لا تكمن أهمية المبادرة الفرنسية في أنّها فرصة ثمينة لمساعدة لبنان في الخروج من أزمته الخانقة فحسب، بل أيضاً، في كونها قطعت الشك باليقين، عندما أثبتت انّ الانهيار المالي والاقتصادي في لبنان لم ينتج من حصار خارجي، كما يدّعي أو يتوهم البعض.
ما أثبتته المبادرة الفرنسية، التي ليس معروفاً بعد، اذا ما كانت ستبقى قائمة بعد تداعيات اعتذار مصطفى أديب، أنّ الاميركيين المتهمين بمحاصرة لبنان مالياً للضغط على ايران وحليفها «حزب الله»، لم يعترضوا على الفصل بين السياسة والاقتصاد لإعطاء فرصة لإنقاذ اللبنانيين. وعليه، ينبغي الاعتراف بأنّ المشكلة في مكان آخر. لن يبدّل في الحقائق القائمة الاختباء وراء العوامل السياسية لتبرير الجرائم التي ارتكبتها المنظومة الحاكمة. الكارثة التي يعيشها اللبنانيون اليوم، ونقلهم الى مشهد الفقر وسفن الموت وبطاقات التموين والذلّ، وتحضيرهم للأسوأ، ناتجة من تراكمات وارتكابات وخطايا، مسؤولة عنها المنظومة السياسية المحلية دون سواها.
لمن ينقصه الدليل على أنّ الشروط التي يضعها المجتمع الدولي، كما الأميركيون، لا علاقة لها بالضغط السياسي، من المفيد نقل هذه الـ»قصة» من اسرائيل.
منذ مطلع السبعينيات بدأ الاقتصاد الاسرائيلي يُرسل اشارات وهنٍ وتراجع. ومع مرور الوقت، راحت الاشارات تزداد وضوحاً، وتنبئ بالاتجاه نحو الانهيار. وكانت هناك مجموعة عوامل تقف وراء هذا الوضع، من أهمها التالي:
اولاً- الإنفاق المفرط على المجهود الحربي.
ثانياً- تدفق المهاجرين اليهود باضطراد، والحاجة الى خلق فرص عمل سريعة لاستيعابهم، تتطلّب تمويلاً اضافياً لدمج القادمين الجدد في المجتمع.
ثالثاً- بنية الاقتصاد الذي كان يعتمد سياسة رسمية شبه اشتراكية، لجهة دور الرعاية الموسّع الذي تقوم به الدولة، ومن ضمنه سياسة الفوائد والقروض المدعومة.
رابعاً- مستوى أجور في القطاعين العام والخاص، يتجاوز قدرة وحجم الاقتصاد.
هذه العوامل أدّت الى عجز دائم في الموازنة، اضطرت معه الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة الى الاقتراض والى طباعة العملة (شيكل) لتوفير السيولة. وراح حجم الدين يرتفع، وقيمة العملة تتقهقر.
اتضح للمنظومة السياسية الاسرائيلية، انّه لا بدّ من اجراء تغيير جذري يوقف التدهور الاقتصادي. لكن الحكومات المتعاقبة تحاشت اتخاذ القرار، لأنّه يتضمّن اجراءات موجعة للاسرائيليين، وكان كل حزب يصل الى السلطة يفضّل عدم المجازفة بفقدان شعبيته جراء قرار من هذا النوع. وبدلاً من الذهاب في اتجاه خطة انقاذ حقيقية، حاولت المنظومة السياسية الخطط المجتزأة والخفيفة (Light)، وهي خطط من النوع الذي يراعي عدم المس بالاجور، ويتحاشى فرض رسوم على الناس، ويبتعد عن الاقتطاع الفعلي من الموازنة… بذرائع متعددة. جرى تنفيذ خطتين من هذا النوع في مرحلتين مختلفتين، لكن الامور انتهت الى تسريع الانهيار بدلاً من لجمه.
