النفط : أسبوع من الاضطراب للخام ومزيد من الألم في الطريق

تجلى الحجم الكامل للضرر الذي لحق بصناعة الطاقة في 20 أبريل نيسان عندما انخفض السعر المرجعي للعقود الآجلة للخام الأمريكي إلى مستوى لم يكن ليخطر على البال، وهو سالب 38 دولارا للبرميل.

ولم ينخفض السعر قط إلى ما دون العشرة دولارات للبرميل على مدى 40 عاما تقريبا هي عمر العقد.

وفي غضون بضعة أشهر فقط، وفي ظل توقف مليارات الأشخاص عن السفر، دمرت جائحة فيروس كورونا الطلب على الوقود على نحو عجزت عنه الانهيارات المالية والركود والحروب – إذ صار لدى الولايات المتحدة من النفط ما لا تجد مكانا لتخزينه.

وفي حين أن الظروف غير المعتادة لأسعار النفط السالبة قد لا تتكرر، فإن كثيرين في الصناعة يقولون إنها نذير مزيد من الأيام الصعبة وإن سنوات الاستثمار المفرط في النفط لن تُصحح في غضون أسابيع أو حتى شهور.

وقال فريدريك لورنس نائب الرئيس للاقتصاديات و الشؤون الدولية في رابطة البترول الأمريكية المستقلة ”ما حدث في العقد الآجل ذلك اليوم أشار إلى أن الأمور بدأت تسوء أسرع من المتوقع“.

وأضاف ”شركات خطوط الأنابيب ترسل إشعارات بأنها لا تستطيع أخذ مزيد من النفط الخام. يعني ذلك إغلاق البئر ولو بأثر رجعي“.

الأدلة على تآكل القيمة لمنتج عالمي لا غنى عنه منذ أواخر القرن التاسع عشر تواترت في أنحاء العالم الأسبوع الماضي.

ففي روسيا، وهي من أكبر المنتجين في العالم، يدرس القطاع اللجوء إلى حرق النفط لحجبه عن السوق، حسبا ذكرته مصادر لرويترز.

وخفضت شركة النفط النرويجية العملاقة إكوينور توزيعات أرباحها الفصلية بمقدار الثلثين. وتصدر الأسبوع المقبل تقارير نتائج أكبر شركات النفط في العالم بما في ذلك إكسون موبيل وبي.بي ورويال داتش شل. ومن المتوقع أن تعلن جميعها تفاصيل تخفيضات إنفاق جديدة، وسيراقب المستثمرون عن كثب خطط هذه الشركات لتوزيعات الأرباح.

وأرسلت شركة كونتيننتال ريسورسيز المملوكة للملياردير الأمريكي هارولد هام أطقما فنية إلى حقول في أوكلاهوما ونورث داكوتا منتصف الأسبوع لإغلاق آبار بشكل مفاجئ، وأعلنت الشركة أنها لا تستطيع تسليم شحنات خام للعملاء بسبب الجدوى الاقتصادية الضعيفة.

أحدث قرار كونتيننتال إعلان حالة القوة القاهرة – الذي يقتصر عادة على ظروف الحرب أو الحوادث أو الكوارث الطبيعية – صدمة، وأثار انتقادات حادة من اتحاد صناعة التكرير الرئيسي. لكن البعض يقول إن هناك منطقا وراء ذلك، حتى لو لم يكن مقبولا.

وقال أنس الحاجي خبير سوق الطاقة المقيم في دالاس ”توقيع العقود يكون على أساس الأوضاع العادية للمجتمع على مدى المئة عام الأخيرة. إذا جد جديد خارج عن هذه الأوضاع العادية، فإنه يستدعي حالة القوة القاهرة. هذا ما يقوله هارولد هام وآخرون – هذه ظروف غير عادية“.

حتى قرار البيت الأبيض الذي ترددت عنه الشائعات لفترة طويلة بأنه لم يعد بوسع شيفرون العمل في فنزويلا، حيث لها حضور منذ ما يقرب من 100 عام، قوبل بلا مبالاة.

