أزمة لبنان: إعادة الجدوَلة أمر واقع… على رؤوس الجميع!

حِملُ الدين العام يُثقل كاهل المواطن… والوطن

تبلغ قيمة خدمة الدين العام سنوياً نحو 6 مليارات دولار وهي تُشكّل 36 في المئة من حجم النفقات العامة وتمتصّ نصف قيمة الإيرادات. وعليه فإن لا حلّ للأزمة الإقتصادية والنقدية إلا بطَرق هذا الباب أو “تكسيره”، وهذا ما يبدو لغاية اللحظة صعب المنال نتيجة تشابك العوامل السياسية مع المنافع المصرفية.

يظهر من خلال البيان الوزاري أن ضبط الدين العام والتصدّي لخدمته الهائلة، والتي يقع من ضمنها استحقاقات “اليوروبوندز” المتلاحقة هذا العام، قد استعصى على حكومة مواجهة التحديات. فالمعالجة اقتصرت على تكرار عناوين التعاون بين ثلاثية: الدولة، المصارف التجارية ومصرف لبنان، أما الحلّ برأيهم فهو ببساطة: تخفيض الفوائد. فهل ما زال هذا المرهم يشفي من علّة تضخّم الدين العام المترافق مع أسوأ أزمة نقدية، وتلاحق مخاطر العجز عن تأمين أبسط مقومات العيش في سبيل خدمة الدين؟

القصّ والتخفيض… واحد

الخبراء لا يفصلون بين “قص الديون” وتخفيض الفوائد عليها، فالطريقتان تقودان إلى نتيجة واحدة على ميزانيات المصارف والمستثمرين، وهو ما كانت المصارف ترفضه رفضاً قاطعاً في أيام الرخاء بحجة إلحاق الخسائر، فكيف الحال في ظل هذه الأزمة؟

المصرف المركزي والمصارف التجارية يمثّلان الدائنين الأكبرين بالنسبة إلى الدولة، وأي سياسة جدية لخفض كلفة الدين العام يجب أن تمر عبرهما وبواسطتهما. إلا ان المشكلة هي ان القطاع المصرفي، وبغض النظر عن الغوص في الأسباب، قد حمل على مدار السنوات أكثر من طاقته، وقد تورط في أربعة مجالات أساسية أصيبت كلها بالتعثر، وأبرزها:

سندات الخزينة، شهادات الإيداع في مصرف لبنان، أو بمعنى آخر الدين العام الذي يشكل حوالى 70 في المئة من موجودات المصارف، تمويل القطاع العقاري بأكثر من 20 مليار دولار وتمويل القطاع الخاص وبعض القطاعات الإنتاجية.

إعادة الجدوَلة

“لم يعد من مهرب من تحمّل القطاع المصرفي خسائر إعادة جدوَلة الدين العام سواء من خلال تخفيض الفوائد أو عبر إعادة هيكلة الدين” يقول رئيس مجلس إدارة FFA Private Bank جان رياشي.

الدولة تواجه مشكلتين أساسيتين: الأولى قريبة المدى، تتمثّل في المفاضلة بين دفع استحقاق آذار على سندات “اليوروبوندز” البالغة 1.2 مليار دولار والتي يحمل المستثمرون الأجانب من صناديق وأفراد قسماً كبيراً منها، وبين توفير السيولة الضئيلة الموجودة في القطاع المالي بشكل عام من أجل تأمين حاجات الإستيراد الاساسية.

والثانية متوسطة وطويلة المدى، وتتلخّص في خفض حجم الدين العام عبر إعادة جدوَلته وتخفيف عبئه من أجل الوصول إلى توازن الموازنة.

الاقتصاد اللبناني برأي رياشي “لن يتحمّل حجم الدين العام وطريقة تعاظمه في السنوات القادمة. إذ انه كلما زادت خدمة الدين كلما زاد حجم التضحيات في الموازنة، والتي تنعكس بشكل مباشر على المستهلكين وعلى القطاعات الانتاجية من خلال زيادة الضرائب”.

