كيف تؤثر اضطرابات البحر الأحمر على الاقتصاد الأوروبي؟

أدت الهجمات التي يشنها الحوثيون المتحالفون مع إيران على سفن في البحر الأحمر منذ أسابيع إلى تعطل حركة الشحن في قناة السويس، أسرع طريق بحري بين آسيا وأوروبا والذي يمر عبره نحو 15 بالمئة من حجم التجارة البحرية العالمية.
وبالنسبة لاقتصاد أوروبا الذي يقف على حافة ركود بسيط ويحاول كبح التضخم المرتفع، فإن تعطل التجارة لفترة طويلة قد يعرقل خطط البنوك المركزية لبدء خفض أسعار الفائدة هذا العام.
وفي ما يلي بعض العوامل التي يأخذها صناع السياسات في الاعتبار عند تقييمهم لآثار الاضطرابات.
* ما التأثير على الاقتصاد الأوروبي حتى الآن؟
على مستوى الاقتصاد الكلي، التأثير طفيف وبعضه لا يذكر. وقالت وزارة الاقتصاد الألمانية الأسبوع الماضي إن التأثير الوحيد الملحوظ على الإنتاج حتى الآن تمثل في حالات قليلة من تأخر التسليم.
وتتفق تعليقات لرئيس بنك إنكلترا (المركزي) أندرو بيلي مع ما ذكرته ألمانيا. وقال في جلسة استماع في البرلمان إن الأمر “لم يكن له في الواقع التأثير الذي خشيت حدوثه بقدر ما”، لكن الغموض لا يزال يكتنف الموقف.
ولم يظهر حتى الآن أي تأثير للهجمات على المؤشرات الاقتصادية الرئيسية في أوروبا التي تضمنت أرقام التضخم لشهر كانون الأول. وارتفع التضخم بقدر طفيف.
وقد يتغير الوضع مع صدور البيانات الأولية لمؤشر مديري المشتريات غدا الأربعاء لمعرفة نشاط الاقتصادات الأوروبية في كانون الثاني ونشر التقدير الأول للتضخم في منطقة اليورو للشهر نفسه والذي سيصدر في أول شباط. وقد تطرح رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد هذا الموضوع في مؤتمر صحافي بعد اجتماع لتحديد سعر الفائدة يوم الخميس.
* لماذا لم يصل التأثير للاقتصاد حتى الآن؟
ما زال أداء الاقتصاد العالمي أقل من المطلوب مما يشير إلى كثير من البطء في المنظومة الاقتصادية.
وبالنظر لأسعار النفط على سبيل المثال، فهي السبيل الأوضح القادر على نقل مشكلات الشرق الأوسط إلى الاقتصادات في أوروبا وخارجها.
لكن التأثير لم ينتقل عبرها بعد، لأنه كما قال فاتح بيرول المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية لرويترز الأسبوع الماضي، فإن الإمدادات قوية ونمو الطلب يتباطأ.
وأضاف “لا أتوقع تغيرا كبيرا في أسعار النفط لأن لدينا كمية كبيرة من النفط في السوق”.
وقالت شركة دويتشه بوست (دي.إتش.إل) الألمانية للخدمات اللوجستية إنها لا تزال لديها خيار الشحن الجوي، وهو ليس ميسرا للجميع لأن الاقتصاد العالمي “لم ينتعش بالفعل بعد”.
وهذه الصورة الاقتصادية الضعيفة تجعل من الصعب على الشركات تحميل المستهلكين أي كلفة أعلى، والتي قد تأتي على سبيل المثال من الاضطرار إلى تحويل مسار الشحن والالتفاف حول أفريقيا. فقد راكمت شركات كثيرة هوامش أرباح في العام الماضي، وتتقبل احتمال الاضطرار ببساطة إلى السحب من هذه الهوامش.
حتى أن شركة أيكيا لبيع الأثاث بالتجزئة قالت إنها ستلتزم بما قررته من خفض للأسعار وإن لديها مخزونا يستوعب أي صدمات في سلسلة التوريد.
وما دام أن هذا هو حال عدد كاف من الشركات، فلن يؤدي تعطل حركة الملاحة التجارية في البحر الأحمر إلى زيادة تضخم أسعار المستهلكين.
* هل بإمكان صناع السياسات في أوروبا التحايل على التأثيرات الناجمة عن اضطرابات البحر الأحمر؟
الإجابة لا. وكلما طالت هذه الأزمة زاد تأثيرها على الشركات وعلى الاقتصاد.
وتخطط شركة تسلا الأميركية لصناعة السيارات الكهربائية تعليق جزء كبير من الإنتاج في مصنعها بألمانيا في الفترة من 29 كانون الثاني إلى 11 شباط بسبب نقص المكونات. كما أوقفت فولفو السويدية الإنتاج في مصنعها ببلجيكا لمدة ثلاثة أيام الشهر الماضي.
ومن المرجح أن تترك أزمة البحر الأحمر تأثيرا أكبر على أنشطة الاستيراد مقارنة بتأثيرها على التصدير، إذ أن ما يقرب من ربع البضائع الواردة إلى أوروبا تسافر عبر طريق البحر من آسيا، بينما يمر عبر الممر البحري نحو عشرة بالمئة فقط من صادرات القارة.
وقدرت أكسفورد إيكونوميكس، في مذكرة بتاريخ الرابع من كانون الثاني استندت على تقديرات صندوق النقد الدولي لكلفة التأثير على حركة الشحن، أن ارتفاع تكلفة الشحن بالحاويات سترفع التضخم بمعدل 0.6 بالمئة في غضون عام. ويتوقع البنك المركزي الأوروبي أن ينخفض التضخم في منطقة اليورو من 5.4 بالمئة في 2023 إلى 2.7 بالمئة هذا العام.
وقالت أكسفورد إيكونوميكس “رغم أن الاضطرابات المستمرة في البحر الأحمر لن توقف تباطؤ التضخم، إلا أنها ستؤثر على وتيرة عودته إلى المعدلات الطبيعية”.
ولا تتوقع المذكرة أن تؤثر الاضطرابات على التوجه نحو خفض أسعار الفائدة.
وعلى المدى الطويل، قد تشجع الاضطرابات الحالية الشركات على تطوير الخطط التي وُضعت لإيجاد طرق إمداد بديلة وأكثر قابلية للتوقع بعدما تسببت جائحة كوفيد-19 في تعطيل حركة التجارة.
وتشمل المقترحات الاعتماد على طُرق تجارية أطول ولكن أكثر أمانا، إضافة إلى نقل العمليات إلى مناطق أقرب من الأسواق الرئيسية للمنتجات أو إعادتها بالكامل إلى الأسواق الرئيسية. وأيا تكن الخيارات التي سيجري بحثها، فمن المرجح أن تشترك جميعها في شيء واحد وهو: التكاليف الأعلى.