وقال شخص مقرب من شركة نفط غربية في فنزويلا ”المناخ العالمي رهيب.. لم تعد الرخصة مهمة“.

وتفرض السوق كلمتها على جميع المنتجين. وفي جميع أنحاء العالم، تستعد الحكومات والشركات لإيقاف الإنتاج، وربما بدأ الكثير منها بالفعل.

والتزمت منظمة البلدان المصدرة للبترول وحلفاؤها بالفعل بتخفيضات غير مسبوقة قدرها عشرة ملايين برميل من الإمدادات اليومية لم تدخل حيز التنفيذ بشكل كامل بعد. لكن لم يكن هذا الالتزام كافيا لمنع هبوط النفط إلى ما دون الصفر.

وقالت السعودية إنها وأعضاء أوبك الآخرين على استعداد لاتخاذ مزيد من الإجراءات، لكنها لم تقدم أي التزامات جديدة. ومما يدل على مدى عمق انهيار الطلب أنه حتى إذا توقفت أوبك عن الإنتاج تماما، فإن المعروض قد يظل متجاوزا للطلب.

وأُعلن بالفعل عن تخفيضات في الإنتاج بالولايات المتحدة تزيد على 600 ألف برميل يوميا، فضلا عن 300 ألف برميل يوميا جراء عمليات الإغلاق في كندا. وخفضت شركة النفط الوطنية البرازيلية بتروبراس إنتاجها 200 ألف برميل يوميا.

وتجبر أذربيجان، وهي جزء من المجموعة المعروفة باسم أوبك+، تحالفا بقيادة بي.بي على خفض الإنتاج للمرة الأولى على الإطلاق. وبشكل عام، كان يجري في السابق استبعاد شركات النفط الكبرى في تلك البلدان من التخفيضات التي تفرضها الحكومات.

وقال مسؤول أذربيجاني كبير لرويترز ”لم نقم بذلك من قبل قط منذ قدومهم للبلاد في 1994 وتوقيعهم عقد القرن“.

ولم يعد من الممكن التكيف مع نفاد مساحات تخزين النفط في العالم. وقالت كبلر لبيانات الطاقة إن طاقة التخزين البري في جميع أنحاء العالم بلغت يوم الخميس 85 بالمئة تقريبا.

وتقدر وكالة الطاقة الدولية أن من المتوقع أن ينخفض ​​الطلب 29 مليون برميل يوميا في أبريل نيسان وأن يرتفع الاستهلاك في مايو أيار، لكن الباحثين حذروا من أن توقعها انخفاضا قدره 12 مليون برميل يوميا فقط في الطلب على أساس سنوي قد يكون مفرطا في التفاؤل.

وقال جين مكجيليان المحلل لدى ترادشن إنرجي والذي كان يعمل في بورصة نيويورك التجارية عند إطلاق العقود الآجلة للخام الأمريكي في 1983 ”أنا متأكد من سماع نفس الأرقام عن انهيار الطلب 20 إلى 30 مليون برميل يوميا.. وإلى أن نرى تحسنا في الوضع، للمرء أن يسأل ماذا يخبئ المستقبل“.