العلاقة الطردية بين متغيري “الدين العام” و”التضحيات في الموازنة” لا تقلل من حجم الخسارة التي تفوق 60 مليار دولار تبحث عمن يتحملها. وبحسب رياشي فإن “الخسارة يجب ان تتوزّع على أساس العدالة الإجتماعية، أي تحميل الفئات الضعيفة أقل من الفئات القادرة، وان تأخذ بعين الإعتبار إمكانية إعادة النهوض بالإقتصاد في المستقبل”.

تداعيات المرحلة المقبلة المالية والقانونية تتطلّب من وجهة نظر مختلف الآراء الإقتصادية ضرورة الإستعانة بالخبرات الدولية المتخصصة التي اختبرت هذه الحالات في غير بلدان. وعلى الخبراء أن يمتلكوا النظرة القانونية العميقة للتفاوض على ديون لبنان الخارجية بشكل أساسي.

التركيز على الديون الخارجية يفترض ان الخسارة على الديون المحلية واقعة حكماً، ولكن هذا لا يعني إقتصادياً عدم مقاربة تخفيض الديون بميزان الجوهرجي. إذ انه مع غياب إمكانية اعادة إصدار سندات جديدة يصبح دفع أصل الدين يتطلب الإستدانة بفوائد أعلى، ويفرض خفض الديون من جهة أخرى إبقاء أموال المودعين لدى المصارف محجوزة.

الداء… والدواء

خبير اقتصاد النفط وتنمية الموارد البشرية فادي جواد يعتبر ان “لا مفرّ من اعتماد الحكومة، وبشكل فوري، على القطاع المصرفي الذي استفاد من مردود الفوائد الهائل من سندات الخزينة والديون الحكومية، لتحمّل المسؤولية بدلاً من تسديد فاتورة خدمة هذا الدين من جيب المواطن المحجوزة امواله اصلاً”.

ويلفإلى أن القطاع المصرفي “يمثّل 5 في المئة من الناتج المحلي اللبناني، وأرباحه وصلت في السنوات العشر الماضية لأكثر من 10 مليارات دولار، بينما لم تتجاوز قبل عشرين سنة 436 مليون دولار. وبالمقارنة مع المصارف الأجنبية فإن صافي أرباح كل من بنك لبنان والمهجر وعودة مثلاً بلغت في العام 2018 ما يقارب 510.42 ملايين دولار و 500.56 مليون على التوالي، وهذه الارباح توازي ارباح كبريات البنوك العالمية مثل “ستاندرد تشارترد” في بريطانيا التي يبلغ عدد سكانها 65 مليون مواطن. وهذا يُظهر ان المستفيد الاكبر من الوضع القائم هي المصارف والقائمون عليها من سياسيين وعائلات حاكمة”.

هذا الواقع يتطلّب معالجة جدّية يجب على الحكومة حصر عناوينها النقدية بالإجراءات التالية: “ايقاف اصدار سندات جديدة لوقف النزف لحين معالجة الفساد المستشري، عدم اقتراض دين جديد لخدمة دين قديم، إيقاف الفوائد المستحقة للمصارف لمدة 3 سنوات ما سيوفر حوالى 3 مليارات دولار تقريباً عن كل سنة، فرض ضريبة بنسبة 50 في المئة على أرباح المصارف البالغة حوالى 2,8 مليار دولار في العام 2018 وهو ما يؤمن 1,4 مليار دولار في السنة لخزينة الدولة، وقف التوظيف الحكومي لمدة 5 سنوات، خفض النفقات الحكومية، معالجة وضع الكهرباء عبر مشاريع PPP، ووقف الهدر الذي سوف يحقق وفراً يصل الى 35%”، يختم جواد.

خالد أبو شقرا.

