الاقتصاد مع «كورونا» ركود أم كساد؟

توقع تقرير البطالة في الولايات المتحدة لشهر مارس (آذار)، بالأرقام السيئة القادمة، إذ إن التوقف المفاجئ للاقتصاد تسبب في تهميش قطاعات كاملة. ويثير احتمال معدلات البطالة المكونة من رقمين أن يصبح ما يعرف الآن بـ«الركود العظيم» هو الكساد الكبير التالي. ويطرح هذا سؤالاً مهماً للمشاركين في السوق: ما الذي يفصل الركود عن الكساد؟ نقطة البداية هي النظر في ثلاثة أمور للركود وهي: العمق والمدة والانكماش.
ومن المؤكد أن عمق الانكماش خلال الربع الثاني سيحدد ملمحاً واحداً للركود. وتم إيقاف تشغيل الأضواء حرفياً في أجزاء كبيرة من الاقتصاد. وقد ينخفض الناتج بنسبة تصل إلى 33% وقد ترتفع البطالة فوق 30%، وفقاً لتقديرات بنك الاحتياط الفيدرالي في سانت لويس. وفي حين أن الأرقام الدقيقة لن يتم الكشف عنها إلا بعد إدراك الأمر متأخراً، إلا أنه كان هناك انهيار في النشاط الاقتصادي بدون شك.
والعمق، مع ذلك، ليس سوى جزء واحد من قصة الركود. والمدة هي شأن آخر. ونحن لا نصنف عمليات الإغلاق على المستوى المحلي الناتجة عن الكوارث الطبيعية على أنها كساد، أو حتى ركود، لأن النشاط يمكن أن ينتعش بسرعة إلى حد ما. ولا ينبغي لنا ذلك على المستوى الوطني أيضاً. ولا يمكننا التنبؤ بدقة بمدة الانكماش لأنها تعتمد على مسار الفيروس. دعنا نَقُلْ، بتفاؤل، إننا إذا امتلكنا تحكماً كافياً في الفيروس وانتشاره سنبدأ في رفع القيود على النشاط الاقتصادي. في هذه الحالة، يمكننا أن نتوقع انتعاشاً للنشاط بدءاً من الربع الثالث.
ومع ذلك، لن يكون أي تعافٍ اقتصادي مشابهاً ببساطة لقلب مفتاح الضوء مرة أخرى إلى الوضع «تشغيل». وسيكون الأمر أشبه بتشغيل قرص ربما بسرعة في البداية ولكن ببطء أكثر بعد ذلك. ومقدار السرعة التي سنتمكن من تحقيقها بادئ الأمر ستحدد بعد ذلك فترة التعافي. وقد تتعافى أجزاء معينة من الاقتصاد بسرعة، وقد توفر إعادة بناء المخزون دفعة للمصنعين، على سبيل المثال. وقد يساعد الطلب المتفجر في مسح السلع من على الرفوف لدى تجار التجزئة. ويجب بوجه عام أن نتوقع تعافياً عند رفع القيود.
ومع ذلك، لن يكون هذا التعافي بمثابة انتعاش كامل. فهناك عائقان واسعان أمام الانتعاش الحقيقي. أولاً، توقع بعض الضرر المستمر للاقتصاد نتيجة إفلاس الشركات وانقطاع العلاقات بين صاحب العمل والموظف. ويساعد قانون CARES، مع إعانات البطالة المعززة ومساعدة الأعمال، على تقليل هذا الضرر إلى الحد الأدنى، لكنه لا يزال غير كافٍ لوقف النزيف تماماً.
وثانياً، إلى أن يكون هناك علاج أو لقاح للفيروس، فإن بعض قطاعات الاقتصاد ستتضرر لفترة طويلة في المستقبل. وستظل التجمعات لأكثر من 50 شخصاً، سواء مؤتمرات أو أحداثاً رياضية أو عروضاً فنية… إلخ، محدودة لفترة طويلة. وسوف تكافح صناعات الترفيه والضيافة في عالم يتحول فجأة إلى مكان أصغر للجميع. وحتى بعد تطوير لقاح، فإن الاستخدام الواسع النطاق لمؤتمرات الفيديو ستكون له آثار طويلة الأمد على أعمال السفر.
وأخيراً، من المحتمل أن يتطلب الكساد انكماشاً لتوليد انهيار ذاتي قابل للتحمل في الطلب، حيث يصبح دعم الديون الحالية أصعب مع انخفاض الدخل الاسمي. وتعتمد قدرة الانكماش على توطيد وجوده على نجاح الدعم المالي والنقدي للاقتصاد. ولحسن حظه، فقد تبنى بنك الاحتياطي الفيدرالي بسرعة استراتيجية «كل ما يتطلبه الأمر» للحفاظ على القطاع المالي سليماً، وبالتالي تجنب بالفعل كارثة واحدة ساهمت في الكساد الكبير. ونأمل أن نواصل نجاحنا في تجنب هذا المأزق.
