ألني ثقتك , أصنعْ منك صيّاد صفقات ! (3) ا

ألني ثقتك , أصنعْ منك صيّاد صفقات !  (3) –

 

أعرف اني أطلت الغياب وكان علي ألا أطيل . من الأخوة المهتمين في متابعة ما يُكتب في هذه الزاوية السماح ، للعمر حق ، للظروف الصحية أحيانا حق . حتى الفَرَس المؤصلة لها حرنات . الكلمة أيضا قد تحرَن حينا ، فتحجم عن تلبية ما للفكرة من رغبات  ، ولا يكون بدّ من هجرٍ بين العاشقين ، إلى أن يعود الحنين ، فيسيل الحبر على الورق من جديد تجارب تليها امثولات وعبَر .
في وقت الانقطاع هذا سمعت عتابا : كل ما سبق كان تقديما ، هات الخطة نحن ننتظر الختام .
وسمعت : ما همّنا من كل ما سبق . لا غرام لنا في الطيور ولا شأن لنا في صيدها .
وسمعت : كفتني كلمة من كل ما كتبت ( صياد صفقات ) . هذه الكلمة جعلتني أغير خطة عملي كلها . بدأت من جديد . أعتقد أن النجاح سيكون قدرا لي هذه المرة .
وقرأت : لن أكون بحاجة لانتظار ما ستزيد من شرح وتفصيل ، أنا قرأت بين سطورك وفهمت ما ترمي اليه . أشعر بأني على وشك أن أكون صيادا ( في غابة يسمونها سوقا ) .
وقرأت : ما شأني في كل ما تكتب ؟ أنت تتوسل الإنشاء ، والزخرفة اللفظية وأنا عن كل ما تقول في غنى . أريد تحقيق الربح في عملي ، ولا أهدف لشيء آخر .
وسمعت : قرأت ما كتبت بشغف . قرأته مرات ومرات . وفي كل مرة وجدت الجديد . وفي كل مرة أفدت مما ظننته تفصيلا في ما سبق . أحسني الآن صيادا محترفا ، أعرف مواضع الكرّ ، ومواقيت الفرّ .
سمعت الكثير الكثير ، طربت حينا لما سمعت ، حزنت حينا لما سمعت . ولكن الحق أقوله لكل من يبحث عن اتعاظ ، واقوله بكل ما للصدق عندي من مكانة وإجلال وتهيّب .
أقول إنني أنا نفسي – أنا نفسي  كاتب تفاصيل هذه التجربة الحياتية الدقيقة – أعود من وقت لآخر الى ما خطت يداي ، فأفيد منه في ما أفعل كل يوم . أنا نفسي أجد في  الكلمة التي نقلت فكرة من أفكاري – اذا ما عدت اليها – صورة متطورة جديدة ، لم أتنبه لها في حالة وعيي السابقة .
لم أتنبه لها في حالة وعيي السابقة ، إذ تكون قد تسللت من مفكرتي تسللا ، وتقمصت جسد كلمة من كلماتي تقمصا ، وتحولت الى قول من أقوالي  تحولا ، واستهدفت عقلا من عقول قرائي استهدافا ، وثبتت في وعي بعضهم جنينا ينمو ليصير منهجا . كل ذلك في لا وعيي الكامل لما يصير حقيقة تامة ؛ ولا أعي تلك الحقيقة إلا إن عدت الى ما كتبت من جديد ، فأزداد تعلما من نفسي بترجمة تجربتي تطويرا مستمرا لمنهجي الذي لا يعرف الركود الآسن ، ويبحث دوما عن ضجيج ، عن ضجيج مبتهج خلاق .
أنا نفسي ، أفيد كل يوم من استذكار تجربة أكون قد عشتها مرة وهجرت ذاكرتي لفترة ، ثم إن عدت الى أوراقي أراها قد انطلقت من جديد ، فإذا هي شعاعي المحيي وجناحي المنبعث . أنا نفسي أعيش هذه اللحظات فلا يخجلنّ أحد مما يستحق الفخروالاعتزاز .
 
الانتقال من التخطيط الى التطبيق .
 
 
يومي الأخير كان يوم القطاف ، قطاف ثمار جهد طال زمنه ،  تحليلا  لمعطيات ، وتدقيقا في ظاهرات  ، وبحثا عن ثوابت ، ورسما لتوجهات  . قطفت الثمار وحفظت الدرس الذي تحول بالنسبة لي الى منهجٍ حياتي يقوم على عدم أخذ الأموربظواهرها السهلة رؤيتها ، بل البحث دوما عن بواطن غالبا ما تكون الدرر في ألبابها .
في يومي هذا كنت شخصا آخر ، كنت شخصا مصمما على الربح لا باحثا عنه . كنت شخصا واثقا من الربح لا متوسلا له . كل الشكوك التي رافقتني في أيامي السابقة غادرتني اليوم وبت والثقة صنوان . في أيامي السابقة كنت أنتظر صيدا لأفرح ، أليوم أنا في حالة من الفرح المستمر ، أنا واثق من النصر المؤكد . أنا قوي اليوم  في نفسي ، النصر لي . كنت في ما سبق أبحث عن نصر ليس فيّ . الصيد ( الربح ) ، النصر  يستحيل أن يتحقق إلا إذا صار حالة فرح وجداني ملازم للنفس غير منفصل عنها .
في هذا اليوم لم يعد يهمني ان حققت صيدا وفيرا او متواضعا . لقد تأكد لي النصر وتحقق الربح بمجرد بلوغي الهدف . الهدف هو الصوابية في التفكير ، المنهجية في التخطيط ، الدقة في التطبيق . كل ما تبقى من نتائج تكون تفاصيل غير ذات أهمية .
الحق الكامل اقوله لكم : كان فيّ اليوم انسانا جديدا ما عرفته من قبل . بت لا أكترث لعدد الطيور التي سأصطادها . كان يهمني ، وكنت واثقا ، وكنت فرحا ، فقط لأنني اعرف أن خطتي ستسمح لي بصيد ( ربح ) كل الطيور التي ستقع على شجرتي ، سيّان عندي  أكان صيدي ( ربحي ) هو لطيرين او لعشرين او لمئة طير . يجب أن ( أربحها ) أظفر بها كلها ، او بالغالبية الساحقة منها ، هذا هو مقياس نجاحي ، هذا هو مبعث فرحي . 
كنت فرحا لأنني بت أملك شجرة في غابة ، هي شجرتي أنا . بت املك استراتيجية صيد ( عمل ) ، إستراتيجية أوجدتها عبقريتي وهي كشجرتي ، لي ، لي أنا ، لي أنا وحدي . كنت فرحا ، وكان فرحي عظيما . أنا محظوظ جدا . أنا أملك شجرة وخطة .  
 
ما عملته في اليوم الأخير كان  لمسات أخيرة على مخطط  رسمت له ما وجب أن أرسم  ، وعملت فيه ما يجب أن أعمل ، فإذا هو ضالتي التي وجدت وفخري الذي استحقيت . جلست في مخبأي ولم أقف . جلست على حجر مسطح خفيض ، بشكل يسمح لركبتي ان تكونا سندا ليديّ اللتين تحملان البندقية ، دون أن أضطر للإنحناء إلى الأمام إلا قليلا ، وبشكل يسمح لعينيّ التحديق في الشجرة كما في الفراغ المحيط بها ، رصدا لكل حركة يمكن ان تستجد عبر جناح مقبل من بعيد .

جلست في مخبأي . كفّاي ممسكان بالبندقية . أصبع اليد اليمنى على الزناد في تأهب مستمر ، ويقظة فائقة ، وجهوزية كاملة . أنا أعرف عمّا أبحث ، أعرف ما انتظر ، أعرف الوقت الذي يحين فيه التدخل ، أعرف اللحظة التي يجب فيها أن أتصرف ، أعرف ان عدم التصرف أو التردد ثانية واحدة قد يضيّع الفرصة ، لذلك تراني لا أتردد . ( ضياع الفرصة لا يعني ضياع العمر ، ثمة فرص أخرى لا بدّ آتية )
أنا اليوم أعرف كلّ تفصيل مما سيحصل معي ، أرى كل شيء آت كما لو إنه من الماضي . أنا أعرف . كل شيء فيّ يعرف ، يداي تعرفان ما عليهما ، عيناي لا تجهلان ما لهما ، أكاد أقول إن كلّ خلية فيّ أخذت على عاتقها شيئا ما  .
 معرفة نتيجة الفعل  يقوم على الثقة بالفعل ، وأنا كنت واثقا في ما انا فيه وإليه .
 في هذا الوقت ما عاد يعنيني ما يفعله صاحبي وكيف يحقق نتائجه . انا لي طريقي ، لي خطتي ، علي السعي لتطويرها  وتهذيبها وتحسينها سعيا لما هو افضل .
 
من صيد الطيور ، الى صيد الصفقات ..
 

في السنة التالية لموسم الصيد كان صاحبي قد غاب عنا . لبى نداء ربه مع الذين لبّوه ضحايا  حرب ظالمة . هجرت الصيد والوطن بعد ذلك بقليل . جاءت المرحلة التي شاء الله لي فيها أن أتعرف على غابة أخرى – البورصة – أكثر وعورة وأعقد الغازا من غابتي الأولى ، وشاء لي أن افيد من خبرة اكتسبتها في الصيد مراقبة وتحليلا وتخطيطا  وتنفيذا ، وشاء لي أن أدمي يديّ وقدميّ في مسيرتي الثانية هذه ، وشاء لي أن أفرح بهذه الجروح التي تتكرر دوما دون أن أبالي بأوجاعها ، وشاء لي أن اعثر لاعود فأنتصب من جديد ، وشاء لي أن أعرف أخيرا كل قرنة في هذه الغابة العالية مخاطرها ، وأحفظ كل درب من دروبها ، وأتعرف على كل شجرة من شجراتها ، وشاء لي أن أتعلم في كل يوم فيها درسا جديدا على امتداد سنوات طوال . وشاء لي أن أحفظ الدروس جيدا ، الى ان بلغت ما بلغت من معرفة حمتني من تجارب كثيرة ، ووقتني شر عثرات لا تحصى ، ووفرت علي مغامرات وفيرة خاضها غيري وكنت في مأمن الا من قلّة محصورة مخاطرها  .

 
حاولت في اول عهدي بالبورصة ان استورد لنفسي خططا ، واستجدي استراتيجيات جهد غير في وضعها . حاولت الحصول عليها تارة بالحيلة والتجسس، وطورا بالتفاوض . كنت أحصل عليها حينا بهذه ، وحينا بذاك . لكنني والحق يقال ، كنت أشعر بعدم الرضا تجاهها ، كنت كمن يلبس ثوبا فُصّل لغيره ، ولا نفع له منه .
عمدت الى شراء اشارات توصيني ببيع وشراء على نقاط محددة . قلت : أوفر على نفسي جهدا ، أن كنت قادرا على شراء رغيف طازج فلِمَ الزرع والحصاد ، ثم الطحن والعجن والرق والخَبز ؟
جربت هذا فما نفعني بشيء . في حين كان خبّاز التوصيات هذه يهنأ برغيفه ، كنت أجد فيه أحيانا طعما عفنا يُكرهني الطعام ويجبرني على الابتعاد عنه . كان مثلي مع هذه الحالة مثل من جهل الصيد وفنونه فكان يعود كل يوم الى بيته مفتخرا . البندقية في يمناه وجملة من الطيور في يسراه . طيور اشتراها من السوق ، فقط ليوهم زوجته بقدراته المزيفة .
حاولت كل شيء قبل ان أهتدي الى الحقيقة التي لا حقيقة سواها : أنا هنا في غابة لن ينفعني فيها سوى جهدي وعقلي وإرادتي وقوتي . عادت الى ذاكرتي أيامُ الصيد ، فاستقيت من تجربتي الاولى كل تفصيل وأفدت من كل عبرة فيها .
اقتنعت انه لا جدوى لي من صيد الصفقات طائرة ، وانه لا بد لي من انتظار وقوعها على مدرج  لأظفر بها . إقتنعت وثبت لي بالنتائج المقنعة أن علي التربص بالسوق كما يفعل النمر حيال فريسة قبل أن ينقض عليها ، وكما كنت أعمل يوم غرامي بصيد الطيور . كما اقتنعت أن السوق يكون حينا طائرا صغيرا او متوسط الحجم يسهل صيده كما يكون أحيانا وحشا كاسرا يجب الاحتراس منه ، فإن آلمته ولم أصب منه مقتلا ارتد علي بكل ما فيه من قسوة ورغبة بالانتقام . ولكم نجح في الحاق الهزيمة بي إذ أكون قد أطلقت عليه في غير الموضع أو الوقت المناسب .
أصبت جراحا كثيرة من وحوش السوق أولا ومن كواسره تاليا ، الى ان تكونت عندي القناعة البليغة أخيرا . علي أن اكتفي في بداية عهدي بالطيور الصغيرة ، صيدا أجمّعه فوق صيد ، وربحا أجمّعه فوق ربح ، حتى اذا بتّ قديرا وبات  هو وفيرا ، إغتنيت عن جوع وعلا شأني وصرت مقتدرا في تطوير مخططاتي وتجذيرها  .
طبقت اذا في أول عهدي بالسوق  نفس استراتيجيتي في  الصيد فنجحت . كانت أوقات العربدة في السوق لا تجذبني الى العمل ، دون أن تربكني أو تخيفني . كنت أدرك أن للهيجان هذا نهاية محتومة ، فأشحذ خنجري ، والقم بندقيتي ، وأتخذ وضعية التأهب الواجبة ، وأنتظر . كان يطول بي الإنتظار حينا ويقصر احيانا ، ولكن الظفر كان دوما من نصيبي ، وما اذكر أني خرجت من المعركة بجراح إلا في ما قلّ وندر ، وإن حصل فغالبا ما يكون نتيجة خطأ ارتكبته ، خطأ حتمته ضغوط نفسية او جسدية طارئة .
نعم أيها الاكارم ، ولّت الفترة التي تحكمت بي فيها التوترات النفسية ، والأزمات الوجدانية . صرت صيادا بارعا في غابة تنجو القلة من مزالقها . سرّ براعتي هو نجاحي في تحديد  هدفي ، وتوازن هذا الهدف مع قدرتي في كل مرحلة من مراحل عملي التي كنت أطورها بشكل متوازن معها . وكانت لي مرحلة صيد جديد مستقاة مبادئه من الفترة الاولى ومطورة بحسب قواعدها .
نُصحي لكل صيّاد يبغي في هذه الغابة صيدا أن يعي الخطر بنفس النسبة التي يطمع فيها بالربح .
نُصحي له أن يُحدد موضع الصيد والتوقيت المناسب له ، ثم أن يكمن بانتظار صفقة بعينها في لحظة بعينها يعرفها ، فلا يرضى عنها بديلا .
نُصحي له أن يكتفي في المرحلة الأولى لعمله بأرباح قليلة تقوي من عزيمته وثقته إن هي تتابعت ، وتصلّب من عزمه وتصميمه إن هي تجمعّت وتراكمت لتوفر ثروة صغيرة تكون منطلقا لتطوير الاستراتيجية وتحسبنها .
أقول لكل من أحسن تنظيم خطته واختيار شجرته وبناء مخبئه إن طيرا يقع على غصن عال للشجرة يسهل صيده وتُضمن إصابته ، وإن طيرا يغلّ بين الغصون قد يكون في مأمن إذ انه يكون محميا بالغصون . أقول : أطلق على كل طير مضمون بنسبة عالية واصرف النظر عما سواه .
أوصي كل من ورث مالا كثيرا وشاء أن يتاجر معنا أن يحرص على ماله الموروث باتباع نفس الخطوات في المراحل الأولى ، فيكتفي بالصغير من الطير ( القليل من الربح ) يصيده في أوقات هادئة محددة ايضا ، وأن لا ينسى أبدا أن وحوش هذه الغابة في جوع مستديم ، لا تشبع أبدا ، وهي قادرة على ابتلاع كل شيء ، والإجهاز على كل ثروة مهما عظُمت . الحلّ الوحيد برأيي لكل متعامل ( أو لكل مبتدئ على الأقل ) أن لا يعرّ ض نفسه بصدر مكشوف لأنياب الوحوش هذه وبراثنها.
 
هذه وصيتي ، حصاد زرعي  ، نتيجة  تجاربي ، جنى جهدي . 
هذه وصيتي ، حصيلة حرصي الدفين على أن  يفيد مَن أولاني الثقة من تجاربَ كانت لي دروسا لا أنسى منها كبيرا ولا أنسى صغيرا .
نصيحتي أخي : خذ بوصيتي ، تقِ نفسك شرّ العثرات .
 

 

 

ألني ثقتك , أصنعْ منك صيّاد صفقات ! (2) ا

ألني ثقتك , أصنعْ منك صيّاد صفقات !  (2) –  – 25th  April  2006

 

لقد فشلت خطتي , ولم افشل انا !

بنيت خطتي في البحث عن الحقيقة على التجسس ولم أفلح في بلوغها !

لم أشكّ ابدا في قدرتي على بلوغ مرادي !

سرّ نجاحي قام على عدم إقراري بفشلي , وإصراري على تحميل النتيجة التي وصلت اليها لخلل في الخطة التي اعتمدت ، وليس لي شخصيا .

أنا صممت الخطة الفاشلة  ، أنا أصمم غيرها .

لو أقريت بأني أنا الذي فشل لكانت النهاية المحتومة ، أقريت بفشل خطتي . وثقت بقدرتي على الانبعاث من جديد .  من هنا كانت بدايتي الجديدة . الحل بسيط : علي استبدال الخطة  أو تعديلها ، والبحث عن الطريق الأسلم للوصول الى الهدف المنشود . 

بدايتي الثانية ، انطلاقتي المتجددة بنيتها على ضرورة إعادة النظر في موضع الخلل الذي اعترى خطتي الاولى ، وهكذا كان .

لماذا فشلت خطتي الاولى ؟

أعتقد ، واميل الى التاكيد بان فشل المحاولة الاولى يعود لكون المنطلق انجرافا وراء مشاعر جياشة تدفع باتجاه البحث عن نصر ما ، وتضغط من أجل تسجيل نجاح ما ، بأية طريقة ، وبأي ثمن ، وبصرف النظر عن الأسلوب والوسيلة . هذا هو الفخ الخطير الذي يجب تحاشيه ، هذه هي الحفرة العميقة التي يجب التنبه لها .

خطتي الاولى كانت نسيج اندفاع وتسرع ، كانت نتيجة رغبة الحصول على نصر رخيص : التجسس على صاحبي .

التجسس على صاحبي  . بكلام لائق مخفف منمق : إستعارة شيء من عندياته ، إقتباس اكتشاف وفق اليه ، اقتراض فكرة من افكاره .

 لنكن صريحين :  التجسس على صاحبي يعني سرقة ملك له وصل اليه بجده وتعبه .

المرعى وفير ، والجو فسيح . النبع غزير ، والساحة تتسع للجميع . علامَ التحاسد والتصارع ؟

 

 

المشكلة على المشرحة ، الرحلة الى الحقيقة .

في كل مرة يسود فيها العقل ، يتحقق النصر .

 

انطلقت في رحلتي  الثانية للبحث عن الحقيقة من قناعة أولية  ثابتة لا مجال للتشكك فيها : إن صاحبي لا يصطاد الطيور طائرة بل على شجرة . هذا سر اقتصاده في عدد الطلقات .

علي اذا ان أن أبدأ مسيرة الحقيقة من هذه النقطة وليس من البحث عن آثار قدم أو بقايا طعام أو طلقات نارية فارغة . عليّ أن أبحث عن شجرة  ، عن شجرة في غابة ، عن شجرة في غابة كثيفة الشجر ، عن شجرة مميزة عن غيرها من الشجر ، عن شجرة يقع عليها الطير اختيارا  ولسبب ما لا يزال مجهولا لدي .

ألخطوة الصحيحة الأولى في مسيرتي نحو الحقيقة قد تمت .

