متابعة قراءة التضخم في أميركا يجبر بايدن على اللجوء إلى الصين
مسؤولون في الفدرالي يؤكدون على أهمية مكافحة التضخم مهما كلف الأمر
أصبح محافظ الاحتياطي الفدرالي كريستوفر والر أحدث المسؤولين في أميركا الذي يؤكدون على أهمية مكافحة التضخم مهما كلف الأمر.
وذلك بعد ثلاثة أيام من رفع رئيس الفدرالي جيروم باول معدلات الفائدة بمقدار ثلاثة أرباع نقطة مئوية مشيراً إلى مزيد من الزيادات في المستقبل.
تصريحات والر تأتي أيضا بالتزامن مع تصريحات مماثلة من قبل رئيسة الاحتياطي الفدرالي في كليفلاند لوريتا ميستر.
والتي بدورها صرحت إن انخفاض التضخم إلى مستهدف المركزي البالغ 2% سيستغرق عامين، مضيفة أنه سيتراجع تدريجياً عن المستوى الحالي.
كما وأضافت ميستر إنها لا تتوقع حدوث ركود اقتصادي على الرغم من تباطؤ النمو.
أدى وصول التضخم لأعلى مستوى له منذ 40 عامًا، إلى قيام باول بأكبر زيادة في معدلات الفائدة منذ أكثر من ربع قرن.
كما ويتوقع صانعو السياسة حاليًا رفع الفائدة والذي يقع الآن في نطاق 1.50% -1.75% إلى مستويات 3.4% على الأقل في الأشهر الستة المقبلة.
وهو أمر معاكس لتوقعاتهم قبل عام، حيث اعتقدت الأغلبية حينها أن المعدلات ستبقى بالقرب من الصفر حتى عام 2023.
يذكر أن في نهاية الأسبوع الماضي، وصف باول في تقرير السياسة النقدية النصف سنوي إلى الكونغرس مكافحته ضد التضخم بأنها غير مشروطة، مشيراً إلى أن الفدرالي على استعداد للقيام بالمطلوب، لتجنب الأسوأ.
عن شهادة رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد أمام البرلمان الأوروبي
بنك الشعب الصيني يبقي على أسعار الفائدة دون تغيير
عندما يجتمع التضخم مع الركود الاقتصادي
تداولت وسائل الإعلام مصطلح (Stagflation)، ويعني التضخم المصحوب بالركود، وهو مصطلح تمت صياغته ليكون مرادفاً للزيادات المزدوجة في الأسعار، وفقدان الوظائف، وصور السيارات المصطفة في طوابير محطات البنزين. وبينما يشير المصطلح إلى الزيادة الحادة بالأسعار مع فقدان الوظائف، استخدم الاقتصاديون هذا المصطلح على نطاق أوسع إشارةً إلى الفترة التي يستمر فيها التضخم أعلى من هدف البنوك المركزية، وما يترتب على ذلك من آثار سلبية على النمو الاقتصادي.
وأعطى البنك الدولي صورة داكنة للاقتصاد العالمي في الفترة المقبلة في تقريره الصادر الأسبوع الماضي، وتوقع البنك أن يتراجع النمو العالمي إلى 2.9% في عام 2022، بعد أن بلغ 5.7% في عام 2021، كما يتوقع أن ينخفض مستوى دخل الفرد في الاقتصادات النامية هذا العام بنسبة 5%. وفي الاقتصادات المتقدمة، من المتوقع أن يتباطأ النمو من 5.1% إلى 2.6%، أما في الاقتصادات النامية والناشئة، فقد ينخفض النمو من 6.6% إلى 3.4%، وهو أقل بكثير من متوسط العقد الماضي والذي وصل إلى 4.8%. وتوقع البنك الدولي أن ينخفض التضخم العام المقبل، ولكنه سيبقى أعلى من مستهدفات التضخم في الكثير من الدول، وقد يؤدي استمرار التضخم إلى انكماش الاقتصاد العالمي. ومعدلات التضخم المرتفعة تضر بالاقتصاد لكونها تضغط على ميزانيات الأفراد والأسر مما يجعلها تقلل الإنفاق الاستهلاكي، مما يُضعف النشاط الاقتصادي ويبطئ من نمو الشركات (هذا إن نَمَت)، وكذلك تراجع أرباحها.