الإغلاق العالمي الكبير وتجاوز التحديات

وضع «كورونا» العالم على مشارف أسوأ أزمة اقتصادية منذ الحرب العالمية الثانية، والكساد الكبير (1929 – 1939). فالإغلاق العالمي الكبير الذي شهدته الكرة الأرضية من حجْر منزلي، وحظر تنقل، وتباعد اجتماعي، أدَّى لتوقف قطاعات وأنشطة اقتصادية عديدة، مثل الطيران والفنادق والمطاعم والمتاجر وكثير من الصناعات، واختلالات بأسواق الأسهم والطاقة والتجارة الدولية. وتسبب في تداعيات اقتصادية سلبية على الاستهلاك والادخار والاستثمار وتشغيل اليد العاملة؛ بل إنَّه أصبح ينذر بدخول الاقتصاد العالمي مرحلة ركود سيستغرق سنوات ليتعافى منه، كما أفادت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فقد أشارت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي في 9 أبريل (نيسان)، بتوقع تسجيل معدلات نمو سلبية لدخل الفرد في أكثر من 170 دولة خلال عام 2020، وأنَّ نصف دول العالم طلبت من الصندوق خطة للإنقاذ.
وأورد تقرير الصندوق لآفاق الاقتصاد العالمي الصادر في 14 أبريل، توقعاته بأن يشهد الاقتصاد العالمي انكماشاً حاداً بواقع 3 في المائة خلال العام الحالي. وقدر انخفاضات إجمالي الناتج المحلي بالاقتصادات المتقدمة بنسبة 6.1 في المائة (أعلاها في منطقة اليورو بنسبة 7.5 في المائة)، وبمنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بنسبة 2.8 في المائة، وأميركا اللاتينية بنسبة 5.2 في المائة. وتوقعت منظمة التجارة العالمية ببيانها الصحافي في 8 أبريل انخفاض التجارة الدولية بنسب بين 13 في المائة – 32 في المائة هذا العام. كما أظهر البيان الصحافي الصادر عن منظمة العمل الدولية بتاريخ 7 أبريل، أن الجائحة سوف تؤدي إلى إلغاء 6.7 في المائة من إجمالي ساعات العمل بالعالم بالنصف الثاني من هذا العام، أي ما يقارب 195 مليون وظيفة بدوام كامل، وأنَّ ما يقارب 81 في المائة من القوى العاملة العالمية التي يبلغ عددها 3.3 مليار شخص، تأثرت بسبب الإغلاق العالمي الكبير. ومن الجدير بالتنويه هنا أنَّ عدد الأميركيين الذين فقدوا وظائفهم خلال الأسابيع الأربعة الماضية بلغ أكثر من 22 مليون فرد، وهذا العدد يقارب مجموع العاطلين الأميركيين في ذروة الكساد الكبير عام 1932 الذي بلغ 30 مليون شخص.
وأظهرت تداعيات هذه الأزمة الدولية غير المسبوقة، أنه لا يمكن لدولة أياً كانت أن تقدر على مواجهتها بمفردها، مما يحتم حشد التعاون الدولي. وهذا ما أكده خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، في مستهل أعمال قمة مجموعة العشرين الاستثنائية التي عقدت افتراضياً برئاسة المملكة العربية السعودية في 26 مارس (آذار) الماضي؛ حيث قال: «إن هذه الأزمة الإنسانية تتطلب استجابة عالمية، وإن العالم يعوّل علينا للتكاتف والعمل معاً لمواجهتها، ويجب أن نأخذ على عاتقنا جميعاً مسؤولية تعزيز التعاون في تمويل أعمال البحث والتطوير، سعياً للتوصل إلى لقاح لفيروس (كورونا)، وضمان توفر الإمدادات والمعدات الطبية». وأكد بيان القمة هذا الأمر، فتضمن: «إن جائحة (كورونا) غير المسبوقة تعد رسالة تذكير قوية بمدى الترابط بين دولنا ومواطن الضعف لدينا، فهذا الفيروس لا يعترف بأي حدود. وتتطلب عملية التعامل معه استجابة دولية قوية منسقة واسعة المدى، مبنية على الدلائل العلمية ومبدأ التضامن الدولي».