علي أن أبحث عن مكان الصيد ليس بالتجسس على صاحبي بل على الطير .

علي ألا أقتفي آثار صاحبي ، بل آثار الطير .

ألخطوة الصحيحة الثانية في رسم درب الحقيقة قد تمت أيضا .

يا لغبطتي ! أنا ذكيَ ، ذكيّ جدا ، هكذا قيّمت نفشي في هذه اللحظات الحرجة .  .

 

هي حربي أنا ويجب أن أربحها بعدتي . مسموح لي أن أتمثل بصاحبي ، وليس مسموحا لي أن أسرق ما حققه هو . إذا لا بد من درس الأرض جيدا ، من طرح  الاحتمالات كلها ، من حذف غير المنطقية منها ، من تصنيف المنطقية الى عادية ومهمة وشديدة الأهمية ، من التعامل معها بأولوياتها . 

وهكذا كان . 

صعدت الى مرتفع يشرف على الغابة دون أن يكون بعيدا عنها . وقفت على صخرة وفرت لي فرصة مراقبة كل كبيرة والتدقيق  في كل صغيرة  ، مسحت الغابة كلها بناظري فماذا رأيت ؟

رأيت شجرة واحدة ، بدت لي مميزة ، لا شبيه لها في هذه الغابة المترامية . شجرة زعرور نبتت على أكَمة صغيرة وسط شجرات من السنديان والملول والشربين ، تفصل بينها شجيرات من البطم  والقندول والوزال ، تشابكت مع بعضها بحيث أنها باتت توفر ملجأ صالحا لمبيت الطير ليلا ان أخذته الوحشة ، وللفيء فيه نهارا ان اشتدت حرارة الشمس .

كانت شجرة الزعرور مميزة بموقعها بحيث انها علت ما سواها من شجر وشمخت فوقه ، وكانت كذلك مميزة بشكلها بحيث أنها خلت من الأوراق كليا ، وان أغصانها  تعرّت بحكمة حكيم إلا من بعض حبوب الزعرور ذات اللون الأحمر القاني . 

قلت – وفي نفسي فرحة المستشعر بالنصر ، المستبشر بطلائعه ، المبصر لمدلولات لا بد أن تصيب – إن لفي الأمر سر ، وقد تكون فيه ضالتي . أراقب حركة الطير ، وقد يفتح الله لي من المراقبة بابا .

 

راقبت حركة الطير ساعة ، أو ربما ساعتين ، او ربما أكثر . أمعنت النظر في كل تحرك ، مررت كل فكرة على غربال الشك المنهجي  والنقد الايجابي . انتهت الساعة ، أو ربما الساعتين ، فإذا بصرخة الإنتصار المؤكد : وجدتها ، وجدتها !

 

كانت طيور السمن المرقطة وبعض الشحارير السوداء تجول فوق الغابة عند وصولها باحثة عن مدرج سهل مناسب تقع عليه ، وكانت بمعظمها لا تجد من شجرة الزعرور أفضل ، ولا منها أسهل ، فتستريح عليها برهة من الزمن تقصر أو تطول ، تحدد خلالها مكانا تنتقل إليه في عبّ شجرة أخرى ضمن الدبشة المحيطة بشجرة الزعرور .

 

رجحت عندي كفة على أخرى ، وملت الى الظن بأن ضالتي قد وجدت . قررت الاستمرار بالمراقبة لمزيد من اليقين .

 

كانت الشمس قد مالت الى المغيب ، وكان وقت الصيد المفضل عند صاحبي قد دنا ، وقت الصيد المفضل هو وقت مبيت الطيور ، وقت صيد الطيور عند مبيتها . رأيت الرجل يقبل من بعيد ، ثم يدخل الغابة من طرفها الغربي على درب تتلوى بين شجرة وصخرة ، وترتفع على اكمة فتنخفض وسط منزلق . رايته يقبل من بعيد  ليغيب أخيرا وسط الادغال فتستحيل رؤيته أو تحديد وجهته إلا تقديرا وترجيحا .

إستمريت متسمرا في مكاني وفي رأسي فكرة أتتبع مدلولات بَناتها ، وفي يدي رأس خيط استرشد بوجهته . عيني على شجرة الزعرور ، وفكري على التقدير الذي ارغب في ان اراه وقد تحول الى يقين .

مر الربع الأول من الساعة التي قررت أن أستمر فيها في عملية الرصد والمراقبة  . لم يحمل لي الربعُ الاولُ جديدا . كاد الربعُ الثاني أن ينقضي ايضا . عيناي على الشجرة ، أعصابي مشدودة كأوتار ، أملي كبير وخوفي أكبر . هذا شحرور أسود يحوم فوق الغابة حومة ، ها هو يجنح مائلا الى اليسار ثم ينخفض تدريجا ويتجه الى شجرة الزعرور . ها هو يغطّ على غصن من أغصانها . في هذه اللحظة تنطلق طلقة من بندقية صيد . تنفست الصعداء . إقتربت خطوة من الهدف المرجو .

قررت الاستمرار في المراقبة . تسمرت عيناي على شجرة الزعرور أكثر فاكثر ، إنشدت أعصابي الى اوتارها أكثر فأكثر . مرت خمس دقائق أخرى ، جنح طير سمن مرقط قاصدا شجرة الزعرور . وطئت قدماه غصنا من أغصانها . إنطلقت طلقة من بندقية . تنفست الصعداء مرة جديدة . أنا في الطريق الصحيح .

مكثت في مكاني ما يزيد عن ساعتين  فصلتاني عن المغيب . رفرف خلال هذا الوقت  فوق شجرة الزعرور ، وغطّ عليها ، خمسة عشر طيرا من أحجام وأنواع مختلفة  .  إنطلقت في نفس هذا الوقت خمس عشرة طلقة من بندقية صيد .

كانت كل طلقة تتبع نزول كل طير بما يقارب الثانية وقتا .

كانت كل طلقة  تحمل لي تأكيدا لما كان ترجيحا ، فأطرب لها ، وأهنأ بها ، وأغبط نفسي على نجاحها  وأهنئها  على فلاحها  ، فتمتلكني أحاسيس كل ما يمكن أن يقال فيها إن الملوك كانوا ليحسدوني عليها لو انهم شعروا بمثلها .

نعم أيها الأكارم ، لقد نجحت في مخططي . كان نجاحي ثمرة لجهدي الفكري التحليلي المصيب .

كان من حقي أن أفخر بما حققت .

كان من حقي أن افرح لما حققت .

 إفرحوا لفرحي ، فالآتي  لا يقلّ أهمية عما مضى .

 

 

أمضيت أمسية ليلتي هذه وسط حالة من الرضا والهدوء جعلاني أبيت على تصميم بأن يكون لي في الصباح يوم عمل وبحث وتخطيط جديد لا يقل أهمية عن سابقه .

بتّ الآن على يقين تام بأن صاحبي يكمن للطيور ولا يجري وراءها .

بتّ الآن على يقين بأن الطيور تأتي الى صاحبي ، ولا يذهب هو اليها .

بتّ على يقين بأنه يرمي رميات واثقة على هدف حدده مسبقا ، وليس على ريح كيفما هبّت الريح  .

 لقد حددت المكان الذي يتواجد فيه صاحبي ، وعرفت الوسيلة التي يأنس اليها لتحقيق ظفره ( ربحه )  في كل يوم صيد . لقد حققت نصرا عظيما ولكن هذا النصر لم يفدْني الا بالمجال النظري حتى الآن ؛ شجرة الزعرور هي شجرة صاحبي . هي اكتشافه هو . هي نتيجة سعيه هو ، سأكون من الجبن والحقارة والتفاهة بما لا يتناسب مع مبادئي إن انا سابقته عليها أو نافسته فيها .

الجو فسيح ، والمرعى وفير ، والنبع غزير . الساحة تتسع للجميع ، علامَ التحاسد والتصارع ؟

 

 معركتي مع ذاتي مستمرة اذا ، ولا بد من سعي مستديم . الهدف لم يبلغ بعد .

 

الهدف يُختصر بضرورة أن تكون لي شجرة زعرور كما لصاحبي ، لا أن تكون لي شجرة صاحبي . الهدف هو أن اصطاد طيورا كما يفعل صاحبي ، لا أن اصطاد طيور صاحبي .

طلع علي الصباح فعززت نفسي بزاد قروي متواضع ، قوامه عدد من الارغفة ، أدامها قطعة من الجبنة البلدية البيضاء ، وعقدت العزم  أن أضيف اليها حفنة من الجرجار (حبوب الزيتون الشديدة النضج ) ، والتي كان علي أن أجمعها طازجة من كرم زيتون لا بد من ان اعبر وسطه وصولا الى الغابة التي جعلتها اليوم ايضا مقصدا لي وهدفا  .

بلغت الصخرة المشرفة على الغابة – والتي كنت قد حولتها في اليوم السابق الى برج للمراقبة –  قبيل طلوع الفجر . ومن عليائي عاودت مهمة المراقبة والرصد  .

 

مسحت الغابة مرة اخرى بناظري – هذه المرة بواسطة منظار صغير حملته معي لهذه الغاية – ، ثم عاودت مسحها مرة ومرة ، فرأيت .

رأيت على الناحية الشمالية منها شجرة تتوسط مجموعة من شجيرات قزِمة تقصرها قامة وتقلها شموخا ، شجيرات تحيط  بالشجرة الأم كما لو كانت خادمات أمينات لملكة نحل . هنّ يتحلقن حولها ، ويقمن على رعايتها ، دون أن تطمح واحدة منهن للتجرؤ عليها أو التمثل بما فيها .

 

قلت : هذه هي ضالتي ، وهذا هو مقصدي .

قصدت المكان فبلغته بعد ساعة من الجهد ، غير آبه بما كان يصيبني من  وخزات تخصني بها دبابيس شجيرات القندول دفاعا عن حصونها  ، وغير مكترث لجروح تتلقاها يداي من حجارة كنت استعين بنتوئها في تسلق حائط أو قفز فوق منحدر . 

بلغت الموقع فعمدت الى دراسة جهاته الاربعة ، وحددت الموضع الأفضل لتكوين مخبأ أرى الطيور منه ولا تراني الطيور فيه .  كوّرت المخبأ وسط شجيرات كثيفة أوراقها ، وموهت مدخله بجذوع مورقة جمعتها من المكان . جعلته فسيحا وعاليا بحيث يكون فيه متسعا للجلوس والوقوف والاضطجاع . كان الوقت قد جاوز الظهيرة فاسترحت ساعة تناولت فيها شيئا من المؤونة التي كنت قد حملتها معي ، ثم جلست محدقا في الشجرة العملاقة التي جعلتها مقصدي ، مترقبا سقوط أول طير عليها ، ممنيا النفس بالظفر به .

 

ربع ساعة اول . ربع ساعة آخر . جناحان يرفرفان فوق رأسي . غصن يهتز على الشجرة المرَاقبة . طير سمن ذكر عليه .

 رفعت بندقيتي بحذر . ثبتتها على كتفي . صوبت على الطير . كدت أن أطلق الطلقة ، عاود طير السمن انطلاقه ، لعله قد رآني . الطير عين وجناح .

كمدت غيظي . واسيت نفسي . قلت : خيرُها بغيرِها .

ربع ساعة أخرى تمر . جناحان آخران . غصن آخر يهتز. طير سمن جديد على الشجرة . يا لحظي ! يا لسعادتي ! لقد احسنت في اختيار المكان .

عاودت الحركة ذاتها ، أطلقت طلقتي ، لم أوفق بالاصابة ، طار الطير في نفس اللحظة التي ضغطت فيها على الزناد . نجا بنفسه وتركني فريسة مشاعر الغضب والندم . ليتني عجلت وأطلقت قبل ثانية واحدة . لو إني فعلت لما كانت جعبتي الآن فارغة .

غضبت وثرت ولعنت حظي العاثر. لم يكن من الهدوء بدّ . هدأت  وواسيت نفسي بما يرضيها ، وانتظرت فرصة جديدة ، يحدوني الأمل أن تكون على أفضل من سابقتيها .

جاءت الفرصة الجديدة  وجاءت عديدات بعدها . لم أفلح في بلوغ مرادي . لم أوفق في الفوز الا بطائرين من السمن بين ما يزيد على الاربعة عشر طائرا نزلت كلها على الشجرة . كانت الطيور تنجو بنفسها قبل أن أضغط على الزناد بجزء من الثانية فتذهب طلقتي سدى ، أو كانت تغادر الشجرة في اللحظة التي أثبت البندقية على كتفي وأهم بإطلاق النار .

طائران من أربعة عشر طيرا . صيدٌ غير وفير ، وكان من الممكن أن يكون وفيرا .

اثني عشر طيرا نجت ، اثنتي عشر نوبة غضب وانفعال وشتم وندم ، لم تفدني شيئا ، ولم تزدني إلا توترا وشللا إضافيا لقدراتي التحليلية المنتجة .

حل المساء وكان علي أن أغادر المكان ، ولو قدر لي الخيار لما غادرت . لو قدر لي الخيار لمكثت في مكاني حتى الصباح مشغوفا بما حققت حتى الآن من انجازات ، ومدفوعا بنعمة وُهبت لي جعلتني أكره الإنهزام ، فأسعى بكل قواي الى حل يرضي طموحي ، حلّ لكل مشكلة تعترض تحقيق واحد من أهدافي . كان علي أن أغادر المكان ، ولو لم أفعل لكانت أرجاء الغابة قد رددت بعد أقل من ساعة أصداء صوت والد مشغول البال ينادي على ابن  غرّ لم يبلغ العشرين بعد ، خافت عليه أمه من مكروه قد يكون أصابه ، في غابة لا يعلم الا الله ما يخبئ المجهول فيها من خفايا .

كان علي أن أغادر المكان ، فغادرته وجل اهتمامي منصبٌ على الحل المنشود ، فما وطئت قدماي منزل والدي إلا وقد بلغته .

امسكت الخيط من طرفه ، تبعت كل تحركاته ، بلغت آخره ، وجدت الحلّ . وجدت الحل بالتحليل والتدقيق والمقارنة والاستنتاج . وجدته بعيدا عن الانفعال والتوتر والعناد والتهور والاندفاع .

قلت في سري : لقد اصطاد صاحبي اليوم على شجرته خمسة عشر طيرا . لقد اصطدت أنا على شجرتي طيرين .

لقد نزل على شجرتي أربعة عشر طيرا ، ولو أني اصطدتها كلها لكنت قد حققت نتيجة مساوية بالضبط لنتيجة صاحبي .

لو كانت نسبة اصابات صاحبي كنسبة اصاباتي انا – اي 2 الى 14 – لوجب ان يكون قد نزل على شجرته ثمانية وتسعين طيرا ليظفر بخمسة عشر منها . ان هذا مستحيل لان مراقبتي لشجرته في ما مضى حسمت استحالة هذا الامر .

النتيجة اذا : نزلت على شجرة صاحبي طيور مساوية بالضبط للطيور التي نزلت على شجرتي . ولكنه فلح في اصطيادها كلها . فلح في ما فشلت به انا .

 اذا النصر الاول لي قد تحقق من حيث ايجاد الشجرة  وتحديد المكان المناسب .

الخلل يكمن في ما تبقى من تفاصيل . الخلل قد يكون في المكمن الذي أختبئ  فيه وهذا أمر مستحيل لاني عملت على تمويهه بحيث انه بدا لكل عين كناية عن شجيرات تشابكت أغصانها فكونت ما يشبه دبشة يصعب الدخول الى وسطها .

الخلل يكمن اذا في يدي اللتين لا بد ان تكونا أشد سرعة ، وفي تصويبي الذي لا بد أن يكون أكثر دقة ، وفي حركتي  التي لا بد أن تكون اكثر عياقة .

هنا صرخت مرة جديدة : وجدتها وجدتها !

لقد كانت صرختي هذه محقة ،  صرخة المنتصر الذي استحق نصرا ، لقد وجدتها فعلا ، وكنت جديرا بجني ثمار ما وجدت .

الطير كما السوق تماما : عين وجناح .

عين يستكشف بها وجناح ينجو به .

انطلقت من هذه القاعدة لحل اللغز فماذا وجدت ؟

الطيور لا تنزل على الشجرة التي أكمن لهم تحتها للمبيت فيها بل يتخذونها خطوة اولى للانتقال الى مخبأ أكثر امانا ، فهي اذا تتخذها ممرا وليس مستقرا .

لحظة نزولها تعمد الى مسح المحيط المرئي بعينها الثاقبة يمنة ويسرة ، ولا بد انها ترى اية حركة حتى رفع البندقية بتؤدة وترو فائقين . هي ترى فتعمد الى الهرب قبل ان تبلغ البندقية الكتف أو قبل الضغط على الزناد .

الحل اذا ؟

يجب رفع البندقية الى الكتف في الفترة التي يكون الطير لا يزال بعيدا مترا او مترين عن الغصن الذي يهم بالنزول عليه . في هذه اللحظة تكون عين الطير مصوبة بشكل تام على الغصن وتكون حواسه مركزة على عملية الهبوط بنجاح ، فتنطلي عليه الخدعة ، وتمر الحيلة ،  في وقت لا يستطيع التفكير  بامكانية وجودها ، ويسهل تحقيق ( الربح )  والوصول الى ( الهدف ) بسهولة ندرت مثيلتها . 

يجب أن يتم الضغط على الزناد في اللحظة ذاتها التي يوشك فيها الطير أن يمسك غصن الشجرة باصابع قدميه ليثبت عليها ، ومع آخر رفة لجناحيه انتقالا للاتكال على قدميه . في هذه اللحظة تكون حركة الطير قد هدات ، وتكون قدماه قد لامست الغصن او كادت ، ويكون قد صار في وضع ثابت او كاد ، ويكون ثقل جسمه لا يزال بعهدة جناحيه أو يكاد . في هذه اللحظة بالذات ،  لحظة تسليم ثقل الجسم من الجناحين الى القدمين ؛ في هذه الوضعية بالذات ، وضعية التسلّم والتسليم بين الجناحين والقدمين ، النجاح مضمون مئة بالمئة .

 

هكذا عمدت الى تحليل الامر ، وهكذا وصلت الى الحقيقة الدامغة : صاحبي يحقق النجاح بهذه الوسيلة وانا ساحقق نفس النجاح ان شاء الله لي ذلك .

 

اليوم التالي : نجاح باهر .

ماذا كان في اليوم التالي ؟

ماذا أفدت من تجربتي ؟

هذا ما سياتي في الفصل القادم ، ان منّ الله علينا بقوة كافية للسرد والتفصيل ، وله الشكر على كل ما يكون قد من به علينا .

 

 

 

 

ألني ثقتك , أصنعْ منك صيّاد صفقات ! (1) ا

ألني ثقتك , أصنعْ منك صيّاد صفقات !  (1) –  – 16th  March 2006

 

ومن منا ان قارب الستين لا يحنّ الى عهد الشباب !

انا أفتقده في كل يوم ، ويزيد افتقادي له مع كل غياب شمس , أرجو ان يعود مع كل إطلالة فجر .

للشباب روعة ، وله مذاق , وله بهاء , وله نقاء ,  وله فتنة , لا يدرك قيمتها إلا الكهول .

 يا لروعته – الشباب – ان طغى فيه السعي على الكسل !

 يا لفتنته – الشباب – ان كان كلّه , أو جلّه ، بناء وجنى !

 

تلك الأيام الحلوة التي كانت لا تعرف فشلا إلا لتتكلل بعده  بنجاحات . تلك الأيام الساحرة المصطبغة بأرجوان انتصارات ما تحققت الا اغتصابا للحقيقة , والحقيقة إن نجحت في اغتصابها تنسكبُ على قدميك سائلا أرجوانيا دافئا ، غيرُ عينك وغيرُ فؤادك لا تبصرُه عين ولا يشعرُ به فؤاد .

