اتفقت المملكة المتحدة مع الاتحاد الأوروبي على الكثير من الأمور مؤخراً. لكن كلاهما سوف يحظى بالوجود في هذا العالم متحررين عن بعضهما البعض.
تبعد المسافة بين لندن وبروكسل حوالي ساعتين بالقطار، ولكن في يوم الجمعة؛ اليوم الذي تغادر فيه المملكة المتحدة رسمياً عضوية الاتحاد الأوروبي، استشعرت المدينتان الانفصال الحقيقي عن بعضهما البعض.
اقام البريطانيون احتفالات «بريكست»، التي تشبه تحرر الدولة المستعمرة المضطهدة من نير الحكم الإمبريالي البغيض. ولقد سُكّت عملة معدنية جديدة تذكاراً لهذه المناسبة، تحمل عبارة «السلام، والازدهار، والصداقة لكل شعوب الأرض». وكان هناك عرض ضوئي للاحتفال باستعادة المملكة المتحدة لاستقلالها. وليس مهماً أن المملكة المتحدة لم تعتمد عملة اليورو الأوروبية، وهي ليست جزءاً من منطقة «شنغن» لحرية الانتقال بين الحدود، ووفقاً لاختبار الجنسية البريطاني الخاص، كانت آخر مرة تعرضت فيها المملكة المتحدة للغزو في عام 1066. وجرى تعليق شعار «استعادة السيطرة مجدداً».
يرى المسؤولون والدبلوماسيون، الذين يقودون سياسات الاتحاد الأوروبي المؤلف من 27 دولة، الأمور من منظور مختلف بعض الشيء. فلاعملة جديدة، أو عرض ضوئي، وإنما الكثير من الشعائر الجنائزية! فهذه هي المرة الأولى التي تغادر فيها دولة من كبار أعضاء الاتحاد، وإنها خسارة كبيرة بكل المقاييس: فسوف تغادر بريطانيا بصحبة 14 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي، مع 40 في المائة من القوة العسكرية، فضلاً عن 13 في المائة من سكان أوروبا. ويعتبر «بريكست»، «كارثة جيوسياسية هائلة»، على حد وصف وزير المالية الهولندي فوبكي هوكسترا، وهو «خسارة كاملة المعالم»، وفقاً لما قاله ميشيل بارنييه كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي، ودوَّنه في مسندات الانفصال.
وتبدو الهتافات والدموع شديدة التطرف للوهلة الأولى لدى الجانبين، مع الأخذ في الاعتبار النذر اليسير من التغييرات التي شهدها الواقع يوم الجمعة. إذ تعني اتفاقية الانتقال التي جرى إبرامها، جزءاً من الخروج البريطاني من عضوية الاتحاد الأوروبي، أنه في غضون الـ11 شهراً المقبلة، سوف يتم التعامل مع المملكة المتحدة كما لو أنها لا تزال جزءاً من الاتحاد الأوروبي (على الرغم من تراجع الوجود الرسمي البريطاني في بروكسل). وسوف تستمر حرية حركة السلع ورأس المال والعمالة، كما كانت من قبل. ومن المحتمل أن تشهد محادثات اتفاقية التجارة الحرة قدراً من الصعوبة، كما هو متوقع، غير أن واقع الجغرافيا والطبيعة المتشابكة لاقتصادات المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي تشير إلى أنه سوف تكون هناك محفزات للمحافظة على وثاقة العلاقات بين الجانبين.
وفي حين أن أنصار «بريكست» يؤيدون «بريطانيا العالمية» كثقل موازن لسوق الاتحاد الأوروبي الحرة ذات الطبيعة الحمائية، فإننا لم نشهد حتى الآن حالة الانقسام الحقيقية بشأن ملفات التجارة والجغرافيا السياسية. وفيما يتعلق بمخاطر الأمن السيبراني من جانب الصين، فلقد قاومت المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي الضغوط الممارسة من جانب الرئيس الأميركي بشأن حظر أعمال شركة «هواوي» الصينية وشبكات الجيل الخامس للخدمات المحمولة الخاصة بها، كما رفضت أيضاً منح بكين الحرية المجانية للوصول إلى الأسواق الأوروبية. وعندما يتعلق الأمر بفرض الضرائب على الشركات التكنولوجية مثل «فيسبوك» أو «أمازون»، وجدت المملكة المتحدة نفسها تتخذ الموقف نفسه المعتمد من قبل فرنسا وإيطاليا، مع مقترحات فرض الضرائب الوطنية على الخدمات الرقمية التي تثير حفيظة، وربما غضب، الرئيس دونالد ترمب. أما بالنسبة إلى إيران، وقفت المملكة المتحدة إلى جانب فرنسا وألمانيا فيما يتصل بالاتفاق النووي الإيراني.
بيد أن حالة الوفاق الراهنة ليس من المتوقع لها الاستمرار لفترة طويلة. فكل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي يحاولان اقتطاع مكان منفصل لكل منهما على المسرح العالمي الذي تهيمن عليه راهناً الولايات المتحدة والصين. ويتطلع البريطانيون إلى التراجع عن أكبر سوق منفردة في العالم لصالح اقتصاد الجزيرة الإنجليزية ولمسته الناعمة، في حين تصور الخبراء تحول بريطانيا إلى ما يشبه سنغافورة على ضفاف التايمز، أو كندا الأوروبية، أو ربما بروكسل ذات الرؤوس النووية!
ويتحرك الاتحاد الأوروبي في الاتجاه المعاكس، ذلك الاتجاه الذي يعيد إلى الذاكرة تاريخ أوروبا إبان حقبة الحرب الباردة. وعندما انضمت المملكة المتحدة إلى المنظمة السابقة على الاتحاد الأوروبي في عام 1973، جنباً إلى جنب مع آيرلندا والدنمارك، ارتأت القوى القارية من شاكلة فرنسا الأمر على أنه مفاضلة: فإن أوروبا تتحرك على المسار الأطلسي بقوة دفع آلية، وعلى المسار الاقتصادي بقوة دفع ليبرالية، ولكن مكانتها سوف تنمو أيضاً مع اكتساب الكلمة المسموعة في الأوساط الدولية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي آنذاك. واليوم، ومع مغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي، انعكست المفاضلات كثيراً. حيث يتراجع تأثير الأطلسي لدى الاتحاد الأوروبي، ويتجه نحو سياسات اقتصادية أقل ليبرالية، مع درجة أكبر من التكامل الأوروبي – الأوروبي التي من شأنها الاستجابة لاهتمامات واحتياجات المواطنين مع قدر أكبر من التوازن في وجه الولايات المتحدة والصين.
ومن المحتمل أن يُنظر إلى «بريكست»، على اعتباره فرصة سانحة للتكامل الأوروبي الداخلي الوثيق، مع اعتباره أيضاً مفتاحاً أساسياً لتحقيق السيادة الجيوسياسية والتكنولوجية. وكانت الكتلة الأوروبية الأكثر وثاقة وترابطاً هي ما كانت بريطانيا تحارب بكل قوة للحيلولة دونها. على سبيل المثال، كان تكامل منطقة اليورو الاقتصادي هو أحد محفزات المغادرة البريطانية لعضوية الاتحاد. وفي حين أن ألمانيا سوف تنتحب لرحيل الصوت الليبرالي المؤيد لسياسات السوق، فإنه من العسير على الفرنسيين كتمان أو احتواء فرحتهم بذلك الرحيل. وقال الوزير الفرنسي الأسبق آلان لاماسور، مصرحاً لصحيفة «لوموند»، «ظل البريطانيون يشكلون وخزاً مؤلماً للغاية في خاصرة أوروبا منذ عام 1973، ومن شأن مغادرتهم أن تتنفس أوروبا الصعداء ولو بالقدر اليسير».
سوف تمثل الـ11 شهراً المقبلة معركة محتدمة وحاسمة بين هذه الطموحات المتنافسة. وسوف يسعى الاتحاد الأوروبي إلى ربط بريطانيا بالقرب من مداره التنظيمي للحيلولة دون تحولها إلى جسر رئيسي يعبر عليه النفوذ الأميركي إلى قلب القارة العتيقة، وفي الأثناء ذاتها، سوف تغري الولايات المتحدة بريطانيا نحو إقامة علاقات أكثر قوة ورسوخاً، بهدف تعويض فقدان التجارة غير الاحتكاكية مع الجارة الأوروبية الكبيرة. وحتى الآن، لا يزال هناك قدر كبير من التقارب بين الجانبين. ولكن واشنطن وبكين لا تلزمان الصمت والأيادي المكتوفة، فمن شأن الأجواء أن تزداد قتامة في المستقبل المنظور.