واستجابة لذلك، بادرت المملكة بالإعلان عن مساهمتها بمبلغ 500 مليون دولار لمساندة الجهود الدولية الرامية للتصدي لجائحة فيروس «كورونا» المستجد. وسوف يسهم هذا التبرع للمنظمات الدولية المختصة في تعزيز التأهب والاستجابة للحالات الطارئة، وتطوير أدوات تشخيصية وعلاجات ولقاحات جديدة وتوزيعها، وتلبية الاحتياجات غير الملباة فيما يتعلق بالرصد والتنسيق الدولي، وضمان توفر ما يكفي من إمدادات المعدات الوقائية للعاملين في القطاع الصحي. وانطلقت المملكة في تقديم هذا التبرع غير المشروط من إدراكها لدورها الإنساني. ولم تنغلق على نفسها كبعض الدول التي تتشدق جزافاً بحقوق الإنسان، وتربط دعمها للمنظمات الدولية بفرض إملاءاتها وشروطها عليها.
والمجتمع الدولي اليوم بأمسّ الحاجة لقيادات سياسية واعية حكيمة ذات مبادئ راسخة، تعي أهمية هذه المرحلة، ولا تهدر جهودها في تبادل الاتهامات والتنصل من تعهداتها، وتعي تجارب التاريخ. فقد ساهم انشغال الدول بمعالجة أزماتها الاقتصادية فرادى إبان فترة الكساد الكبير، إلى عدم التنبه لخطورة ما كان يجري على الصعيد العالمي من فورة العنصرية والشعبوية وانتهاك للمعاهدات الدولية، مما أشعل فتيل الحرب العالمية الثانية.
ولا يعني القول أعلاه أن تركنَ الدول فقط للتعاون الدولي، وتغفلَ عن الاهتمام بمسؤولياتها الوطنية؛ بل يتوجب عليها بلورة وتنفيذ السياسات والبرامج المحلية لاحتواء الوباء، وانتشال اقتصاداتها للتعافي من تبعاته. وأبرز توصيات المنظمات المتخصصة وخبراء الاقتصاد في هذا الشأن، ما يلي:
أولاً: السعي لتعزيز قدراتها الوطنية بتشخيص وعلاج الوباء، والرفع من كفاءة أنظمتها الصحية، وتوفير الغذاء وتوزيعه، وتبني إجراءات مشددة لضبط الأسعار، ودعم تجهيزاتها وخدماتها الأساسية، من كهرباء وماء واتصالات وأمن وخدمات بلدية. كما من المهم عليها توفير الدعم للأسر المحتاجة والأفراد الذين يفقدون دخولهم نتيجة للإجراءات الاحترازية المطبقة. فقد كان أول تشريع اقتصادي يصدره الكونغرس الأميركي في عهد الرئيس روزفلت لمواجهة أزمة الكساد الكبير، يتضمن إيصال المساعدة للشباب العاطلين عن العمل، من خلال انخراطهم في مخيمات للمشاركة في الأنشطة والمشروعات الاجتماعية، مقابل 30 دولاراً للشهر الواحد.
ثانياً: البدء في بلورة وتنفيذ الخطط والبرامج الكفيلة بالأخذ بيد الاقتصاد الوطني، للانتعاش والتعافي سريعاً والنماء.
ويتطلب ذلك تشكيل فريق من المتخصصين الوطنيين المتمرسين بالخبرات الثرية، في مجالات المالية والاقتصاد وإدارة الأعمال، وبرئاسة السلطة العليا بالدولة، لتولي الإشراف على تخطيط وإدارة القضايا الآتية:
1- ترتيب أولويات الإنفاق العام، وضمان الحوكمة والشفافية فيما يتم إنفاقه خلال هذه المرحلة.
2- مراجعة سياسات البنوك المركزية، ومتابعة أداء الصناديق السيادية لضمان جدوى استثماراتها، وتوجيه حجم أكبر من نشاطها نحو الاقتصاد الوطني.
3- دعم الصناعة الوطنية المتصلة بمجالات الغذاء والدواء والمستلزمات والخدمات الصحية، ورفع كفاءة الخزن الاستراتيجي.
4- احتواء المخاطر المالية جراء الزيادة المحتملة في الديْن العام، والسعي لضمان سلامة القطاع المالي الوطني من الاضطرابات.
5- العمل على دعم الطلب بالاقتصاد المحلي، وتحفيز التشغيل بالقطاع الخاص ومعالجة الخلل في ميزانياته.
6- تمديد آجال القروض على مؤسسات القطاع الخاص، وشراء أسهم الشركات الفاعلة ذات القدرة على الاستمرار والمنافسة.
7- دعم الأجور بمؤسسات القطاع الخاص، ووضع قيود على المكافآت وتوزيعات الأرباح لأعضاء مجالس الإدارة والرؤساء التنفيذيين.
ختاماً: أصعب تحدٍّ سوف يواجه الدول في المرحلة القادمة، يتمثل في إعادة الثقة للمستهلك والمستثمر. وهذا الأمر يتأثر بعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وإعلامية وإدارية عديدة، ولا بد من التنبه لها جميعاً، والتعامل معها بحذر شديد، لضمان تحقيق الهدف المنشود.

