طرح وزير الخارجية مايك بومبيو، تقييماً قاسياً لمدى التردي الذي بلغته العلاقات بين الولايات المتحدة والصين. وأشار إلى وجود اختلافات ضخمة حول سرقة الملكية الفكرية، وادعاءات بكين بأحقيتها في السيطرة على كامل بحر الصين الجنوبي، والتنافس في مجال شبكات الجيل الخامس، بجانب الغزوات المعادية على صعيدي الفضاء السيبراني والتجارة، وكذلك الانتهاكات الجمركية وحملة الإجراءات القاسية في هونغ كونغ والضغوط التي تجري ممارستها على تايوان. في الواقع، تبدو قائمة الخلافات دونما نهاية.
والآن، أغلقت كل دولة منهما قنصلية مهمة على أرض الأخرى، في وقت تدخل سفن وطائرات البلدين في مناورات خطيرة في غرب المحيط الهادي، حتى اتفاق «المرحلة الأولى» التجاري الذي جرى الترويج له منذ شهور قلائل باعتباره إنجازاً كبيراً، يبدو أمام مخاطرة كبيرة اليوم. والواضح أن إدارة ترمب قررت أن الصين ستكون محور اهتمامها منذ الآن حتى الانتخابات في نوفمبر (تشرين الثاني).
من جانبي، تشكلت وجهات نظري بخصوص الصين على امتداد عقود عملي في المحيط الهادي، التي تضمنت كثيراً من الزيارات الرسمية ورحلات العمل والمؤتمرات منذ تركي العمل في الأسطول، إضافة إلى دراستي الوثيقة للصين باعتباري عميد كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية التابعة لجامعة تافتس.
منذ عدة سنوات ماضية، منحنا جائزة أفضل خريجي العام من كلية فليتشر إلى ليو تشياومنغ، الذي يعمل حالياً سفيراً للصين لدى المملكة المتحدة. كنت أنا وهو زميلَيْ دراسة داخل مدرسة فليتشر، ونلنا شهادتنا عام 1983. وعلى مدار العقد الماضي، أثنى تشياومنغ في بعض الأحيان على الولايات المتحدة، ودعا إلى تعزيز العلاقات بينها وبين الصين، وإن كانت الأحداث الأخيرة قد دفعته هو الآخر نحو اتخاذ مواقف أكثر تشدداً.
من جهتها، يتعين على واشنطن ثني قوس العلاقة بين أهم قوتين جيو – استراتيجيتين في القرن الحادي والعشرين نحو اتجاه مغاير لما عليه الحال الآن، لكن يتعين عليها توخي الحذر في ذلك كي لا تحطمه. في الواقع، ثمة مخاطرة كبيرة في هذا الأمر، خاصة خلال عام انتخابات داخل الولايات المتحدة التي تعاني حالة من الاستقطاب الشديد. وتكمن النقطة الأساسية هنا في أن الولايات المتحدة يجب عليها الدخول في مواجهة مع الصين بخصوص القضايا الحيوية التي تفرض عليها ذلك ـ بيد أنه يتعين عليها في الوقت ذاته السعي وراء التعاون معها أينما أمكن لها ذلك.
الحقيقة أن واحداً من مجالات التعاون الممكنة قد يبدو غريباً، ومع ذلك فإنه يحمل في طياته فرصة حقيقية للعمل معاً… القطب الشمالي. اللافت أن الصين رغم افتقارها إلى سواحل فعلية لها هناك، أبدت اهتمامها بما يطلق عليه البحارة الشمال الأعلى. ونالت بكين وضع مراقب داخل «المجلس القطبي» المؤلف من 8 أعضاء، وكانت فاعلة في العمليات البحرية، التي جاءت في الجزء الأكبر منها بالتنسيق مع روسيا. كما تتعاون الصين مع غرينلاند وأنشأت محطة قمر صناعي أرضية ومنشأة بحثية كبيرة. علاوة على ذلك، تعكف الصين على بناء كاسحة جليد ضخمة تعمل بالطاقة النووية، تبلغ زنتها 30.000 طن، ما يضاهي كبرى السفن الروسية.
ويتركز الاهتمام الأكبر للصينيين في استغلال المعادن والنفط والغاز وطرق الشحن التجارية. إلا أنه ربما تكون هناك مساحة للتعاون بين الولايات المتحدة والصين في المنطقة. ومن بين الإجراءات الأولية لبناء الثقة التي يمكن للولايات المتحدة اتخاذها فيما يخص منطقة القطب الشمالي، تنفيذ تدريبات بحث وإنقاذ مشتركة وأبحاث علمية وبروتوكولات لمدى الاقتراب المسموح به بين السفن والطائرات، «والتي يمكن في وقت لاحق تطبيقها على بحر الصين الجنوبي إذا أثبتت نجاحها في القطب الشمالي».