نعم أيها الأكارم , كل واحد منكم  مدعو لفعل اختراق نوراني لغشاء الحقيقة النوراني ؛ وإن تمّ فعل الإختراق  فقد تكشف الأفق النوراني ،  وإذا بك لا ترتضي العيش مع ذاتك جريحَ الفشل , أسيرَ الخيبة ؛ ولكن فارسا مقداما , راجيا أن تغلبهما على الدوام , قادرا أن تغلبهما في غالب الأحيان .

نعم أيها الأكارم , ألوني ثقتكم , وأنا صانع منكم صيادين مهرة !

نعم أيها الأفاضل , انا لا أنظم شعرا , حتى ولو تجلببت أفكاري بالمختوم من الكلام .

 

أيام الشباب التي ذكرت أفقدتنا الكثيرَ من رونقها أيامُ الحرب . الحرب التي لعبها هواة حمقى في أواسط السبعينات في لبنان . حرب لبنان عرفنا يوم اندلاعها أنها عبثية عاهرة , عرفنا أنها تفتقر لشرف يجب ان يتوفر لكل حرب لتستحق أن تخاض بإسم وطن أو من أجل شعب . عرفنا ذلك , وخالفنا بقدر استطاعتنا أن نخالف مَن خاضوها من أصحاب وخلان وأحبة , إتهٍمنا وعُيّرنا وطورِدنا  وخوِننا وحوصِرنا . كل ذلك لأننا رفضنا ال ” نعم ” لحرب سخيفة قذرة ملوثة . وها هم اليوم فرسان تلك الحرب يطأطئون الرؤوس :  ” لقد اخطأنا يوم تقاتلنا ” ، هكذا نسمعهم يصرحون .

 

إندلعت الحرب قبيل منتصف العام 1975 , وكانت بدايتها في بيروت , فما كان منا إلا الإنكفاء عنها واللجوء إلى ريفنا الذي ما أحببت شيئا في الأرض مقدار حبي له  .

 وفي ريفنا  ترابٌ تفوح منه رائحة من المسك أعطر , ترابٌ ينسيك زفت بيروت .

 وفيه صخرٌ وجبلٌ وتلة ومنحدرٌ ومُتسلقٌ ومُنبسطٌ  وواد .

 وفي ريفنا أحراجٌ مدروزة شجرا من كل صنف ونوع .

 وفي ريفنا بساتينٌ مغروسة شجرا من كل ما لذّ وطاب .

 وفي ريفنا نبعٌ وسبيلُ ماء يسمونه عينا , وفيه ساقيةٌ ,  ونهيرٌ يسمونه نهرا .

وفي ريفنا سنونوة تحمل إليك بشائرَ الربيع , وديكٌ بشارة النهار . 

وفي ريفنا طيرٌ مهاجرٌ وطيرٌ مقيم .

وفي ريفنا – ولعلها أخير وأطهر ما فيه – فلاحة , حَرَمُ فلاح , وبنت فلاح . سرقت الحرب ابنها , أو سرقته المدينة , أو سرقه البحر . ما عاد ابنها فلاحا . خسرته الأرض . 

وفي ريفنا – ولعله أكبر وأشرف ما فيه –  فلاحٌ يزمجرُ كأسد ويأبى كنسر . هو , هو وحده يملك حق اغتصاب الارض وسره ؛ وهي , بقدرة قادر , تسلّم ذاتها وتكشف ثدييها, بكل ما فيهما من جمال واكتمال ؛ وهو , هو بما يشبه عفافا ألوهيا , يتدحرج بينهما كملهَم , غير مبصر سوى عضوي غذاء ونبعي خير وبركة , فإذا هو يغفو في حضن التراب مع كل ربيع , ولا يملك إلا ان يتجدد بأفواج متكررة من الاحلام .

أيها الأكارمُ . إن – أو لو – أعطيتم ريفا كما أعطينا , أكان يمكن لقلوبكم إلا أن تهيمَ به حبا ؟

نحن , أحببنا ريفنا وانكفأنا إليه يوم طُردنا  – أو هربنا – من بيروت , انا لا أجد فارقا بين الحالتين , فقد تنازلنا عنها يومها للمتحاربين – أو قل للمتناحرين المتذابحين – الذين يسمون أنفسهم أخوة . وهناك الى اهتمامنا  بالحقل والكتاب والصحيفة اليومية ونشرة الأخبار المسائية ، أخذنا الصيد , فكانت به متعتنا المُثلى .

موسم صيد السّمّن في لبنان يبدأ في أواسط التشارين ويمتد الى أواخر الكوانين , تتدفق فيه أفواج الطير عابرة للبحر الأبيض المتوسط سعيا الى الدفء والغذاء الذي تجده أكثر ما تجده في أشجار الزيتون التي تكون  قد أنضجت ثمارها – وبكم من المجهود والصبر  –  وحان قطافها , بعد أن اختزنت هذه الأخيرة أكبر قدر ممكن من الزيت .

كان طير السّمّن مفتونا إذا بحصوص الزيتون المستوية اليانعة ألبابه يتلذذ بطعمها , وكنا نحن مجموعة من الصيادين من مختلف الأعمار مفتونين بطير السّمّن المدهِنة مؤخرته المكتنزة صدوره نتسابق الى صيده . وفي صيد طير السّمّن كان لواحدنا طريقته وللآخر استراتيجيته , لواحدنا خطته وللآخر مدرسته . فحين يفضل البعض الجري في الأحراش سعيا وراء ما قد يصادفه في طريقه من طير على غصن أو فوق صخرة , كان البعض الآخر يؤثر الوقوف في مكان مشرف على وادٍ سحيق تعلوه بساتين الزيتون راسما استراتيجيته على أساس أن جماعات الطير لا بد لها أن تخرج في الصباح من مكان مبيتها في الأحراش الى البساتين سعيا الى الغذاء فيكون هو لها في المرصاد ان مرّت تجهد في الطيران صعودا في مرمى بندقيته .

وكان بيننا في تلك الفترة رجلا جاوز الستين  , وكان الى مجاوزته لنا عمرا قد جاوزنا أيضا  حنكة وتبصرا مما أهله لأن يكون لنا مرشدا وموجها . كان الرجلُ  يرافقنا كل يوم من الضيعة التي نسكنها , ولكنه يفارقنا عند وصولنا الى باب الغابة خلسة , أو قل تسللا , متعمدا ألا يثير ضجة , حريصا على ألا يستدعي انسحابُه سؤالا مُحرجا من أحدنا عن المكان الذي يقصده . والحقّ يقال أن واحدا منا , نحن الشبان الأغرار غير المحنكين  كفاية في الحياة , غيرالمجربين كفاية في الصيد , لم يرَ في طريقة انصراف الرجل غرابة , ولم تثره طريقة افتراقه كل يوم عن المجموعة في نفس المكان سالكا نفس الوجهة , كما لم تثره وفرة الطيور التي كان يعود بها , ظنا منا أنها نتيجة طبيعية للهالة التي كانت تحيط بصاحبنا بحكم سنه وخبرته .

ولكن الأمر تكرر وطال وما عاد يقع في نفسي موقع التصديق والاستساغة , وما عدت أصدق أن الأمر نتيجة شطارة فقط ,  ففي حين كان يطلق كبيرنا  بين عشرة وخمس عشرة طلقة ليعود بعشر الى خمسة عشر طيرا ,كنا كلنا مجتمعين – وكان عددنا يزيد أحيانا على خمسة شبان – نطلق ما يزيد على مئتي طلقة لنعود بما يقل عن عشر طيور . لا بد من أن يكون في الأمر سرّ , ثارت فيّ حشرية البحث والتدقيق , فقررت أن أتجسس على رفيقنا بحثا عن السرّ الذي تقصّد إخفاءه عنا .

اتخذت قرار التجسس  مساء يوم غنم فيه صاحبنا ضعف ما غنمناه مجتمعين , فما غمض لي جفن في تلك الليلة ولا هدأ لي بال , وأنا من ذلك الصنف العنيد الذي إن استقر قراره على شيء يصعب عليه ألا يناله . إنتظرت الصباح وما ان بدأت عساكر العتمة بالانهزام وطلائع الضوء بالظهور, حتى كنت في طريقي الى الغابة , هدفي البحث عن أثر ما ,  والتدقيق في دليل ما ,  والتحليل لمعطيات ما قد أقع عليها وتكون كفيلة بإرشادي  الى ضالتي ووضع حد لتساؤلاتي .

انطلقت في مهمتي التي انتدبت نفسي لها , وبدأت بتنفيذ خطة أمضت مخيلتي الليل بكامله في رسمها . عليّ أن أبحث عن كومة من الطلقات الفارغة يكون صاحبي قد تركها في مكان ما يكمن أو يقف فيه . عليّ أن أبحث عن مكان أزيلت منه نباتات شوكية مزعجة ليتسنى للصياد أن يتحرك فيه براحة  وهدوء . علي أن أبحث عن رماد خلفته نار قد يكون مريدنا أوقدها ليدفأ في يوم بارد غابت شمسه . علي أن أبحث عن معلبات بلاستيكية او معدنية قد يكون الرجل تناول غذاءه منها وخلّفها وراءه . علي أن أبحث عن آثار حذاء تسلق كان صاحبنا ينتعله .

انطلقت في مهمتي , وبحثت عن كل ما سبق تعدادُه , لكني فشلت في العثور على أثر يفيدُني , فالرجل كان من الدهاة , لعله يكون قد أزال عن عمد وتصميم كل الآثار التي يمكن ان تفضح سرّه . كدت أن أيأس من إمكانية النجاح لولا فكرة ( ذكية) خطرت لي وكان فيها بارقة أمل . عملت بموجبها . بحثت وبحثت , حللت ودققت , رسمت وحذفت .  وجدت ضالتي . وكان لي في ما وجدته تجربة وأمثولة أفادتني كثيرا في عملي في السوق في ما بعد , بحيث أن واحدة من أفضل استراتيجيات العمل فيه قستها عليها واستنبطتها منها  . .

نتيجة تجسسي على صاحبي الذي كان يكبرني سنا ويفوقني حنكة , كما بند مهم من بنود خطتي التي قستها عليها لأطبقها في فتح الصفقات , سوف لن أخفيها عنكم أيها الأكارم – كما فعل كبيرنا معنا – ولكنها تأتي في الحلقة التالية التي أرجو وآملُ أن يكون موعد نشرها قريبا .  

 

البورصة : للنخبة أم للجميع ؟ ( 2 ) ا

البورصة : للنخبة أم للجميع ؟ ( 2 ) –  – 16th  February 2006

 

البورصة اذا ليست لكل من دفعه التوق اليها ، هي تصد الكثيرين وتفتح لغيرهم ذراعيها .

فئة معينة هي التي تفلح في الوصول الى المُراد ، سمّها ما شئت . هي النخبة من بين المتقدمين ، هي صفوة الراغبين ، هي خلاصة التواقين .
المهم هو أن هذه الفئة تميزت عن غيرها بامتلاكها عنصرين اثنين ، يكوّنان شروط النجاح ، ويؤمّنان تحقيقه إن هما توفرا . عنيت بهما المعرفة والقدرة .
هناك بين الراغبين من يعرف كيف يحقق النجاح ، ولكنه للأسف لا يستطيع . يرى الربح على قاب قوسين منه ، ولا يبلغ منه شيئا .
هناك بينهم من يمتلك الإستطاعة بما توفر له من قدرات نفسية ضرورية ، ولكنه للأسف لا يعرف كيف يبلغ الربح .
هناك طبعا من الراغبين من لا يعرف كيف يبلغ الربح ولا يستطيع تحقيقه فيما لو قدر له أن يعرف .
فقط تحقق الربح فئة أكاد أن أجزمَ بأنها تقل عن نصف أعداد المتقدمين ، هي التي (تعرف كيف ) و ( تستطيع أن ) . هي النخبة التي لا بد من الانتساب اليها قبل اكتساب حق الدخول الى ناديها !
 
هل يمكن أن أصير من النخبة وكيف  ؟
بدون تردد ، وبثقة وصدق تامّين ، أؤمن بأن من أراد استطاع . وإن كان الدربُ مسلكه وعر ،  تسلق قممه شاق ، حجارته الصوّانية تدمي القدمين .  
المعرفة لا بد منها كخطوة اولى .
ثمة معارف ضرورية لا بد من توفيرها بالدرجة الأولى لكل من أراد أن يدخل الى رحاب هذا العالم : فهم المبادئ الاساسية للفوركس أو للبورصة بشكل عام ، التعرف الى آلية العمل ، طريقة البيع والشراء ، التعرف الى برنامج التعامل ، التدرب على استعماله ، إجراء الكثير من الصفقات الوهمية للتمرس على معايشة البرنامج وفهم كل أسرار عمله .
بعد التعرف على البرنامج يبرز سؤال مهم فارضا نفسه على كل راغب في هذا العمل : ألآن أنا أعرف آلية إجراء الصفقات ، لكن عقبة جديدة تقف في طريقي . متى عليّ أن أبيع أو أشتري ؟
إن عمليات البيع والشراء هي نتيجة لعملية تحليل للسوق ، يكون بدوره نتيجة للتعرف على فن التحليل التقني الذي يحتاج اتقانه للتعرف على مبادئ مرتكز اليها وهي كثيرة ، ثم بالتالي الى الكثير من الخبرة  من أجل إتقانه واكتساب القدرة على إصدار أحكام تغلب فيها النتيجة الصائبة على المخطئة . إن درس مبادئ التحليل التقني والتعرف الى كل فصوله وفنونه ليس بالامر المستسهل لكثرة تشعباته ووفرة المؤشرات المستعملة فيه ، لذلك نرى البعض يكتفي بدراسة بعض منها ويعمل على تطبيقها بحيث اننا نسمع من يقول : أنا اعمل فقط على هذا المؤشر ، أو على ذاك ، وأستخلص منه ما يفيدني في اتخاذ القرار .
إن درس مبادئ التحليل التقني هو أمر مهم  وضروري لكل من أراد الوصول الى مرحلة استصدار الأحكام والاستقلالية التامة في عمله ، ولكنه من الضروري الاشارة الى ان دراسة هذه المعطيات ليست الا خطوة أولية على درب طويل يجب سلوكه لبلوغ مرحلة اصدار الأحكام الصائبة . هذا الدرب اسمه الخبرة والممارسة .
درب طويل . وهل يعني ذلك أن كل متعامل مبتدئ يتوجب عليه أن ينتظر سنوات وسنوات ليتمكن من اكتساب هذه الخبرة  كوسيلة لتحقيق نجاح ؟
هنا لا بد من الإقرار بأن الاعتماد على التحاليل الصادرة عن خبراء موثوقين والإفادة منها كوسيلة داعمة للمعلومات ومثبتة للخبرة يمكن ان يكون الحل الأسلم في المرحلة الاولى   .
من جهة أخرى لا بد من الاشارة الى ان التحليل التقني والعمل عليه رغم اعتماده من قبل فئة لا يُستهان بها من المتعاملين دون غيره من السبل ، يحتمل أيضا بعض التشكك في مراحل معينة من مراحل العمل ، إذ غالبا ما نشهد كسرا لكل نتائجه المنطقية بنتائج بيانات اقتصادية ، أو بإعلان عن خبر مستجد على الساحة السياسية او غيرها ، فإذا الموازين تنقلب فتتعطل مفاعيل التحليل التقني ، لتحل مكانها مفاهيم أخرى خاضعة فقط للتأثيرات التي تركها هذا الخبر في نفوس جمهرة المتعاملين ، وإذا النتيجة تنعكس هلعا  وهروبا من السوق ، أو رغبة وإقبالا جنونيا عليه .
بناء على كل ما تقدم فإن القرار الأفضل والرأي الأرجح يكون باعتماد الوسيلتين مندمجتين متلازمتين . عنيت بكلامي : التحليل التقني ومتابعة الاخبار المستجدة بالسرعة والدقة الممكنة ، ومحاولة تحليلها واستصدار الحكم المناسب المتعلق بانعكاسها على السوق ، لبناء الخطة المناسبة انطلاقا من التحليلين بشكل متواز ( التحليل التقني + تأثير الأخبار والبيانات عليه ) . هاتين الوسيلتين الضروريتين لتسهيل النجاح – عنيت خلاصة التحاليل التقنية المتجددة والاخبار المؤثرة المستجدة –  هي ما نعمل على توفيرها مساعدة لكل من يرغب أن يخطو خطواته الاولى في هذا الدرب ، سعيا الى تحقيق نجاحات توصل فيما بعد الى الاستقلالية التامة في العمل .
 
علم التطبيق الناتج عن مرحلة اكتساب المعرفة .
والآن ؟
امتلكت المعرفة ، أو تلقيتها من صاحب خبرة . هل تحققت الشروط اللازمة لتحقيق النجاح ؟ هل يتم تصنيفي من اهل النخبة ؟
قطعا لا .
لا بد من التنبه الى المعادلة التي تبنى عليها التجارة في البورصة : هي علم التطبيق الناتج والتابع لمرحلة اكتساب المعرفة .
أنتسبُ الى النخبة إن انا نجحت في تحويل المعرفة الى ربح . لكي يتيسر لي ذلك  يجب علي أن ألتفت الى الناحية النفسية المعنوية المكونة لشخصيتي فأسهرً على بنائها لترتفعً وأرتفع معها الى ما فوق التصرف الغريزي المدمر .
 
ا –  لا يحق لي أن ألجأ للرد على الإساءة بالثأر . وإن كنت من الفئة التي تستسلم فورا في حياتها الخاصة وعلاقاتها الاجتماعية الى مشاعر الانتقام تنفيسا لكل غضب وإخمادا لكل ثورة متأتية من ضرر لحق بها من خصم أو عدو ، فعلي أن أسعى وبكل جهد لتهذيب هذه الطباع وتخريجها من دائرة الانغلاق المدمر في عتمة هذه المشاعر الغرائزية المعتمة .
أنا لا أقول ما أقول رغبة في التحول الى جو الإصلاح الإجتماعي الرحب –  على كِبَر وعِظم  هذه المهمة – بل لما تحتويه هذه الملاحظة من أهمية في حياة التاجر في أسواق المال . لطالما سمعت استغاثة من ملدوغ في السوق يصرخ الي بانفعال  عميق وحرقة مؤثرة : أشر عليّ بشيء ، لقد ظلمني السوق وأبغي الثأر منه .
وها أنذا أقولها بكل وضوح وشفافية . ما ازعجني كلام سمعته من متعامل بمقدار ما أزعجني هذا الكلام . وما أشفقت يوما على محدث من محدثيّ بمقدار شفقتي على ناطق بهذا الكلام . أشفقت عليه لعلمي المسبق بانه خاسر في ثأره وانتقامه ، كما كان خاسرا في منازلته الاولى .
فليعلم كل مناضل في هذا السوق ان النضال فيه سياسي فقط ، وفقط سياسي . كل الاسلحة الدبلوماسية مباحة ، لكن مجرد التفكير بالحرب تعني الخسارة . السوق دوما على حق . الغلبة له دوما بمجرد التفكير بمخاصمته .
عرفت الكثيرين من الذين خسروا أرصدتهم العالية في يوم واحد . البدايةكانت بصفقة خاسرة . التالية كانت انتقاما للأولى . الثالثة كانت ثأرا للثانية وبعقود أكثر ليغسل الثأر بعضا من دماء الصفقة الأولى . أما الرابعة فكانت صفقة الاستسلام النهائي المخزي . عرفت الكثيرين من هؤلاء ، أسديت النصح لكل من عرفتهم ، سمع البعض ونجا ، إستسلم البعض لغريزة الثأر والانتقام ممن جعلوا منه خصما لئيما غدارا قهارا لا يسهل سحقه ، والنتيجة كانت محتومة لجميعهم .
أسفي عليهم جميعا ، أسفي ومرارتي على من أحببت منهم .
هنا لا أنصاف حلول ، إما أن أكون نخبويا ، أو لا أكون !
هكذا نبهت الكثرة ، وهكذا أنبهكم !
 