د. يوسف السعدون

أزمة لبنان المالية: صراع الحكومة والمركزي يزيد الطين بلّة..

تتابع الأسواق المالية اللبنانية بتوتر استثنائي شديد التطورات المتصلة باندلاع الصراع المعلن غير المسبوق بين السلطة التنفيذية، ممثلة بالحكومة ورئيسها حسان دياب، والسلطة النقدية، الممثلة حصرياً في حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة، تبعاً للشغور المتسع في مكوناتها الذي يشمل نواب الحاكم الأربعة، ومفوض الحكومة لدى البنك المركزي، ورئيس لجنة الرقابة على المصارف، وأعضاءها الخمسة، وهيئة الأسواق المالية.

وفيما سربت مصادر مقربة من سلامة استبعاد خيار الاستقالة الطوعية، وعزمه الرد بالتفاصيل على الاتهامات المباشرة التي وجهها إليه رئيس الحكومة، والتحرر من قيود «التحفظ» التي تحكم غالباً تصريحات محافظي البنوك المركزية حول العالم، بدت الأوساط المصرفية متأهبة من ما قد تؤول إليه هذه المواجهة، وتأثيرها على الأوضاع المالية والنقدية المتردية أصلاً، خصوصاً فيما يتصل بحاجة لبنان الملحة إلى تدفقات من مصادر خارجية تخفف من خطورة ندرة السيولة بالعملات الأجنبية.

ويؤكد مصدر مسؤول كبير في القطاع المصرفي ل “الشرق الاوسط”  أن «تبادل قذف كرة الأزمة المالية العاتية، بين ثلاثي الدولة والبنك المركزي والجهاز المصرفي، حرف البوصلة الإنقاذية عن الاتجاه المنشود، ويشي بتبديد أي جهود هادفة لانتشال الاقتصاد الوطني من القعر العميق، بعدما أدخلت الأزمة المتدحرجة كامل الثروة الوطنية، من مدخرات المواطنين وموارد الخزينة ودورة الإنتاج والتشغيل، في دوامة خسائر دراماتيكية تواصلية، لتنتج بدورها تدهوراً خطيراً على المستويين المعيشي والاجتماعي، مع تلاشي قدرات أصحاب المداخيل المتوسطة، وانضمامهم إلى خط الفقر الذي يحاصر نصف الشعب اللبناني، ويتمدد سريعاً إلى فئات جديدة».

ويقر المسؤول، الذي رفض الكشف عن هويته لحساسية الموقف، بأن معادلة الاستقرار النقدي، وهي العنوان الأبرز للسياسة النقدية التي انتهجها سلامة منذ تسلمه منصبه في عام 1993، وحظيت تباعاً بدعم سياسي واقتصادي واسع يقارب الإجماع، سقطت واقعياً في دوامة الفوضى والتسعير المتفلت للدولار بين حدي 1520 ليرة المعتمد حصراً للمستوردات من حساب احتياطي العملات الصعبة لدى مصرف لبنان، وعتبة 4 آلاف ليرة التي بلغها، ثم تعداها، في تداولات نهاية الأسبوع لدى الصرافين، وبينهما سعر 1800 ليرة لإقراض المصارف من قبل المركزي، و2600 للسحب من الودائع المحررة بالدولار، و3625 لسداد التحويلات الواردة من الخارج عبر المؤسسات المالية غير المصرفية.

