ألني ثقتك , أصنعْ منك صيّاد صفقات ! (3) – |
أعرف اني أطلت الغياب وكان علي ألا أطيل . من الأخوة المهتمين في متابعة ما يُكتب في هذه الزاوية السماح ، للعمر حق ، للظروف الصحية أحيانا حق . حتى الفَرَس المؤصلة لها حرنات . الكلمة أيضا قد تحرَن حينا ، فتحجم عن تلبية ما للفكرة من رغبات ، ولا يكون بدّ من هجرٍ بين العاشقين ، إلى أن يعود الحنين ، فيسيل الحبر على الورق من جديد تجارب تليها امثولات وعبَر .
في وقت الانقطاع هذا سمعت عتابا : كل ما سبق كان تقديما ، هات الخطة نحن ننتظر الختام .
وسمعت : ما همّنا من كل ما سبق . لا غرام لنا في الطيور ولا شأن لنا في صيدها .
وسمعت : كفتني كلمة من كل ما كتبت ( صياد صفقات ) . هذه الكلمة جعلتني أغير خطة عملي كلها . بدأت من جديد . أعتقد أن النجاح سيكون قدرا لي هذه المرة .
وقرأت : لن أكون بحاجة لانتظار ما ستزيد من شرح وتفصيل ، أنا قرأت بين سطورك وفهمت ما ترمي اليه . أشعر بأني على وشك أن أكون صيادا ( في غابة يسمونها سوقا ) .
وقرأت : ما شأني في كل ما تكتب ؟ أنت تتوسل الإنشاء ، والزخرفة اللفظية وأنا عن كل ما تقول في غنى . أريد تحقيق الربح في عملي ، ولا أهدف لشيء آخر .
وسمعت : قرأت ما كتبت بشغف . قرأته مرات ومرات . وفي كل مرة وجدت الجديد . وفي كل مرة أفدت مما ظننته تفصيلا في ما سبق . أحسني الآن صيادا محترفا ، أعرف مواضع الكرّ ، ومواقيت الفرّ .
سمعت الكثير الكثير ، طربت حينا لما سمعت ، حزنت حينا لما سمعت . ولكن الحق أقوله لكل من يبحث عن اتعاظ ، واقوله بكل ما للصدق عندي من مكانة وإجلال وتهيّب .
أقول إنني أنا نفسي – أنا نفسي كاتب تفاصيل هذه التجربة الحياتية الدقيقة – أعود من وقت لآخر الى ما خطت يداي ، فأفيد منه في ما أفعل كل يوم . أنا نفسي أجد في الكلمة التي نقلت فكرة من أفكاري – اذا ما عدت اليها – صورة متطورة جديدة ، لم أتنبه لها في حالة وعيي السابقة .
لم أتنبه لها في حالة وعيي السابقة ، إذ تكون قد تسللت من مفكرتي تسللا ، وتقمصت جسد كلمة من كلماتي تقمصا ، وتحولت الى قول من أقوالي تحولا ، واستهدفت عقلا من عقول قرائي استهدافا ، وثبتت في وعي بعضهم جنينا ينمو ليصير منهجا . كل ذلك في لا وعيي الكامل لما يصير حقيقة تامة ؛ ولا أعي تلك الحقيقة إلا إن عدت الى ما كتبت من جديد ، فأزداد تعلما من نفسي بترجمة تجربتي تطويرا مستمرا لمنهجي الذي لا يعرف الركود الآسن ، ويبحث دوما عن ضجيج ، عن ضجيج مبتهج خلاق .
أنا نفسي ، أفيد كل يوم من استذكار تجربة أكون قد عشتها مرة وهجرت ذاكرتي لفترة ، ثم إن عدت الى أوراقي أراها قد انطلقت من جديد ، فإذا هي شعاعي المحيي وجناحي المنبعث . أنا نفسي أعيش هذه اللحظات فلا يخجلنّ أحد مما يستحق الفخروالاعتزاز .
الانتقال من التخطيط الى التطبيق .
يومي الأخير كان يوم القطاف ، قطاف ثمار جهد طال زمنه ، تحليلا لمعطيات ، وتدقيقا في ظاهرات ، وبحثا عن ثوابت ، ورسما لتوجهات . قطفت الثمار وحفظت الدرس الذي تحول بالنسبة لي الى منهجٍ حياتي يقوم على عدم أخذ الأموربظواهرها السهلة رؤيتها ، بل البحث دوما عن بواطن غالبا ما تكون الدرر في ألبابها .
في يومي هذا كنت شخصا آخر ، كنت شخصا مصمما على الربح لا باحثا عنه . كنت شخصا واثقا من الربح لا متوسلا له . كل الشكوك التي رافقتني في أيامي السابقة غادرتني اليوم وبت والثقة صنوان . في أيامي السابقة كنت أنتظر صيدا لأفرح ، أليوم أنا في حالة من الفرح المستمر ، أنا واثق من النصر المؤكد . أنا قوي اليوم في نفسي ، النصر لي . كنت في ما سبق أبحث عن نصر ليس فيّ . الصيد ( الربح ) ، النصر يستحيل أن يتحقق إلا إذا صار حالة فرح وجداني ملازم للنفس غير منفصل عنها .
في هذا اليوم لم يعد يهمني ان حققت صيدا وفيرا او متواضعا . لقد تأكد لي النصر وتحقق الربح بمجرد بلوغي الهدف . الهدف هو الصوابية في التفكير ، المنهجية في التخطيط ، الدقة في التطبيق . كل ما تبقى من نتائج تكون تفاصيل غير ذات أهمية .
الحق الكامل اقوله لكم : كان فيّ اليوم انسانا جديدا ما عرفته من قبل . بت لا أكترث لعدد الطيور التي سأصطادها . كان يهمني ، وكنت واثقا ، وكنت فرحا ، فقط لأنني اعرف أن خطتي ستسمح لي بصيد ( ربح ) كل الطيور التي ستقع على شجرتي ، سيّان عندي أكان صيدي ( ربحي ) هو لطيرين او لعشرين او لمئة طير . يجب أن ( أربحها ) أظفر بها كلها ، او بالغالبية الساحقة منها ، هذا هو مقياس نجاحي ، هذا هو مبعث فرحي .
كنت فرحا لأنني بت أملك شجرة في غابة ، هي شجرتي أنا . بت املك استراتيجية صيد ( عمل ) ، إستراتيجية أوجدتها عبقريتي وهي كشجرتي ، لي ، لي أنا ، لي أنا وحدي . كنت فرحا ، وكان فرحي عظيما . أنا محظوظ جدا . أنا أملك شجرة وخطة .
ما عملته في اليوم الأخير كان لمسات أخيرة على مخطط رسمت له ما وجب أن أرسم ، وعملت فيه ما يجب أن أعمل ، فإذا هو ضالتي التي وجدت وفخري الذي استحقيت . جلست في مخبأي ولم أقف . جلست على حجر مسطح خفيض ، بشكل يسمح لركبتي ان تكونا سندا ليديّ اللتين تحملان البندقية ، دون أن أضطر للإنحناء إلى الأمام إلا قليلا ، وبشكل يسمح لعينيّ التحديق في الشجرة كما في الفراغ المحيط بها ، رصدا لكل حركة يمكن ان تستجد عبر جناح مقبل من بعيد .
جلست في مخبأي . كفّاي ممسكان بالبندقية . أصبع اليد اليمنى على الزناد في تأهب مستمر ، ويقظة فائقة ، وجهوزية كاملة . أنا أعرف عمّا أبحث ، أعرف ما انتظر ، أعرف الوقت الذي يحين فيه التدخل ، أعرف اللحظة التي يجب فيها أن أتصرف ، أعرف ان عدم التصرف أو التردد ثانية واحدة قد يضيّع الفرصة ، لذلك تراني لا أتردد . ( ضياع الفرصة لا يعني ضياع العمر ، ثمة فرص أخرى لا بدّ آتية )
أنا اليوم أعرف كلّ تفصيل مما سيحصل معي ، أرى كل شيء آت كما لو إنه من الماضي . أنا أعرف . كل شيء فيّ يعرف ، يداي تعرفان ما عليهما ، عيناي لا تجهلان ما لهما ، أكاد أقول إن كلّ خلية فيّ أخذت على عاتقها شيئا ما .