منتدى دافوس ومحاولة إعادة بناء الثقة

يشكّل المنتدى الاقتصادي العالمي الذي ينظَّم في مدينة دافوس المغطاة بالثلوج، والذي يمتدُّ لأكثرَ من نصف قرن، قِبلةً للحوار وتبادل الآراء حول التحديات العالمية المشتركة؛ وشارك فيه هاته السنة، أكثر من 300 شخصية عامة، بما في ذلك أكثر من 60 رئيس دولة وحكومة؛ كما جمع ممثلين عن مختلف القطاعات؛ حيث شارك في المؤتمر أكثر من 1600 من قادة الأعمال، بما في ذلك 800 من كبار الرؤساء التنفيذيين، وانضم إليهم 150 من المبتكرين العالميين ورواد التقنية الذين هم في طليعة الصناعات التحويلية. وهؤلاء تناولوا عدة مواضيع بما في ذلك موضوع الذكاء الاصطناعي الذي يَعِدُ بثورة حقيقية واستخدامات متعددة، غير أن الخبراء يحذّرون من أنه يطرح كذلك مخاطر مثل انتهاك الحياة الخاصة والخلل في الخوارزميات، وغيرها… تستدعي تنظيم هذا القطاع، إلا أنه يصعب القيام به في ضوء التطور السريع لهذه التقنيات.

وتحاول عشرات الدول الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي وضع تنظيمات لتطوير الذكاء الاصطناعي واستخدامه في مجالات عدة بما في ذلك المجال العسكري، محذرةً من «عواقب غير مرغوب فيها»، كتلك المخاوف المتعلقة بـ«مسألة الانخراط البشري»، إضافةً إلى «انعدام الوضوح على صعيد المسؤولية».

ونظّمت اجتماعات هذه السنة في عالم سماته الأربع هي التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض؛ فهناك خلل خطير وغير مسبوق في النظام الدولي، والغيوم البركانية تملأ جوه، وقتامته هي اليوم مضرب الأمثال في مشارق الأرض ومغاربها، وقد باتت سلبياته تنخر جذوره، وهناك حالة من الترقب مثيرة للقلق، والترقب في مجال العلاقات الدولية غالباً ما يخلق الالتباس السياسي والارتباك في الأولويات، والاضطراب في العلاقات متعددة الأطراف، وتكبيل النظرة والحركية الواقعيتين… والترقب يخلق الفوضى واللا أمن، ويولّد حالات من الالتباس والغموض، ناهيك بأنه يولِّد في بعض الأحيان الارتجالية في التحليل وعدم أخذ القرارات المناسبة.