مصدر قوة الاقتصاد الأميركي

يكتنف النمو المطرد للاقتصاد الأميركي – وهذه أطول فترة للنمو يسجلها الاقتصاد الأميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من دون ركود – قدر معتبر من الغموض. ففي الصيف الماضي، انعكس مسار منحنى العائد، الأمر الذي يعد من أكثر الإشارات موثوقية إلى وقوع تراجع وشيك. وتتوافر كل الأسباب المعقولة والمسوغة لأن يتحول الاقتصاد الأميركي إلى الأسوأ – فهناك جبل ضخم من ديون الشركات المتزايدة ذات المخاطر الكبيرة، مع التباطؤ المسجل في الاقتصاد الصيني، وحرب الرئيس دونالد ترمب التجارية، والضعف الملاحظ في الصناعات التحويلية، فضلاً عن زيادة حالات عدم اليقين بشأن السياسات الحكومية الراهنة، وما شابه ذلك من أسباب.
ومع ذلك، لم تظهر أمارات الركود الاقتصادي الأميركي في الأفق. فلقد التزم نمو الناتج المحلي الإجمالي بوتيرة شبه ثابتة بما هو أكثر من نقطتين مئويتين كاملتين – وربما هي النسبة الفضلى، في المتوسط، التي يمكن انتظارها في ضوء شيخوخة السكان وتباطؤ معدلات الإنتاجية العالمية.
لقد أصبحت سوق العمل الأميركية أقوى حالاً من أي وقت مضى باستثناء أواخر تسعينات القرن الماضي، حيث يتحصل العمال من مستويات جدول الدخل المنخفضة على زيادات حقيقية في الأجور.
ولكن، لماذا يتحسن الأداء الاقتصادي الأميركي على الرغم من كل الرياح المعاكسة؟ ربما يميل أنصار الرئيس ترمب إلى نسب الفضل للإصلاحات الضريبية التي أقرتها الإدارة الأميركية في أواخر عام 2017. ولكن هذا من غير المرجح قبوله. فإذا كانت التخفيضات الضريبية مع قانون الوظائف قد جعلا الاقتصاد الأميركي أكثر كفاءة، لأسفر الأمر عن ارتفاع معدلات الاستثمارات التجارية. بيد أن الأبحاث الاقتصادية لم تخلص إلا إلى قليل من التأثير، مع تراجع مشهود في الاستثمارات الخاصة الحقيقية من الربع الثاني وحتى الأخير من عام 2019.
ومن الممكن أيضاً أن يسفر تخفيض الضرائب عن زيادة في الاستهلاك من خلال ارتفاع الطلب الكلي. ولقد تقدم بول كروغمان بهذا الرأي لتفسير ثبات نمو الاقتصاد. ومن الصحيح كذلك في عهد الرئيس ترمب أن العجز قد ارتفع إلى مستويات لم يسبق لها مثيل منذ عام 2012.
ومن غير المرجح أيضاً أن يكون ذلك هو سبب الدفعة الكبيرة التي يشهدها الاقتصاد الأميركي. أولاً، كانت فوائد الإصلاحات الضريبية تتدفق في غالب الأمر إلى حسابات الأثرياء. ولا يميل الأشخاص الأكثر ثراء إلى تغيير أنماطهم الاستهلاكية كثيراً استجابة إلى التغيرات في الدخل، لأنهم، على العكس تماماً من الفقراء أو أبناء الطبقة المتوسطة، ليست لديهم احتياجات ملحة لسداد الديون أو تأمين ضرورات الحياة. كما تميل المحفزات المالية إلى انخفاض تأثيرها المباشر في فترات صحة تعافي الاقتصاد عنها في فترات الركود. وبالتالي، ربما نعتبر التخفيضات الضريبية قد قدمت قليلاً من المحفزات الحقيقية مع الارتفاع المشهود في العجز.
لذا، إن لم يُنسب الأمر إلى الإصلاحات الضريبية، فما سر تحرك الانتعاش الاقتصادي الأميركي على قدم وساق؟
لم تسفر أسعار الفائدة المتدنية حتى الآن عن طفرة معتبرة في اقتراض المستهلكين، وتظل نسبة ديون الأسر لقاء الناتج المحلي الإجمالي عند مستويات منخفضة ولا تظهر منها أي علامات على الارتفاع.