هذا هو التضخم الأكثر حدة منذ أربعة عقود، مما جعل الكثير يقارنونه بالركود الذي حدث في الولايات المتحدة في سبعينات القرن الماضي، حيث تضاعفت معدلات البطالة في الولايات المتحدة وأوروبا، وبلغ التضخم حينها 14%. وتتشابه هذه الحالة مع السبعينات في ثلاثة جوانب رئيسية: الأول، هو الاضطرابات المستمرة في جانب العرض، وهو ما يغذّي التضخم بشكل واضح. هذا النقص تمثل في عدد من الأشكال، منها الجائحة وكيف أثرت على سلاسل التوريد العالمية، ومثالها الأقرب هو نقص الرقائق الإلكترونية. كذلك اضطراب إمدادات الطاقة بفعل الحرب الروسية الأوكرانية. ولعل ما جعل الكثير يربطون هذا الزمن بالسبعينات هو نقص إمدادات النفط آنذاك بفعل حظر عدد من الدول العربية للنفط، هذا الاضطراب شبيه لما أحدثته الحرب الروسية – الأوكرانية من هزة لأسواق الطاقة العالمية. السبب الثاني للتشبيه بالسبعينات هو السياسة النقدية التيسيرية التي تبعت الجائحة لتنشيط الاقتصادات المتقدمة، فسهّلت الكثير من الدول القروض بخفض أسعار الفائدة لتنشيط الاقتصاد بعد الجائحة، وأسهم ذلك في زيادة التضخم. أما الثالث فهو هشاشة بعض الأسواق الناشئة والتي تضررت بشكل كبير بفعل بسبب تشديد السياسة النقدية ورفع أسعار الفائدة.
وما يدعو للتفاؤل أن البنوك المركزية استفادت من دروس السبعينيات، فهي الآن تملك مستهدفاً واضحاً للتضخم بعكس السبعينات وتسعى للوصول لهذه المستهدفات من خلال سياساتها النقدية. كما أن الحكومات أصبحت أكثر قدرة بالمساهمة بتخفيف معدلات البطالة من خلال خلق استثمارات لتوفير الوظائف. والحكومات على استعداد للمكافحة حتى لا تصل إلى الحالة في السبعينات الميلادية حيث دخل الكثير من الدول في دوامات لسنوات طويلة لم يستطع بعضها حتى الآن في الخروج منها.
إن تخفيف ضغوط التضخم قد يكمن في حلّين رئيسين: الأول هو حل عقبات سلاسل التوريد والذي يقلل التكاليف على المنتجات والمواد الغذائية والوقود ويجعلها أكثر وفرة، وبالتالي أقل سعراً. ولا يبدو الحل لهذه العقبات في الأفق حتى الآن، فلا تزال الصين حتى الآن تعاني من تفشي فيروس «كورونا»، ولا يزال نقص الأيدي العاملة يشكّل تحدياً للموانئ والمخازن. ولذلك فإن البنوك المركزية لجأت إلى الحل الآخر وهو رفع سعر الفائدة لتقليل الطلب من الشركات والمستهلكين. وحتى الآن فقد رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة المستهدف مرتين، وأعلن عن رفعه لمرة ثالثة قبل أيام، ومن غير المستبعد أن يرفعه مرتين أخريين بنهاية هذا العام. وعلى الرغم من أنه حل مثبت للتحكم بسعر التضخم، فإن رفع سعر الفائدة بهذا الشكل قد يتسبب في القضاء على النمو والوصول إلى ركود، وهي معضلة قد يستعصي على بعض الحكومات حلها.
د. عبد الله الردادي
باحث سعودي متخصص في الإدارة المالية
عن شهادة رئيس الفيدرالي الاميركي أمام الكونجرس
كيف يضرب رفع معدلات الفائدة القطاع العقاري؟
مصير المودعين في يد رَجُلٍ يقول «لا»
عندما قرّر المودعون، التحرّك للاعتراض على الجزئية المتعلقة بتوزيع الخسائر ضمن خطة التعافي، لم تكن المفاجأة التي تنتظرهم تتعلّق بصعوبة تغيير حرف مما كُتب فحسب، بل الأهم أنّهم اكتشفوا جميعاً، أنّ ما كُتب، كتبه رجل واحد أوحد، والباقون بصموا عليه. وهذا الرجل يقول «لا».
تواجه الخطة الاقتصادية التي وافق عليها مبدئياً صندوق النقد الدولي معارضة مُبرّرة من قِبل غالبية الأطراف، بعدما تبيّن انّ طريقة توزيع الخسائر ستؤدّي عملياً الى ثلاثة أمور:
اولاً- هدر حقوق كل المودعين عن المبالغ التي تفوق قيمتها الـ100 الف دولار.
ثانياً- إفلاس القطاع المصرفي من خلال شطب رؤوس الاموال بالكامل، ومن ثم شطب ودائع القيّمين على القطاع.