وبالمثل، تحولت السياسة المالية إلى إجراءات لدعم الطلب مع إعانات البطالة المعززة، والتي ستوفر في بعض الحالات دخلاً بديلاً للعمال. والنتيجة الإيجابية غير المقصودة لهذه الفوائد العالية هي منع انكماش الأجور، ونأمل في تعزيز التوقعات الإيجابية لتحديد الأجور خلال مرحلة التعافي.
ولا يزال الانتعاش الناجح يتطلب المزيد من الدعم المالي. على سبيل المثال، برامج التأمين ضد البطالة على مستوى الولايات غير قادرة على التعامل مع حجم المطالبات، ما يؤدي إلى تأخير المساعدة. وعليه، يحتاج الكونغرس إلى تزويد الولايات كاملة بحزمة مالية ضخمة لمنع موجة أخرى من عمليات التسريح من العمل.
إن نتائج سيئة خلال ربع واحد لا تسبب الركود. وفي الواقع، تعتمد صحة الاقتصاد على المدى الطويل على السيطرة على الفيروس. وما إذا كان هذا الانهيار الاقتصادي سيتحول إلى كساد أم لا، لا يزال يعتمد على تصرفات صانعي السياسة في الأشهر المقبلة.

الدول ما زالت قادرة على الثراء من خلال التصنيع

منذ أن بدأت الثورة الصناعية، أصبحت كل الدول، التي لم يحالفها الحظ في امتلاك احتياطيات نفطية ضخمة، ثرية من خلال طريقة واحدة هي الاستفادة من التصنيع، حيث أصبحت دول مثل بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية جميعها من الشركات المصنّعة العالمية قبل وقت طويل من بدء اقتصاداتها في التحول نحو تقديم الخدمات. وفي الآونة الأخيرة، قام عدد جديد من البلدان التي تعد إلى حد كبير متقدمة، بما في ذلك ماليزيا وبولندا والصين ورومانيا وتايلند والمكسيك، أيضاً بتعزيز قدراتها التصنيعية.
وقد جادل خبراء اقتصاديون مثل هاهون تشانغ وداني رودريك، وكتَّاب مثل جو ستادويل، بأن الترويج للصادرات الصناعية هو أمر حاسم لهذا النوع من التنمية، وفي ورقة بحثية في 2008، تحدث رودريك عن الكثير من الحالات التجريبية والنظرية التي تصب في صالح السياسات الصناعية، وقال، في الورقة، إن «التنمية تتعلق بشكل أساسي بالتغيير الهيكلي نحو إنتاج منتجات عالية القيمة قابلة للتصدير، والتي يميل معظمها إلى أن يكون سلعاً مصنَّعة»، كما أن المنافسة في أسواق التصدير تُجبر منتجي البلاد على زيادة الإنتاجية، وتمكّنهم من اعتماد تكنولوجيات أجنبية متقدمة.
ويحاول عدد من الدول الفقيرة وضع هذه الفكرة في حيز التنفيذ، وهناك مثالان بارزان هما فيتنام وبنغلاديش اللتان شهدتا نمواً هائلاً في السنوات الأخيرة، حيث يبدو وضعهما الصناعي مناسباً تماماً للبلدان الموجودة في الدرجة الأولى من سلم التصنيع، وأهم صادرات فيتنام هي الإلكترونيات والملابس، في حين أن أهم الصادرات في بنغلاديش هي الملابس والمنسوجات.
ولكن ما يثير القلق هو أن رودريك ظل يجادل منذ عدة سنوات بأن فرص التنمية الناجحة المدفوعة بالتصنيع قد انتهت. وفي ورقة في 2016 بعنوان «هل انتهى عصر معجزات النمو؟»، قال رودريك إن دولاً مثل الصين وماليزيا ستكون آخر من استخدم التصنيع للقفز من الفقر إلى الثراء.
ولاحظ رودريك أنه في الوقت الذي تحول فيه معظم البلدان في نهاية المطاف من التصنيع إلى تقديم الخدمات بعد أن أصبحت دولاً غنية، فإنه في العقود الأخيرة، كان هذا التحول يحدث في وقت أبكر بكثير، حيث إن العديد من البلدان الآن قد بدأت في التحول بالفعل بعيداً عن التصنيع قبل أن تصبح دولاً صناعية بشكل كامل.
ويبدو أن هناك أبحاثاً أخرى قد وثّقت ظواهر مماثلة، فعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أعدها الاقتصاديون دوغلاس غولين، وريمي جداب، وديتريش فولراث، في 2015، أن التحضر في كثير من البلدان النامية يعني انتقال الفقراء من العمل في المزارع للعمل في الخدمات المحلية لا في المصانع.
وبالنسبة إلى دول مثل فيتنام وبنغلاديش، فهذه تعد أخباراً سيئة، ففي حال كان رودريك على حق، فإنه قد يتبخر التفوق البارز في مجال التصنيع الموجود لديهما في الوقت الحالي، كما أنهما ستجدان نفسيهما على خطى بلدان مثل إندونيسيا ونيجيريا والبرازيل، والتي تتراجع فيها نسبة التصنيع من الناتج المحلي الإجمالي.