وربما يؤكد الرئيس ترمب أهمية حربه التجارية ومساعدتها في ثبات النمو الاقتصادي. غير أن الصادرات الأميركية لم تشهد أي ارتفاع خلال العام الماضي. وإذا كان المستهلك الأميركي يتحول من السلع المستوردة إلى السلع المنتَجة محلياً، فإن هذا التحول طفيف للغاية في حد ذاته.
ويشير الضعف الأخير المسجل في الاستثمارات التجارية، لا سيما في الصناعات التحويلية، إلى أن الولايات المتحدة لا تستفيد مباشرة من موجة إعادة التمويل من جانب الشركات المتعددة الجنسيات. وقد ارتفعت تكاليف العمالة الصينية، وأصبحت الصين من الوجهات الاستثمارية الأقل جاذبية لدى كثير من المستثمرين جراء الحرب التجارية، فضلاً عن سياسات الحكومة الصينية. لكن وحتى الآن، لا تقوم الشركات في الغالب إلا بتحويل إنتاجها الخارجي إلى بلدان أخرى منخفضة تكاليف العمالة مثل فيتنام بدلاً من إعادة الإنتاج بالكامل داخل الولايات المتحدة.
والحقيقة هي أنه لا يوجد دافع أو محرك واضح ومحدد للنمو الاقتصادي الأميركي. والتفسير الأكثر أرجحية يدور حول أن الاقتصاد الأميركي يمر حالياً بمرحلة من الأوضاع الطبيعية المتسمة بالملل!
ويميل أكثر الناس إلى التفكير في دورة العمل باعتبارها سلسلة من فترات الازدهار والانحسار المتناوبة. ويبدو أن السجل الاقتصادي يؤكد ذلك تماماً، مع فترات الركود التي تهاجم الاقتصاد الأميركي مرة واحدة كل عشر سنوات على الأقل. ولكن في حين احتمال وقوع ذلك بكل تأكيد، فإن أغلب نماذج الاقتصاد الكلي تصور الاقتصاد آلة إنتاجية تواصل العمل والإنتاج حتى تنتابها صدمة مروعة تبتعد بها عن بلوغ حد التوازن المنشود.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، شهد الاقتصاد الأميركي ثلاثة أنواع رئيسية من الصدمات التي حادت به عن الركب، وكانت في صورة الفقاعات والانهيارات المالية الجسيمة، أو ارتفاع أسعار الفائدة من قِبل بنك الاحتياطي الفيدرالي، أو الزيادات الكبيرة في أسعار النفط العالمية. ولا شيء من هذه الأسباب يهدد الاقتصاد الأميركي في الآونة الراهنة. ولا يبدو أن ارتفاع الإقراض المحفوف بالمخاطر كبير بدرجة تكفي لإشعار أزمة مالية جديدة. وربما تحول الذكريات المؤلمة للأزمة المالية العالمية لعام 2008 من الإفراط في التكهن بمستقبل الأسهم والإسكان، في حين أن الإصلاحات المالية لقانون «دود – فرانك» وتداعيات الكارثة المالية السابقة ربما تعوق المؤسسات المالية عن تكثيف المخاطر المفرطة. وفي الأثناء ذاتها، تعتبر أسعار النفط وأسعار الوقود مختلفة عن مستوياتها المعتدلة، كما عكس بنك الاحتياطي الفيدرالي في عام 2019 بعضاً من زيادات أسعار الفائدة خلال السنوات السابقة. ولقد حققت حرب الرئيس ترمب التجارية بعض المنافع، ولكن التأثير الحقيقي حتى الآن كان طفيفاً في قطاعات مهمة مثل قطاع الزراعة.
لذلك، لدى المستهلكين في الولايات المتحدة سبب بسيط للتوقف يمنعهم من الاستهلاك. فلقد انخفضت مستويات الاستهلاك لديهم منذ الأزمة المالية، مع تواضع تقديرات منازلهم من حيث قيمتها النقدية، مع ارتفاع ملحوظ في الأجور بمعدل معتبر، ومعاشاتهم التقاعدية على ما يرام حتى الآن. وباستثناء وقوع أزمة مالية جديدة، أو الانهيار الصيني الكبير، أو الانعكاس الحاد من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، أو التدخلات الأكثر صرامة من جانب الإدارة الأميركية، فمن المتوقع للاقتصاد الأميركي أن يواصل الإبحار في أمان.