ثالثاً- الإبقاء على إدارة الدولة كما هي، والامتناع عن إشراك القطاع الخاص في مهمة الإنقاذ، بما يحرم البلد فرصة حقيقية للخروج من النفق.
هذه النتائج المباشرة، حاولت جهات عدة، جمعت المودعين والمصارف والهيئات الاقتصادية في خندق واحد، تغييرها، من خلال التحرّك في اتجاه الحكومة المسؤولة مبدئياً عن خطة الإنقاذ. كذلك حاول البعض التحرّك في اتجاه صندوق النقد للغاية نفسها.
ما كان مُذهلاً في هذا الموضوع، انّ كل الدروب التي سلكها المعترضون الساعون الى تعديلات في الخطة، والتي ترتكز على مبدأ إشراك الدولة في تحمّل المسؤولية، أودت بهم إلى عنوان واحد: مكتب نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي. حتى وزير المال، وهو عضو في اللجنة التي كلّفتها الحكومة وضع خطة التعافي والاتفاق في شأنها مع صندوق النقد، نفض يديه من الخطة، وقال لمن راجعه انّ الأب الروحي والفعلي للخطة هو سعادة الشامي، وعليهم إقناع هذا الرجل بأي تغيير يعتبرون انّه يساعد في التعافي بطريقة أفضل.
ومن خلال جمع المعلومات من مصادر عدة، تواصل أصحابها مع أعضاء في الحكومة، كان الجواب هو نفسه: الشامي هو من وضع الخطة، وهو من يرفض إدخال أي تعديل عليها. أكثر من ذلك، رئيس الحكومة نفسه نجيب ميقاتي بدا مستسلماً للأمر الواقع، وبدا وكأنّه لا يعرف بدقّة أبعاد الخطة، ونصح مراجعيه بالاتصال بالشامي.
قبل التطرّق الى مضمون الخطة، والى الجزئية التي يطالب المودعون والمصارف والهيئات الاقتصادية بتعديلها، لتكون ملائمة أكثر لمستقبل الاقتصاد في البلد، لا بدّ من القول انّ من غير الطبيعي، ومن غير الصحي أو المنطقي، أن يكون رجل واحد قرّر مصير الناس، من دون أن يملك أي طرف حق المطالبة بالتعديل والتصحيح. وهذا الأمر إن دلّ على شيء انما يدلّ إلى حجم الاهمال وقلة المعرفة واستسهال القرارات المصيرية، لدى السلطة التنفيذية بشكل عام. وهذا الوضع الاستهتاري المفرط، يفسّر ربما لماذا وصل لبنان إلى هذه الكارثة، من دون أن يتنبّه من يدير السلطة إلى الأمر.
انّ فكرة إنشاء صندوق سيادي يدير أملاكاً ومؤسسات عامة، لا يخدم تطلعات اللبنانيين في إعادة اموال المودعين فحسب، بل الأهم انّ إنشاء هذا الصندوق ضرورة وطنية تخدم مصالح كل اللبنانيين دون استثناء، ومن ضمنهم طبعاً غير المودعين، والذين لا علاقة لهم بموضوع إعادة الودائع بشكل مباشر. انّها مصلحة اقتصادية عامة يؤمّنها إدخال القطاع الخاص الى إدارة الملك العام. ونحن هنا لا نخترع البارود إذا فعلنا ذلك، لأنّ كل اقتصاديات الدول الحرة المزدهرة تستند إلى هذا المبدأ. الولايات المتحدة بعظمتها وثرواتها وقدراتها يديرها القطاع الخاص من الألف الى الياء، ودور السلطة فيها تنظيمي فقط.
انّها فرصة نادرة لكي نرفع الظلم عن البلد، من خلال رفع وصاية السلطة عن إدارة الاصول العامة، وإشراك القطاع الخاص الحيوي في المهمة، مع دور رقابي دقيق للدولة، بالتعاون مع مؤسسات دولية متخصّصة تضمن ان تتحول هذه الاصول من «مادة» شبه خاسرة أو مهملة، إلى مصدر انتاج للمال وللثروات يستفيد منها كل المواطنين. كما انّ هذه الاصول التي يقول البعض، سواء عن قصد وسوء نية، أو عن جهل وقلة معرفة، انّه لا يمكن التفريط بها لإعادة حقوق المودعين، سوف تتضاعف قيمتها مرات عدة، في سنوات قليلة، وسيدرك الناس الفرق بين ما عانوه طوال عقود من الإدارة الفاشلة، والتي ستستمر حتماً في فشلها، وبين ادارة ناجحة تجيد تكبير حجم الوزنات ومضاعفتها في فترة زمنية قصيرة. والحقيقة، وبصرف النظر عن ملف الحفاظ على حقوق المودعين، الصندوق السيادي ضرورة وطنية لا بدّ منها إذا كنا نريد الإنقاذ فعلاً. لكن المشكلة، انّ الجميع قد يقتنعون، المودع منهم وغير المودع، بفكرة الصندوق السيادي، لكن من يستطيع إقناع سعادة الشامي بالتعديل المطلوب؟
انطوان فرح
حتى تحل شرم الشيخ معضلات «دافوس»
وجد من قصدوا دافوس لاجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عُقد منذ أيام، اختلافات كثيرة عما عهدوه من قبل. وأبسط هذه الاختلافات ما كان في موعد انعقاده، ليصبح هذه المرة في مايو (أيار) من ربيع العام، بدلاً من يناير (كانون الثاني) في ذروة شتائه كما جرت العادة في منتجع التزلج الجبلي السويسري، الذي ظل محتضناً اجتماعات المنتدى لعقود متوالية كأحد أهم فعالياته منذ تأسيسه منذ أكثر من نصف قرن.
وكان من التعليقات اللاذعة المتهكمة ما استمعت إليه من بعض شباب المشاركين في الاجتماعات، أن استمرار التدهور في أوضاع المناخ سيجعل ما نراه في مايو هو الطقس المعتاد لدافوس في يناير بلا جليد، أو تساقط للثلوج حتى في فصل الشتاء بفعل سخونة الأرض. فوفقاً للتقارير العلمية التي كثرت الإشارة إليها لسنا على المسار المطلوب للمحافظة على درجة حرارة الأرض لدرجة ونصف مئوية فوق متوسطاتها قبل الثورة الصناعية، كحد قرره العلماء لاستمرار الحياة وأسباب المعيشة، وإن كان سيصاحب هذا المستوى التي يطمح العالم إليها بمخاطر أشد مما نعايشه الآن ونحن لم نتجاوز بعد 1.1 درجة مئوية، مثل شدة الفيضانات وانتشار حالات الجفاف وحرائق الغابات والتصحر وتآكل الشواطئ.
ومن الاختلافات ما عكسته أغلفة المطبوعات المنتشرة في أروقة المنتدى ومداخل فنادقه وقد غلبت عليها عناوين الأزمات والتوترات الجيوسياسية: فبعنوان «العالم بعد الحرب» ظهرت مجلة الشؤون الدولية (فورين أفيرز) وعلى غلافها علم أوكرانيا كاسياً مجسم الكرة الأرضية إلا قليلاً منها، تعبيراً عن مدى الحرب وتأثيراتها؛ وأرادت مجلة السياسة الخارجية (فورين بوليسي) أن تتميز فجاءت عناوين غلافها بتركيز على «منافسة القرن» وتقصد بها المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، وكيف يريان بعضهما بعضاً قبيل الزيارة الآسيوية للرئيس الأميركي بايدن. ولكن أكثر الأغلفة إثارة للهلع العام ما كان من غلاف مجلة «الإكونوميست» البريطانية التي جعلت صورة غلافها التي بدلت حبات سنابل القمح بجماجم بشرية صغيرة تحت عنوان «كارثة الغذاء القادمة».
وجاءت في العموم الإصدارات الأفريقية والآسيوية أكثر اهتماماً ببراغماتية عن النواحي العملية للخروج من الأزمات.
وكانت أزمات الطاقة والغذاء والاقتصاد – خاصة فيما يتعلق بالتضخم ومخاطر الديون الدولية ومخاوف الركود مسيطرة على الجلسات، ولكن غلب على النقاش تداعيات الأزمات الجيوسياسية والحرب الأوكرانية.
وفي تقديري، أنه إذا عقدت المقارنات بين أداء القيادات الدولية ومجموعات عملها المنخرطة في مجموعات الدول السبع الصناعية، وكذلك مجموعة العشرين إبان الأزمة المالية العالمية في 2008 وما صحبها ثم تلاها من أزمات في أسعار الغذاء والطاقة ستجد أداءً أفضل في مواجهة الأزمة وتعاوناً فعالاً.
ورجوعاً إلى أزمة الغذاء الراهنة بين ارتفاع أسعاره وتكاليف نقله وتأمين شحناته، وشح كمياته المفترض تدفقها إلى مناطق تعاني من الجفاف؛ فإن التهوين من نسبة الاقتصادين الروسي والأوكراني في الاقتصاد العالمي وأنهما مجتمعين لا يشكلان أكثر من 4 في المائة من ناتجه، لا يتناسب معه ما كان اشتعالاً في الأسعار بعد الحرب. ولهذا تفسير بأن رغم الصغر النسبي للبلدين، فإن مساهماتهما في قطاعي الطاقة والغذاء كبيرة. فأوكرانيا تصدر وحدها 17 مليون طن من القمح بما يعادل 9 في المائة من إجمالي الصادرات العالمية، وتتركز أسواقها في بلدان محددة، ولكن مع ذلك كيف يسبب ارتباك تصدير نسبة تقل عن 10 في المائة من سلعة من إجمالي سوقها إلى هذه الأزمة الدولية الطاحنة؟ هذا يرجع إلى طبيعة الاقتصاد السياسي السائد قبل الأزمة الأوكرانية في عالم يشهد حالة أقرب هي للمعترك الدولي من التعاون الدولي.
قيود على التجارة الدولية فرضها ترمب تشديداً على من سبقه، واستمرت بعده على منتجات الصين، وشل لحركة منظمة التجارة الدولية، وإجراءات حمائية شتى يفرضها أطراف التجارة على بعضهم بعضاً دون اكتراث لتعهدات دولية من باب الضرورات المبيحة للمحظورات حتى استشرى الحظر على حدود من تشدقوا بمبادئ حريات التجارة لما أتت الحريات بما لا يشتهون، وإن كانت بسلع ذات جودة وأرخص سعراً. ويذكرك ذلك بمقولة الكاتب الإنجليزي الآيرلندي أوسكار وايلد عن أن المبادئ لا يجب أن تغيرها الظروف، ولكنه منسوب له أيضاً ساخراً بأن لديه مجموعة من المبادئ كلما ضاق بها أتى بغيرها. فأي أوسكار وايلد تصدق: الحكيم أم الساخر؟
وحتى لا تحتار كثيراً، فالمعاملات الاقتصادية المستندة إلى قواعد يحدد قواعدها تلك الطرف الأقوى دائماً، مع إخراج مقنع بعدالتها وترك بعض المكاسب بتفاوت للآخرين من أطراف اللعبة حتى تستمر المباراة. أما إذا احترف الضعفاء قواعد اللعبة وشرعوا في تحقيق مكاسب فقد يتسامح صاحب قواعد اللعبة في بداية الأمر مظهراً إيمانه بقواعدها، متشدقاً بعدالته، فإذا ما استمر في الخسارة سرعان ما حاول تبديل القواعد سعياً لاستعادة المكاسب القديمة، ولكن هيهات. فهذا ليس كلعب الأطفال لكرة القدم في الأزقة والحواري، فيأتي صاحب الكرة ليختار لاعبي الفريقين ويضم نفسه إلى الفريق الأفضل ويختار جانب الأرض الأنسب، وربما يكون هو الحكم في غياب الحكم، فإذا انتصر استمر مهللاً، وإذا خسر ضاق باللعب وأخذ كرته وانصرف للعب بها مع آخرين.
وما حدث من أزمة غذاء أشد شراً؛ فمع اضطراب خطوط الإمداد الأوكرانية تناست الحكومات قواعد حرية التجارة فاتخذت 26 دولة إجراءات بحظر التصدير وفقاً لتحليل الاقتصادي المرموق كوشوك باسو، الذي عمل مستشاراً لحكومة الهند وكبيراً للاقتصاديين بالبنك الدولي؛ مسبباً ذلك ارتفاعات متوالية للأسعار بسبب داء التخزين وحكر البضاعة عن البيع مسببة سلوكاً مماثلاً لدى التجار والأفراد بتخزين البضاعة طمعاً في سعر أعلى، وخوفاً بلا مبرر فعليّ من نفادها؛ فنفادها نتيجة لأفعالهم.
ويذهب باسو في مقال أخير إلى أن تجربة الهند داخلياً بتنظيم أسواقها وتشريعاتها بما غير سلوكيات ضارة مثل التخزين والاحتكار، قد يستفاد منها عالمياً بإيجاد نظام ملزم للتعاون الدولي مساند بإجراءات قانونية وآليات اقتصادية لتوفير الغذاء ومنع المجاعات. وضرب مثلاً آخر بتعديل دستور الولايات المتحدة ليسمح بوجود مصدات مضادة للأزمات الغذائية في الولايات الأميركية وعبرها. ولعلك تجد في هذه الاقتراحات مثالية استفادت من أعمال الاقتصادي الهندي أمارتيا سن، الحائز جائزة نوبل، في دراساته عن المجاعة البنغالية التي حدثت في الأربعينات من القرن الماضي. وللأسف، لا أرى إرادة سياسية متوفرة في المجتمع الدولي تنتقل بهذه الأفكار إلى حيز التنفيذ، فالمتاح حالياً بما وصلنا إليه من وهن في التعاون السياسي الدولي هي إجراءات الحد الأدنى المانعة مزيداً من الانهيار الذي قد يطال من يظنون أنهم في منعة من شرور الأزمات.
ولكن، هناك ما يدعم هذا التوجه عملياً في إطار اتفاق باريس لعام 2015 وتعهدات موقّعيها الملزمة للتصدي لتغيرات المناخ، بمساندة دولية تدفع بطموحاتها همة المطالبين بحقوقهم في مناخ آمن وبيئة نظيفة من الأجيال الشابة ومنظمات المجتمع المدني وسائر الأطراف غير الحكومية بما في ذلك القطاع الخاص والشركات والمؤسسات المالية.
ومن الموضوعات التي تحظى بمساندة من رئاسة قمة شرم الشيخ القادمة في نوفمبر (تشرين الثاني) قضايا التغذية والغذاء. فهناك 800 مليون إنسان محروم من الغذاء بما يتناقض مع الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة. وهناك 76 في المائة من العالم يعتمدون في غذائهم على محاصيل زراعية تهددها تغيرات المناخ، فضلاً عن تغيرات في نوعياتها بسبب زيادة الانبعاثات الكربونية. يدعونا هذا إلى تبني مشروعات مشتركة في مجالات الزراعة والتغذية والطاقة وإدارة المياه، بما يحول الأفكار القيمة إلى استثمارات مجدية وهو ما سيتم تناوله تفصيلاً في جلسات متخصصة تسبق قمة شرم الشيخ، التي تتبنى شعاراً عملياً وهو «معاً نحو التنفيذ»، فبعد تكرار على مدار سنوات طوال لتعهدات ووعود آن وقت تفعيلها على الأرض بما يحميها وينفع عموم الناس.
د. محمود محي الدين
نظام ربط سعر صرف الليرة سقط… الدولرة لا تنتظر قراراً!
بعدد ثلاث سنوات من تفادي الاعتراف بسقوط نظام ربط سعر صرف الليرة اللبنانية تجاه الدولار الأميركي المعتمد منذ العام 1997 في لبنان، لم يعد السوق يتحمّل المماطلة ولا حتى ينتظر من السلطات الرسمية اتخاذ القرار باعتماد نظام سعر صرف جديد… العملة «المطمئنة» تحلّ تلقائياً بدل العملة «المقلقة».. الدولرة لم تعد تنتظر قراراً.. هكذا بدأت في الثمانينات جزئياً وهكذا تطوّرت لتصبح شاملة اليوم.. هل الدولرة بديل جذري بعد سقوط نظام ربط سعر الصرف الذي لا أحد يبادر إلى استبداله؟ هل سقوط الثقة وصعوبة استردادها يجعلان من الدولرة مخرجاً يفرضه القطاع الخاص لتتقبّله السلطات الرسمية أمراً واقعاً؟ الإجابة عن هذه الإشكالية تتطلّب تفنيد مختلف نماذج أنظمة سعر الصرف، تبيان تطوّر اعتمادها في لبنان على ضوء التحدّيات التي واجهتها السياسة النقدية، فضلاً عن استنتاج النظام الأمثل والأقرب الى الواقع والقابل للفرض من السوق، في غياب القرارات الرسمية..
بفعل الأمر الواقع انطلق مسار الدولرة خياراً حرّاً للقطاع الخاص منذ الأزمة النقدية التي شهدها لبنان في الثمانينات، وأيضاً في غياب أي قرار رسمي معلن.. الحافز الأساسي كان السعي للحفاظ على القدرة الشرائية للجميع بفعل تقلّبات غير منضبطة للأسعار وسعر الصرف بلا ضوابط. ومع تثبيت سعر الصرف منذ 1997، انتظر الجميع أن تتراجع الدولرة في تلك الفترة، بعد تثبيت سعر الصرف بحدود 1507.5 طوال 22 عاماً، إلّا أنّ الدولرة الجزئية غير الرسمية بقيت مرتفعة في حدود 70%، ومع انفجار الأزمة المالية-النقدية-المصرفية في الربع الأخير من العام 2019 ازدادت أكثر لتلامس 80% من الودائع اليوم، بعد أن خرج ربط سعر الصرف عن السيطرة. فما هي العلاقة بين الدولرة وخيار نظام سعر الصرف؟
في الواقع، قبل الحرب وفي ظلّ إقتصاد قوي وانتاجية مرتفعة وتوازن في موازنة الدولة وفوائض في ميزان المدفوعات وكهرباء مؤمّنة 24 /24 مع فائض يتمّ بيعه الى سوريا، كان لبنان قادراً على اعتماد سعر صرف حرّ وتأمين استقرار سعر صرف لا يفوق الـ3 ليرات لبنانية لكل دولار أميركي بفعل العرض والطلب بين الليرة والدولار، من دون الاضطرار الى أي تدخّل لمصرف لبنان المركزي..
أما خلال سنوات الحرب وتضرّر الاقتصاد بكل مؤسساته وقطاعاته وفوضى المالية العامة وبدء لجوء المصرف المركزي، إن لطباعة مزيد من النقد (والتسبب بالتضخّم ثم التضخّم المفرط الذي بلغ ذروته عام 1987) ثم الاستدانة عبر سندات خزينة بدأت بالليرة ثم تزايدت بالدولار، خصوصاً في التسعينات، تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية إزاء الدولار ليقترب من 3 آلاف ليرة لبنانية عام 1992، وتزايدت الدولرة عفوياً وجزئياً بنحو غير رسمي كخيار للقطاع الخاص، من دون اعتراض السلطات الرسمية.
ومن المعلوم أنّ خصوصية الأزمة الحالية تختلف عن تلك التي شهدها لبنان في الثمانينات والتسعينات، والتي دفعت حينها العملاء الاقتصاديين نحو خيار الدولرة الجزئية وغير الرسمية، للمحافظة على القيمة الشرائية لمدخراتهم، في غياب الثقة بقدرة الليرة اللبنانية على المحافظة على وظائفها الأساسية، من وحدة الحساب والوسيط التجاري والاحتفاظ بالقيمة الشرائية للمدخرات…
ومع وصول الرئيس رفيق الحريري الى السلطة التنفيذية وإعادة ضبط المالية العامة وتسمية الحاكم الحالي لمصرف لبنان رياض سلامة وبدء تطبيق سياسة نقدية متشدّدة، كان اللجوء الى نظام الربط المتحرّك ضمن هوامش لسعر الصرف بين عامي 1992 و 1997، بغية خفض سعر الصرف تدريجياً الى المستوى الذي تمّ اختياره لاعتماد نظام الربط المتشّدد لليرة بالدولار الأميركي على أساس هامش 1502-1514 مع سعر متوسّط 1507.5 والاتكال على تدخّل المصرف المركزي في سوق القطاع للدفاع عنه، من خلال ضخ أو امتصاص الليرة تجاه الدولار باستخدام إحتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية… مما كان يتطلّب زيادة مستمرة في احتياطي المصرف المركزي بالعملات الأجنبية مما يحتاج استمرار تحقيق فوائض في ميزان المدفوعات…
وبقي الخيار ضمنياً بالسماح للقطاع الخاص اللبناني باعتماد الدولرة الجزئية وغير الرسمية، ولم «تضفِ» السلطات النقدية الطابع الرسمي على استخدام الدولار، كعملة وطنية لدفع الضرائب والرسوم وتنظيم إجراءات الإدارة العامة، إلّا أنّ مصرف لبنان أنشأ غرفة مقاصّة للشيكات بالدولار وملأها ماكينات الصرف الآلي (ATM) عن طريق العملتين: الليرة اللبنانية والدولار الأميركي.
ولكن منذ عام 1993 بدأت تتنامى الفجوة المتزايدة بين الودائع بالعملات الأجنبية والموجودات الخارجية للنظام المصرفي بالعملات الأجنبية، إلّا أنّ اشتداد عمقها برز مع بدء تسجيل عجوزات متراكمة في ميزان المدفوعات منذ عام 2011، حيث بدأت تتراجع الموجودات بالعملات الأجنبية، فيما استمرت دولرة الودائع في التزايد، ولم تشفع فيها سياسة تثبيت سعر الصرف منذ العام 1997 التي كان يفترض أن تطمئن الناس الى استقرار سعر العملة الوطنية،.. لا بل ترافق معدل دولرة الودائع المرتفع مع ارتفاع دولرة التسليفات المصرفية، وأكثر من ذلك دولرة جزء كبير من الدين العام (اليوروبوند) وتزايد إصدار شهادات إيداع بالعملات الأجنبية من المصرف المركزي والمشاركة في «الهندسات المالية» عامين، لاجتذاب الدولار وتحقيق فوائض في ميزان المدفوعات كوسيلة لشراء الوقت «اصطناعياً» على أمل تحقيق إصلاحات مالية واقتصادية جذرية، ما يجعل «الخروج من الدولرة» وفرض تحويل كل هذه العقود الى الليرة اللبنانية مسألة جداً معقّدة…
اليوم وبعد مرور نحو 3 سنوات على سقوط نظام ربط سعر الصرف، ثمة من يتساءل، لماذا لا نعاود تعويم الليرة اللبنانية واعتماد نظام سعر الصرف العائم الحرّ وترك العرض والطلب في السوق الحرّ يحدّد سعر الصرف الفعلي كما كانت الحال قبل الحرب وخلالها؟ الجواب ببساطة، أنّ تحرير سعر الصرف لا يتلاءم مع الدولرة المرتفعة كما هي الحال في لبنان، فمن جهة لا أحد يطلب الليرة في السوق بل الجميع يطلب فقط الدولار ويحتسب قيمة السلع والخدمات وكل المعاملات وفق الدولار حتى لو تمّ الدفع بالليرة وفق سعر السوق، وبالتالي لا طلب على الليرة يحدّ من سقف تدهورها.. ومن جهة أخرى قوى التسعير والمضاربة في الأسواق لم تعد تسمح بتحمّل تقلّبات كلفة السلع والخدمات وتغيّر موازنات المؤسسات بين ساعة وساعة…
من هنا، سقوط الربط المرن لسعر الصرف لا يمكن ان تتمّ معالجته بتحرير سعر الصرف في ظلّ التعامل بعملتين وطغيان العملة الأجنبية على المحلية.. مما يجعل الخيار المتبقي هو نظام الربط الصارم الذي يتراوح بين ما يُعرف بـ«مجلس النقد» Currency board الذي لم يتمّ اقراره حتى الآن، ونظام الدولرة الشاملة Full Dollarization التي لا تحتاج الى قرار بل بدأت تفرض نفسها تباعاً في القطاعات لحماية نفسها من تقلّبات القدرة الشرائية وحسن احتساب الموازنات واستقرار التسعير والتقييم…حتى لو انتشرت الدولرة الشاملة بنحو غير رسمي معلن، فالأمر الواقع يحضّر لاتخاذها تدريجياً طابعاً رسمياً أو أقلّه عدم رفض رسمي، كونها الطريق الوحيد لاستمرارية الدورة الاقتصادية…
يبقى أنّ الشرط الأساسي لنجاح عملية الانتقال الى «الدولرة الشاملة» يتطلّب أولاً امتلاك المصرف المركزي احتياطاً بالعملات الأجنبية الدولية (بالدولار الأميركي) يكفي لتغطية التزاماته تجاه القطاع الخاص، أي بنحو أساسي «القاعدة النقدية» (monetary base) (الأوراق النقدية المطبوعة من المصرف المركزي بالعملة الوطنية + احتياطي المصارف لدى المصرف المركزي) سعر الصرف الفعلي في السوق.
ممّا يعني أولاً، اعتماد سعر صرف تتمّ على أساسه عملية التحويل. وثانياً التأكّد من توافر الاحتياطي المطلوب لاستبدال القاعدة النقدية بالعملة الأجنبية أو امكانية استدانته، وإلّا ترك العملة الوطنية تنخفض، أي أن يرتفع سعر الصرف حتّى المستوى الذي يسمح للمصرف المركزي بتغطية القاعدة النقدية بما يتوافر لديه من عملات أجنبية. وثالثاً تحويل الموجودات والأصول في الجهاز المصرفي إلى العملة الأجنبية وفق سعر الصرف المعتمد في لحظة التحوّل الى الدولرة الشاملة… هذا طبعاً لا يتطلّب كمية دولارات ورقية كبيرة، لا بل أنّ التعامل المباشر بالدولار للدفع وإتمام المعاملات يسهّل التداول به ويسمح بتسريع حركة انتقاله بين العملاء الاقتصاديين، فيزيد من مفعول الكمية المتوافرة في إتمام أكبر مقدار من المعاملات بدل أن يبقى الدولار محتكراً بين أيدي عدد قليل من الناس وأيدي الصرافين..
طبعاً من الصعب تقبّل استبدال شبه شامل للعملة الوطنية بالدولار الأميركي أو أي عملة أجنبية، نظراً لرمزية الليرة اللبنانية والسيادة النقدية…الدولرة لم تكن يوماً لا أمنية ولا خياراً سهلاً لأي بلد، إلّا أنّها تصبح واقع البلدان التي يتمّ فيها افتقاد الثقة كلياً بالعملة الوطنية وخيارات السياسات الاقتصادية..
في لبنان، وبعد 3 سنوات على سقوط ربط سعر الليرة، لم يتمّ اتخاذ أي قرار رسمي في شأن نظام سعر الصرف، فجاءت النتيجة بالدولرة الشاملة التدريجية من دون إعلان القرار…