ويتمثل مجال آخر ممكن للتعاون بين البلدين في السيطرة على كيم جونغ أون، زعيم كوريا الشمالية، خاصة أنه لا مصلحة لأي من البلدين في السماح لكيم بتوسيع نطاق ترسانته النووية (خاصة الولايات المتحدة، بالنظر إلى حلفائها الموجودين في شرق آسيا).
فيما يخص الصين، سيكون اشتعال حرب بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية بمثابة كارثة، فالمؤكد أن كيم يخرج من الحرب خاسراً، بينما سينهمر سيل اللاجئين عبر الحدود بين الصين وكوريا الشمالية.
ومن خلال العمل معاً، يمكن للولايات المتحدة والصين خلق ضغوط اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية هائلة تتعذر مقاومتها على كوريا الشمالية كي تتوقف عن أفعالها الاستفزازية والسيطرة على ترسانتها النووية التي رغم صغر حجمها تبقى مهمة.
في الواقع، لم يفلح أي توجه حتى الآن مع كوريا الشمالية. ولم تنجح أي من «الدبلوماسية الشخصية» التي انتهجها ترمب و«الصبر الاستراتيجي» الذي اتبعه الرئيس باراك أوباما وتوجه «العصا والجزرة» الذي التزمه الرئيس جورج دبليو بوش، في إبطاء نمو ترسانة الأسلحة النووية والصواريخ الباليستية التي تملكها كوريا الشمالية. وعلى ما يبدو، فإنه في نهاية الأمر تمر كل الطرق إلى بيونغ يانغ عبر بكين. من بين مجالات التعاون المحتمل الأخرى، البيئة. المؤكد أنه لدى الولايات المتحدة والصين، باعتبارهما أكبر اقتصادين بالعالم، مصلحة أصيلة، وتتحملان مسؤولية كبيرة إزاء تحسين الأوضاع على صعيد قضية التغييرات المناخية الآخذة في التردي. وقد نجح البلدان بالفعل في إيجاد سبل للعمل معاً عندما كان أوباما رئيساً.
وتتمثل الخطوة الأولى نحو بناء مساحة للتعاون بين الجانبين هنا، في دخول الولايات المتحدة من جديد في اتفاقيات باريس للمناخ، الأمر الذي أبدت إدارة ترمب رفضها الشديد له. إلا أنه لحسن الحظ، تعهد جو بايدن من جهته بإعادة انضمام الولايات المتحدة للاتفاقيات حال فوزه في الانتخابات الرئاسية.
ويرتبط مجال آخر ممكن للتعاون بين واشنطن وبكين في أزمة وباء فيروس «كورونا» الراهنة. ورغم وجود مشاعر سخط هائلة داخل الولايات المتحدة في الوقت الراهن إزاء الصين باعتبارها مصدر الفيروس، فإنه يبقى من مصلحة البلدين العمل على تقليص تداعيات هذا الوباء على الساحة العالمية، خاصة ما يخص الاقتصادات الناشئة الكبرى مثل الهند وباكستان ونيجيريا وجنوب أفريقيا والبرازيل. ويمكن للولايات المتحدة والصين التعاون في مجالات نشر معدات الحماية الشخصية وإرسال الخبرات الطبية والمعاونة في توزيع اللقاح عندما يصبح متوافراً والمساعدة في تخفيف حدة التداعيات الاقتصادية للجائحة.
والمؤكد أن هناك مجالات أخرى يمكن للصين والولايات المتحدة العمل معاً فيها، مثل السيطرة على الأسلحة وإقرار نظام عالمي للأمن السيبراني، «ربما على غرار اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار» وعمليات الإغاثة من الكوارث، «خاصة أن البلدين يمتلكان مستشفيات بالغة التطور على متن سفن، على سبيل المثال».
ورغم أن أياً مما سبق يبدو محتملاً ما بين الآن والانتخابات الرئاسية، تظل الحقيقة أنه بمجرد تجاوزنا فترة التوتر الشديد الراهنة، سيكون من مصلحة البلدين بدرجة كبيرة على الأقل استكشاف بعض أفكار التعاون، على غرار ما سبق طرحه. وفي النهاية، فإن بومبيو ربما يكون محقاً في حديثه عن سلوك الصين الرديء، لكنه يبدو غير مدرك لمسألة أن إقرار مزيد من التعاون يشكل عاملاً جوهرياً لتغيير الأوضاع الحالية. أما البديل، فهو السقوط في هوة «حرب باردة» جديدة.