أزمة لبنان: إستحقاق آذار…«شُبهة» تهزّ الحكومة

تحوّل استحقاق اليوروبوند في 9 آذار المقبل الى ملف خلافي، ليس على مستوى السلطة السياسية فحسب، بل انتقل الى الاوساط الشعبية، وصارت قضية دفع هذا الاستحقاق في موعده ملهاةً جديدة رائجة في مراكز القرار السياسي، كما في البيوت والمقاهي والساحات العامة…

ندفع أو لا ندفع… وتحوّل الاستحقاق الى ما يشبه «نتف» أوراق زهرة بابونج «بتحبني… ما بتحبني»!

هل الى هذا الدرك وصل مستوى اللاوعي واللامسؤولية في مقاربة ملفات من نوع وحجم ملف اتخاذ قرار في شأن كيفية التعاطي مع دينٍ عام، تحوّل الى مصيبة وطنية بكل ما للكلمة من معنى، وأدّى الى تفقير الناس وتشريدهم وتهجيرهم، وربما قد يؤدّي الى أزمة وجودية؟

لم تعد قضية استحقاق اليوروبوند في 9 آذار، وقيمته مليار و200 مليون دولار مقبولة على مستوى المنطق واحترام الذات. والتعاطي الرسمي مع هذا الاستحقاق لا يبشّر بالخير، لجهة الميوعة في حسم موضوع بهذه الحساسية. ومن غرّد على «تويتر» يقول: «بعد في ستّي ما عطيتِ رأيها اذا مندفع او ما مندفع»، عبّر بشكل جيد عن حقيقة المشكلة. إذ نجح اللاقرار في تحويل الموضوع الى ما يشبه لعبة شعبية، ينقسم حولها الناس، من يعرف منهم في شؤون المال والاقتصاد، ومن لا يعرف، يتناقشون ويتجادلون ويحلّلون: ندفع أو لا ندفع!

في هذه الاثناء، تعاطت المؤسسات الدولية وصناديق التحوّط (hedge fund) بجدّية ومثابرة مع الملف، وشهدت بيروت منذ تشارين 2019 زيارات كثيفة لوفود استطلاعية تمثّل هذه الجهات، بعضها مستثمر في السندات اللبنانية بالدولار، وبعضها الآخر غير مستثمر ويبحث عن فرص استثنائية للاستثمار.

الإيجابية الوحيدة التي يمكن أن ننسبها الى السلطة السياسية في هذا المجال، وهي ايجابية غير مقصودة طبعاً، انّ معظم الوفود الأجنبية المستطلِعة غادرت البلد من دون أن تفهم ماذا سيقرّر لبنان الرسمي: يدفع أو لا يدفع.

في الفترة الأخيرة، قرّرت بعض الجهات شراء قسم من سندات اليوروبوند المستحقة في آذار، ودفعت مقابل هذه السندات بين 78 و80 سنتاً للسند. (سعره الاصلي دولار واحد). وهذا يعني انّها ستحقّق ارباحاً نسبتها بين 22 و24% في شهر واحد تقريباً، في حال قرّرت الدولة اللبنانية دفع الاستحقاق في موعده.