ولم ينفع الإجماع المحلي والخارجي على حاجة لبنان الملحة لدعم مالي خارجي وفوري، يقدر حده الأدنى بنحو 15 مليار دولار، للحد من سرعة الانهيارات والتطلع إلى الخيارات الإنقاذية المعقدة، في فرض موجباته، وحيازة أولوية الاهتمام لدى المرجعيات المحلية المعنية، وفقاً للمسؤول المصرفي، بل «بدأنا نستشعر مخاطر تشمل مجمل الأوضاع الداخلية، بفعل اتساع مسافات التباعد والاختلاف، وتشتيت الجهود، والمس بهوية البلاد الاقتصادية والملكية الخاصة».

ويعترف المصدر بأن ودائع الزبائن لدى البنوك، البالغة نحو 147 مليار دولار، ليست في مأمن تام عن حلبة الأزمة وصراعاتها المستجدة. فالسيولة تدنت إلى حدود أجبرت المصارف على وقف الصرف بالدولار النقدي، إلا في حالات محدودة للغاية، تعود حصراً للتحويلات الجديدة الواردة من الخارج، وعمليات الاقتطاع التي أوصى الاستشاري الدولي للحكومة (شركة لازارد) باعتمادها ضمن الخطة الإنقاذية؛ ويرجح أيضاً أن تطال أصحاب الحسابات التي تفوق 500 ألف دولار، تتم فعلياً من خلال إخضاع السحوبات لسقف لا يتجاوز 5 آلاف دولار شهرياً، بسعر 2600 ليرة، أي ما يقل 1400 ليرة عن سعر السوق الواقعية.

وتشير مسودة برنامج الإصلاح الحكومي إلى أن الاحتياجات التمويلية الخارجيّة هي ضرورية للحد من حجم الانكماش الاقتصادي، ولاستعادة الثقة بالاقتصاد اللبناني، وأن تأخر الخطوات الإجرائية يأتي لفتح قناة حوار رسمية مع صندوق النقد الدولي للاتفاق على برنامج إصلاحي معزز ببرنامج دعم مالي.

وترمي الخطة إلى تخفيض الدين العام الذي تجاوز 92 مليار دولار تدريجياً، من 176 في المائة كنسبة من الناتج المحلّي الإجمالي في نهاية العام الماضي إلى 103.1 في المائة في عام 2024. كما تركز خطة الحكومة على إعادة رسملة المصرف المركزي، والقطاع المصرفي بأكمله، علماً بأن الفجوة المالية لدى الطرفين تتركز في تمويلاتهما للدولة التي يفوق مجموعها 75 مليار دولار من إجمالي ديون الدولة بالليرة وبالدولار.

أزمتان لا لزوم لهما في عصر «كورونا»

