في حصيلة انحدار سنوية غير مسبوقة خلال ثلاثة عقود متتالية، شهدت أحدث البيانات المصرفية المجمعة لدى مصرف لبنان المركزي تقلبات حادة شملت مجمل بنود الميزانية الإجمالية، بما يثبت حدة التداعيات التي ضربت القطاع في ظل موجات الاحتجاجات الشعبية العارمة التي اندلعت في 17 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، وأنتجت تغييرا حكوميا… ثم كشفت هشاشة الوضع المالي القائم وتعقيداته. توازيا مع اضطرابات متواصلة في تعاملات المصارف مع عملائها وفي أسواق صرف العملات وفي سبل التعامل مع استحقاقات وشيكة لسندات دين دولية.
وإذ سمح البنك المركزي بتأخير إفصاحات البنوك استثنائيا إلى حين إنجاز الميزانيات المدققة، وبما يشمل البنوك المدرجة أسهمها في البورصة، يمكن استنباط أداء القطاع ككل من خلال جداول البيانات الموقوفة في نهاية السنة المالية، مقارنة مع البيانات الموقوفة في نهاية الفصل الثالث، والذي يصح اعتماده كمرجعية إحصائية لما «قبل الثورة». علما بأن المصارف درجت على عقد جمعياتها العمومية والمصادقة على النتائج المحققة خلال الفصل الثاني من كل عام.
وأمكن من خلال الجداول التي اطلعت عليها «الشرق الأوسط»، رصد انخفاض إجمالي أصول الجهاز المصرفي بشكل مثير من نحو 249.5 مليار دولار في بداية العام 2019. إلى نحو 217 مليار دولار في ختامه، أي بقيمة تناهز 33 مليار دولار ونسبتها نحو 15 في المائة، جلها طرأ في الشهر الأخير من السنة. علما بأن إجمالي الأصول بلغ مستواه الأعلى عند 262 مليار دولار في نهاية شهر أكتوبر؛ مما يعني أن الانحدار عن الرقم الأعلى بلغ نحو 45 مليار دولار وزادت نسبته عن 20 في المائة.
وظهر رقم لافت في المدرجات المؤثرة بتكوين الأصول المجمعة وتطورها، حيث انحدر بند محفظة إيداعات المصارف لدى البنك المركزي بمقدار يناهز 15 مليار دولار على أساس سنوي. لتنحدر بدورها إلى نحو 118.2 مليار دولار انطلاقا من نحو 133 مليار دولار في بداية العام الماضي، ووصولا إلى الرقم الأعلى الذي بلغ نحو 156 مليار دولار في نهاية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك نتيجة إعادة هيكلة القيود وتلبية حاجات البنوك إلى السيولة النقدية للتعامل مع موجات السحوبات اليومية في الردهات وعبر أجهزة الصرف الآلي، وتلبية التحويلات المتصلة بالزبائن أو بعمليات تجارية ضمن التدابير المعتمدة وإجراء عمليات مالية بين الطرفين.
ويقدر أن إجمالي ودائع الزبائن (المقيمين وغير المقيمين) قد تقلص إلى ما دون 160 مليار دولار في نهاية العام، مقابل نحو 174 مليار دولار في نهاية العام الأسبق، مراكما بذلك نزفا يزيد عن 15 مليار دولار على مدار السنة المالية.
ومعظم السحوبات تمت في الشهرين الأخيرين وتحولت إلى التخزين في المنازل، مما يخفف من وطأة الانحدار وتداعياته على اعتبار أن الأموال المخزنة ستعود إلى المصارف حال استعادة هدوء الأسواق وإعادة بناء الثقة بين المودع والبنك، والتي تزعزعت بفعل تحليلات وشائعات نشرت الهواجس والمخاوف من ضياع المدخرات، فضلا عن التأثير العكسي للتدابير المشددة التي تعتري مجمل التعاملات المصرفية. علما بأن إجمالي ودائع الزبائن المقيمين سجل تراجعا يماثل 7.42 مليارات دولار حتى نهاية نوفمبر من العام الماضي.
في السياق، أظهر بند ودائع غير المقيمين، والذي يشمل ودائع لبنانيين عاملين في الخارج ومغتربين، انكماشا بمقدار 4.17 مليار دولار، أي بنسبة تقارب 13 في المائة بين نهاية الفصلين الرابع والثالث من العام الماضي. بينما بلغ مجموع التراجع السنوي نحو 5.3 مليار دولار، ليصل الإجمالي إلى 32.45 مليار دولار منحدرا من 37.7 مليار دولار، أي بنسبة 16.33 في المائة. والرصيد موزع بين 29.3 مليار محررة بالدولار، وما يماثل 3.1 مليارات دولار محررة بالليرة.
ومن المهم التنويه في هذا السياق إلى القيود المشددة المفروضة على حركة التحويلات إلى الخارج، والتي تشمل ودائع المقيمين وغير المقيمين على حد سواء. مع الإشارة إلى بدء تحركات من قبل النيابة العامة التمييزية من جهة ومن قبل هيئة التحقيق الخاصة ولجنة الرقابة على المصارف من جهة موازية، تهدف إلى تتبع حركة الأموال الخارجة من المصارف طوال العام الماضي، والتدقيق في حال وجود شبهات ذات ارتباط بشخصيات سياسية أو ضمن الإدارة العامة للدولة «PEP، s».
وسجل إجمالي التسليفات الموجهة للقطاع الخاص المحلي من أفراد وشركات تراجعا حادا في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الماضي، بلغت قيمته ما يماثل 3.53 مليار دولار. لتصل بذلك حصيلة التراجع في كامل السنة المالية إلى 7.88 مليار دولار، ومن دون احتساب مردود المحفظة على مدار السنة، ليقفل إجمالي البند على نحو 43.9 مليار دولار انطلاقا من نحو 51.8 مليار دولار، أي بتراجع إجمالي نسبته نحو 18 في المائة على أساس سنوي. وهو ما يعكس حدة الانكماش التمويلي، في ظل نمو سلبي مرتقب للناتج المحلي وتفاقم حالات إقفال الشركات أو خفض أنشطتها في أغلب القطاعات الإنتاجية وصرف عشرات الآلاف من العاملين في القطاع الخاص وخفض المداخيل للمستمرين بالعمل، ولا يزال هذا المسار يندفع قدما بفعل الاضطرابات السائدة في الأسواق.
في المقابل، سجلت التسليفات الموجهة للقطاع الخاص غير المقيم ضمن نطاق انتشار البنوك اللبنانية إقليميا ودوليا، تقلصا بقيمة تناهز 1.1 مليار دولار في الأشهر الثلاثة الأخيرة، معززة القيمة الإجمالية إلى 1.54 مليار دولار من بداية العام الماضي. وبذلك وصلت قيمة المحفظة الإجمالية إلى 5.57 مليارات دولار، بما يشمل الفوائد المترتبة على عمليات التمويل… وبذلك انحدرت قيمة محفظة التمويل الإجمالية للقطاع الخاص المحلي والخارجي من نحو 59 مليار دولار إلى نحو 49.5 مليار دولار، أي بتراجع إجمالي يقارب 19 في المائة.
علي زين الدين.