ولكن ما سبب هذا التراجع في الصناعة؟ هناك تفسير واحد واضح وهو الأتمتة (أي استخدام الكومبيوتر والأجهزة المبنية على المعالجات والبرمجيات في مختلف القطاعات)، فإذا حلّت الروبوتات محل الطرف الأخير من سلسلة التوريد، فإن العمال الفقراء وغير المهرة الذين عادةً ما يشغّلون الصناعات البسيطة، مثل صناعة الملابس والألعاب وتجميع الإلكترونيات، لم يعد لديهم ميزة نسبية في التصنيع، ولذا فإن البلدان الفقيرة قد باتت تهتم بتصدير الموارد الطبيعية والخدمات المنخفضة القيمة مثل مراكز خدمة العملاء، تاركةً للبلدان المتقدمة التي لديها الأدوات والآلات والروبوتات عملية تصنيع المنتجات.
ولكن هناك أسباب وجيهة للتشكيك في حقيقة حدوث ذلك، فالصلة بين الأتمتة والعمالة تبدو ضعيفة، حيث وجدت بعض الدراسات أنه صحيح أن الروبوتات الصناعية يمكنها أن تحل محل العمال البشر، ولكن ترى دراسات أخرى أن هذه الروبوتات تزيد من فرص العمل أيضاً، بما في ذلك بين العمال من ذوي المهارات المنخفضة.
والأهم من ذلك، فإنه بالنظر إلى توقيت تراجع الصناعة فإننا ندرك أن فكرة رجوع هذا التراجع في بعض البلدان إلى التكنولوجيا هو أمر خاطئ، وذلك لأنه قد حدث الكثير من حالات تراجع التصنيع المبكرة، والتي سجّلها رودريك، بما في ذلك في نيجيريا والبرازيل، في الثمانينات والتسعينات، ولكن في نفس الوقت بالضبط، كانت الصين تزيد من قدراتها التصنيعية في الصناعات الكثيفة العمالة، كما كانت تبدأ معجزة النمو الخاصة بها، ولذلك فإنه يبدو من المرجح أن هناك أسباباً أخرى في البلدان التي انخفض فيها التصنيع.
وقد يكون لدى كثير من هذه البلدان ببساطة تصنيع مختلّ وظيفياً أو غير مكتمل، ففي أفريقيا، على سبيل المثال، استخدم عدد من البلدان سياسة الاعتماد على الواردات، حيث قامت بالاعتماد على التجارة ومحاولة تصنيع سلعها الخاصة فقط، وغالباً ما تستخدم المصانع غير الفعالة المملوكة للدولة في ذلك، وقد استخدمت البرازيل نهجاً مماثلاً، ولكنّ هذا يختلف تماماً عن نوع السياسة الصناعية التي تركز على الصادرات، والتي تدعم الإنتاجية، والتي يوصي بها رودريك أو تشانغ أو ستودويل، فعندما تخلت البلدان الفقيرة عن العوامل الدافعة للتصنيع، فإنها قد فتحت حدودها أمام الواردات، مما أهلك الصناعة المحلية غير الفعالة.
وبالإضافة إلى الأخطاء السياسية، فإنه ربما تكون الصناعة في الصين قد لعبت دوراً في ذلك، حيث إنه ربما تسببت هذه الصناعة الضخمة في هذا البلد الضخم في تحول الشركات متعددة الجنسيات بعيداً عن المنافسين الأبطأ مثل إندونيسيا، مما أدى إلى خنق صناعاتها الناشئة، حيث وجد رودريك أنه في المتوسط، لم تشهد دول شرق آسيا تجربة تراجع التصنيع بشكل مبكر مثل نظيراتها في مناطق أخرى من العالم.
وقد تكون النظرية الاقتصادية التي ابتكرها ماسيسا فوغيتا وأنتوني فينابلز، هي المفتاح لفهم سبب حدوث ذلك، حيث توقعا أنه مع تطور الاقتصاد العالمي، فإن المناطق المختلفة تتجه إلى التصنيع، واحدة تلو الأخرى، وإذا كان هذا صحيحاً، فإنه لن يكون لدى الدول الأخرى أي خيار سوى الانتظار حتى تنتهي الصين من معجزة النمو الخاصة بها قبل بدء معجزتها الخاصة.
واليوم بفضل الارتفاع السريع في تكاليف الصناعات الصينية، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، ورغبة الشركات المتعددة الجنسيات في التنويع في مواجهة تهديدات مثل فيروس «كورونا»، فإنه قد حان الوقت لبلدان مثل فيتنام وبنغلاديش لتبني الكثير من الصناعات كثيفة العمالة، وحتى البلدان التي تم تراجع التصنيع فيها، مثل إندونيسيا، فقد تحصل الآن على فرصة ثانية، فحتى اليوم يجب على الدول الفقيرة ألا تتخلى عن حلمها في التنمية القائمة على التصنيع.