لهذا حاول منظّمو منتدى دافوس عقد اللقاءات تحت شعار «إعادة بناء الثقة»؛ وهذه الثقة هي القاعدة الأم ليس فقط في بناء النظام العالمي، وإنما أيضاً في بناء المجتمعات والأوطان اقتصادياً وسياسياً؛ وإذا انعدمت أو تلاشت فصلِّ عليها صلاة الجِنازة؛ ولا يُظنَّنَّ ظانٌّ أنني أتحدَّث هنا عن مجتمعاتنا العربية، وإنما عن المجتمعات الغربية التي لم يعد مواطنوها يثقون بالأحزاب ولا بالديمقراطية التمثيلية التي عهدوها؛ فإذا أخذت مثال الفرنسيين، وغيرهم كثير من الغربيين، فهؤلاء لم تعد لديهم الثقة ليس فقط بأحزاب اليمين واليسار التقليديين، ولكن بكل الأحزاب، وهذا له أكثر من مائة مدلول في سوسيولوجية العلوم السياسية فيما يتعلق بالمجال السياسي العام، وآيديولوجية الأحزاب، والعمل السياسي، ومسألة الثقة بين الحاكم والمحكوم، والسياسات العمومية، وهلمّ جرّا.

والرسالة التي وصلت إلى الجميع أن نفاد صبر الطبقات المتوسطة والفقيرة في مجتمعات صناعية ديمقراطية قد يُحدث زلزالاً يصعب معه إيجاد حلول؛ فلا الوضعية الاقتصادية الأوروبية، ولا العالمية، يمكنها أن تلبّي رغبات فئات كبيرة من المجتمعات؛ زِدْ على ذلك أنه مع فقدان شرعية الأحزاب وممثليها فكل حل أو حلول ستقدَّم سيكون مصيرها الرفض؛ فرنسا مثلاً هي دولة مؤسسات وهذا ما يفسر أن الكثير من الاحتجاجات التي تعرفها البلدة منذ سنوات لم تُحدث زلزالاً كلياً، ولكن إلى متى؟ كل الخبراء الاستراتيجيين والاقتصاديين الذين أحدِّثهم يقولون لي إنَّ الدولة تعاني أزمة ثقة بين المواطن والدولة وإنَّ مرحلة الاضطرابات الاجتماعية والسياسية هذه ستؤثر بشكل بالغ في فرنسا، بل في كثير من الدول الأوروبية، وسيخضع المجتمع الفرنسي لعملية تحوّل مع إلغاء كثير من المكتسبات الديمقراطية والاقتصادية التي راكمها منذ قرون.

هناك الآن معادلتان: معادلة الفاعلين الاجتماعيين ومعادلة الفاعلين السياسيين، ولكنّ الإشكالية أن كل الفاعلين المجتمعيين والسياسيين ليسوا في الحركية المجتمعية ولا السياسية الصحيحة، وهم غارقون جميعاً إما في مطالب مستحيلة وإما في مستنقع الدفاع الظرفيّ عن النفس، وهنا الداهية العظمى.

ومسألة إعادة الثقة تُحيلنا أيضاً إلى تساؤل يطرحه الاقتصاديون: ما العمل أمام مدرسة تظل تدافع عن الليبرالية وأخرى تدافع عن الحمائية؟ وأيُّ تأثيرٍ على الاستثمارات في ظل المخاوف من انعدام الاستقرار؟ ونحن نطرح هذين السؤالين، نتذكر كيف تحولت دول مثل الولايات المتحدة بين عشية وضحاها من الليبرالية اللامتناهية إلى متدخلة حمائياً حفاظاً على مؤسسات الدولة من الانهيار، مما أدَّى إلى تغير الميكانيزمات الاقتصادية والمالية الدولية. فالأزمة المالية التي عاشها العالم مثلاً سنة 2008، والتي أصبحت أزمة اقتصادية، ليست الأولى في التاريخ وإنما هي الأولى التي يمكن عدّها كونية، وكان من أسبابها انعدام الثقة.

ففي بداية شتاء 2006 وجد كثير من الأسر الأميركية الأكثر فقراً، التي عُرضت عليها القروض العقارية الرهنية، نفسها غير قادرة على سداد ديونها. وبدأت البنوك في مصادرة الممتلكات، كما بدأ الملاك المثقلون بالديون في جوٍّ تنعدم فيه الثقة ببيع ممتلكاتهم قبل أن تصادرها البنوك، مما أدَّى إلى عدم التوازن بين العرض والطلب في سوق العقار وانخفاض الأسعار. وهكذا، وجدت البنوك ومضاربيها «الانتحاريين» أنفسهم في مساكن مصادَرة وغير قابلة للبيع، وباستثمارات لا قيمة لها، إضافةً إلى مشكلات السيولة؛ وفي عام 2008 تحولت أزمة الرهون العقارية إلى أزمة بنكية.

كان النظام المالي الأميركي على حافة الانهيار في أكتوبر (تشرين الأول) 2008 بسبب انعدام السيولة وانعدام الثقة. وقد جرى إنقاذ البنوك وشركات التأمين الأميركية عن طريق التجنيس والوعد بالمال العمومي غير الموجود، وأصبح الدين الخاص عمومياً. عَبَرَت الأزمة من الولايات المتحدة لتصل إلى البنوك الأوروبية، وهو ما جعل كل الدول ومن دون استثناء تتغاضى عن سياساتها الليبرالية وتفرض قواعد حمائية لخلق الثقة الكفيلة بإنقاذ اقتصاداتها.

د. عبد الحق عزوزي

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات