لكل أولئك الذين لم يتمكنوا من مشاهدة مذنب هالي في آخر ظهور له عام 1986، وبالتالي لن يروه ثانية إلا في عام 2061، فقد كانت الحياة كريمة معهم ليروا حدثاً آخر لا يحدث سوى مرة في حياة الإنسان، وهو هبوط النفط في بورصة نيويورك إلى 37.63 دولار تحت الصفر.
لقد كان الهبوط التاريخي يوم «الاثنين الأسود» 20 أبريل (نيسان) 2020 حدثاً لن ننساه كلنا، إذ عشنا لنرى في زمن الـ«كورونا» تجار النفط في السوق الورقية للعقود الآجلة يدفعون 37.63 دولار للمشترين حتى يأخذوا عقود النفط، لأن هذه العقود التي تتداول منذ فترة، انتهت يوم أمس الثلاثاء ويجب عليهم تسليمها في مايو (أيار) للمشترين، ولكن لا يوجد طلب لها ولا توجد أماكن لتخزين هذا النفط؛ لأن صهاريج التخزين في كاشينغ في أوكلاهوما – حيث يتم تجميع خام غرب تكساس- ستمتلئ في مايو، والأسوأ من ذلك لا توجد أنابيب نفط لنقله لأنها ممتلئة بنفط لا يوجد مشتر له.
ولأن تكلفة تخزين النفط أصبحت أعلى من سعره بالأمس، اضطر الجميع للبيع، فما كان من الجميع إلا أن أصبح مستعداً لدفع أي مبلغ للتخلص من النفط.
وفي سيناريو أقرب للخيال، مر شريط أسعار النفط من أمام أعيننا بطريقة فيلم سينمائي، حيث شهد يوم الاثنين بداية تداولات بأسعار 2020، ثم تراجعت إلى الخلف ووصلت إلى مستويات الثمانينات عند 11 دولارا، ثم تراجعت أكثر لتصل إلى دولار واحد، وهو السعر الذي كان شائعاً في الستينات والخمسينات من القرن الماضي، وهو السعر الذي على أساسه تم تأسيس منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك). ثم واصلت الأسعار الهبوط لتصل إلى سنت واحد وهذا سعر تاريخي ولكنه واقعي، وبعد ذلك دخلت الأسعار في عالم الخيال الافتراضي، ووصلت إلى الصفر ثم هبطت لتقفل التسويات عند 37.63 دولار تحت الصفر.
وعادت عقود مايو للتحسن أمس لتصل إلى 6 دولارات (عند كتابة هذا المقال)، فيما وصلت عقود نفط تسليم شهر يونيو نحو 11 دولارا. هذا لا يعني أن عقود يونيو (حزيران) قد لا تهبط تحت الصفر هي كذلك. ما دام لا توجد أماكن للتخزين ولا يوجد طلب، فلا يوجد قاع للأسعار.
وهذه المشكلة في السوق الأميركية، أما خام برنت في لندن فلا يزال متماسكاً، حيث لا يعاني هذا الخام من مشكلة في التخزين أو النقل، وتداولت عقوده بالأمس عند مستوى 20 دولاراً لتسليم شهر يونيو. وما قد يزيد من السوء للمنتجين في تكساس هو تفشي «كورونا» بشكل كبير أمس في الولاية للمرة الأولى خلال خمسة أيام لتصل إلى 738 حالة، وقد يؤثر ذلك على الإنتاج إذا ما استمر الفيروس في التفشي. أما شركات النفط الصخري في تكساس فلا تزال منقسمة حتى الأمس حول إنهاء زمن السوق الحرة والسماح لهيئة السكك الحديدية في تكساس بوضع قيود وتنظيم إنتاجها. وترى الهيئة أن العالم قبل اتفاق تحالف أوبك + كان يشهد فائضا بنحو 30 مليون برميل يومياً، وهذا يعني أن الاتفاق لتخفيض 10 ملايين برميل يومياً لن يفيد كثيراً.
وفي ولاية نفطية أخرى وهي داكوتا الشمالية، حيث حوض الباكن الشهير للنفط الصخري، فقد هبط ثلث الإنتاج أو 300 ألف برميل حتى الآن كما أعلنت سلطات الولاية. ولا يزال يتوقع هبوط إنتاج أميركا بشكل عام بنحو قد يصل إلى 3 ملايين برميل بنهاية العام.
ودفع تدهور الأسعار الرئيس الأميركي دونالد ترمب لبحث سبل الحل التي أعلن عنها، ومن بينها شراء 75 مليون برميل من النفط المتكدس لصالح الاحتياطي الاستراتيجي للولايات المتحدة. وبالطبع لا يستطيع الرئيس ترمب الحديث دون تحميل دول أوبك المسؤولية، ولهذا فهو يدرس الآن فرض حظر على النفط القادم منها لحماية المنتجين الأميركيين.
ولكن تحالف أوبك + فعل كل شيء بشهادة كبار المتداولين في السوق، ومن بينهم الملياردير بيير أندوراند صاحب أكبر صناديق التحوط التي تبيع وتشتري عقود النفط. وأتفق مع أندوراند لأن الدول خارج أوبك + زادت إنتاجها بنحو 7 ملايين برميل يومياً في الثلاث السنوات الأخيرة التي دافع فيها التحالف عن توازن السوق وعن الأسعار. هذه الدول يجب أن تخفض الآن وتشارك أوبك + تحمل العبء.
وأعلنت السعودية مجدداً في بيان مجلس الوزراء بالأمس أنها ملتزمة بالدفاع عن استقرار السوق، وأخذ أي خطوات لهذا مع باقي المنتجين مثل روسيا، التي أعلن وزير طاقتها إضافة إلى المتحدث الرسمي للكرملين بالأمس أن هذه الأزمة ليست كبيرة وسوف تعود الأسعار للتحسن مع دخول اتفاق أوبك + حيز التنفيذ… وأنا شخصياً لا أستبعد أن تأخذ أوبك + مزيدا من التدابير في يوليو (تموز) إذا لم يتحسن الوضع.
كل هذا يحدث في زمن جائحة «كورونا»، التي جاءت لتختبر قوة ومتانة شركات وأسواق ودول وصناعات. وإذا كان خام غرب تكساس الوسيط ضحية لـ«كورونا» أول من أمس، فهناك ضحية أكبر بمئات الملايين من الدولارات، أو لنقل إن فيروس «كورونا» كشف ضعفه، وهو الملياردير الصيني الأصل صاحب بيت من أكبر بيوت تجارة النفط في سنغافورة، والمعروف باسم «أوكي ليم» في الأوساط النفطية. هذا الرجل لسنوات طويلة أخفى خسائر بقيمة 800 مليون دولار لشركته «هين ليونغ» عن البنوك والدائنين، وقامر مقامرات كثيرة في السوق النفطية تسببت له في هذه الخسائر. ولكن مع هبوط سعر النفط نتيجة لـ«كورونا» لم يستطع تسديد أموال البنوك، وهنا بدأت الفضيحة قبل أيام بسيطة. والمخيف هو أن الفرق بين أصول شركته وديونه تبلغ فوق 3 مليارات دولار. وليس «أوكي ليم» الوحيد الذي وقع ضحية؛ بل إن هناك اقتصادات منتجة للنفط أعلنت بالأمس عن جهودها لتنويع مصادر الدخل، مثل ماليزيا والمكسيك، وأخذ إجراءات اقتصادية أكثر.
أنا لا أستبعد أن يصبح العالم بعد «كورونا» وبعد – 37.63 دولار، متجها أكثر نحو تنويع مصادر الدخل بشكل أعمق وأكبر، وهذا هو الحل الأسلم، في زمن قادم الطلب فيه على النفط قد يتأثر بفعل التحولات الرقمية والعمل عن بعد. ولكن ما زلنا ننتظر معرفة كم اقتصاداً هشاً وشركة نفطية ضعيفة صمدت لسنوات حتى جاءت جائحة «كورونا» لتكشف ضعفها. ويتبقى في السنة أشهر كثيرة.
وائل مهدي.