ب – لا يحق لي أن أكون غضوبا . وإن كنت  في حياتي الخاصة سريع الغضب ، فوّار الدماء ، فعلي أن أسعى بكل جهدي ، وأعمل بكل قوتي ، إلى تليين طباعي وتهدئة اندفاع إنفعالاتي ، قبل أن أباشر عملا مع شريك – السوق شريكي – لا يمكن أن يتعايش مع غضوب ثائر قهار .
 الغضب لا ينتج عنه إلا قرارا خاطئا ، هذا في حياتنا الخاصة . كيف اذا في سوق المال الذي يتطلب الكثير الكثير من الاناة والتؤدة والتروي ؟
 في هذا المكان الغضب حق حصري  للسوق فقط .
الثورة شيمة مرصودة للسوق فقط .
القهر خلق معقود للسوق فقط .
حذار من التعدي على ما يعرف السوق انه له ! وإن غضب السوق أو ثار ، حذار من التصدي له، إلزم الحذر والصمت والمراقبة ، إلى أن تنجلي العاصفة .
هكذا تفعل النخبة !
بهذا أشرت على الكثيرين ، وبهذا أشير عليكم !
 
ج –  لا يحق لي أن أكون طامعا ، يجب أن أكون طامحا . والفارق كبير بين الحالتين .
ما عرفت طامعا بالربح وقد ربح . مصير صفقاته الخسارة ، لا للعنة حلّت عليه أو عليها ، بل لخطأ في المنطلق وعلّة في التخطيط . الطماع رجل يسعى الى ما ليس له ، والسوق لا يعطيك إلا ما هو لك . الكلام ليس مبهما اخي الراغب ، هو واضح كلّ الوضوح . تبصّر به معي وستنجلي لك الحقيقة بشموسها .
الطمع شعور شيطاني وفعل جهنمي مدمر للتفكر وللتبصر وللتروي . هو لا يؤدي إلا الى طغيان الانفعالات ، ولا يثمر الا تسرعا مدمرا . الطموح فعل مبارك تنمو به القدرات الفكرية فتزهر وتثمر صوابا وصحة أحكام .
الطمّاع في الحياة ينظر بعين الحاسد الفارغة ، فيقع حيث لا يدري . الطمّاع في السوق يربح  ويريد أكثر ، فإذا هو يضيّع ما كان ربحا . الطمّاع في السوق مهووس بتحقيق الربح غير ساع اليه ، مهووس به ولا يبلغ المهووس مراده إلا في ما ندر . الطمّاع متسرع في كل شيء ، في تخطيطه للقرار تراه متسرعا  ، في اتخاذه للقرار تلقاه مغمضا ، في تعديله للقرار خشية ، في تراجعه عن القرار  ندما .
وهل يصدق مخلوق عاقل أن متسرعا  مغفلا نادما خاش قد أصاب يوما نجاحا . أصدقكم القول : أنا ما عرفت .
الطامح راض بقسمة الله له . الطامح لا يقول إلا هذا نصيبي ، آكل من خير ربي وأدع لغيري ما يصيبه أيضا . الطامح لا يفتح صفقته لانه يريد ، أو لأنه يجب ، أو لأنه لا بد ، أو لانه يصمم على   تحقيق الربح . هو يفتح صفقته داعيا ربّه أن يخصه بقسط من الربح ، ويرضى بما يحققه منه ، حتى ولو حققت الصفقة التي كان يحملها  مئات النقاط بعد أن يكون قد جنى  حصته منها . ما سمعته الا قائلا : لغيري أيضا الحق بان يصيب مقدارا . الطامح غالبا ما يربح شيئا  .
 أنا اعرف ذلك ، وأنا أصدقكم القول : النخبوي طامح  وما من نخبة تقرّ بالطمع منهجا لسلوكها .
بهذه الحقيقة واجهت الكثيرين ، وبها أواجهكم !
 
د – لا يحق لي بأن ارى العنزة وقد طارت ، وأستمر بالإصرار على كونها عنزة . علي بالإعتراف انها طائر . ألإعتراف أسلم وأرقى وأسهل من الإثبات أو الإقناع  بأن هناك من بين الماعز ما يطير . هذا قانون مهم في نادي النخبويين .
ألإعتراف بالخطأ مدرج للعودة عنه وتجنب المزيد من الخسائر . ألإعتراف بالخطأ هو الشرط الأساسي لعدم الوقوع به مرة جديدة .
إقفال صفقة مفتوحة بعد تكشف الخطأ في فتحها ، هو تنفيذ لقرار شجاع عاقل موضوعي وعقلاني . تعليق إقفال صفقة  عنادا وتشبثا يتضمن الخطر الذي يمكن ان يكون هائلا ومدمرا .
ما كها تكون النخبة .
 
 
 
ه – الموضوعية ، الروح العلمية ، البحث عن الطريق الصواب ، التحليل والمقارنة ،  صفات نخبوية لا يصح التقليل من أهميتها .
 تعنيني قضايا سياسية معاصرة كثيرة ، هي مطروحة حاليا كما كانت غيرها مطروحة سابقا في وقت ما . قد أؤيد رأيا يتبناه حزب أو زعيم أو فريق . أؤيد رأي الزعيم أو الرئيس ، ولا أؤيد الزعيم أو الرئيس . إن انزلقت الى الخلط بين الاثنين فقد شذذت عن طريق النخبة وعلي أن أصحح المسير .
 خلطي بين الحالتين يعني خروجي عن شرط الموضوعية ، والروح العلمية ، والتحليل العقلي المجرد .
لا يحق لي أن اعاند . السوق لا يُعاند . ليكن شريكي ولو لدودا .
الخروج عن هذه الشروط تعني  الخروج من ناد اسمه : نادي النخبة .
هذا هو الدرب الذي سلكت ، وعليه ادلكم !
 
 
و – الانتماء للنخبة يعني : لا للانتماء الى  فريق القطعان الهالعة والراغبة .
القطعان !
هم لا يركضون الا سوية ، لا يعرفون الى أين ، ويجهلون السبب . تكفي إثارة إشاعة ما ، سلبية أو إيجابية ، لينطلق القطيع .
ألقطيع ليس النخبة . يأتي الشيء ولا يعرف سبب إتيانه له . أما لاحظت مرة اندفاع السوق بشكل جنوني صعودا ولو نزولا ؟ أما سبق لك وتساءلت عن السبب ؟ أما تحسرت على عدم مشاركتك في الجري الحاصل ؟ أما قفزت مرة الى القطار المسرع فحققت ربحا كبيرا ؟ أما جربت مرة ثانية ووقعت من القطار مهشما ؟
أخي المتعامل لا تندم ، ولا تتحسر على عدم وجودك في سوق يجري بجنون . لا تندم على ذلك ولا تجرب البتة القفز الى قطار مسرع . سلامتك هي المطلوبة . إن ربحا يتحقق في مثل هذه الصفقات وتحت هذه الظروف ليس ربح الشاطر ولا ربح الشجاع ، إن هو إلا ربح الظروف التي آتت ، والظروف لا تؤاتي في مرة لتعود فتعاكس في أخرى .  
ربح النخبة لا يكون بهذه الطريقة .
هكذا علمت من احببت ، وهكذا اعلمكم !
 
أخي القارئ : ثق بما أسره لك !
النجاح في عالم المال هذا هو لنخبة منتقاة .
لا تجزع . بمقدورك أن تدخل هذا النادي .
نصيحتي لك : حتى لا يرفض طلبك بالانتساب اليه ، فتصب بالصدمة المدمرة ، جهّز نفسك ، تأبط قوس المعرفة مرفقا ببعض السّهام . وهذا ليس إلا خطوة أولى .
إلتفت إلى طباعك ، هذبها ، شذب ما بَطل فيها ، إبنٍ شخصية التاجر الأديب .
ثم بعزم الشجعان لا تطرق الباب . أدخل ، ونحن بك مرحبين !

 

 

 

البورصة : للنخبة أم للجميع ؟ ( 1 ) ا

البورصة : للنخبة أم للجميع ؟ ( 1 ) –  – 20th  January 2006

 

وعدت منذ فترة غير وجيزة قراء موقع ” بورصة إنفو ” بالاجابة عن هذا السؤال ، وكنت في كل مرة أفكر فيه أؤثر التأجيل ، ليس فقط رغبة في تقديم ما هو أكثر أهمية ، بل أيضا رغبة عن ولوج باب يودي بطارقه الى شعاب قد تكثر من خصومه .

أنا أعرف جيدا أن مقدمي خدمة التجارة في البورصة وفي سوق العملات ( الفوركس ) – أو أكثرهم على الأقل –  يعملون على إقناع كل من يصادفون في طريقهم للإقبال على هذه التجارة ، وإغرائه بكونها أفضل أنواع التجارة على الإطلاق ، وإن هم أبرزوا المخاطر فإنما خضوعا لأحكام القانون ، لا غيرة على مصلحة العميل .

أنا اعرف أن بعض هذه الشركات باتت تستعمل خبراء في الدعاية لتعريف أوسع جمهور ممكن على مبادئ هذه التجارة ، فإذا بهم يسمونها مصلحة ، ويبرزون سهولة تعلمها ، وسهولة ممارستها ، وسهولة الربح فيها . وإن هم توقفوا في برامجهم الدعائية لفاصل إعلاني ، فالفاصل هو في معظم الأحيان سلعة لا بد من تحقيق ثروة لشرائها ، مثل سيارة رياضية أو شقة فخمة في حي راق . هذا جزء من الطُعم بحيث ان الاقناع يصير سهلا : انت تمتلك مبلغا صغيرا من المال . لشراء السيارة أو الشقة ، أنت تحتاج لمبلغ كبير . ألمبلغ الكبير لا يمكن تكوينه الا من التعامل في البورصة إنطلاقا من المبلغ الصغير . نحن نعلمك وندربك على الطريقة ؛ يقول مقدم الدعاية .

إن ما ينقص هؤلاء المروجين في كلامهم هي كلمة صغيرة اسمها ” قد ” .

هم يقولون : نحن نعلمك مصلحة تستطيع منها تكوين ثروة .

كان عليهم أن يقولوا : قد تستطيع منها تكوين ثروة .

ولو قالوا ، لانخفض مباشرة عدد الزبائن الى النصف ، وكانت لتكون كارثة بالنسبة لهم.

هؤلاء قوم محنكون ، يعرفون موضع الوتر الحساس ، فيتعمدون الضرب عليه . أسمعهم فأفكر مباشرة بمسوقي البضائع في المخازن الكبرى .  يرتبون البضائع التي تلفت نظر الاولاد في الرفوف السفلى من الخزائن ، على مستوى مناسب لعيون الأطفال ، وغالبا قرب صناديق الدفع . يتعلق الطفل بما يراه فتتحاشى أمه حرمانه منها ، إستحياء وخجلا من موظفة الصندوق التي ترميها بابتسامة تستعجل فيها قدومها اليها ،  فتضم السلعة الى المشتريات ، وتدفع .

أنا أعرف ذلك وأتحفظ على بعض هذه التصرفات ، وأسعى على الدوام الى فصل الخيط الأبيض عن الأسود . أنا أوافق على بعض ما يقوله هؤلاء المروجون . هذا صحيح : قد يمكنك ، أخي القارئ ، تكوين ثروة مما انت قادم عليه ، ولكن ، قد يمكن أيضا – وبنسبة لا يستهان بها من الخطر – أن تفقد ثروتك الصغيرة .

حذار ، حذار ، لا تصدق كل ما يقال لك . كن حريصا لبيبا نبيها . تجارة البورصة – بما فيها الفوركس طبعا – قد لا تكون مؤهلا لممارستها . أنت وحدك يمكنك أن تقدّر ما تقوى عليه ، وما لا تقوى عليه  . وفّ الموضوع حقه من التفكير والدرس .

 

– هل يعني أن تجارة البورصة لا تزال اليوم في عصر الانترنت للنخبة ولا علاقة للعامة فيها ؟

هل يعني انك حسمت الموضوع قبل البداية بالبحث ؟

هل هذا ما تريد أن تقوله لنا ؟

 

أكاد أسمع آلاف الأصوات المعترضة ، ومن ضمنها العشرات المتضررة الشاتمة !

– نعم ، أخي القارئ ، أنا أعني ما اقول . أرى الكثيرين مؤهلين لهذه التجارة ، وأرى الكثيرين أيضا غير مؤهلين لها .

أرى أن تجارة البورصة هي للنخبة ، لن أخفي قناعاتي ، ولكن نخبتي هي غير النخبة المتعارف عليها . النخبة التي أعترف بها لها مميزاتها ، وهي، هي وحدها المؤهلة لتعلم هذه التجارة ؛ وهي ، هي وحدها المرشحة للبراعة في ممارستها .

إن رغبت بالتعرف على نخبتي تابع قراءة البحث واسأل نفسك في آخر المطاف عما اذا كنت واحدا منها ؛ وإن لم ترغب ، فانصرف عن موضع لا شأن لك فيه لتوفرَ على نفسك جهدا ، وأقلع عن تجارة لم تولد لها  فتوفرَ على جيبك خسارة . ( أقول هذا ، وأنا عارف أن الشتيمة ستكون من نصيبي من ناحية صيادي العملاء الباحثين عن رزقهم كيفما كان .. المعذرة .)

 

إنه لمن السائد عند العامة من الناس ، كما عند علية القوم منهم ، أن العمل في البورصة ، وامتلاك فنونها هو مدعاة للفخر والإعتزاز .

 كم رجلا شمخ برأسه زهوا ، ورفع أنفه اعتزازا ، إن هو شاء الرد على سائل خطر له أن يستفسر منه عن نوع عمله ، فيقول : أنا أعمل في البورصة !

 كم امرأة أغاظت امرأة ، إثارة لمشاعر الغيرة في نفسها ، باستعجالها الحديث عن الاعمال ، ووسائل الكسب ، فقط لتقول : أنا زوجي يعمل في البورصة !

البورصة ، البورصة ، البورصة ، يا لسحرها !

أنا أعمل في البورصة . أنا زوجي يعمل في البورصة .

هل يعني ذلك : أنا أعلى منك شأنا ، أو زوجي أعلى من زوجكِ شأنا ؟

هل العمل في البورصة يعني مباشرة : نحن نفوقكم مرتبة ونعلوكم قدرا ؟ هل يعني نحن من النخبة وأنتم من العامة ؟

سؤال جدير بالطرح ، وبالاجابة ، لكنه من الحرج بمكان .

حسنا لنأتِ الامرَ من باب آخر . لنقل : من هي النخبة ؟

لا يخفى أن البعض يرى في النخبة طبقة المتنفذين ، الممسكين بالثروات ، المصيبين للغنى ، القادرين المقتدرين ، الآمرين الناهين . هم في الغالب أولي الأمر وأصحاب القرار .

البعض الآخر يذهب في تحديده للنخبة بحصرها في طبقة من المؤهلين علميا ، باكتسابهم معرفة تبقى عصية على غيرهم من أبناء العامة ، وهم بذلك يوفرون لأنفسهم أسلوب حياة متميز يوصف عادة بالرفاه والترف . هؤلاء الممسكين إذا بمفاتيح المعرفة هم بنظر الجميع أقدر على بلوغ قمة ، وأبرع بتحقيق ثروة ، وأسرع في بلوغ هدف . هؤلاء إذا بحسب المفاهيم السائدة هم النخبة .

 

هل نسلم بهذا القول  ونقبل بهذا المذهب ؟

هل يصح فعلا حصر النخبة بمن امتلكوا العلوم والمعارف العالية ، أو بمن امتلكوا الثروات والنفوذ وفرض القرار ؟

حسنا ، لنتروَ  قليلا في أحكامنا ، ولنتلمس بهدوء طريقنا .

ان سلمنا جدلا بأن الفئات السابق ذكرها هي نخبة الخلق وأميزها فماذا نقول برجلين :

 

برجلين اثنين ، متعلم وأمي ، – والقصد هنا رجل أو امرأة طبعا – صادفا نملة تناضل في سحب حبة حنطة ، فتعمد الأول ان يدهسها تحت حذائه واجدا في ذلك لذة جهنمية شهوانية  ، وتحاشى الآخر أن يؤذيها شاعرا في ذلك بلذة سماوية ناعمة . ألم يمتلك الثاني كل الشروط التي تؤهله لان ينتسب الى نادي النخبويين ، بينما افتقر السها الأول على تعلمه وتمدنه ؟

 

برجلين اثتين ، أمي ومتعلم ، – والقصد هنا رجل وليس امرأة – سمعا كلاهما عصفورا يطلق تلاحينه على غصن شجرة قريبة ، فطرب الأول للنغم ، وتفاعل مع اللحن الى حد السمو ، فإذا هو يرتقي من سماع  الترنيمة الى حد رؤية موسيقاها تتمايل تقاطيعها ألوانا عبر الاثير ؛ أما الآخر فما رأى في العصفور المسكين إلا كتلة من اللحم ، تطحنها أضراسه وتذوب في لعابه ، فتمنى لو كان يحمل بندقيته . رجلان اثنان ، أمي ومتعلم ، ألم يمتلك أولهما كل الشروط التي تؤهله ان ينتسب الى نادي النخبويين ؟

 

حسنا لن نطيل ، ألفضاء هذا رحب ، وللطيران فيه لذة ، لكن لنعد الى أرض البشر ونعالج موضوعنا .

هل يجب أن يُفهم من كلامي أن الرجل الذي تعمد إبعاد قدمه عن النملة هو مؤهل للعمل في البورصة ،  بينما زميله الذي داسها بحذائه يفتقر بالمقابل الى المعطيات التي تؤهله لذلك ؟

أو هل أريد الإيحاء بأن من وُهب نعمة رؤية لحن الكنار وليس فقط سماعه هو الذي سيكون بمقدوره ، ودون سواه ،  سماع ما يختبئ وراء رموز الرسم البياني لليورو أو الدولار من أصوات ؟

لا ، لست من السذاجة ، اخي القارئ ، بحيث أظن أن بامكانك أن تقبل مثل هذا الإدعاء ، ولكن ، أستطيع أن أؤكد بكل اليقين ، وبكل الثقة والخبرة والمعرفة والممارسة ، أن الرجلين المذكورين هما أقدر من غيرهما على فهم ما يصعب فهمه ، وإدراك ما لا يستساغ إدراكه ، واستيعاب ما يثقل استيعابه . هما اقدر على كل ذلك لما وُهبا من نعمة ، وما أوتيا من هبة ، وما خُصا به من مكانة ، وما فُتح لهما من أبواب .

 

وبعدُ ، فمن هي النخبة إذا ؟ وكيف لنا أن نحدد شروط الإنتماء اليها ؟ ومن هو القادر ان يدخل الى حيث نحن ؟

غريب أمر هذا البحث ، فهو يحملني تباعا الى استطرادات . ثمة حادثة لفتتني ولن أمر دون التوقف عندها .

 

ما زلت أحمل ذكرى قديمة من زمن دراستي الثانوية . أستاذ الادب العربي كان وقتها من المميزين العقلانيين الموضوعيين الباحثن دوما عن الحقيقة ، باعتماد المناهج العلمية القائمة على المقارنة والقياس والاستنباط . كان رحمه الله – بحسب ما ذكراي له – من نخبة النخبة.

حدثنا يوما عن شاعر عربي قل من طلاب المدارس الثانوية من لا يعرفه قال :

ابن الرومي هو…. ….. ….. كان شاعرا مبدعا  … …. ….. ويقال إن وزير المعتضد القاسم بن عبيد الله كان يخاف من هجائه فدس له طعاماً مسموماً فمات.

من قصة ابن الرومي كلها تهمني فقط الجملة الاخيرة . هذا ما ورد في كتب الادب كلها . هذا ما تعلمه طلاب الادب كلهم . الوزير خاف من هجاء ابن الرومي فدس له السم فمات .

استاذ الادب العربي الذي أقدر ، توقف عند هذه الحادثة . رأى فيها خللا . هي تناقض منهجه العلمي . لم تقنعه . مضى يبحث عن كلام مقنع . وجد التفاصيل التالية الثابتة :

لابن الرومي قصيدة أبدع فيها في وصف الحلوى ، وبدا منها مقدار حبه لأصنافها ، واستساغته لأنواعها : منطلق جيد للبحث والتدقيق المنطقي . المنطلق للبحث عن الحقيقة هو من كلام قاله المغدور- المفترض – نفسه ( قصيدة شعر ) .

العوارض التي نقلها المؤرخون عن مرض ابن الرومي قبل موته ومرحلة احتضاره ، تقارب ، ان لم نقل تطابق العوارض التي تصيب مرضى السكري في مثل هذه الحالات : نقطة ثانية تدعم البحث العلمي .

ابن الرومي كان معروفا بحبه للوحدة . هو ككل الرومنطيقيين مكتئبا . زاد من حاله فقدُهُ لأولاده الثلاثة واحدا تلو الآخر . كان يقفل داره أياما على نفسه فلا يخرج منها . كان يحب الحلوى ويأكل منها كلما سنحت له الفرصة ، لم يكن يقوم بأعمال جسدية تتطلب مجهودا ، كل هذه النقاط تجعل من إصابته بالسكري إحتمالا عاليا .

مرض السكري لم يكن معروفا في ذلك العصر . التفسير الأقرب للتصديق بالنسبة لناقلي الخبر من مؤرخين ورواة  : خوفٌ من الهجاء ، مؤامرة ، دس السم ، الموت .

 

تفسير استاذي – الذي أظنه واحدا من الذين زرعوا في نفسي حب البحث  المنهجي الموضوعي العلمي في تفسير النتائج الصادرة عن مسببات ، والذي لازمني طيلة حياتي – هو اذا :

وزير المعتضد أراد أن يأمن شر هجاء ابن الرومي المحتمل ، فلجأ الى إكرامه والإفراط في إطعامه ، فقدم له أشهى الحلويات وأغناها بالسكر . الرجل الذي نقدر إصابته بالسكري ،أكثرَ من طعام يُمنع اليوم منعا تاما عن كل مصاب بهذا المرض . فكان ان وافته المنية .

الفارق كبير بين الاحتمالين : إحتمال الإغتيال ، واحتمال الإكرام .

أنا لا اتردد أبدا في ترجيح الاحتمال الثاني ، ليس حبا بمن أطلقه ، بل إحتراما لمبدأ الاعتماد على العقل في كل أحكامنا .

أنا لا يهمني اليوم سبب موت ابن الرومي ، أنا لا أتوقف عند حادثة جرت منذ قرون ، سيّان عندي إن كان خبر المؤرخين هو الأصح أم تحليل أستاذي ، أنا أهتم فقط إلى طريقة جديدة علمية في التفكير والبحث والتدقيق قبل إصدار الأحكام .

أنا على يقين بأن أستاذي لمادة الأدب العربي منذ ما يقارب الاربعين عاما ، كان سيكون تاجرا مبدعا في البورصة لو قدر له أن يتعرف على هذه التجارة فيمتهنها .

آه منك أمتي !

منذ اربعين عاما ، سمعت هذا الكلام . لو انك اعتمدت منذ اربعين عاما مثل هذا المنهج في اختيار نُخبك ! ترى أين كان سيكون مقامنا اليوم ؟

آهاتي عليك أمتي !

 

والى استطراد ثان ، ألمعذرة فقد أطلنا !

 

كنت منذ فترة وجيزة أتابع حوارا على إحدى القنوات الفضائية حول موضوع سياسي يتعلق بأحداث مأساوية يعيشها واحد من البلدان العربية في المرحلة الراهنة . الحوار بين اثنين من حملة شهادة الدكتوراه . كلاهما يحمل لقب دكتور .

بدأ الحديث هادئا ومضت الدقائق الأولى على خير . وفجأة ثارت ثائرة واحد من السيدين المحترمين لكلمة تلفظ بها زميله لا تتماشى مع معتقداته ، فكال له ما تيسر من التهم والشتائم ، وما صمت إلا وقد سال لعابُه على شفتيه وبدت الرغوة بيضاء بشعة عند نقطتي التقائهما . 

وجاء دور الثاني فأمِلت أن يكون نموذجا للدكتور العقلاني الهادئ المتزن ولكن الخيبة كانت من نصيبي . كان همّ الرجل  أن يثأر لا أن يُقنع . ألثأر ، ثم الثأر ، ثم الثأر . وهكذا كانت له جولات وصولات استعمل فيها يديه في حراك مستديم ، وعينيه في جحوظ مقيت ، أكثر من استعماله للسانه ، وبلغ به الحنق أن وقف وانحنى فوق الطاولة التي تفصله عن زميله – عفوا عن غريمه –  لعله يُسمعه بشكل أفضل فيتمكن من إقناعه بسلامة وجهة نظره .

وفي كل هذه الحفلة المضحكة ، كان الأكثر سخرية موقف مقدم البرنامج – هو دكتور ايضا – . إن صراخه لم يكن أقل وقعا ولا أضعف حدة من صراخ ضيفيه .

جاء الوقت المخصص لاتصالات المشاهدين . خطرت لي خاطرة . أسرعت الى الهاتف . طلبت الرقم وانتظرت طويلا . أردت أن أسأل الضيفين ، كما مقدم البرنامج سؤالا .

أحجمت في اللحظة الأخيرة عن طرح السؤال . لم أشأ أن أحرج العناتر الثلاثة في بث تلفزيوني مباشر   .

 

هل تريد أن تعرف ، أخي القارئ ، أي سؤال كنت أريد طرحه ؟

حسنا لن أبخل عليك  . وددت أن أتحدى الدكاترة الثلاثة بأن يبرهن واحدٌ منهم على الأقل معرفته لعدد أسنانه . كنت على ثقة تامة بأن كل واحد من الثلاثة سوف يسارع الى إدخال أصبعه – على الأرجح أبهامه –  في فمه متلمسا أسنانه ساعيا لإحصاء عددها . 

 

لا ، لا يمكن باي حال من الأحوال ، لأي واحد من الثلاثة ان يكون تاجرا في البورصة ، كلهم غير مؤهلين لهذه الصفة ، كلهم غير جديرين بهذه المرتبة ،  حتى ولو حمل الواحد منهم عشرة ألقاب ، إلى جانب لقب ” دكتور ” الذي يحمله .

يا ثلاثة يسارع واحدكم قبل كل شيء ، وفي كل رد الى الثأر !  

يا ثلاثة لا يحتمل واحد منكم القدرة على تقبل نقد ولو بناء !

يا ثلاثة لا يعرف واحد منكم أن يجري نقدا ولو ذاتيا !

يا ثلاثة يعتقد كل واحد منكم أنه دوما على حق !

يا ثلاثة لا يقبل واحدكم رأيا مخالفا لما يراه !

يا ثلاثة ، أنتم السوقة والنخبة منكم براء !

يا ثلاثة ، أنتم السوقة والنخبة هي نحن !

 

النخبة إخواني هي نحن ، جماعة القادرين على تمييز الصواب من الخطأ . هكذا بالإختصار كله ، وبالبساطة كلها  .

النخبة إخواني هي نحن ، أهل الصفاء القادرين على اتخاذ القرار الصائب ، القرار المبني على التحليل والتدقيق والاختبار والمقارنة والقياس والاستنتاج والاستنباط ، بصرف النظر عن أهواء النفس وميولها ، وعن تسلط المشاعر وشذوذها .

ألنخبة إخواني هي نحن ، أهل الواقعية القادرين على الأعتراف بالخطأ إن عثرنا ، والساعين الى تصحيح الخطأ إن قدرنا .

النخبة إخواني هي نحن ، أهل الهوى والعشق ؛ هوى العقل ، وعشق المنطق . هوى الموضوعية في البحث ، وعشق المنهجية في إصدار الأحكام .

النخبة لا تعترف بألقاب أو مراتب . عرفت في حياتي الكثيرين من أصحاب العلم والفكر الذين لم ينطقوا الا بالكفر والضلال ، كما عرفت الكثيرين من الأميين المتواضعين الذين إن نطقوا أصغى الى كلامهم أعقل العقلاء .

 

قلنا حتى الان الكثير ، ولم نقل بعد ، اخي القارئ ، ما تتشوق لسماعه عمن هو مؤهل ، ومن هو غير مؤهل للعمل في البورصة .

أعذرني  فقد تقدم الليل ، وتمكنت من نفسي بعد ما مر من أفكاروأقوال كآبة ، قد تحول دون الحكم الذي أطمح اليه . فإلى القسم التالي من المقال  ، في الاسبوع القادم أو الذي يليه ، حيث نبدي في الأمر رأيا ، نأمل أن يقارب الصواب ، إن شاء الله .

 

السوق دوما على حق

السوق دوما على حق – 13th  January 2006

 

كان السوق أمس صعب المراس ! السوق دوما صعب المراس . كان السوق أمس معدوم الشفافية ! السوق دوما معدوم الشفافية . ليس من العدل ان تعج كلمة ” تريشه ” بالايجابيات ثم نفاجأ بتراجع اليورو ! صحيح في الامر ظلم للكثيرين . ليست كلمة ” تريشه ” هي التي تحدد مسار السوق بل فهم السوق لها وتفاعله معها . ما يحرك السوق باتجاه معين هي الرساميل التي تصب بهذا الاتجاه أو ذاك ، وغالبا ما يحصل ذلك لسبب عاطفي أكثر منه عقلاني . هذه هي البورصة وهي دائما على حق . حدثان شديدا الشبه يوم أمس :

تراجع اليورو الذي سبب خسارة للبعض ، وتدافع الحجاج في مكة المكرمة الذي سبب مأساة للكثيرن . كلاهما نتيجة لسبب واحد . في الحالتين هناك من يهرب ولا يعرف من أي خطر ، هذا هو السوق . وان صار كامل الشفافية بطل كونه سوقا . لو صار كامل الشفافية لأمسى كل داخل اليه رابحا ، ولأفتقرنا الى من يصنع الخبز والثياب والبيوت وغيرها من حوائج الحياة . بوضوح أكثر : تكلم السيد ” تريشه ” رئيس المركزي الاوروبي .

 ألقى بيانه بكل هدوء . كل شيء تقريبا إيجابي . لا مدعاة للقلق . جاءت ساعة أسئلة الصحافيين الذين غالبا ما يتحولون الى محققين عدليين . ظهر على السيد تريشه بعض التردد حيال بعض الاسئلة الحساسة . هو غير واثق من كون النمو قد خطا الخطوات الكاملة لتعدي دائرة الخطر . هو لا يستطيع ان يؤكد وان يحدد متى سيأتي وقت الخطوة التالية لرفع الفائدة . هو لا يستطيع أن يسمي الامور بأسمائها . يريد ان يكون متحررا من التزام ما . أسقطه الصحافيون في الامتحان وتعلق المتعاملون بكلمتين تحملان معنى السلبية متناسين كل الايجابيات التي سبقت . هكذا هو السوق !! ولكن هل يصح القول بأن ارتفاع الدولار وتراجع اليورو وغيره من العملات الرئيسية كان فقط لهذا السبب ؟ طبعا لا ! لا يجب نسيان الميزان التجاري الاميركي الذي أظهر تراجعا للعجز بنسبة فاقت ما كان السوق يتوقع لها اذ تراجعت الى ما دون ال 65 مليارا . اذن الحيرة كانت قائمة والميزان يتأرجح . يتأرجح بين ايجابيات البيان الاميركي الذي يسمح بارتفاع الدولار وبين بيان المركزي الذي يسمح بارتفاع اليورو . في هذا الوقت جاءت كلمات ” تريشه ” المترددة فغلبت كفة الدولار على اليورو ورجح الميزان الى ناحيته . هل هذا فقط ؟ طبعا لا . بل كما يحصل دوما في مثل هذه الحالات فقد تفعلت ستوبات كثيرة كانت تتواجد تباعا في السوق فوق المقاومات المتتابعة وتحت الدفاعات المتتالية فكان الهلع وكانت كرة الثلج وكان ما كان .

 هل يعني ذلك ان الدولار قد استعاد شبابه وجدد عافيته ؟ لنكن واقعيين . طبعا الجواب نفيا . ان تراجع العجز التجاري بضع المليارات ليس كافيا للذهاب هذا المذهب . لا بد من انتظار مؤشرات أكثر تعبيرا . مؤشرات توحي بالثقة إنتاجا وبطالة واستهلاكا وهذا ما سيعطي الاسابيع القادمة أهمية متجددة لعلها تحمل الخبر اليقين . حتى الان لا نزال في نطاق التخمين . التخمين على الصعيدين الاميركي والاوروبي . ما هو مؤكد الان ان نهاية الجاري سترفع الفائدة مرة واحدة على الدولار . ما هو مرجح جدا انه في مارس سترفع الفائدة مرة واحدة على اليورو . البيانات القادمة ستنبئ اذا بما يلي .

 

 

حصبة الفوركس

حصبة الفوركس  – 9th  December 2005

 

قد يبدو العنوان غريبا للوهلة الأولى ، خاصة للعتاق الذين يعرفون الحصبة ، سمعا أو معاناة .
” دريد لحام ” أو ” غوار ” كما يعرفه الكثيرون ، واحدٌ من أذكياء الأمة .. أحترمه ! أحب فنه !
أبٌ سوريٌ ، أمٌ لبنانية .
” دريد ” سبكة لبنانية سورية .
سبكة ؟
نعم سبكة نفيسة ، أوليس الفنان الملتزم من الذهب أغلى ؟
سأحاولُ ألا أطيل !
في شبابي المبكّر ، كنت أحب ” غوار ” ومقالبَه . اليوم بتّ أحب ” دريد ” أكثر من غوار .
سألت نفسي تكرارا عن مردّ محبتي له . لم أجد جوابا .
ترى ألأنه سبكة لبنانية سورية ؟ – أو سورية لبنانية – لا فارق – لا أعرف ، قد يكون هذا واحدا من الأسباب .
من الأسباب بالتأكيد ايضا ، أن الرجل طريف ، ظريف ، لكن ما يعنيني فيه كونه ملتزم شريف .
نكتته تضحِك دوما الى حدّ الحسرة . لا تخلو ابدا من البعد السياسي . نقدُهُ تلميحي لطيف . فيه صفعة ، خال من اللسعة . خرّاقٌ للجلود السميكة ، يٌشعرُ ولا يؤلم !
سمعته يحكي عن طفولته . أعجبني اعتزازه بمنبته المتواضع . قرأت نفسي في كلماته . دمعت عينه إذ تحدث عن أمه . دمعت عيني لصدق كلامه !
غفِلت عن متابعة الحديث . عدت اليه بعد سفرٍ في الماضي للحظات . فاتني سماع كلام دمعت له عينه مرة ثانية . رأيته ينزع نظارتيه ليمسح دمعة . دمعت عيني لرؤية عينه دامعة ، دون أن أعرف السبب . نزعت نظارتي ومسحت عيني أيضا – ليس بمنديل كما فعل ، بل بكُم القميص – ، كما عندما كنت ولدا !
لا لا ! لسنا امة عقيمة ! عندنا الكثير الكثير من المبدعين . ليت المفسدين يتنحّون ، ليتهم يسلمون مبدعينا الدفة . لو قٌدر لهم ، لكانوا رعاة صالحين !
أطلنا !
لا بأس سنصل في حديثنا الى ” الفوركس ” .
سماعُ حديث ” غوار ” حملني الى الماضي ، والماضي الى الحصبة ، والحصبة الى الفوركس .
حديث ” دريد ” أثار فيّ ذكريات ، سافرت في الماضي ، إلى أيام السعادة والبراءة . أحداث وأحداث . عذابات ولذائذ في الحياة . لا أعرف سبب توقفي أمام أيام ” الحصبة ” .
” ألحصبة ” صارت اليوم من أمراض الماضي ، أوجد الطب لقاحا لها . في أيامنا كانت من هموم العائلات ، وبخاصة الأمهات ، فيما لو دخلت البيت .
حرارة عالية ، حبيبات وردية صغيرة تكسو الجلد في كل أنحاء الجسد . تذهب وتعود ، مرات ومرات ، إلى أن ينظف الجسم منها . الحصبة يجب أن يصاب فيها الانسان ، مرة واحدة في حياته ، غالبا في طفولته .
عندما دخلت الحصبة بيتنا ، أصابتنا جميعا ، أخوتي وأنا . كان علينا ملازمة الفراش ما يقارب الشهر . غذاؤنا الوحيد شوربة العدس . هكذا سمّوها ، ولكنها ليست من الشوربة بشيء . عدس مسلوق بالماء ، يمنع عنه الزيت أو أي نوع من السُمون ، حتى الملح كان ممنوعا .
 أولاد يأكلون هذه الوجبة ما يقارب الاسابيع الثلاثة . أمّ ملهوفة تحتار في لفلفة أجسادهم الطرية ، مخافة البرد . ” الحصبة ” زارتنا في الشتاء . كنت الحلقة الأضعف بين أخوتي . خوفها علي كان دوما لا يقاس . كنت أعرف ذلك . صرت أقدر ذلك اليوم أكثر . العمر يعلم .
 
شبعت نفسي من الذكريات . عدت الى هموم العمل . تداخلت الأفكار ، ولاحظت أن ” الحصبة ” مرض يغزو سوق ” الفوركس ” . 
كل متعامل في هذا السوق ، يصاب مرة بهذا المرض ، لا مهرب له من ذلك . لا لقاح مجدٍ له . لا دواء مجدٍ له . فقط الحمية في الطعام . والحمية في الطعام بالنسبة ل ” الفوركس ” فصلناها في مواضع عدة . عدم تحميل النفس أكثر مما تستطيع .
كل متعامل في هذا السوق ، عليه أن يحسب ل “حصبة الفوركس ” حسابا ، فإن زارته  ، عليه بالعدس المسلوق شهرا كاملا ، وبالدفء والصبر والرفق بنفسه . وقبل كل شيء عليه بالحرص على رضى أبويه ، والطلب اليهما أن يُكثرا له من الدعاء  .
وإن لم يفعل ، فسيكون من الصعب عليه أن ينجوَ من ” حصبة الفوركس ” . والحصبة إن لم تدارى فهي قاتلة !
 
هذه حصبة الفوركس الوردية ، أما الحمراء فالويل منها ، وهي أشد  أشد خطورة . فماذا تراها تكون ؟
الحصبة الحمراء يصاب بها قلة من المتعاملين وليس كثرة . وهم إن أصيبوا صار خطرُهم على غيرهم أشد وأكبر من خطر المسعور ، أبعده الله عنكم وعنا . وإليكم التفصيل فيها .
أخبرني أحد العاملين في ” عرب أونلاين بروكرز ” قال :
حادثني يوما أحد المهتمين بالفوركس . بعد السلام ، أراد أن يطمئن الى مصداقية الشركة فركز على هوية العاملين فيها ومنبتهم ، ثم انتقل للسؤال عن القائمين على إدارة شؤونها وأخلاقياتهم ومقدار الثقة التي يمكن إيلاءهم إياها .
بعد أن اطمأنت نفسه الى كل ذلك ، وأنِست للتوجه العام ، عرض حاجته . قال :
أعجبني موقعكم ، انا أتدرب على العمل منذ فترة ،أريد أن أعمل معكم ، ليس كمتعامل بل كمسوق ، أعرّف العملاء على شركتكم وأربح من جراء عملي هذا . وأنا أقنعت لتوي أحد معارفي ، وهو يريد أن يفتح حسابا بمبلغ عشرة آلاف دولار . الأمر مبتوت ، ولكن لي شرطٌ واحد لعقد الإتفاق . – أقنع أحد معارفه –
قالها حتى قبل أن يسمع الجواب فيما إن كان ثمة موافقة على طلبه .
أشرط ، قال محدثه .
أريد أن أحتسب لنفسي مبلغ عشرة دولارات ، تحسم لي عن كل عقد يجريه الزبون ، تحولونها الى حسابي . شرطي ألا يعرف او يشعر أو يطلع الزبون على ذلك .
أخبرني من كان محادث الرجل . قال :
ما استطعت عليه صبرا ، ولكنني كتمت غيظي ، أبلغته بأن شيم وأخلاقية ومصداقية القيمين على العمل والعاملين فيه – هذه الصفات التي ارتحت لها في بدء حديثنا – لا تسمح لنا بالتعامل بهذا الاسلوب . وأنهيت الحديث معه . ذهب مغتاظا .
عزيزي القارئ  . ألآتي أعظم !
ألامر يدعو الى السخرية ، أو الى الإشمئزاز ، أو الى القرف . أنا أعرف ذلك .  ألمعذرة لا أريد ان أعكر يومك إن كنت مصبحا ، او أحلامك إن كنت ممسيا ، لكن الأمانة تدعو الى السرد ، وليس العجب في ما سلف من  ، بل في ما سيأتي  .
كان الرجل مصابا بحصبة الفوركس الحمراء ، وكان المرض قد اشتد عليه . أبى إلا ان يكون مسيئا . أراد ببساطة أن ينتقم لنفسه . إتصل بعد ما يقلّ عن الشهر . طلب نفس الشخص الذي حادثه في المرة السابقة . شاء أن يفقأ حصرمة في عينه . أعطاه اربعة عناوين لأربعة مواقع  قال بفخر واعتزاز : هذه كلها لي .
تصفحنا المواقع فكان العجب .
الرجلُ صار مسوقا لاربع شركات في الفوركس دفعة واحدة ، يعرض خدماته على خلق الله ، وخلقُ الله غير دارين ما يمكن أن تجره الحصبة الحمراء من ويلات .
 
عزيزي القارئ . لن أكثر عليك من الامثلة التي لا تحصى ، منها المبكي ومنها المضحك ، لكنّ ثمة واحد يحرق شفتي ، ألبوح به يريحني  ، وقد يكون فيه منفعة لك .
 
إتصل بي أحد المتعاملين معنا وهو من معارفي القدامى . أعطاني عنوان موقع . قال : هل هذا الموقع تابع ل ” عرب أونلاين بروكرز ” ؟
فتحت الموقع  ، وجدت نفس النصوص ، نفس الإخراج ، نفس الصور ، نسخ عن موقع ” عرب أونلاين بروكرز ” ولصق على الموقع الآخر . قرصنة الزمن الجديد .
هززت رأسي . استعذت بالله . كدت ان اقفل الموقع لأعود الى محدثي فأجيبه عن استفساره . وقع نظري على اسم الموقع . القرصنة أيضا في هذا المكان . أخذ الرجل – بل الرجال ، هم ثلاثة –  اسم ” عرب أونلاين بروكرز ” حذف منه الكلمة الأخيرة . ركز مكانها كلمة أخرى . لقصر نظره لم يعرف ان التركيب قد تشوّه ، صار يتضمن خطأ لغويا . صفق لنفسه للاكتشاف الجديد . هو مستعجل في كل شيء ، مستعجل حتى في خداع الناس وتضليلهم . ألأخطاء اللغوية في اسم موقعه غير ذات أهمية . ألمهم أن يقدم نفسه للناس على أنه عرب أونلاين . الكلمة لها رنة ومصداقية …
عزيزي القارئ . لقد أخبرتك بجزء من العجب في هذا الموقع والجزء الأكثر سخرية آت :
كنت قد أخبرتك إنني هممت على ترك الموقع والعودة الى صديقي ، لكن رؤيتي للقرصنة في إسم الموقع أثارت حشرية جديدة في نفسي . عدت الى الموقع من جديد . ضحكت كما لم أضحك منذ زمن .
على ماذا ؟
إليك الخبر . قرأت في الموقع ما معناه :
إن كل  من يجلب زبونا ليفتح حسابا للتعامل في ” الفوركس ” عبر هذا الموقع يأخذ عشر دولارات تدفع له نقدا من أصحاب الموقع . وأضاف : تخيل لو أنك تجلب عشر من الزبائن فانت ستربح مئة من الدولارات .
اخي القارئ !
لا أنكر أنني ضحكت . ضحكت كثيرا . ولكنني في قرارة نفسي حزنت . حزنت كثيرا .
 
حزنت لأشياء كثيرة كثيرة .
حزنت لمصير هؤلاء الذين سيغرر بهم من أجل عشرة دولارات .
حزنت من أجل الشركات التي ترتضي ان تسقط الى هذا الدرك تسويقا .
حزنت للمستوى الذي حمل إليه بعض المسيئين العمل في ” الفوركس ” .
حزنت لتحول ” الفوركس ” لسلعة تباع على طبق يحمله بائع على رأسه ويدورمناديا : معانا فوركس …. .
وكل ذلك لم يحل بيني وبين الضحك  .
ضحكت للإبداع الغريب في التسويق المتماشي مع القرن الواحد والعشرين .
ضحكت لأنني تذكرت أحد معارفي . كان اسمه عبدالله ، لم يوفق في تجارة ” الفوركس ” ، لعله صار صاحب واحد من هذه المواقع المنتشرة على النيت !!
إشتقت لعبدالله ، تحدثت عنه مرة في واحد من مقالاتي ، مضى عليّ زمن غير يسير لم أسمع منه كلاما .
ضحكت وضحكت ، لأن الذاكرة عادت بي  خمسين عاما الى الوراء ، الى مشهد بائع كنت أراه يحمل سلة كبيرة على رأسه ويدور بها في الأحياء ، إلى جملة كنت قد ظننت إني نسيتها وها هي تستيقظ في ذاكرتي .
كان الرجل ينادي على بضاعته : ” كراكير، مناكير، زيت شعر، وبكر ” .
وما استطعت ان أقفل الموقع المشؤوم دون ان أتخيل اليوم الذي سيرسل فيه أصحاب المواقع هذه مندوبيهم الجوالين الى الاحياء الشعبية  للمناداة فيها ترويجا لبضاعتهم  : ” فرنكات ، ينات ، يوروات ، دولارات . قرب يا ابو العيال  ، وينك يا ابو الولاد .  “
 
اللهم هوّن على خلقك ، وعلينا !!!!!
 

 

 

كيف يكون اتخاذ القرار – 5 – ا

كيف يكون اتخاذ القرار  – 5 – 18th November 2005

راس الحكمة منع الخسارة

كنت قد تركت قارئي لايام مضت ومحدثي يسوح بين حرقة وأمل ، وعدت فالتقيته اليوم وهو على ما كان عليه . بادرته بالسؤال البديهي الاول ، قلت :

– ما الحُكم الذي تصدرُه على نفسك من حيث فتحك لصفقاتك ؟

– استطيع أن أجزم وبكل تأكيد ان قراراتي في فتح الصفقات هي صائبة بنسبة 75% . إن تحليلي للسوق هو في معظم الأحيان موضوعيا ومنطقيا ، يستند على ما يتوفر لي من الأخبار المستجدة على الساحة والمؤثرة في هذه العملة أو تلك ، كما يستند الى ما استطعت توفيره لنفسي من مبادئ التحليل التقني ، وفي غالب الأحيان أوفق في احكامي .

– مشكلتك في إقفال صفقاتك اذا . 

– اقفال الصفقات هي مشكلتي . لقد أصبت في تقديرك .

– أنا لم اقدّر ، أنا اعرف ذلك ، هي ليست مشكلتك ، بل مشكلة السواد الأعظم من الداخلين الى هذا السوق . أنت تجني أرباحا قليلة وتقع بخسائر كبيرة .

– بالضبط ، هذا ما يحصل معي . أفتح الصفقة وأحددُ لها هدفا ، ولكنني نادرا ما ألتزمُ بما حددتُ ، بل أراني وبخطوة غير شعورية مسرعا الى جني ربح قليل من صفقتي خوفا من أن يضيع علي . بينما أتصرف عكس ذلك حيال الوقف لتحديد الخسارة التي أكون قد قررته للصفقة ، فما أن يقترب السوق من الوقف المحدد ، حتى تتملكني رغبة غريبة بعدم التضحية بالربح الذي حققته في الصفقة السابقة ، وأحس بقوة داخلية قوية تدفعني لالغاء هذا الستوب اللعين الذي لا بد أن يأكل ربحي السابق . أسارع الى إلغائه معتمدا على رغبة ، متعاملا معها بثقة كلية عمياء على انها واقع حقيقي ، رغبة ان يعود السوق للسير في مصلحتي بعد أن يتجاوز الوقف بنقاط قليلة . ولتدعيم رغبتي أسعى للبحث عن معطيات تصب في هذا الاتجاه بأية وسيلة ، وأنا أجدها في معظم الأحيان . أنا لا ألغي الستوب ولكنني ادفعه صعودا أو نزولا ، وما أن يقترب السوق منه مرة جديدة ، حتى ادفعه ثانية ، أو الغيه ، مستكثرا ومستهولا مقدار الخسارة التي سأقع فيها إن انا سمحت بتفعيله ، ومتعلقا الآن بحبال الأمل وحدها ، وأنصرف الى المراقبة والانتظار ، مربوط اليدين ، معدوم الحيلة ، ولا أنسى الدعاء للسوق ولنفسي … ولكن هذه الصفقات غالبا ما تكون سببا لخسارة كبيرة تأكل كل ما أحقق في غيرها .

– إذن فقد وضعنا الأصبع على الجرح ، ووجدنا مكمن الداء . علينا أن نعالج هذه المعضلة . معضلة جني الأرباح القليلة ، والوقوع في الخسائر الكبيرة . 

– صدقت ولكنني لا أجد السبيل الى العلاج ، فهل تقول شيئا في هذا السبيل ؟ 

– اقول ، وأرجو أن يكون مفيدا . 

 – سأخبرك قصتك مع البورصة بكل تفاصيلها وإن أخطأت ارجو أن تنبهني على خطأي .

– وهو كذلك . 

– لقد بدأت عملك وفي ذهنك قناعة راسخة وثقة تامة بأنك ستصبح في أسابيع قليلة من الأثرياء لأن الله فتح عليك بابا كان موصدا في وجهك ، ودلك على سبيل كان غريبا عنك . بدأت عملك بثقة الواثق ، وإقبال الطامع ، ونهم الجائع ؛ بدأت تضرب في السوق ضربات عشواء ، يمين وشمال ، بيعا وشراء ، متأملا في الربح ، واثقا منه ، محققا الخسارة ، ولا شيء غيرها . هل هذا صحيح ؟ 

– هذا صحيح . 

– لقد شددت في بدايتك على نقطة واحدة : كلما ارتفع عدد العقود التي اشتريها ، ارتفع معه مستوى المبلغ المقروض الذي اتاجر به ، وبالتالي الربح الذي أحققه . فكرت بهذا ، وركزت عليه ، واغلق طمعك عينيك عن الوجهة الاخرى للحقيقة : إن ارتفاع العقود بشكل جنوني ، يمكن له أن يحقق لك ربحا هائلا ، هذا أمر صحيح ، ولكنه غير مضمون الحصول . فهناك الوجه الآخر للحقيقة ، إن ارتفاع العقود بشكل جنوني قد يوقعك في خسارة هائلة إن كانت صفقتك غير موفقة .

أنت رأيت وجه الحقيقة الذي تتمناه ، الذي تريده ، وحولته بحركة غير موضوعية الى واقع أكيد حاصل  ، وتعاملت مع الحقيقة على كونها ذات وجه واحد ، ومع البورصة على كونها طريق ذات اتجاه واحد ، ضاربا عرض الحائط بكل مبادئها .

– لا انكر ان هذا صحيحا .

قد تكون صفقتك الاولى موفقة . أنا لا أعرف ذلك . لكن ما أعرفه ، وأؤكده بالثقة كلها ، وبالجزم كله ، هو أنك بعد هذه الصفقة الاولى التي لربما كانت موفقة ، قد ازددت عبادة لنفسك ، وثقة بعبقريتك ، فعمدت الى رفع مستوى العقود مرة جديدة ، طمعا بربح جديد مضاعف .

هنا وقعت في الخطأ القاتل ، لقد حكمت على نفسك بالإعدام ، خسرت صفقتك ، وكانت الخسارة موجعة جدا .

– هذا ايضا ليس بوسعي ان انكره ، ولكن ما علاقة كل هذا بما يصيبني اليوم . لماذا تصر على نبش ماضي ، وكشف زلاتي ؟

– أنت يا صديقي تعتقد أن ماضيك قد مضى ، ولكنني أقول لك إن ماضيك هو ما يعمل حاضرك ، ان كل نفَس يدخل اليوم صدرك ، ليس إلا ابنَ نفَس خرج منه في ماض قريب أو بعيد  . إن كل حرقة أو ندامة تعاني منها اليوم ، ليست سوى بنت تسرع أو غلطة وقعت بها بالامس . إن ما تعانيه اليوم ليس إلا نتيجة مباشرة لما وقعت به في الماضي من أخطاء قاتلة ، وما تقع اليوم به  من أخطاء لن يكون سوى السبب المباشر لما سوف تعانيه في غدك من عراقيل ومصاعب .

– أوضح لي أكثر ، بربك . ولا تحدثني بالأحاجي .

– بعد وقوعك في هذا المأزق ، آلمك الحدث كثيرا ، فكرت به مليا ، عرفت أنك مخطئ في ما اقدمت عليه ، آليت على نفسك ألا تعيد الخطأ مرة ثانية . ولكنك للاسف وقعت فيه مرة ثانية وثالثة وما زلت تقع فيه حتى الان . أليس هذا صحيحا ؟

– هذا صحيح .

– قطعت وعدا على نفسك بان لا تقع بنفس الخطأ . لكنك لم تعالج ، وحتى لم تفكر بمعالجة ، سبب الخطأ . كان عليك ان تذهب الى الجذور ، لا أن تكتفي بالقشور . كان عليك أن تقنع نفسك بمخاطر المحاولات التي تعتمدها بالانتقال الى مراتب المجد بايام قليلة . عوض ذلك كان عليك ان تسعى الى اكتساب فن هذه التجارة من خلال الرضى بالربح القليل ، أو حتى بالخسارة القليلة ، مقابل تعلم مهنة ، واكتساب خبرة ، وسلوك معارج النجاح ، خطوة وراء خطوة . كان عليك أن تحدد مبلغا يحق لك خسارته ، وهو لا يتجاوز بأية حال ال 10% من المبلغ الذي رصدته لهذه التجارة . وكان عليك ان تحدد زمنا ، لا يقل بأية حال عن الاشهر الثلاثة ، يحق لك فيها خسارة هذا المبلغ .

 خسارة قليلة لمبلغ يمكنك ان تحتمله ماديا ونفسيا ، مقابل تعلم لفنون في فسحة زمنية كافية لذلك .

أنت لم تفعل ذلك . ما فعلته هو أنك نويت ان لا تقع في نفس الخطأ مرة جديدة ، وعدت نفسك ، ولم تلتزم بوعدك . هدفك الخاطئ بقي هو نفسه ، هدفك الخاطئ كان ، واستمر ،  ولا يزال الى الآن ، تحقيق قدر كبير من الربح في أقصر مدى ممكن من الزمن . هدفك الخاطئ الذي أوقعك في ما انت فيه هو : أريد ان أصير غنيا ، أريد ان أصيره بين ليلة وضحاها .

– صدقت ، هذا ما حصل معي ، وماذا كان علي أن افعل ؟

– كان يتوجب عليك  :

أن تبدأ التعامل بمبلغ يعتبر جزءا غير كبير مما تملك ، بهدف تعلم كل ما يتعلق بهذه التجارة من فنون وأسرار . التعلم له ثمن . عليك أن ترتضي دفعه . عليك أن تسعى لتقليل هذا الثمن قدر الامكان ، لا أن تضع لنفسك أهدافا خيالية . هدفك الاولي في ايامك الأولى يجب أن يكون : تحقيق خسائر غير عالية ، ومحتملة ، وغير موجعة ، وفي أحسن الاحوال عدم الخسارة ، لا تحقيق أرباح غير واقعية .

اعلم ، وليعلم كل داخل الى هذا العالم السحري ، انك ، وانه لا يجب أن ينسحر به الى درجة الغياب عن الواقع أو غفلان الحقيقة . المال جذاب جدا . المال غاية الجميع . بين ربحه وخسارته خيط رفيع . اسع الى امتلاك القدرة على رؤية هذا الخيط لعبور الحدود ، الحدود الفاصلة بين جمهرة الخاسرين وجماعة الرابحين .

لا تبدأ العمل اذا بنفسية القادر على عمل المعجزات ، غيرك لا يقل ذكاء عنك ، لا تدع ثقتك بنفسك تستحيل غرورا قاتلا .

لا تبدأ العمل  وقد بنيت في الهواء القصر الذي ستبنيه من المال الذي ستجنيه من الربح المؤكد ، وان فعلت فان الخسارة ستكون مدمرة لك فيما لو حصلت .

لا تبدأ العمل مأخوذا بالشعارات التي كثرت على مواقع تقديم هذه الخدمة – الجدية منها وغير الجدية – الشعارات التي تصور لك الربح مضمونا ، والغنى ميسورا ؛ وذلك باستعمال كلمات معسولة ، وشعارات مبرمجة تتوجه الى مشاعر القارئ او السامع لا الى عقله . إرمِ كل هذا وراء ظهرك  واعمد الى تحكيم عقلك بكل نفس من انفاس صدرك . أكتمها حيث يجب أن تكتم ، وأطلقها بتؤدة وتروٍ حيث يجب أن تطلق .

ان التزامي الفكري والاخلاقي والديني يحتم علي أن اقول لك – ولكل من يطمح لهذا العمل – إن النجاح  يكون بالسهر على منع الخسارة قبل وأكثر من العمل على تحقيق الربح ، في بداية تعلمك للعمل ، وفي ممارستك اللاحقة له كمهنة اساسية . تحقيق الربح ليس صعبا . لكن الصعوبة تكمن في تحقيق الربح لتعويض الخسارة . إن لفي هذا مرضا للجسد وللنفس في آن . ركز اذا على منع الخسارة ، وبخاصة في بداياتك ، وان فلحت في ذلك ، فقد فلحت في كل شيء .

إن كل خسارة يصاب بها المتعامل – وبخاصة المبتدئ – انما هي صدمة يأس تصيب النفس وصفعة تشاؤم تتحكم بالمزاج ، وقبضة تشكك تمسك باليد ، فإذا القرار مستحيلا ، والتردد سيد الموقف ، والتنفيذ لكل صفقة يقود من فشل الى فشل .

وليست كل خسارة ككل خسارة . ان خسارة لصفقة تم إجراؤها بعقود أتخمت الحساب وأرهقته لهي خسارة مدمرة ، لا منجاة بعدها الا بالكثير الكثير من الجهد والدعاء .

أما الآن وقد وقعت في ما وقعت فيه فلتكن لك فسحة من الوقت ، تطول الى الحد الذي تراه ، عُد فيها إلى نفسك ، داوِ ما استطعت من الجراح ، بالانصراف عن السوق وهمومه . إنسَ كل شيء . وإن وُفقت في ذلك ، فعُد الى العمل بذهن جديد وفكر جديد وهدف جديد .

مع كل صياح ديك وطلوع كل  فجر ، في كل حين وساعة ، قبل اتخاذ كل قرار ، عليك – وعلى كل من شاء ان ينجح – أن تتلو على نفسك أنشودة الرفق بنفسك ، وان تحملها فقط ما تستطيع .

ولنا في ما سوى ذلك كلام وكلام .

 

 

 

 

كيف يكون اتخاذ القرار ؟ ( 4) ا

كيف يكون اتخاذ القرار ؟  ( 4)   –  4th October 2005

السفر في القطار والاتجاه  الخطأ .

ويعود محدثي الى سرد وقائع جولة جديدة من جولاته  مع السوق . يقول :

بعد هذه الحادثة ، أو بعد حادثة مشابهة ، آخذ على نفسي ألا أقفل صفقة إلا في الوقت والمكان المحددين لها ، وأن لا أدع الستوب اللعين من الإيقاع بي . أتحين فرصة أراها مناسبة . ألأخبار اليوم تشير الى امكانية تفوق اليورو على الدولار ، بيانات اميركا لا يرى المحللون لها تأثيرا إيجابيا على الدولار . أفتح صفقة شراء على اليورو ، أزيد عقودها أكثر من صفقة الأمس ، أحدد كعادتي للصفقة هدفا ، أتردد في تحديد الستوب ، أعود فأقرر تحديده تحسبا لطارئ كارثي .

أديت عملي ، وما عليّ الان إلا الإنتظار . أترقب السوق وفي نفسي رغبة بالإنتقام من السوق على فعلته السابقة بي ، أنوي مسبقا عدم السماح له بسرقة صفقتي مني بأي ثمن .

في البدء تسير صفقتي بحسب ما اشتهيت ، أحقق منها عشرين نقطة في دقائق قلائل ، أقرر ألا أقع في ما وقعت به بالأمس من خطأ ، أقول لن أقفل صفقتي قبل بلوغ الهدف .

في هذا الوقت يصدر تصريح عن عضو في المركزي الاوروبي ، هو يحذر من تباطؤ في النمو بحيث يكون قاصرا عن بلوغ الهدف المحدد له . بعد دقائق يرد نبأ فشل المحادثات بين الحزبين الكبيرين في ألمانيا لتأليف الحكومة الجديدة . يرتد السوق في الاتجاه المعاكس . أعرف انه من الافضل أن أعمد الى منع الخسارة عن صفقتي . أحاول التحرر من الأجواء التي كنت أعيشها لحظة فتح الصفقة ، أحاول التخلص من دغدغات الأمل  في إمكانية ردّ الخسارة التي تكبدتها بالأمس ، من الثقة الراسخة في كون هذه الصفقة مميزة ، وهي كفيلة بالتعويض لي ان انا صمدت فيها حتى النهاية . لا اقوى على ذلك !

أتعلق إذن بصفقتي ضاربا عرض الحائط مرة جديدة بقاعدة ذهبية كنت قد تعلمتها ، وهي تقضي بضرورة تغيير رأيي في اللحظة التي ترد فيها أخبار مستجدة ، أو تبدو على الشارت مؤشرات جديدة ، تحتم عليّ أن أعدل المخطط الذي أكون قد انطلقت منه .

أتعلق إذن بصفقتي مستعيضا عن الحكمة بالرغبة ، وعن الحنكة بالأمل ، وعن الاقتناع بالعناد ، وعن الموضوعية بالهوس . وكيف لي أن أحقق ربحا إن كانت هذه حالتي !

ويعود السوق الى المستوى الذي فتحت فيه صفقتي ، ويشتد أملي بان الإرتداد سيكون قريبا . أقول في نفسي : لن أضيع الصفقة ، سأصمد ولن أكرر غلطة الأمس .

ولا يفلح محيط فتح الصفقة على وقف التراجع الذي يتتابع . تحقق صفقتي خسارة عشرين نقطة . ألوم نفسي أشد اللوم . أقول : لو انني جنيت عشرين نقطة ربحا ، أما كان أجدى لي وأفيد ؟

ومن اللحظة التي أطرح فيها هذا السؤال ، تسوء أحوالي ، وتزداد كلّ لحظة سوءا .

السعر يقترب من الستوب الذي أكون قد حددته . أقول : ألغي هذا الستوب ، لا بد للسوق أن يرتد في الاتجاه المعاكس ، لن أدعه يسرق صفقتي مني .

ألغي الستوب على أمل ان يتم ما أرغب فيه ، وليس على ثقة أن يتم ما رسمت له .

ألغي الستوب اذا ، ألستوب الذي أكون قد حددته في لحظة وعي سليم مخطط ، ألغيه في لحظة إنفعال شعوري مستسلم .

أعرف في عقلي المفكر أنني أرتكب خطأ لا يُغتفر ، أعرف أنني أهمّ في ولوج النفق المظلم . رغم ذلك فأنا لا أقوى على التحرر من قوة الجذب العاطفي الشعوري الذي يشلّ قدرتي على تحويل يقيني الى فعل ، وصهر عمق معرفتي وقوة إرادتي ، بحيث أكون قادرا على تحويل المشيئة الى قرار،  والقرار الى واقع نافذ .

يجتاز السوق حاجز الستوب .  يتابع اليورو جريه ، وتتابع صفقتي جريها ، في الخسارة طبعا . لقد وقعت في فخ جديد ، أشد قساوة وأدهى .

مئة نقطة خسارة . أقول : لن أقفل صفقتي بالخسارة ، سوف أنتظر ان يعيد لي السوق ما سرقه مني . أقرر الانتظار ، ويطول انتظاري .

السوق لا يعود ، أنا لم يعد بمقدوري إقفال صفقتي الآن . العقود كثيرة ، الخسارة كبيرة . ما تبقى في حسابي لا يمكنه تغطية تراجع جديد للسوق إن حصل .

أنا ، صرت عاجزا عن التدخل في السوق لانقاذ شيء ما . صار دوري مقتصرا على التأمل ، والمراقبة ، والدعاء . ألآن كل شيء بات بيد القدر . الحظ هو الذي سيقرر النتيجة .

ويفعل الحظ فعلته بي . يقرر عني ما كان عليّ أنا تقريره . يتراجع السوق بعض النقاط القليلة . تسقط صفقتي في ما يسمى ال ” مارجن كولل ” ، أي نفاد الإحتياط اللازم في حسابي لتغطية خسارة اضافية .

صفقة جديدة فتحتها !

حماقة جديدة ارتكبتها  !

خسارة جديدة حققتها !

لو اني اكتفيت بالربح القليل لحصلت ربحا عوضا عن الخسارة .

لو اني منعت الخسارة عند مستوى فتح الصفقة ، لكنت قد منعت الخسارة .

لو اني اقفلت الصفقة على مستوى الستوب ، لكنت وفرت على نفسي هذه الخسارة .

لو ، لو ، لو !

كلمة لا يرددها الا الحمقى ، وها أنا أبرهن مرة جديدة على انتسابي الى ناديهم .

 

أصغيت لمحدثي في هذه المرة كما لم أصغي إليه في المرات الماضية . أخذتني بعضٌ من رحمة . رثيت لحاله .

رأيت بمواجهتي نفسا حائرة متألمة ، تبحث عن النجاح ولا تجده ، رغم كونها قد اجتازت مسافة غير قليلة إليه .

أحسست ولأول مرة رغبة عميقة بمحاورته ، لعلها رغبة مدفوعة بشعور خفي ينبئني عادة بوجود إمكانية للمساعدة . الحالة ليست من الحالات الميئوسة .

شعر هو أيضا بهذا التحول المفاجئ في موقفي . رأيت في عينيه بريقا لم أعهده في ساعات السرد .

أيكون قد استبشر بنجاحه في فك الخواتم عن لساني ؟ 

أيكون قد استبشر بسماع ما قد يفتح له أبوابا تعينه في تلمس الطريق ؟

 

لا اعرف إن كنت قد نجحت ، أو إن كنت سأنجح في مساعدة محدثي للخروج من النفق الذي أدخل نفسه فيه .

أنا أعرف بحق أنني سألته وأخبرته ، نبهته و حذرته ، خففت عنه وأشرت اليه ، نهيته عن أمور ووافقته على أخرى .

 

لا اعرف حتى الآن إن كنت قد نجحت في إقناع محدثي بصوابية مذهبي وأحقية آرائي .

لا أعرف إن كنت قد بلغت مرادي في خنق شخصية المضارب فيه وخلق شخصية التاجر .

 

لكنني اعرفُ !

 

أعرف أنني ما ضننت عليه بالحقيقة التي أعرف .

أعرف أنني ما اخفيت عنه سرا كان خفيا عنه . 

أعرف أنني حاورته .

 

وحواري مع محدثي سيكون له سرد قادم في مقال قادم ، إن أذن الله وأعان .

 

 

 

كيف يكون اتخاذ القرار ؟ ( 3) ا

كيف يكون اتخاذ القرار ؟  ( 3)   –  19th September  2005

 

 
الحرامي بالمرصاد .

 
كنت قد تركت صديقي في الجلسة السابقة واقعا في فخ صفقات الحظ ، عارفا ان الربح الممكن منها نادر وقليل ، متوقعا تعليقا مني على ما سرد ، غير ظافر بما توقعه .
وعُدت فالتقيته في هذه الجلسة على ما تركته فيه من همّ ، وبما هو عليه من غمّ . ان شيئا لم يفلح بعد في جعله على الدرب السليم ، ولا هو نفع في حمله الى الهدف القويم .
أكمل محدثي سرده قال :
سمعت في الأسبوع الفائت خبرا ينبئ بان الدولار يتعرض لضغط هائل بفعل إعصار ” كاترينا ” الذي ضرب ولاية ” لويزيانا ” . أدركت انه من الصواب ان أكون في السوق بائعا للدولار . أسرعت الى حسابي . أمرت ببيع عشرة عقود دفعة واحدة . حددت 50 نقطة وقفا لها . مفضلا عدم المخاطرة بما قد يفاجئني من أمور .
شعرت بكوني قد أديت واجبي بكل أمانة . جلست هادئا ، منتظرا ما سيكون .
الدولار يرتفع ببطء . أقول : دقائق وتنقلب الصورة . لا بد من تحقق ما رسمت له .
الدولار يتابع الزحف ارتفاعا . أقول : أتركُ الجهاز لفترة ، رحمة باعصابي .
أحددُ هدفا لصفقتي . أغيب ساعة . أعود . أجد الدولار وقد انخفض أكثر مما رجوت له أن ينخفض .يأخذني الطمعُ . أندم لتحديد هدف لصفقتي . أقول : ليتني أبعدت الهدف أكثر مما فعلت .
أتلهف لرؤية ربحي المحقق . أبحث عنه في خانة الصفقات المقفولة . أتحضر للخبر السار . أصاب بصدمة .
يا لخيبتي ! لقد سرقها السوق مني قبل ان يتراجع . لقد سقط الستوب وضاع كل شيء .
أرمي محدثي بنظرة . اريدها مواساة ، ويظنها شماتة . يأخذه الغيظ  . يثور ، يصيح .
 أهدئ من روعه  . أقول : كان تحصل معي في أول عهدي بالتجارة ، يوم كنت أحتمي وراء حليف خائن ، إسمه الستوب . كنت أثور وأشتم وأهدد وأسعى الى الثأر . ألمؤكد أني لم افلح مرة في الثأر من السوق . الغلبة دوما له . يعطيك راضيا . ولا يعطيك مطلقا مرغما .
 
 
 
النزول في المحطة الخطأ . 
 
صمت محدثي مرة جديدة . بدت علائم القهر على محيّاه . رأيت ان استفزه ليكمل السرد . فعلت . اتهمته بالفشل . قلت : دع ما ليس لك ، أعط خبزك للخباز .
لعل محدثي أصيب في كبريائه . عاد فورا الى السرد . نجحت في ما رميت اليه . بلغت مقصدي . قال :
مضى علي وقت غير يسير مع السوق ، صرت أحسّ غالبا انه مني ، واني منه . بتت أشعر بقدرة على فك رموز كانت تعصي علي في ما مضى .
أنا اراقب تحركات بعينها . انتظرها . أشعر بنبض في السوق اعتدت عليه . أعرف أن هذا وقت شراء . أسمع هاتفا داخليا يهمس اليّ : الآن ، الآن ، علامَ تنتظر ؟
هو يدفعني ، يزرع الثقة في نفسي ، ينزع كلّ شكّ منها .
أراني مقداما . أعملُ ما يجب عمله . انتظرُ . لا يخيب ظني . تسير صفقتي في الربح المرتجى . أحقق نقاط عشرة ،  ثم خمس عشرة نقطة . تزداد دقات قلبي . يملأني شعور بالخشية والرغبة . خشية من فقد ما تحقق ، والرغبة بالحفاظ على برهان نجاحي .
بلا شعور مني ، وبحركة تنطلق من لاوعيي ، وبقرار متسرع ارتجالي أكسر به كل ما أكون قد رسمت من خطط ، أعمد الى اقفال الصفقة ، مهللا للخمس عشرة نقطة المحققة ، مفضلا إياها على النقاط المئة التي أشعر انها آتية . أقول : عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة . أما كها علمونا في المدرسة الابتدائية ؟
ومن يحقق نقاط عشرة ، ألا يستحق كأسا من الشاي ؟
وما ان ارشف الرشفة الاولى حتى يبدأ السوق بالجري ، نقاطي العشرة كانت ستكون خمسين ، لو انني لا ازال صامدا ، وبعد لحظات ، كانت ستكون مئة ، ومئة وخمسين ، يا لحظي التعس .
أغضب وأثور . أقفل الجهاز . أخرج من البيت الى حيث لا سوق ولا تجار في سوق .
يتوقف محدثي عن الكلام . أتقصد ألا أؤذي مشاعره . أحاول أن أخفي عنه ابتسامة . أخشى أن يسيء فهمي . لا أستطيع !
أحول الابتسامة الى ضحكة مدوية . استدرك قائلا : وانا ايضا في اول عهدي كنت اعيش هذه اللحظات .
 
 
الصعود في القطار الخطأ .
 
وهذه غلطة الغلطات ، قد تكون مدمرة ،  سردها لي محدثي ، وساسردها لمن يحب الاتعاظ في الحلقة التالية .
 
 

 

 

كيف يكون اتخاذ القرار ؟ ( 2)ا

كيف يكون اتخاذ القرار ؟  ( 2)   –  15th August  2005

صفقات المتعة .
وما هي إلا لحظات حتى فعل جوابي في نفس محدثي ما شئتُ له أن يفعلَ ، فبان الارتياح على محياه ، وأشرق وجهُهُ ،  وعلت الابتسامة ثغرَه ، وعاودته الرغبة في معاودة السرد ، قال :

أعرف لحظاتٍ تتحكم بي فيها رغبة جامحة في دخول السوق ، وتتملكني احاسيس غريبة لا يسهلُ علي التفلتُ منها . أحاسيس تملأ علي مشاعري ، وتشل أفكاري ، وتعطل كل قدرة فيّ على التحليل . احاسيس تستحيل صوتا ، بل أصواتا ، تطن في اذني : ألآن ، ألآن ، إشترِ ، علامَ تنتظر ؟

ودون إرادة مني ، ودون شعور واعٍ ، –  وهنا تكمن المشكلةُ –  أجدُ نفسي قد ضغطت على حيث يرسَلُ أمرُ الشراء الى السوق ، وتتم لي العملية . وما إن تتمّ لي العمليةُ ، حتى أبدأ بالخوف منها ، وأشرعُ في كرهها . وما من عملية مكروهة يمكنها أن تحقق الربحَ ، هي ساقطة لا مهربَ من ذلك .

ألأحاسيس هذه تحملني إلى طفولتي ، إلى الفرحة التي كانت تمتلكني إن فزتُ بلعبة جديدة ألهو بها ، هي تذكرني بالنشوة التي كانت تتحكمُ بي عندما كنت أركب دراجتي الصغيرة ساعيا لإظهار مقدرتي  . هي تذكرني بفترة شبابي ، في أول عهدي بالقيادة ، بالمتعة التي كنت ابحث عنها وراء مقود السيارة ، فخورا بقدرتي على توجيهها حيث أشاء ، مزهوا بتميزي عن أقراني وتقدمي على رفاقي .

هذه اللذة ذاتها ، وهذه المتعة ذاتها ، وهذه النشوة ذاتها ، وهذه الفرحة ذاتها ، هي التي أبحث عنها الآن دون وعي مني ، في بحثي عن صفقة أفتحها . هي لذة التغلب على شيء ما ، هي متعة التميز عن شيء ما ، هي نشوة امتلاك شيء ما ، هي رغبة تحقيق الغلبة والنصر والإمتلاك .

هذه اللذة ، وهذه المتعة ، وهذه الفرحة التي أبحث عنها ، كلما كانت هي السبب في فتحي لصفقة ، كانت الصفقة خاسرة لا مُحال !!

نعم ، أنا اعرفُ بيتَ الداء ، ولا اجدُ له الدواء !

أنا اعرفُ أن الصفقات التي أفتحها إرضاء للذة ، وإشباعا لرغبة ، وتحقيقا لنشوة ، إنما هي كلها صفقات خاسرة . أنا اعرفُ ذلك ، ولا أستطيعُ للبلية ردا .

  

صفقات الحظ .

أنهى محدثي السرد ، مال الى فنجان كان قد نسيه على طاولة مجاورة ، ارتشف منه شيئا من القهوة ، صمت برهة ، ثم قال :

أقرأ احيانا تقارير الصحف الاقتصادية ، أبحث فيها عن المؤثرات التي يمكن ان توجه السوق أو تتحكم فيه ، أدقق في كل خبر وكل نبأ ، فلا يلفت ناظري شيئا بعينه ، ولا يرجح في تقديري رأي على رأي . أعمد الى التحليل الفني وأبحث فيه عن ضالتي . أريد صفقة تقنعني وأضمن الربح فيها . أدقق في كل المؤشرات . أرسم الخطوط وأحدد مناطق الدفاع والمقاومة . لا يلفت ناظري وجود حالة تستحق الوقوف عندها . حالة يصعب علي وصفها ، لكنني أعرفها، أعرفها جيدا ، فيما لو رأيتها   . حالة أصر على العثور عليها الآن ، ولكنها تعصي علي . أستنفذ صبري . أقول : هذه مقاومة تبدو لي جيدة . أجرب البيع عليها . وأفتح بيعا عليها .

أفتح عملية البيع بعد أن أكونَ قد أدنتُ نفسي من فمي ،  دون شعورٍ مني  .

أما قلت : أجرب البيع عليها . أليست التجربة ضربا من ضروب الحظ ؟ أليس الإتكال على الحظ أسوأ أبواب التعامل وأشدها خطرا ؟

بلى هو كذلك . أنا أعرف ذلك . ورغم معرفتي ، لا أقوى على التملك برغبتي ، فأقع في الفخ .

 صفقتي حظها في الربح قليل . هي صفقة حظ .

توقف محدثي عن الكلام ، ونظر الي كأنه يطلب رأيي في ما سمعت ،  لم يأنس في  رغبة في التعليق ، عاودته الرغبة في الحديث . قال :

 

وما قاله ، وما قلته يتبع سرده في الاسبوع القادم بإذن الله وعونه .

 

 

كيف يكون اتخاذ القرار ؟ ( 1) ا

كيف يكون اتخاذ القرار ؟  ( 1)   –  8th August  2005

 

 
” إجعل لحظة اتخاذ القرار نتيجة تحليل وتدقيق ، إجعلها خلاصة تشوّف وتكشف ، لا دُفعة شهوة جامحة لتحقيق ربح  ، أو شُحنة رغبة متمكنة لممارسة لعبة البوكر . “
 
حادثني أحد معارفي ، قال :
ما فتحت عملية بيع أو شراء إلا وتحكم بي فور فتحها شعورٌ غريبٌ ، يكون أحيانا دغدغة ناعمة واثقة مريحة واعدة ، فيدخل ُ الأمل ُ الى نفسي ، والراحة الى أعصابي ، وأجدُني مستلقيا أراقب السوق بكل هدوء ، وهو يجري كمياه سبيل صافٍ في الاتجاه المُراد . وإذا الربح يتحقق بسهولة ، ويزداد بمرونة . يا لها من لحظات !
ويكون هذا الشعورُ أحيانا في اللحظة التي أفتحُ فيها العملية شعورَ تشككٍ وترددٍ وتخوفٍ ، يكون شعورا تشوبُه الضبابيةُ ويغلفه التشويش ُ ، أسمع صوتا من أعمق اعماقي  يناديني : لا ! لا تفتح هذه العملية . هو صوت تشوّفي وتكشّفي . أعرفه جيدا . أكرهه ، لانه لا ينصاع لي . أمقته ، لانه يعاندني دوما ، ويقف حائلا دون تنفيذ ما أخطط له .  أسارعُ الى إسكاته . أقتله في أعماقي . أخنقه في مهده . أفتح العملية رغما عن أنفه . أزرع  في غرفتي خطوات تخايل وشغف .
وتمرّ لحظات .
وتدقّ لحظة الحقيقة . يتسرب الندم الى نفسي . أدرك أنني أخطأت . لقد فعلت ما لم يكن عليّ فعله . لقد فتحت الصفقة إشباعا لرغبة ، وإطفاء لنارطمع ، وإخمادا للهيب شهوة .هذه هي الحقيقة .
تدقّ لحظة الحقيقة بعد دقائق على فتحي العملية ، وأحيانا بعد ثوانٍ . ولكن بعد أن يكون الأوانُ قد فات .
 لقد فتحت العملية لأنني انتظرت طويلا . انتظرت منذ الصباح ، إنتظرت اللحظة التي يجب عليّ أن أنقضّ فيها على السوق ، اللحظة التي أعرفها جيدا ، اللحظة التي طالما حققت لي الارباح ، ألكثيرالكثير من الارباح .
ولكن انتظاري طال . اللحظة لم تأت . غلبني طمعي . نسيت كلّ ما كنت قد رسمت لنفسي من حدود . أهملت مبادئ تشوفي وتكشفي . دخلت المعركة دون سلاح . انا أعرف اني خاسر . وهكذا يكون . صفقتي خاسرة ، لا أملَ منها يُرتجى .
أنهى محدثي كلامه . صعّد نفسا كان قد احتبسه صدرُهُ .  طأطأ رأسا كان قد رفعه في سردِهِ . تحسّرعلى علّة لا يجد لها دواء .
رأيت من واجبي مواساة محدثي ، قلتُ :
وأنا أيضا ينتابني هذا الشعور ، وكلّ عامل في هذا السوق ينتابه هذا الشعور . أنا أيضا أعيش هذه اللحظات ، وكل عامل في هذا السوق يعيش هذه اللحظات . أنا ايضا أبلغ نفس المبلغ ، وكلّ عامل في هذا السوق يبلغ هذا المبلغ .
أنا ايضا أدخل السوق ، وسرعان ما أدرك بعد دخولي ، إن كان من الصفقة ربحٌ يُرتجى ، أم ان كان منها خسارة لا بدّ من تاديتها . أدرك ذلك غالبا لحظات بعد فتحي العملية .أدركُ ذلك في اللحظة التي يكون فيها الفكر قد تحرر كليا  من وسوسات شيطان الطمع ، وتفلّت نهائيا من هلوسات غليان الجشع .
قلت ذلك لمحدثي مواساة له ، وتخفيفا عنه ، ورفقا به .
ولو وُهِبَت لي الحِدّةُ الواجبة في الكلمة ِ ، ولو قدّرَت لي القسوة اللازمة في الموقفِ ،  ، ولو رُميتُ باللامبالاة تجاه مشاعر محدثي .
لو كان لي كلّ هذا ، لكنت صَدَقتُ محدثي القولَ ، ولكنت أضفتُ :
كان ذلك يحدثُ لي في أوّل عهدي بهذه التجارة ، أما اليومَ فهو نادرا ما يحدثُ لي .
ولو اني قلت هذا ، لكان عليّ أن أضيف غير ممالق :
وأنت أيضا بعد فترة من التمرّس والدُربَةِ والدراية ، ستكونُ متحررا من هذه الآفة ، بإذن الله وعونه .
 
وللجلسة مع محدثي تابع في الاسبوع المقبل .
 

 

 

أدب التشوّف والكشف ، أو فن اتخاذ القرار

أدب التشوّف والكشف ، أو فن اتخاذ القرار    11th June  2005

 

 

التجارة شطارة !
قبل تعريف التجارة ، أما وجب تحديد الشطارة ؟
الشطارة نبالة ، أم نذالة ؟
الشطارة تشوفٌ وكشفٌ ، وكل ما سوى ذلك فانتهازية وحقارة !
التشوف والكشف يُفرَض أن يكونا أشرف آداب التجارة على الإطلاق ، لأن كل نتيجة متحققة ، سلبية كانت أم إيجابية ، إنما هي بلوغ لرسم تمّ تخطيطه ، وخلاصة لتدبير تمّ اعتماده .
التشوف والكشف يُفرَض أن يحملا أبعاد كل حقيقة ، وأن يكشفا كل مستور ، وأن يبلغا بمن نجح في إدراك مرماهما مبلغا هو الى نواة الامور لأدنى بل الى  الرؤيا لأقرب .
إن كل من امتلك أدب التشوف والكشف ، إنما هو قد امتلك أدبا يجرد التجارة ( وبخاصة تجارة سوق المال ) عن مفاهيم خاطئة التصقت بها في عصرنا التصاقا جعلها الى الانتهازية والشعوذة أقرب منها إلى الذكاء الصافي والفهم النقي والبلوغ الفكري الصادق .
إن كل من امتلك أدب التشوف والكشف ، إنما هو قد اختبر بعد معاناةٍ ، وأوقن بعد شكٍ ، وأدرك بعد اختبارٍ ، أن التجارة ( وبخاصة تجارة سوق المال ) ليست شطارة ، وليست لباقة ، وليست لعبا على الحبال ، كما يحلو للبعض ان يصورها .
التجارة ليست شطارة ، ولو أن الشطارة النبيلة المهذبة الايجابية الراقية الشريفة هي خيط من خيوطٍ مكونةٍ لنسيج شخصيةِ كلِ من عمل في التجارة .
 
التجارة في سوق المال تشوفُ أبعادٍ ، وكشفُ أسرارٍ ، وسبرُ أغوارٍ ، وبُعدُ رؤىً .
التجارة في سوق المال سياسة وسلوك وتدبير .
التجارة في سوق المال تشوف وتكشف .
التجارة في سوق المال خطة طريق .
نعم ، هي خطة طريق !!
 
التجارة في سوق المال فنٌ .
هو فن اتخاذ القرار .
هنيئا لمن بلغ  فن اتخاذ القرار .
اذ به ، وبه فقط ، بلوغ المُراد ! 
————————————
 كيف يكون اتخاذ القرار ؟
كيف أحدد ان كنت ناجحا أم فاشلا ؟
كم يجب علي أن أحقق من الربح حتى أصنف من الناجحين ؟
هل هناك استراتيجية محددة يجب ان أتبعها حتى ابلغ النجاح ؟
ما دور توصيات الخبراء في ذلك ؟
اين تكمن خطورتها ؟
اين هي ايجابياتها ؟
الباب الضيق الذي يوصل الى النجاح . اين هو ؟
كيف تكون تجارة أسواق المال مقامرة ؟
كيف تكون تجارة أسواق المال أرقى المهن  ؟
هل تجارة أسواق المال هي للعامة أم للنخبة ؟
من هي النخبة ؟
ان كانت للنخبة هل أستطيع أن أكون من النخبة ؟
هذه وغيرها من الاسئلة التي تدور في خلد كل راغب في دخول هذا العالم سيصار الى مقاربتها وبحثها في مقالات متتابعة إن شاء الله وأذن .
 
 
 

 

 

أدب الجلوس إلى الخوان ، أو فنّ اللا ” يوفوريا ” ا

أدب الجلوس إلى الخوان ، أو فنّ اللا ” يوفوريا ” –   27th May  2005

 

 

أدبُ تناول الطعام . أدبُ ترتيب المائدة والجلوس اليها . أدبُ الدخول في السوق . أدبُ الاشتراك في واحدة من أرقى التجارات .
أوجهُ الشبه عديدة ، ألمقاربة بين الحالتين قد تبسط الامور وتجعلها أكثر جلاء ووضوحا ، نظرا لاشتراك العوام من الناس في الوجه الأول ، وتوقِ البعض من نُخبهم إلى امتلاك فنون الوجه الثاني .
 
كنت منذ فترة غير وجيزة قد عقدت العزمَ على كتابة هذا الفصل والعمل على مقاربة فن دخول السوق من أدب الجلوس الى المائدة . وكأن الصدفة شاءت أن تضع قبالة نظري مشهدا تلفزيونيا يؤدي فيه واحدٌ من كبار نجوم السينما المصرية دور واحد من الباشوات الأكولين أمام مائدة امتدت عليها أطباقٌ حوت كل ما لذ وطاب .
كان الباشا يوشك أن يباشرَ بتناول الطعام ، وكانت عيناه قد جحظتا ، أو كادتا . كان ينظرُ إلى الفراخ المحمرة وقد تملكت وعيَه شهوةٌ جارفة ، وأخذت من جوارحه لذةٌ جامحة ، بحيث إن كل ملمح من ملامح وجهه عكس خشيته العارمة من أن ينبتَ الريش في هذه الفراخ المشوية ، وتعودَ لها الحياة ، ، فتهبّ من الطبق مصفقة بجناحيها ، ناجية بنفسها ، مفوتة عليه ما كان قد منى النفسَ به من شعور بالتلذذ والتنعم والشبع .
 
إستوقفني المشهدُ – وقد برع الممثل في تأديته خير براعة – فخفت ألا تتركَ عينا الرجل من الأطباق لفمِهِ نصيبا . قررت أن أتابع ما تبقى فكان العجبُ .
 
يدان تحملان ما قُدر لهما أن تحملاه ، ثم تعملان على إفراغ حمولتيهما في فم يصعب عليه استيعاب ما أُلقي فيه ، فاذا به يمضغ مقدارا ويبتلع مقدارا ، وهو بين المضغة والمضغة يرمي بقية الأطباق بنظرات تفضحُ كل ما يجول في نفسه من بقية لاحاسيس شهوانية فارغة من كل ما هو غير الطمع والشراهة والنهم والفجع .
أطلت عليك صديقي القارئ في أمر قد تراه غير ذي علاقة بما يفيدنا هنا في موضوعنا ، وأراه غير بعيد عما يشغَل بالك ويشغل بالي على وجه سواء . أطلتُ عليك ولكني لأصدقك القول أني ما فعلت إلا لكون أهمية هذا المشهد بالنسبة لي ليست قائمة بذاتها ، ولكنها كائنة بما يمثل من إقبال مفرط على الشيء ، وشراهة متطرفة في امتلاكه ، ونهم طريف في التهامه ، حتى ولو قارب ذلك حد الضرر ، وانعكاس النتيجة المرجوة  توعكا أو مرضا أو علة أو خسارة أو دمارا . إن أهمية هذه المقاربة تكمن أيضا في ما يمثل الأمرُ من مشابهة حية ظريفة كوميدية ، لحالة من حالات التصرف المحظورة في إدارة شؤون المحافظ التجارية في سوق المال الذي نحن من صلبه وهو هدفنا ومنانا .
 
ثق صديقي القارئ ، وأنا ما توجهت اليك إلا وقد صدقتك القول ، ثق إن آداب تجارتنا لا تقل أهمية عن آداب حياتنا في مختلف وجوهها . فكما أن هذه كفيلة بتمييز عضو إجتماعي عن أعضاء آخرين ، ورفعه الى درجة تفوقهم قيمة وعزة ، وقدرة على التاثير ، إن هو ألم بكل تفاصيل هذه الآداب ، وعمل على احترام كل دقائقها ، وتطبيق كل أوامرها ، وتحاشي كل نواهيها ؛ فكذلك إن آداب السوق كفيلة أيضا ، إن هي أُوليت ما تستحق من الاهتمام والإحترام ، كفيلة بتمييزه عن غيره من جمهرة المتعاملين العاديين ، المتعثرين في خطوات طمعهم ، المتدثرين بعباءات فشلهم .
 
وكما للجلوس الى الخوان آداب كفيلة برفع الجالس الى مصاف المختارين من الحضر ، أو بخفضه الى درك الهمج المتخلفين عن امتلاك أصولَ اللياقة والذوق السليم ؛ فإن للدخول في السوق آدابا كفيلة برفع الداخل الى مصاف الفالحين الناجحين الواصلين ، أو بخفضه الى مصاف الفاشلين الخائبين اليائسين .
وكما أن عينَ الآكل لا يجوز لها أن تلتهم الطعام قبل فمه . وكما ان تناولَ الطعام ومضغَ الادام يختلف عن الافتراس والإلتهام . فكذلك لا يجوز لعين المتعامل أن تقبل على السوق ملتهمة كل ما فيه ، مهللة للربح قبل حصوله ، محولة الأمنية حقيقة قبل تحققها ، بانية الأمجاد قبل الشروع فيها ، محتلة مكانا مخصصا لغيرها ، عارفة بكل شيء الا بذاتها ، سليمة من كل آفة إلا من أشدها خطرا : عنيت ال ” يوفوريا ” .
 
وكما أن يدَ الآكل يجب أن تكونَ رفيقة بمعدته رحيمة لها ، تحملها ما بوسعها ، وتوفر عليها عبء الضار من الاحمال ، فلا تدفع الى جوفها ما لا تتسع اليه ، وما ليس للجسم حاجة به ؛ فكذلك ترى المتعاملَ الحضاريَ مضطرا لأن يقيس بمقياس العقل ما يمكن أن يكون هو محتاجا اليه ، قادرا عليه ، وان يزين بميزان الحكمة ذلك الحد الفاصل بين ما يكفيه ، وبين ما تتسبب به قرارات جشعه  ونبؤات طمعه ، من أحمال ،لا وسع لأعصابه ولا حيلة لحسابه على تحمل تبعاتها . إن على كل داخل في هذا السوق أن يُحسن التفريق بين ما هو له ، وما هو لسواه  ؛ بين ما يمكن أن يكون له مفيدا ، وما يمكن أن يكون به ضارا ؛ بين حِمل يمكنه القيام به والسير فيه بتؤدة الى الهدف ، وحملٍ يتحول عبئا عليه ، فيَحُول بينه وبين ما خطط له . إن على كل داخل الى هذا العالم التجاري الفائق الأهمية أن يحسنَ تحاشي ال ” يوفوريا ” وكل ما تستتبعه من كوارث ، وأن يتمكن من فن اللا ” يوفوريا ” فيستوعبه كلية، ويجعل منه بندا أساسيا من بنود دستوره ، وقانونا رئيسيا في شرائع سياسته .
 
وكما أن آداب الجلوس الى المائدة تحتم على الآكل أن يأكل بموجب الحكمة الذهبية القائلة ” علي أن آكل لأعيش لا أن أعيش لآكل ” ؛ فإن آداب الدخول الى السوق ، وفن اللا ” يوفوريا ” يحتمان على كل متعامل أن يعمل بهدي مقولة مماثلة ، أراها من الأهمية بحيث انها تستحق أن تكتب بغير حبر ، وعلى غير ورق ، وأن تعلق حيث لا يغيب نظر . عنيت : ” إن قانون اللا  يوفوريا يحتم علي أن أتاجر لأعيش ، لا أن أعيش لأتاجر ” . والفارق شاسع بين الحالتين ، ولا أظنه يغيب عن كل لبيب . ومَن غير اللبيب من الإشارة يفهم .
 
 
وكما أن آداب المائدة تفرض على الآكل ، أو المشارك في الطعام ، إن هو اخطأ في المضغ لتعجلٍ أو ارتباكٍ ، فعض طرف لسانه ، ألا يثور ويغضب ، فيقلب الطاولة على الجالسين بمعيته ،  أو يعكر صفو الجلسة بولولة وشتم وتهديد . فإن فن اللا ” يوفوريا ” تفرض على المتعامل ألا يغذي مشاعر الحقد على السوق إن هو اُصيب بخسارة ، أو وقع في مأزق ، وأن لا يسعى بأية حال الى الإنتقام  منه في محاولة يائسة تهدف الى استرداد ما يعتبره حقا سليبا . وإن هو انزلق الى هذا الدرك فانما يعرض نفسه الى هزيمة نكراء مزدوجة ، والى خسارة شوهاء مضاعفة لن تكون له من السهل القيامة منها ، لان معاداة السوق لا تورث الى الخسارة ، ولان المندفع وراء إرادة الانتقام والثأر فإنما هو قد حكم على عقله بالتجمد ، وعلى أعصابه بالشلل ، وعلى إرادته بالتوقف ، وعلى مصيره بالفشل .
 
وكما أن آداب المائدة تفرض على الآكل ، أو المشارك في الطعام ، أن لا يجلسَ على المائدة إلا بعد أن يكونَ قد اهتم بنظافة يديه وفمه وكل ما يدخل اليه من غذاء ، حرصا على سلامة جسمه ومكونات بدنه ؛ فإن آداب دخول السوق تفرض على المتعامل أن لا يقاربَ جهاز عمله وأن لا يباشرَ نشاطه – حتى ولو كان يمارس عمله من جهاز في غرفة نومه – إلا إن هو عمد الى ايفاء جسده حقه ، وإن هو لبس رداء العمل النظيف ، نظرا الى كون النظافة الخارجية تعطي صاحبها شعورا خفيا بالنظافة الداخلية ، و لما في ذلك من إضفاء لحيوية وإدخال لفرح وإفاضة لبهجة  على النفس والروح ، ومن تيقظ للعقل ومن توقد للفكر ومن تحفيز لشدة الانتباه ودقة الملاحظة وقدرة المقارنة وصوابية الحكم ، من خلال ما يوفر للاعضاء من راحة ومناخ .
 
وكما ان آداب الاكل أن لا يُدخل الآكلُ طعاما على طعام فلا يأكلُ إلا عند إحساسه بالجوع ، ولا يشربُ إلا عند إحساسه بالعطش ، كي لا يُفسدَ نظام جسده ، السائر وفق وتيرة تأليف مبدع في سمفونية موسيقية تنسجم فيها كل اعضاء الجسد مؤدية لوظائف محددة . فإن آداب الدخول في السوق تقضي كذلك عدم الأفراط في الهجوم على السوق ، بصفقات قد تصيب المتعامل بتخمة ترهق اعصابه ، وتتعب فكره ، فيضل في غياهب لا يجد لنفسه منها نجاة . ومن هنا فالوصية هي إعطاء النفس فترة من الراحة بعد كل صفقة سواء كانت صفقة ربح أو خسارة ، لتهدأ الأعصاب وتستقيم دورة الدم ويصير الفكر مهيئا لمعاودة التخطيط والتحليل . هذا هو النظام الطبيعي السليم ، وكل ما سواه إنما يصنف ضمن قانون ال ” يوفوريا ” البغيض .
 
وإذا كانت النباتات والأزهار  ، بما تفوح به من روائح زكية ومناظر مريحة ، تُدخل على المائدة جوا مؤنسا لطيفا يساعد النفس على الانشراح ، ويساهم في تسهيل عملية الافادة مما يتناوله الجسم من طعام كثيف بتمرير جزيئياته الى ألطف اللطيف من الاعضاء ؛ كما أن ذلك صحيحا ، فإن تزيين مكان العمل بلوحات فنية مشرقة ، وتخصيصه بزهيرات وردية وأخرى سماوية أو بيضاء نقية ، يُدخل الفرحَ الى النفس ، والمرحَ الى الطباع ، فيتم التغلب على آفة ال ” يوفوريا ”  ويحضر روح الخير مرفرفا على المكان ساكنا فيه .  ولا يخفى ما لروح الخير من أثر في جعل البركة تحل والنعمة تُطل ، فتفتح أبوابُ الرزق ، وتُشرع نوافذُ الخير .
 
ولا يستهينن أحدٌ بما تقدم ، فإن مداواة العلة غالبا ما تكون بلمسة تحمل الشفاء ، أو بهمسة تطرد البلاء ، أو ببسمة تستدرج قبسا من النور المحيي . ومَن غيرُ النور المحيي قاهرٌ لظلمات النفس التائهة ، وملقنٌ لفنٍ اسمُهُ : فن ال ” لا ي و ف و ر ي ا ” .
 
 
 
 
 
 
 

 

 

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات