حِملُ الدين العام يُثقل كاهل المواطن… والوطن
تبلغ قيمة خدمة الدين العام سنوياً نحو 6 مليارات دولار وهي تُشكّل 36 في المئة من حجم النفقات العامة وتمتصّ نصف قيمة الإيرادات. وعليه فإن لا حلّ للأزمة الإقتصادية والنقدية إلا بطَرق هذا الباب أو “تكسيره”، وهذا ما يبدو لغاية اللحظة صعب المنال نتيجة تشابك العوامل السياسية مع المنافع المصرفية.
يظهر من خلال البيان الوزاري أن ضبط الدين العام والتصدّي لخدمته الهائلة، والتي يقع من ضمنها استحقاقات “اليوروبوندز” المتلاحقة هذا العام، قد استعصى على حكومة مواجهة التحديات. فالمعالجة اقتصرت على تكرار عناوين التعاون بين ثلاثية: الدولة، المصارف التجارية ومصرف لبنان، أما الحلّ برأيهم فهو ببساطة: تخفيض الفوائد. فهل ما زال هذا المرهم يشفي من علّة تضخّم الدين العام المترافق مع أسوأ أزمة نقدية، وتلاحق مخاطر العجز عن تأمين أبسط مقومات العيش في سبيل خدمة الدين؟
القصّ والتخفيض… واحد
الخبراء لا يفصلون بين “قص الديون” وتخفيض الفوائد عليها، فالطريقتان تقودان إلى نتيجة واحدة على ميزانيات المصارف والمستثمرين، وهو ما كانت المصارف ترفضه رفضاً قاطعاً في أيام الرخاء بحجة إلحاق الخسائر، فكيف الحال في ظل هذه الأزمة؟
المصرف المركزي والمصارف التجارية يمثّلان الدائنين الأكبرين بالنسبة إلى الدولة، وأي سياسة جدية لخفض كلفة الدين العام يجب أن تمر عبرهما وبواسطتهما. إلا ان المشكلة هي ان القطاع المصرفي، وبغض النظر عن الغوص في الأسباب، قد حمل على مدار السنوات أكثر من طاقته، وقد تورط في أربعة مجالات أساسية أصيبت كلها بالتعثر، وأبرزها:
سندات الخزينة، شهادات الإيداع في مصرف لبنان، أو بمعنى آخر الدين العام الذي يشكل حوالى 70 في المئة من موجودات المصارف، تمويل القطاع العقاري بأكثر من 20 مليار دولار وتمويل القطاع الخاص وبعض القطاعات الإنتاجية.
إعادة الجدوَلة
“لم يعد من مهرب من تحمّل القطاع المصرفي خسائر إعادة جدوَلة الدين العام سواء من خلال تخفيض الفوائد أو عبر إعادة هيكلة الدين” يقول رئيس مجلس إدارة FFA Private Bank جان رياشي.
الدولة تواجه مشكلتين أساسيتين: الأولى قريبة المدى، تتمثّل في المفاضلة بين دفع استحقاق آذار على سندات “اليوروبوندز” البالغة 1.2 مليار دولار والتي يحمل المستثمرون الأجانب من صناديق وأفراد قسماً كبيراً منها، وبين توفير السيولة الضئيلة الموجودة في القطاع المالي بشكل عام من أجل تأمين حاجات الإستيراد الاساسية.
والثانية متوسطة وطويلة المدى، وتتلخّص في خفض حجم الدين العام عبر إعادة جدوَلته وتخفيف عبئه من أجل الوصول إلى توازن الموازنة.
الاقتصاد اللبناني برأي رياشي “لن يتحمّل حجم الدين العام وطريقة تعاظمه في السنوات القادمة. إذ انه كلما زادت خدمة الدين كلما زاد حجم التضحيات في الموازنة، والتي تنعكس بشكل مباشر على المستهلكين وعلى القطاعات الانتاجية من خلال زيادة الضرائب”.
العلاقة الطردية بين متغيري “الدين العام” و”التضحيات في الموازنة” لا تقلل من حجم الخسارة التي تفوق 60 مليار دولار تبحث عمن يتحملها. وبحسب رياشي فإن “الخسارة يجب ان تتوزّع على أساس العدالة الإجتماعية، أي تحميل الفئات الضعيفة أقل من الفئات القادرة، وان تأخذ بعين الإعتبار إمكانية إعادة النهوض بالإقتصاد في المستقبل”.
تداعيات المرحلة المقبلة المالية والقانونية تتطلّب من وجهة نظر مختلف الآراء الإقتصادية ضرورة الإستعانة بالخبرات الدولية المتخصصة التي اختبرت هذه الحالات في غير بلدان. وعلى الخبراء أن يمتلكوا النظرة القانونية العميقة للتفاوض على ديون لبنان الخارجية بشكل أساسي.
التركيز على الديون الخارجية يفترض ان الخسارة على الديون المحلية واقعة حكماً، ولكن هذا لا يعني إقتصادياً عدم مقاربة تخفيض الديون بميزان الجوهرجي. إذ انه مع غياب إمكانية اعادة إصدار سندات جديدة يصبح دفع أصل الدين يتطلب الإستدانة بفوائد أعلى، ويفرض خفض الديون من جهة أخرى إبقاء أموال المودعين لدى المصارف محجوزة.
الداء… والدواء
خبير اقتصاد النفط وتنمية الموارد البشرية فادي جواد يعتبر ان “لا مفرّ من اعتماد الحكومة، وبشكل فوري، على القطاع المصرفي الذي استفاد من مردود الفوائد الهائل من سندات الخزينة والديون الحكومية، لتحمّل المسؤولية بدلاً من تسديد فاتورة خدمة هذا الدين من جيب المواطن المحجوزة امواله اصلاً”.
ويلفإلى أن القطاع المصرفي “يمثّل 5 في المئة من الناتج المحلي اللبناني، وأرباحه وصلت في السنوات العشر الماضية لأكثر من 10 مليارات دولار، بينما لم تتجاوز قبل عشرين سنة 436 مليون دولار. وبالمقارنة مع المصارف الأجنبية فإن صافي أرباح كل من بنك لبنان والمهجر وعودة مثلاً بلغت في العام 2018 ما يقارب 510.42 ملايين دولار و 500.56 مليون على التوالي، وهذه الارباح توازي ارباح كبريات البنوك العالمية مثل “ستاندرد تشارترد” في بريطانيا التي يبلغ عدد سكانها 65 مليون مواطن. وهذا يُظهر ان المستفيد الاكبر من الوضع القائم هي المصارف والقائمون عليها من سياسيين وعائلات حاكمة”.
هذا الواقع يتطلّب معالجة جدّية يجب على الحكومة حصر عناوينها النقدية بالإجراءات التالية: “ايقاف اصدار سندات جديدة لوقف النزف لحين معالجة الفساد المستشري، عدم اقتراض دين جديد لخدمة دين قديم، إيقاف الفوائد المستحقة للمصارف لمدة 3 سنوات ما سيوفر حوالى 3 مليارات دولار تقريباً عن كل سنة، فرض ضريبة بنسبة 50 في المئة على أرباح المصارف البالغة حوالى 2,8 مليار دولار في العام 2018 وهو ما يؤمن 1,4 مليار دولار في السنة لخزينة الدولة، وقف التوظيف الحكومي لمدة 5 سنوات، خفض النفقات الحكومية، معالجة وضع الكهرباء عبر مشاريع PPP، ووقف الهدر الذي سوف يحقق وفراً يصل الى 35%”، يختم جواد.
خالد أبو شقرا.