لكن هذا التطور دفع الى طرح السؤال التالي: هل تأكّدت الجهات الأجنبية التي اشترت السندات، انّ الدولة اللبنانية قرّرت ان تدفع الاستحقاق في موعده لكي تقوم بهذه المجازفة؟ ومن المعروف، انّه في حال قرّرت السلطات اللبنانية أن تؤجّل دفع الاستحقاق، وبصرف النظر عن الطريقة التي ستعتمدها في التأجيل،(سواب انتقائي، أو إعادة جدولة عامة للدين)، فإنّ أسعار هذه السندات التي تُباع اليوم بأقل بـ20% من قيمتها، سوف تخسر من قيمتها الحالية بنسبة كبيرة، بحيث تقترب من سعر سندات اليوروبوند استحقاق 2030 و2037، والتي تدنّت الى ما دون الـ40 سنتاً للسند الواحد. بما يعني انّ المستثمرين الأجانب الذين اشتروا اليوم لتحقيق ربح كبير وسريع، سيمنون بخسارة كبيرة وسريعة قد تصل نسبتها الى 35 أو 40%.

ضمن هذه المعادلة تُطرح الاسئلة التالية:

اولاً- هل تستحق نسبة الربح في السندات التي قد تتأمّن جرّاء التسديد في الموعد المحدّد، القبول بهذا النوع من المجازفات ما دامت نسبة الخسارة المحتملة هي ضعف نسبة الربح المحتمل؟

ثانياً- هل حصلت هذه الجهات على تأكيدات أنّه سيتمّ دفع الاستحقاق، وانّ شراء السندات اليوم صفقة مضمونة وليست مجرد مجازفة، خصوصاً انّ هذه المؤسسات تشتري السندات لمصلحة مستثمرين زبائن لديها (بعضهم قد يكون لبنانياً)، وهي مسؤولة عن نِصحهم وإرشادهم الى الصفقات الرابحة، بما يعني انّ هؤلاء اقتنعوا بالشراء ووافقوا عليه؟

ثالثاً- لماذا أقدمت مصارف لبنانية تحمل هذه السندات الى بيعها بخسارة اكثر من 20% من سعرها؟ هل انّ المعلومات التي تملكها المصارف المحلية تختلف عن المعلومات التي تملكها الجهات الاجنبية المستثمرة؟ وهنا، يمكن استبعاد فرضية انّ المصارف اللبنانية تحتاج الى سيولة، لذلك وافقت على البيع، لأنّها اذا كانت تعرف انّ الاستحقاق سيُدفع في موعده تستطيع أن تنتظر لشهر واحد للحصول على 20% أكثر كإيرادات من هذه السندات.

هذه التساؤلات التي تبدو غريبة بعض الشيء، وتدلّ الى وجود قطبة مخفية في مكان ما، تسمح باستنتاج من نوع آخر. إذ انّ المؤسسات المالية الأجنبية ليست مُطّلعة اكثر من المصارف اللبنانية على القرار الذي ستتخذه الدولة. وفي الاساس يمكن الجزم، أن لا قرار حتى الآن في الحكومة حول الدفع أو عدم الدفع. وأصحاب القرار أنفسهم قد يغيّرون مواقفهم في اللحظات الأخيرة، بسبب ضغوط سياسية أو بسبب تغيير قناعاتهم، لأنّه من الواضح ان لا وجود لقرار عقلاني عميق يستند الى حقائق ودراسات تسمح باتخاذ قرار والثبات عليه.