في مطلع العام 1985، وصلت نسبة التضخم الى حوالى 450%، وكانت التوقعات تشير الى ارتفاعه الى 1000% في العام التالي. وهبطت قيمة العملة الاسرائيلية من 4 شيكل للدولار الواحد الى 1500 شيكل للدولار. وبلغ حجم الدين على الناتج (GDP %220)، وهو أعلى من نسبة الدين على الناتج في لبنان (حوالى 180%)، يوم أعلنت حكومة حسان دياب الإفلاس في آذار 2020. وأدركت المنظومة السياسية في اسرائيل انّ الانهيار صار على قاب قوسين أو أدنى. رفعت الصوت للاستعانة بالأميركي، وكان يومها رونالد ريغان في البيت الابيض، ووزير خارجيته جورج شولتز، الصديق الصدوق لاسرائيل. ورغم الصداقة والمحبة والمصلحة والسياسة، جاء الجواب الأميركي على طلب العون، بأنّ واشنطن مستعدة للمساعدة، لكنها لن تفعل قبل ان تنفّذ اسرائيل خطة اقتصادية اصلاحية شاملة. هذا الشرط سبق أن طلبه الأميركيون من الاسرائيليين قبل العام 1985، لكن الاسرائيليين عاندوا وفضّلوا تجربة الخطط الخفيفة غير الموجعة.
هذه المرة أدركت المنظومة السياسية، وكان على رأسها في حينه رئيس حزب العمل شيمون بيريز، انّ الخيار قائم بين اثنين: اعلان الافلاس والتوقف عن الدفع، أو تأمين التغطية السياسية لخطة انقاذية، كان يعرف مسبقاً انها ستثير غضب الاسرائيليين، لاسيما منهم الطبقة العمالية. واختار بيريز الخطة الانقاذية. ووافق على استقبال خبيرين اقتصاديين، ارسلتهما الادارة الأميركية للمساهمة في وضع الخطة، هما: هيربرت شتاين (Herbert Stein) وستانلي فيشر (Stanley Fischer)، بالتعاون مع خبراء اقتصاد اسرائيليين.
استغرق إعداد الخطة حوالى ثلاثة أشهر، وفق الركائز الرئيسية التالية:
اولاً- السماح بخفض الاجور من 12 الى 14%.
ثانياً- خفض العجز في الموازنة بحوالى 3,8 مليارات دولار.
ثالثاً- إقرار قانون يمنع الحكومة من الاقتراض من البنك المركزي لتغطية العجز.
رابعاً- وقف سياسة القروض المدعومة، وتعزيز نقاط القوة في الاقتصاد الاسرائيلي.
أُطلق على الخطة تسمية «خطة الاستقرار». وعقدت الحكومة الاسرائيلية برئاسة بيريز جلسة ماراتونية، سجّلت سابقة زمنية في تاريخ انعقاد الجلسات الحكومية، إذ استغرقت 19 ساعة مستمرة، وانتهت بإقرار الخطة.
ردّات الفعل الاولية في الشارع لم تكن مرحبة، ونظّم العمال تظاهرات واحتجاجات لمدة ثلاثة ايام، ثم ما لبثوا أن أوقفوا تحرّكاتهم، بعدما لاحظوا انّ الرأي العام لا يدعمهم، اذ انّ الاسرائيليين عموماً كانوا يخشون تبعات الافلاس والانهيار الاقتصادي.
لا حاجة للحديث عن الاقتصاد الاسرائيلي اليوم الذي أصبح في مكان آخر. لكن تنبغي الاشارة الى النتائج الفورية لتنفيذ الخطة في العام 1985. فقد اشارت ارقام العام 1986 الى انّ التضخّم (Inflation) تراجع من 450% الى 20%. والعجز في الموازنة الاسرائيلية قياساً بالناتج، هبط من 15% الى صفر. وحجم القروض هبط بنسبة 33%.
خلاصة هذه القصة لا تحتاج الى شرح مستفيض، والعبرة الاساسية فيها انّ الانهيار كما الانقاذ في لبنان، من صنيعة ومسؤولية المنظومة السياسية دون سواها. وبصرف النظر عن الاخطاء والارتكابات المتراكمة منذ سنوات طويلة، لو عرفت هذه المنظومة أن تتخذ القرار في الوقت المناسب، لأمكن تحاشي الافلاس. ولو تلقفت هذه المنظومة المبادرة الفرنسية بالأمس، لأمكن تحاشي تعميم الفقر. وغداً، قد تكون هناك فرصة أخرى لكنها قد تكون مخصّصة لتحاشي المجاعة ليس إلّا، ومن غير المستبعد أن يتمّ هدرها هي الأخرى.