حتى لا يكون من دواء الأزمة العالمية الراهنة ما يستمر في مرارته، بعد زوالها المأمول، وحتى نحسن مواجهة وباء فيروس «كورونا» وأزمة الركود الاقتصادي العالمي والتعافي منهما، يلزم تجنب ممنوعات محددة. أولاً يجب عدم افتعال أزمات جديدة لا مبرر لها، وأخطرها الآن ما يرتبط بالأمن الغذائي؛ وثانياً ينبغي عدم إهمال أسس الإدارة الحصيفة للدين العام في مرحلة الركود.
أولاً، تحديات الأمن الغذائي: على عكس ما كانت عليه أوضاع إنتاج الغذاء في عامي 2007 و2010، لا توجد هناك أي مشكلة تُذكر في جانب المنتجات الزراعية يمكن أن تسبب أزمة في أسعار الغذاء أو وفرته في الأسواق اليوم، إلا إذا تم افتعالها عمداً أو بسوء في الإدارة. ففي أزمتي الغذاء السابقتين كانت هناك مشكلات في الطقس وتراجع في مخزون السلع الزراعية وارتفاع لتكاليف النقل والوقود سببت مجتمعة اشتعالاً في أسعار الغذاء. أما اليوم فهناك وفرة في الإنتاج الزراعي وانخفاض شديد في أسعار النفط، ولكن الأمر يحتاج إلى تدابير عاجلة تُحد من التأثير السلبي لاضطراب خطوط الإمداد والمساندة اللوجيستية. إذ يسبب إغلاق الحدود نقصاناً للأسمدة ومدخلات الإنتاج الزراعي والأعلاف والأدوية البيطرية اللازمة للإنتاج الحيواني، على النحو الذي أشارت إليه مؤخراً منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة.
في هذه الأثناء يزيد الطلب على شراء السلع الغذائية لاحتياجات الاستهلاك المنزلي ومتطلبات التخزين تحوطاً للاحتياجات المستقبلية، خاصة مع عدم وضوح الرؤية بعد بشأن مدد الحظر الكلي أو الجزئي واستمرارها حول العالم.
لما كانت أكثر الدول النامية، والدول العربية خصوصاً، شديدة الاعتماد على الاستيراد لاحتياجاتها الغذائية الرئيسية، ينبغي التأكيد على خمسة أمور مانعة من حدوث أزمة أخرى نحن في غنى عنها باتباع ما يأتي:
1) هناك حاجة للتأكيد على وفرة المنتجات الزراعية والغذائية عالمياً وإتاحة المعلومات لعموم الناس بشأنها كمية وسعراً وتحديثها أولاً بأول.
2) المطالبة بالامتناع الفوري عن تقييد حركة التجارة الخارجية والداخلية للمنتجات الغذائية الرئيسية مثل القمح والذرة والأرز والبقول. ففي أزمات الغذاء السابقة تسبب حجب التصدير للفائض المنتج من هذه السلع الأساسية وغيرها في ارتفاع أسعارها بين 30 و50 في المائة. هذا علماً بأن إجراء بالحظر من دولة ما ستتبعه ردود أفعال من دول أخرى، بما يقيد المعروض ويشعل الأسعار، ويهدد الأمن الغذائي في أوقات لا تحتمل توتراً إضافياً، كما أن الحظر يمنع المزارعين والدولة من إيرادات هم أولى بها.
3) مع الأهمية البالغة للالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي، اتباعاً لإرشادات منظمة الصحة العالمية، فهناك ضرورة لتفعيل إجراءات انسياب قنوات تجارة السلع الغذائية، جنباً إلى جنب مع الدواء والمستلزمات الطبية، مع وضع منظوماتها في إطار يحافظ على الصحة العامة ويمنع انتشار العدوى.
4) أهمية تأمين احتياجات الغذاء للأسر الفقيرة والمضارة من أزمة فيروس كورونا وتداعياتها، من خلال نظم الضمان الاجتماعي والتحويلات النقدية المباشرة للأفراد، بما في ذلك نظام الدخل الثابت الشامل للكافة للوفاء بالاحتياجات الأساسية وتوفير البدائل لنظم التغذية المدرسية للأطفال تزامناً مع إغلاق المدارس بسبب الحظر. وهنا يبرز دور آليات المشاركات بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني خاصة على المستوى المحلي.