وبالتالي، قد يكون رهان المؤسسات الأجنبية التي اشترت اليوروبوند، على ما يلي: اذا دفعت الدولة اللبنانية الاستحقاق في موعده نضمن أرباحاً خيالية في فترة قصيرة. واذا تخلّفت الدولة عن الدفع من دون موافقتنا نذهب الى التقاضي والرهن وتحصيل الحقوق بالقانون. وهناك أصول كثيرة للدولة يمكن الحجز عليها. أما اذا فاوضت الدولة اللبنانية للحصول على موافقة حاملي هذه الحزمة من السندات لتتمكّن من اعادة جدولة شاملة للدين، يستطيع المفاوض الاجنبي أن يتحكّم بالقرار، خصوصاً هذا الاستحقاق بالذات، إذ يحمل الاجانب 33% منه. وقد زادت هذه النسبة بعد عمليات الشراء، بما يعني انّ لبنان لن يتمكّن من الحصول على موافقة 75% من حملة السندات لإعادة جدولة دينه. وهذا الوضع يجعل حاملي السندات في هذه الحزمة بالذات التي تستحق في آذار، مثل الوزير الملك في حكومات الوفاق الوطني في لبنان، وحده قادر على التحكّم بمصير الحكومة لجهة سقوطها أو بقائها.

انطوان فرح.