معرفة نتيجة الفعل يقوم على الثقة بالفعل ، وأنا كنت واثقا في ما انا فيه وإليه .
في هذا الوقت ما عاد يعنيني ما يفعله صاحبي وكيف يحقق نتائجه . انا لي طريقي ، لي خطتي ، علي السعي لتطويرها وتهذيبها وتحسينها سعيا لما هو افضل .
من صيد الطيور ، الى صيد الصفقات ..
في السنة التالية لموسم الصيد كان صاحبي قد غاب عنا . لبى نداء ربه مع الذين لبّوه ضحايا حرب ظالمة . هجرت الصيد والوطن بعد ذلك بقليل . جاءت المرحلة التي شاء الله لي فيها أن أتعرف على غابة أخرى – البورصة – أكثر وعورة وأعقد الغازا من غابتي الأولى ، وشاء لي أن افيد من خبرة اكتسبتها في الصيد مراقبة وتحليلا وتخطيطا وتنفيذا ، وشاء لي أن أدمي يديّ وقدميّ في مسيرتي الثانية هذه ، وشاء لي أن أفرح بهذه الجروح التي تتكرر دوما دون أن أبالي بأوجاعها ، وشاء لي أن اعثر لاعود فأنتصب من جديد ، وشاء لي أن أعرف أخيرا كل قرنة في هذه الغابة العالية مخاطرها ، وأحفظ كل درب من دروبها ، وأتعرف على كل شجرة من شجراتها ، وشاء لي أن أتعلم في كل يوم فيها درسا جديدا على امتداد سنوات طوال . وشاء لي أن أحفظ الدروس جيدا ، الى ان بلغت ما بلغت من معرفة حمتني من تجارب كثيرة ، ووقتني شر عثرات لا تحصى ، ووفرت علي مغامرات وفيرة خاضها غيري وكنت في مأمن الا من قلّة محصورة مخاطرها . حاولت في اول عهدي بالبورصة ان استورد لنفسي خططا ، واستجدي استراتيجيات جهد غير في وضعها . حاولت الحصول عليها تارة بالحيلة والتجسس، وطورا بالتفاوض . كنت أحصل عليها حينا بهذه ، وحينا بذاك . لكنني والحق يقال ، كنت أشعر بعدم الرضا تجاهها ، كنت كمن يلبس ثوبا فُصّل لغيره ، ولا نفع له منه .
عمدت الى شراء اشارات توصيني ببيع وشراء على نقاط محددة . قلت : أوفر على نفسي جهدا ، أن كنت قادرا على شراء رغيف طازج فلِمَ الزرع والحصاد ، ثم الطحن والعجن والرق والخَبز ؟
جربت هذا فما نفعني بشيء . في حين كان خبّاز التوصيات هذه يهنأ برغيفه ، كنت أجد فيه أحيانا طعما عفنا يُكرهني الطعام ويجبرني على الابتعاد عنه . كان مثلي مع هذه الحالة مثل من جهل الصيد وفنونه فكان يعود كل يوم الى بيته مفتخرا . البندقية في يمناه وجملة من الطيور في يسراه . طيور اشتراها من السوق ، فقط ليوهم زوجته بقدراته المزيفة .
حاولت كل شيء قبل ان أهتدي الى الحقيقة التي لا حقيقة سواها : أنا هنا في غابة لن ينفعني فيها سوى جهدي وعقلي وإرادتي وقوتي . عادت الى ذاكرتي أيامُ الصيد ، فاستقيت من تجربتي الاولى كل تفصيل وأفدت من كل عبرة فيها .
اقتنعت انه لا جدوى لي من صيد الصفقات طائرة ، وانه لا بد لي من انتظار وقوعها على مدرج لأظفر بها . إقتنعت وثبت لي بالنتائج المقنعة أن علي التربص بالسوق كما يفعل النمر حيال فريسة قبل أن ينقض عليها ، وكما كنت أعمل يوم غرامي بصيد الطيور . كما اقتنعت أن السوق يكون حينا طائرا صغيرا او متوسط الحجم يسهل صيده كما يكون أحيانا وحشا كاسرا يجب الاحتراس منه ، فإن آلمته ولم أصب منه مقتلا ارتد علي بكل ما فيه من قسوة ورغبة بالانتقام . ولكم نجح في الحاق الهزيمة بي إذ أكون قد أطلقت عليه في غير الموضع أو الوقت المناسب .
أصبت جراحا كثيرة من وحوش السوق أولا ومن كواسره تاليا ، الى ان تكونت عندي القناعة البليغة أخيرا . علي أن اكتفي في بداية عهدي بالطيور الصغيرة ، صيدا أجمّعه فوق صيد ، وربحا أجمّعه فوق ربح ، حتى اذا بتّ قديرا وبات هو وفيرا ، إغتنيت عن جوع وعلا شأني وصرت مقتدرا في تطوير مخططاتي وتجذيرها .
طبقت اذا في أول عهدي بالسوق نفس استراتيجيتي في الصيد فنجحت . كانت أوقات العربدة في السوق لا تجذبني الى العمل ، دون أن تربكني أو تخيفني . كنت أدرك أن للهيجان هذا نهاية محتومة ، فأشحذ خنجري ، والقم بندقيتي ، وأتخذ وضعية التأهب الواجبة ، وأنتظر . كان يطول بي الإنتظار حينا ويقصر احيانا ، ولكن الظفر كان دوما من نصيبي ، وما اذكر أني خرجت من المعركة بجراح إلا في ما قلّ وندر ، وإن حصل فغالبا ما يكون نتيجة خطأ ارتكبته ، خطأ حتمته ضغوط نفسية او جسدية طارئة .
نعم أيها الاكارم ، ولّت الفترة التي تحكمت بي فيها التوترات النفسية ، والأزمات الوجدانية . صرت صيادا بارعا في غابة تنجو القلة من مزالقها . سرّ براعتي هو نجاحي في تحديد هدفي ، وتوازن هذا الهدف مع قدرتي في كل مرحلة من مراحل عملي التي كنت أطورها بشكل متوازن معها . وكانت لي مرحلة صيد جديد مستقاة مبادئه من الفترة الاولى ومطورة بحسب قواعدها .
نُصحي لكل صيّاد يبغي في هذه الغابة صيدا أن يعي الخطر بنفس النسبة التي يطمع فيها بالربح .
نُصحي له أن يُحدد موضع الصيد والتوقيت المناسب له ، ثم أن يكمن بانتظار صفقة بعينها في لحظة بعينها يعرفها ، فلا يرضى عنها بديلا .
نُصحي له أن يكتفي في المرحلة الأولى لعمله بأرباح قليلة تقوي من عزيمته وثقته إن هي تتابعت ، وتصلّب من عزمه وتصميمه إن هي تجمعّت وتراكمت لتوفر ثروة صغيرة تكون منطلقا لتطوير الاستراتيجية وتحسبنها .
أقول لكل من أحسن تنظيم خطته واختيار شجرته وبناء مخبئه إن طيرا يقع على غصن عال للشجرة يسهل صيده وتُضمن إصابته ، وإن طيرا يغلّ بين الغصون قد يكون في مأمن إذ انه يكون محميا بالغصون . أقول : أطلق على كل طير مضمون بنسبة عالية واصرف النظر عما سواه .
أوصي كل من ورث مالا كثيرا وشاء أن يتاجر معنا أن يحرص على ماله الموروث باتباع نفس الخطوات في المراحل الأولى ، فيكتفي بالصغير من الطير ( القليل من الربح ) يصيده في أوقات هادئة محددة ايضا ، وأن لا ينسى أبدا أن وحوش هذه الغابة في جوع مستديم ، لا تشبع أبدا ، وهي قادرة على ابتلاع كل شيء ، والإجهاز على كل ثروة مهما عظُمت . الحلّ الوحيد برأيي لكل متعامل ( أو لكل مبتدئ على الأقل ) أن لا يعرّ ض نفسه بصدر مكشوف لأنياب الوحوش هذه وبراثنها.
هذه وصيتي ، حصاد زرعي ، نتيجة تجاربي ، جنى جهدي .
هذه وصيتي ، حصيلة حرصي الدفين على أن يفيد مَن أولاني الثقة من تجاربَ كانت لي دروسا لا أنسى منها كبيرا ولا أنسى صغيرا .
نصيحتي أخي : خذ بوصيتي ، تقِ نفسك شرّ العثرات .
|