ألم يحن الوقت بعد لموقف شجاع وصادق لكشف النقاب عن حقيقة الوضع المصرفي والنقدي في لبنان؟ إذا اعتقد المسؤولون أن التعمية والتمويه هما الطريق الأقصر لكسب الوقت في انتظار معجزة ما أو أن يأتي غودو، فإنما ينفخون في كرة الأزمة ويفاقمونها حجمًا وارتدادات لحظة الحقيقة الصادمة.
كل الدلالات والفوضى القائمة في علاقات المصارف بمودعيها، والحؤول بينهم وبين الحصول على حقوقهم من شأنها زيادة البلبلة وعدم اليقين بأنهم حاصلون عليها. وزيادة الضغط على السحوبات وبث الذعر. انسحاب مصرف لبنان من سوق القطع والتراجع النظامي لسعر صرف الليرة، من شأنهما استمرار الطلب على الدولار الأميركي إلى ما لا نهاية. سألنا قبل شهر عمّا اذا كان ما يحصل في المصارف أزمة سيولة أم أزمة ملاءة ولا جواب. ونسأل اليوم، ما حقيقة ميزانية مصرف لبنان ورصيده الصافي من العملات الأجنبية. بعض المعلومات تفيد إنه سالب بنحو 40 مليار دولار أميركي. تقرير سري لم ينشر صدر عن صندوق النقد الدولي في 2016 وقدّر رصيد مصرف لبنان في 2015 سالبًا بنحو 14 مليار دولار أميركي. التقرير يجب أن يكون قد بلغ في حينه الحكومة ووزارة المال والمسؤولين المعنيين. يجب أن يُفصح عن وضع المصرف الآن. وعن الوضع في المصارف. هل توظيفات المصارف في مصرف لبنان هي جزء من مشكلة السيولة بالدولار الأميركي في المصارف؟ هل إصرار حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على زيادة رسملة المصارف بواقع 20 في المئة على دفعتين حتى حزيران 2020 فرضته ملاءة منقوصة في المصارف؟ واضح أن العلاقة بين مصرف لبنان وبين المصارف ليست سوية. في المذاكرات البينية واجتماعات الفريقين الدورية والاستثنائية كانت تحصل خلافات في وجهات النظر تبقى داخل الجدران الحصينة. الأمر مختلف هذه الأيام والشقاق كبير. ولا جدال في أن التحالف الذي قام بين الفريقين طيلة 22 عامًا، وقت التدفقات النقدية وفوائض ميزان المدفوعات، تصدّع في زمن القِلّة والعُجوز. والسلطة السياسية عاجزة عن الإمساك برأس الخيط لتفادي الأسوأ بكثير مما نحن فيه.
لم يبقَ شيء ينبض
الاقتصاد شبه مشلول. المصارف لا أمل لها في تصويب أوضاعها بلا اقتصاد يعمل. ومالية الدولة العامة إلى الهوّة. من غير المعقول عدم فتح اعتمادات الاستيراد لغايات محددة يمكن التحكم بها. الغذاء والمحروقات والقمح والمستلزمات الطبية والأدوية. التحويلات الخارجية للتعليم والاستشفاء يمكن أن تضبط بتحويلها مباشرة إلى مقاصدها. التجارة الخارجية تراجعت بنحو 7 في المئة في 2019. وتراجع معها العجز بالضرورة نتيجة تراجع الطلب الداخلي الاستهلاكي تبعًا لتراجع قوة الدخل الشرائية والأجور والرواتب وارتفاع الأسعار. لكن قد ينقلب الوضع خطيرًا لو بدأت المواد الغذائية والضرورية وحاجات الاستهلاك اليومية تُفقد من السوق. وقد بدأت فعلًا في المجال الإستشفائي للعمليات الجراحية ومتعلقاتها. توقف الاعتمادات المستندية حتى من الحسابات الجارية لاستيراد السلع والمواد الأولية للصناعة، ومدخلات الزراعة من التسميد والأدوية والبذار وخلافها، شأن بالغ الخطورة على الاقتصاد. كان البعض يعتبر أن اللبناني يستهلك فوق ما يتيحه دخله الحقيقي. وبعض آخر يقول أن سعر صرف الليرة المقيّم أعلى من سعره الحقيقي رفع فاتورة الاستيراد إلى نحو 20 مليار دولار أميركي بعجز تجاري فوق 16 مليارًا سنويًا. لكن الاستهلاك بات يقدّر نحو 80 في المئة من الناتج المحلي. الوجه الآخر للاستهلاك المبالغ فيه فوق مستوى الدخل، كان له أثر في إيرادات الخزانة والموازنة، ضرائب وقيمة مضافة ورسومًا جمركية وخلافها. تراجُع الاستهلاك سيترك أثرًا سالبًا على المالية العامة. وسيزيد من عجز الموازنة. وسيقذف بالعاطلين من العمل إلى قارعة الطريق وإلى أسرهم خائبين يائسين. بينما القطاعات الانتاجية مقصية عن المواد الأولية. والنفقات الاستثمارية المحرك الثاني الرئيسي للاقتصاد معدومة. ماذا بقي ينبض من شرايين الناتج المحلي ومن إيرادات المالية العامة؟ وأي إصلاح يرتجى لخفض عجز بواقع 5 في المئة في سنوات خمس تواليًا، وتحقيق فائض في حساب الموازنة الأولي؟ بقيت الرواتب في القطاع العام. لم تعد أرقام المؤشرات النسبية قاعدة لاحتساب الهوّة الاقتصادية والمالية والنقدية. مصرف لبنان بات يطبع الليرة بأطنان الورق التضخمي بعد أن عزّ الدين بالفوائد المرتفعة. فعلاوة المخاطر أعلى من مردود الفوائد. ورواتب القطاع العام مؤمنة من النقد المطبوع، يتحول طلبًا استهلاكيًا على سلع لا ينتجها الاقتصاد، وعلى خدمات بفواتير ثنائية وثلاثية ليست موفورة بالكمّ والجودة وربما على الدولار الأميركي.
22 عامّا من التضليل!
22 عامًا لم تتوقف تطمينات حاكم مصرف لبنان إلى سعر صرف الليرة ومتانة القطاع المصرفي. مع فرقة من المروّجين نوابًا ووزراء ومسؤولين لعلّة في نفوذ سلامة وتفرده في القرارات النقدية في صرف النظر عن نتائجها الاقتصادية. أحلّوا مصالحهم محل القيام بمسؤولياتهم الحكومية والنيابية في رقابة السلطة النقدية ومساءلتها في كل ما يتصل بالنمو والاقتصاد الكلي. الترويج المشبوه شمل الغالبية الساحقة من وسائل الإعلام. وبعض من علماء لا يحترمون علمهم ولا عقول الناس. بينما كان المطلوب سياسة رؤيوية للاقتصاد الكلي تكون السياسة النقدية جزءًا منها إلى جانب السياسة المالية وضبط العجز.
مارس حاكم مصرف لبنان في سياق سياسة تثبيت سعر الصرف ما هو شبيه بدور وكالات التصنيف الدولية قبل اندلاع الأزمة المالية العالمية في 2008. إذ دأبت الوكالات تلك على إصدار تصنيفات ممتازة للمصارف الاستثمارية الأميركية من مورغان ستانلي وغولدمان ساكس وسيتي غروب وميريل لينش وسواها. بينما لم تكن شفّافة في تصنيف المنتجات المالية المتداولة والمحافظ الاستثمارية المحمولة بالمنتجات المؤكسدة مثل الرهونات العقارية وأوراقها. وقد كانت الشرارة التي فجّرت الأزمة وهددت النظام المالي والمصرفي الأميركي والعالمي بانهيار الشامل. في الولايات المتحدة الدولار يطبع نفسه عملة صعبة. والخزانة جاهزة لتفادي الانهيار. توقف كل شيء عندنا. حتى مجرد تنظيم الفوضى.
الشعب لا يعرف من يقود البلد الآن. رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري غادر ولم يعد. الباقون حاضرون. لكن على النهج لا يغيرون. القرارات الكبيرة المطلوبة لا تقوى عليها حكومة تصريف أعمال بالأصل. تحتاج إلى إجراءات بات ممجوجًا أن تكون إجراءات طوارئ فحسب. بل إجراءات انقاذ. وإذ نشهد فصلًا جديدًا من فصول تأليف الحكومة، هل يمكن لعاقل أن يصدِّق أنّ مَن كلّف حسّان دياب المهمّة ويرتد عليه الآن، عازم بالفعل على انقاذ البلد؟
عصام الجردي.