2035 ونهاية ثروات الخليج

هناك ولع لدى الاقتصاديين والمحللين بالأرقام، حتى عندما يتوقعون حدوث كارثة، فإنهم يختارون رقما مميزا للعام الذي ستقع فيه هذه الكارثة، ولهذا هناك سيناريوهات كثيرة تتنبـأ بوصول الطلب على النفط إلى ذروته في عام 2030 أو 2035 أو 2040. ومن النادر أن نرى عام 2037 أو 2031 في هذه السيناريوهات.
عموماً خرج صندوق النقد الدولي بدراسة جديدة يتوقع فيها نضوب الاحتياطيات المالية لدول الخليج في عام 2035، أي بعد 15 عاماً، بسبب تراجع المداخيل من النفط والغاز، وقلة وتيرة الإصلاحات الاقتصادية. وإذا كنت شخصا متشائما بطبعك وتحب سيناريو نهاية العالم فإن عناوين الأخبار يوم الأربعاء الماضي تقول إن بريطانيا قررت حظر مبيعات السيارات الجديدة التي تعمل بالبنزين والديزل ابتداءً من عام 2035، أي قبل خمس سنوات مما كان مخططا له. وبريطانيا ليست إلا دولة من الدول الأوروبية التي تسير في هذا الاتجاه لمكافحة التغير المناخي.
إذن ما هو موقف المواطن الخليجي الذي يقرأ كل هذه الأخبار؟ المواطن الخليجي العادي سوف يشعر بالقلق، ولكن هذا القلق لا يجب أن يكون مبالغا فيه إذ أن هذه السيناريوهات والتوجهات والسياسات لا تعني أن ما يتم تنبؤه سيقع بهذا الشكل السريع والمأساوي.
ودعونا نبدأ في شرح الأسباب وراء عدم اقتناعي بكل ما يقال من حولي. أولاً إن تقرير صندوق النقد الدولي مبني على نظريات ومعادلات اقتصادية (إيكونوميتركس) تتنبأ بسيناريوهات لتراجع الطلب على النفط ووصوله إلى الذروة عند 115 مليون برميل يومياً في 2041 ليبدأ بعدها الهبوط في الطلب، والذي يدعمه تراجع النمو السكاني العالمي من 1.1 في المائة في 2018 إلى 0.6 في المائة بحلول 2046. كل هذا لا بد أن ينعكس على نمو إجمالي الناتج المحلي للفرد، والذي سيهبط إلى 1.8 في المائة في المدى الطويل من 3.2 في المائة في العقد القادم.
وإذا نظرنا إلى تقرير الصندوق الذي يقع في 55 صفحة وإلى كل التحليلات التقنية فيه عن النفط، فإننا ننظر إلى تقرير نظري لأشخاص غير فنيين عندما يتعلق الأمر بالنفط. ولكن هذا لا يعني أننا نرفض هذا التقرير، ولكنه بالنسبة لي مجرد وجهة نظر أخرى تدعو إلى الأخذ بجدية والتفكير في هذه السيناريوهات، ولكن لا أستطيع الجزم بأن ما يذكره هذا التقرير أو غيره عن المستقبل سيقع لا محالة.
وإذا نظرنا إلى الحلول المقترحة، فإن الصندوق ليس لديه سوى حزمة معروفة من الحلول يقترحها لكل الدول في العالم منذ عقود، وقائمة على تحرير الاقتصاد ورفع مداخيل الدولة من الضرائب وتقليل الدعم الاجتماعي. كل هذه الحزم لا يعني بالضرورة أنها مناسبة لدول الخليج. وتظل المخاطر قائمة خصوصاً للدول الخليجية التي لم تتخذ إصلاحات كبيرة، ولا يبدو أنها سوف تتخذ إصلاحات كبيرة في الأعوام الخمسة القادمة. ولكن هناك دول قطعت شوطا كبيرا في رحلة التحول إلى اقتصاد غير نفطي، وهنا أشير إلى المملكة العربية السعودية تحديداً والتي اتخذت حزما كبيرة جداً من الإصلاحات الاقتصادية والتي قد تأخذ وقتاً طويلاً لتؤتي ثمارها نظراً لأن أي تحول اقتصادي يأخذ أعواماً عديدة.
أنا مؤمن أن السعودية على الطريق الصحيح حتى وإن كانت الإصلاحات سوف تأخذ وقتاً، والجميع يرى كيف أن النمو الاقتصادي عاد للتحسن والحركة التجارية تحسنت تدريجياً وميزانية الدولة في وضع جيد رغم تراجع المداخيل النفطية في السنوات الأخيرة. وأصبح الفساد محدوداً بشكل كبير بعد حملة مكافحة الفساد، وهناك ضبط واضح في الإنفاق.
كل هذا حدث مع تضحيات كثيرة وتغيرات كبيرة على المجتمع. وما يزيد تفاؤلي هو تحسن آلية العمل في القطاع العام ووجود معايير لقياس الأداء الحكومي. إلا أن هذا لا يعني أن المملكة وصلت إلى هدفها، ولا يزال العمل الذي تحتاجه جباراً خصوصاً أن القطاع الحكومي لا يزال مليئا بالحرس القديم الذي تعود على قلة الإنتاجية، ولكن كل هؤلاء مصيرهم الخروج من سوق العمل خلال خمس إلى 10 سنوات ليفسحوا المجال للشباب القادمين من الخارج بعد إكمال تعليمهم أو من القطاع الخاص. هؤلاء هم سر نجاح التجربة الاقتصادية السعودية في الأعوام القادمة، وإذا ما أضفنا إلى هذا السياسات الحكومية المتبعة حالياً فإن الوضع مشرق بالنسبة للاقتصاد.
أما مستقبل النفط السعودي، فسيعتمد بشكل كبير على التطور التقني في كيفية استخراجه ومعالجته وتطوير سبل أفضل لإطالة عمر الطلب عليه، وهو ما تعمل أرامكو عليه كذلك مع شركات السيارات العالمية أو من خلال البحث والتطوير لرفع معدلات الاستخلاص للحقول والمكامن. ويبقى الوضع بالنسبة لي غير واضح في باقي دول الخليج، إذ أن هناك دولا القطاع الخاص فيها متضخم ولا يوجد نمو خارج القطاع النفطي وكل عوامل الفشل الاقتصادي المستقبلي قائمة هناك، ولعل هذه الدول عليها العمل أكثر من غيرها والأخذ بتوصيات صندوق النقد الدولي أو غيرها من بيوت الاستشارة. إن القطاع غير النفطي الخليجي لا يزال غير متكامل، ولا توجد شراكات كبيرة بين دول الخليج في مشاريع غير نفطية، ولعل هذا أمر يجب التفكير فيه لخلق سوق خليجية قوية ومرنة.

وائل مهدي