5) توفير التمويل اللازم لتأمين احتياجات الغذاء على مستوى الدولة من الواردات الزراعية ومستلزمات الإنتاج الزراعي والحيواني المحلي. وهذا يتطلب إدارة محكمة للسياسات المالية وأولويات الإنفاق وانضباطا للدين العام وموارد النقد الأجنبي، وهذا يقودنا لضرورة منع الأزمة الثانية.
ثانياً، إدارة الديون في مرحلة الركود: الحديث عن احتمالات الركود الاقتصادي، بتراجع شديد ومستمر في معدلات النمو، سبق أزمة كورونا بفترة خاصة مع تداعيات الحروب التجارية. ولكن حديث الاحتمالات أزيح جانبا بعد إعلان صندوق النقد الدولي، في شهر مارس (آذار) الماضي، عن أن العالم قد دخل بالفعل مرحلة ركود لن تقل عما رأيناه في أعقاب الأزمة المالية العالمية لعام 2008. وقد تبارت مؤخراً المؤسسات الاقتصادية الدولية ومراكز الأبحاث أيها يخفض معدل النمو الاقتصادي بنسب أكبر.
وقدّر معهد التمويل الدولي أن يكون معدل النمو الاقتصادي العالمي سالباً بمقدار 1.5 في المائة نزولاً من نمو متواضع يقترب من 2.6 في المائة. كما خفض المعهد تقديراته لنمو الاقتصاد الأميركي إلى سالب 2.8 في المائة ولمنطقة اليورو الأوروبية إلى سالب 4.7 في المائة ولليابان إلى سالب 2.6 في المائة. أما الدول ذات الأسواق الناشئة فتقديرات متوسطات نموها تحوم حول 1 في المائة. وتصل تقديرات نمو الاقتصاد الصيني، وفقاً لمعهد شرق آسيا بجامعة سنغافورة، لمدى يتراوح بين 1 في المائة و3.3 في المائة. أما سائر الدول النامية فخفضت متوسطات نموها بمقدار النصف للكثير منها مقارنة بتقديراتها قبل الأزمة العالمية الكبرى. وفي هذه الأثناء تتزايد احتياجات للإنفاق لمواجهة تبعات فيروس كورونا الصحية والاجتماعية والاقتصادية، كما تتراجع بحدة إيرادات قطاع الأعمال الإنتاجي السلعي والخدمي، باستثناءات القطاعات المستمرة في النشاط بحكم الحاجة إليها.
ونواجه هذه الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في أعقاب تصاعد موجة جديدة من الديون تناولتها في مقال سابق عن «موجات الديون وأزماتها». ووفقاً لأرقام الاستدامة المالية للديون، المحدثة من قبل معهد التمويل الدولي في يناير (كانون الثاني) الماضي، بلغت نسبة الديون لإجمالي الناتج المحلي العالمي 322 في المائة في الربع الثالث من العام الماضي، إذ تجاوزت 350 تريليون دولار.
وقد شهدت حمى الاقتراض زيادة ديون القطاعات الحكومية والخاصة والعائلية مجتمعة مدفوعة بانخفاض أسعار الفائدة، ودون تحسب في أحوال متعددة لمخاطر تقلبات سعر الصرف والشح المفاجئ في إيرادات النقد الأجنبي. مع ملاحظة أنه في حالة التعثر الدولي تصير مشكلات قطاع الأعمال عبئاً سيادياً أيضاً على النحو الذي حدث في الأزمات المالية السابقة، باختلاف مع الضمانات الممنوحة.
وهذه الأزمة التي تلوح في الأفق، مع إشارات صادرة مؤخراً، من دول نامية في أفريقيا وأميركا اللاتينية، باحتمالات عدم القدرة على الوفاء بالتزاماتها، تستوجب تعاوناً دولياً لاحتوائها على وجه السرعة قبل تفاقمها. ولا يكفي في هذا الشأن مجرد الدعوة للنظر في إرجاء تحصيل فوائد هذا العام المستحقة لدول منخفضة الدخل، فالمشكلة تطول دولا نامية متوسطة الدخل وذات أسواق ناشئة أيضا. كما أن الدائنين ليسوا من جهات حكومية فقط أو من أعضاء نادي باريس، بما يستلزم إدراج القطاع الخاص وكذلك القروض الحكومية من خارج نادي باريس في عمليات إرجاء الدفع والجدولة وإعادة هيكلة القروض.
هذه أيام حرجة تواجه فيها الإنسانية، بين هلع وارتباك، خطراً واحداً يهدد الحياة في المقام الأول. وهاتان أزمتان في طور التكوين ليس من الصعب التصدي لهما بحسم من خلال تعاون دولي فعال يغلب مصلحة عموم الناس.

د. محمود  محي الدين