كان البلد صغير الحجم، وسوقه مفتوح، ويعاني أزمات سياسية مستمرة تُضعِف المناخ الاستثماري الثقيل فيه كما تزيد من عامل المخاطرة وهو صغير الحجم وأكثر القطاعات المساهمة في دخله القومي هي القطاعات الخدماتية (السياحة، التجار…)، فإنه يكون أنسب خيار له والأكثر فعالية والأقل كلفة على المجتمع هو الانتقال الى الدولرة الشاملة الرسمية أو مجلس النقد.

هل من تجارب دولية ناجحة/فاشلة لأخذ العبرة؟

بالنسبة لمجلس النقد هنالك عدة تجارب دولية ناجحة، ومن أبرزها التجربة البلغارية التى أمّنت انتقال البلاد من أضعف المؤشرات الاقتصادية في تاريخها الى أفضل المؤشرات بعد سنة واحدة على تطبيق مجلس النقد، لأن السلطة التزمت بالاصلاحات المالية المواكبة للسياسة النقدية الجديدة وضبطت ماليتها العامة وتوقفت عن اللجوء الى طباعة العملة الوطنية لتغطية تمويل عجزها… أما الأرجنتين فقد فشلت لأنها أعلمَت مجلس النقد، ولكنها لم تحقق الاصلاحات المالية المطلوبة فاستمرت باللجوء الى تمويل المصرف المركزي فأصبح الخبر النقدي بالعلن مجلس نقد ولكن بالواقع «ربط مَرِن» مع استمرار تغطيس المصرف المركزي في التمويل العام… وبالتالي، لا يكون الفشل هو لنظام مجلس النقد إنما لسوء تطبيقه وافتقاد الاصلاحات المالية والاقتصادية التي ينبغي أن ترافقه لينجح.

أما الدولرة الشاملة الرسمية فهي أثبتت نجاحها في بلدان عديدة أبرزها الأكوادور، حيث انقلبت كل المؤشرات الاقتصادية من سلبية الى إيجابية هائلة في خلال سنة واحدة بعد الاقرار الرسمي بالدولرة الشاملة ومرافقتها بطبيعة الحال بالشروط الاصلاحية الضرورية في المالية العامة والاقتصاد ككل. أما البلدان التي تطغى فيها الدولرة بشكل زاحِف شبه شامل ولكن غير معترف به رسمياً، فتعمّ الفوضى وتسقط الموازنات العامة التي تستمر بالعملة الوطنية مع تَقلّب سعر الصرف فيتوقّف موظفو الفطاع العام عن العمل المنتظم وتتفكّك المؤسسات الرسمية ويدفع المجتمع ثمن «ازدواجية العملة» حيث «يختنق» ذوي الدخل المحدود بالعملة الوطنية ويفقدون القدرة على العَيش بكرامة، وعلى السكن والطبابة والتعليم ويفقدون قيمة تعويضات نهاية خدماتهم… ويشعرون بهوة كبيرة بينهم وبين أصحاب المداخيل بالدولار، فتزيد الفروقات وتسقط العدالة الاجتماعية ما يَدفع الى الفوضى والفلتان وانتهاء الاستقرار على جميع المستويات كما حصل تماماً في زمبابوي، وكما ينبغي أن نتفادى حصوله في لبنان، ولذلك تتعالي الأصوات العلمية المنادية بالابتعاد عن نموذج زمبابوي واعتماد نموذج الاكوادور…

هل الربط الصارم يضرّ بقطاعات اقتصادية ويناسب أخرى؟

كلا أبداً، نظام الربط الصارم (إن كان الدولرة الشاملة أو مجلس النقد) لا يضر بأي قطاع إنما فقط يشترط تحقيق إصلاحات مالية اقتصادية شاملة لوقف الضغط على الشق النقدي. يعني بوضوح لا الزراعة ولا الصناعة ولا السياحة ولا التجارة ولا غيرها تَتضَرر من تطبيق الربط الصارم لسعر الصرف. القطاعات المنتجة الثقيلة (الزراعة والصناعة) كلها تستورد كل موادها الأساسية بالدولار، وتسعى للتصدير للحصول على الدولار وحتى تسعّر في السوق المحلي وفق الدولار، كما أن أجور عمالها وميزانياتها كلها تُحتسَب بالدولار… يعني لا شيء يتغيّر عليها سوى شرعنة حساباتها بالدولار وتسديد ضرائب ورسوم وفق الدولار أو بالدولار… (بشكل مُحِق لإيرادات الدولة وليس وفق معدلات أقل لا تعكس حقيقة السوق). كذلك بقية القطاعات السياحية والتجارية كلها تتعامل أساساً بالدولار أو وفق سعر السوق، وبالتالي لن يتغيّر عليها سوى مسألة الرسوم والضرائب وهي أساساً مسألة مُحقة تجاه مالية الدولة، وحقّها بتحصيل الايرادات العادلة التي تسمح بتغطية تمويل نفقاتها وضمناً أجور موظفيها وسائر النفقات…

ما هي الآلية العلمية للانتقال الى الدولرة الشاملة الرسمية؟

هنالك آلية علمية مبنية على الأدبيات الاقتصادية الدولية والتجارية العالمية، وقد تم نشرها تحت عنوان «خارطة طريق الدولرة الشاملة في لبنان» بتاريخ 11 أيار 2022 في جريدة «الجمهورية».

هل من مراحل بارزة لعملية الانتقال الى النظام الجديد؟

بالطيع هالك مراحل بارزة تبدأ تحرير سعر الصرف كلياً، أقلّه لمدة شهر كامل، للتوصل الى سعر الصرف الذي يعكس حقيقة السوق ليتم على أساسه الانتقال الى الربط الصارم، إن كان لانشاء مجلس نقد أو لاعتماد الدولرة الشاملة، ومن ثم اعطاء مهلة للأفراد والمؤسسات، ثم المصرف ثم موازنة الدولة والمصرف المركزي للتطبيق. وقد نشرنا تفاصيل المراحل في مقال سابق في 16 تشرين الثاني 2022 في «الجهورية».

هل لا يزال لدى لبنان الدولارات الكافية للربط الصارم؟

نعم، الأرقام مطمئنة. عندما اعتمَدَت بلغاريا مجلس النقد لم يكن لديها احتياطات بالدولار تغطي أكثر من شهرين استيراد… لبنان لا يزال لديه حوالى 9 مليارات دولار ونصف، أي أكثر ممّا يُعادِل ستة أشهر استيراد. المبلغ المطلوب من الاحتياطيات بالدولار الأميركي لتغطية القاعدة النقدية بسعر السوق البالغ 100000 دولار أميركي / ليرة لبنانية، ستتمّ تغطية القاعدة النقدية فقط بـ 5.617 مليارات دولار، وطريقة احتِسابها مفصّلة في مقال سابق نُشِر في جريدة «الجمهورية» بتاريخ 29 آذار 2023.

د. سهام رزق الله

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات