العالم الثالث ساحة مواجهة بين الصين وأميركا

كانت دول العالم الثالث ساحة معركة كبرى أثناء الحرب الباردة، حيث كانت الولايات المتحدة تتنافس مع الاتحاد السوفياتي على النفوذ والمكانة حول العالم؛ وتعود المنطقة نفسها اليوم لتصبح ساحة قتال وتنافس مرة أخرى، لكن المعركة هذه المرة بين أميركا والصين. ومع قرب نهاية فترة حكم الرئيس دونالد ترمب، يبدو أن واشنطن قد تفادت، عن طريق المصادفة، الخطر المتمثل في محاولة الصين إقصاءها عن الدول الديمقراطية في أوروبا، ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ.
إذا كانت الحدود العالمية تتجه نحو قلب الصراع الأميركي الصيني، فهذا يُعزى إلى أن الجوهر الديمقراطي لم يعد متزعزعاً كما كان منذ وقت قريب. في نهاية عام 2019، وحتى مع بداية عام 2020، هدد تقدم الاقتصاد الصيني، وسلوك أميركا إبّان حكم ترمب، بإحداث خلافات عميقة في العالم الغربي؛ وبدا من الممكن أن تميل أجزاء كبيرة من أوروبا نحو حدوث تعادل بين الصين وأميركا، بل وحتى إلى أن تصبح معتمدة تكنولوجياً على بكين. ولم يتبدد ذلك الخطر بعد.
لقد عملت بكين على إحداث موجة من الضربات الدبلوماسية المضادة. كذلك تراجع مستوى تقبل الصين في كل من أوروبا وشرق آسيا، ووصفها الاتحاد الأوروبي بـ(خصم ذي طابع منهجي).
وتتمثل المفارقة الجيدة لفترة حكم ترمب في أن مؤسسة الرئاسة ساهمت في تكوين تدريجي لائتلاف وتحالف ديمقراطي لمواجهة النفوذ الصيني. لسوء الحظ الوضع مختلف في الدول النامية، فخلال الحرب الباردة كان العالم الثالث يمثل نقطة ضعف استراتيجية بالنسبة إلى أميركا لأن امتزاج التوجهات الآيديولوجية الفكرية المتطرفة، إلى جانب التراجع الاقتصادي، جعل تلك المناطق سهلة التأثر بالنفوذ الشيوعي.
تغيرت الظروف بشكل كبير، وبدأ استخدام مصطلح العالم الثالث في التراجع، حيث كثيرا ما يتم تفضيل استخدام مصطلحي (الدول النامية) أو (الأسواق الناشئة).
أيضاً تميل الدول النامية بفضل تجربتها التاريخية في الاستعمار، إلى تفضيل عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وهي أقل ميلا أيضا إلى إدانة الانتهاكات التي يرتكبها الحزب الشيوعي الصيني. لذا يمثل التنافس على النفوذ في الجنوب جوهر الاستراتيجية الجيوسياسية لبكين. ونظرا لأن دول العالم الثالث متعددة، فدعمها ضروري في سياق الجهود التي تبذلها بكين من أجل السيطرة على المؤسسات الدولية أو الانضمام إليها.
بالمثل تستهدف مبادرة (الحزام والطريق) إقامة روابط اقتصادية ودبلوماسية وتكنولوجية بين الصين وأغلب أنحاء العالم النامي.
يقدّر المسؤولون الأميركيون حجم هذا الخطر؛ فخلال فترة حكم ترمب وصف مسؤولون رفيعو المستوى، من بينهم ريكس تيلرسون، وزير الخارجية، وجون بولتون، مستشار الأمن الوطني، علنًا مخاطر الإمبريالية الحديثة ذات الطابع الصيني.
مع ذلك تجذب القروض الصينية، ومشروعات البنية التحتية، التي تنفذها في أنحاء العالم، الدول نحو التقارب التكنولوجي مع الصين، ولا يزال النفوذ الدبلوماسي لبكين يزداد اتساعا.
سوف يتيح تعزيز الولايات المتحدة لتعاونها مع كل من اليابان، وأستراليا، والاتحاد الأوروبي، للدول الديمقراطية الكبرى توظيف مواردها المجتمعة على نحو أكثر استراتيجية من أجل دعم نمو العالم الثالث والبنية التحتية به.
على الجانب الآخر يتيح انتشار فيروس (كوفيد-19) فرصة لتدشين برنامج لتوزيع جرعات اللقاح المضاد للمرض في الدول النامية؛ وهو أمر سيكون وسيلة لمواجهة دبلوماسية اللقاح التي تمارسها بكين بالفعل. وبمرور الوقت سيكون على واشنطن وحلفائها تأكيد أهمية الإصلاح الديمقراطي في الدول النامية لأن تحقيق تقدم في هذا الصدد سوف يجعل من الصعب على الصين إبرام اتفاقيات أو صفقات مع قادة دول مستبدين. وفي الوقت الذي تمثل فيه تعزيز المشاركة الإيجابية أفضل ضمانة لترسيخ النفوذ الأميركي، ينبغي على واشنطن وأصدقائها التركيز على الجوانب الأكثر استغلالية لسلوك بكين في منطقة الجنوب من استخراج للموارد، إلى دعم الحكام المعادين للتحرر.
مع ذلك هناك تحول في جغرافية التنافس على النفوذ، وسوف يتطلب تحقيق النجاح في الدول النامية ما هو أكثر من مجرد حسن الطالع.

هال براندز

 

القيود على الليرة باقية رغم أزمات قطاعي الصحة والغذاء

أكّدت مصادر في البنك المركزي، انّ الاجراءات التي اتخذها مصرف لبنان لضبط سعر صرف الليرة أتت ثمارها، رغم تفاقم الاوضاع السياسية، مشيرة الى انّه من دون تلك التدابير كان سعر الصرف ليبلغ مستويات قياسية جديدة. وشدّدت المصادر على انّ مصرف لبنان لن يسمح بتهديد الأمن الصحي والغذائي جراء تقييد السحوبات، بل انّه على يقين بأنّ حجم الكتلة النقدية الموجودة في السوق يكفي لتأمين السيولة النقدية لمستوردي السلع الاساسية.

الأمن الغذائي مُهدّد والأمن الصحي أيضاً، وعلى جبهات عدّة، نتيجة تعميم مصرف لبنان الذي ألزم مستوردي السلع الاساسية المدعومة (محروقات، أدوية، معدات طبية، مواد غذائية) تأمين السيولة النقدية بالليرة لتمويل المستوردات. كذلك الامر بالنسبة لمستوردي مختلف السلع الغذائية والاستهلاكية غير المدعومة، والذين يعجزون عن شراء العملة لتمويل المستوردات بسبب خفض السحوبات بالليرة اللبنانية بالقطاع المصرفي.

هذه السياسة المتّبعة من مصرف لبنان لخفض الضغط الحاصل على الليرة اللبنانية في السوق السوداء ولجم انهيار سعر صرفها، تهدف أيضاً الى لجم الاستهلاك المحلي من اجل خفض حجم الاستيراد وخفض وتيرة الاستنزاف الحاصل لاحتياطي البنك المركزي من العملات الاجنبية، وتمديد مهلة وقف الدعم عن السلع الاساسية لاطول فترة ممكنة، على أمل التوصل الى توافق سياسي وتأليف حكومة تبدأ بالإصلاحات وتؤمّن الدعم المالي الخارجي المطلوب لإعادة ضبط الوضع المالي والاقتصادي.

إلاّ انّ سياسة شراء الوقت باتت تهدّد الامن الصحي والغذائي للمواطن اللبناني، بعد تراجع حجم الاستيراد بنسبة 93 في المئة، حيث انخفضت قيمة الإعتمادات المستنديّة المفتوحة للاستيراد خلال الاشهر التسعة الاولى من العام الحالي من 5 مليارات و678 مليون دولار في ايلول 2019 الى حوالى 547 مليون دولار فقط في ايلول 2020 وفقاً لإحصاءات مصرف لبنان، أي انّ عمليات الاستيراد منذ عام ولغاية اليوم باتت تقتصر على المواد الغذائية الاساسية والمحروقات والادوية والمعدات الطبية، وانقرضت كافة السلع الاستهلاكية المصنّفة كماليات.

ولكن بغض النظر عن ضرورة وجود الكماليات، فإنّ مستوردي المواد الغذائية يقولون انّ تعميم مصرف لبنان سيخفّض حجم استيراد المواد الغذائية الى النصف، مما يهدّد الامن الغذائي، كذلك الامر بالنسبة لمستوردي الادوية والمعدات الطبية، الذين يحذّرون من تراجع مخزونهم ونقص مرتقب في الادوية والمستلزمات الطبية، في حال لم يتمّ تأمين السيولة النقدية بالليرة من قِبل القطاع المصرفي. إلّا انّ مصادر في مصرف لبنان أكّدت لـ»الجمهورية»، انّ سياسة خفض السحوبات النقدية بالليرة وإلزام المستوردين تأمين السيولة النقدية للاستيراد، مستمرّان الى حين تأليف حكومة جديدة، يتمّ التوافق معها على خطة واضحة للأزمة المالية والاقتصادية.

واوضح المصدر المصرفي، انّ هدف ودور البنك المركزي الاساس اليوم هو ضبط سعر العملة المحلية ولجم الانهيار الحاصل بسعر صرفها، في ظلّ الأزمة السياسية القائمة، وقد اتخذ هذا الاجراء من اجل امتصاص الكتلة النقدية الضخمة الموجودة في السوق والبالغة 24 ألف مليار ليرة، وذلك عبر التجار والمستوردين. مشيراً الى انّ المستوردين والتجار ما زالوا قادرين على تأمين السيولة النقدية بالليرة من السوق، «والبنك المركزي يعمل جاهداً لمساعدتهم، ولن يسمح بتهديد الأمن الغذائي والصحي». لافتاً الى انّ تقييد السحوبات النقدية سيؤدي حتماً الى ترشيد الإنفاق والاستيراد.

وعمّا اذا نجح مصرف لبنان في ضبط سعر صرف الليرة نتيجة تقييد السحوبات بالليرة، أكّد المصدر المصرفي انّه في ظلّ تصاعد وتيرة التجاذبات السياسية حالياً، ووسط عدم تأليف حكومة او حتى تأكيدات حول امكانية تأليفها قريباً او قبل نهاية العام الحالي، «يمكننا القول انّ الاجراءات المتّبعة نجحت في ضبط سعر الليرة في السوق عند حوالى 7500 ليرة، والدليل على ذلك انّه عندما كانت الاجواء السياسية افضل من اليوم، بلغ سعر الصرف 9000 ليرة مقابل الدولار».

أضاف: «لو لم يتخذ البنك المركزي هذا التدبير في ظلّ الوضع السياسي الحالي، لكان سعر الصرف قد تخطّى مستوياته القياسية السابقة».

وبالنسبة لإمكانية رفع الدعم عن المحروقات، اشار المصدر الى انّ الدعم لا يمكن ان يستمرّ، «إلّا انّ القرار ليس من مسؤولية البنك المركزي، فهو قرار حكومي وسياسي، لا يمكن تحميل مسؤوليته لحاكم مصرف لبنان عبر رمي الكرة في ملعبه من اجل اتخاذه «. مشدّداً على انّ الأمن الغذائي والصحي أولوية، أهمّ من دعم استيراد المحروقات الذي تستفيد منه الطبقة الميسورة اكثر من الطبقة الفقيرة.

الأمن الغذائي مهدّد

بعد تحذير المستشفيات من خطر يهدّد الامن الصحي نتيجة عدم امكانية تأمين السيولة النقدية لشراء الادوية والمستلزمات الطبية، مما اجبر بعض المستشفيات على تأجيل العمليات الجراحية أو عدم تقديم بعض العلاجات بسبب نقص المعدات الطبية اللازمة وأدوية الامراض المستعصية، جاء امس دور مستوردي المواد الغذائية، مع تحذير رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي من تداعيات خطرة للتدبير الذي اتخذه مصرف لبنان والمصارف، القاضي بخفض السحوبات بالليرة من المصارف، على الأمن الغذائي.

ونبّه بحصلي في بيان، الى انّ هذا التدبير من شأنه خفض استيراد المواد الغذائية من الخارج الى أقل من النصف، نتيجة شحّ السيولة بالليرة التي تشكّل الأداة الوحيدة في هذه المرحلة الاستثنائية لتأمين السيولة بالعملات الأجنبية لتمويل المستوردات من المواد الغذائية المدعومة وغير المدعومة على السواء.

وأوضح بحصلي انّ نحو 50 في المئة من المشتريات في السوبرماركت تتمّ بالبطاقات الإئتمانية والنصف الآخر نقداً بالليرة اللبنانية، ووفقاً لتدبير مصرف لبنان، فإنّ المبالغ النقدية بالليرة فقط هي التي يمكن استخدامها لشراء الدولار من المصرف المركزي ومن السوق الموازية، لتمويل المستوردات الغذائية، في حين انّ النصف الآخر، اي مبالغ البطاقات الإئتمانية ليس بالإمكان استخدامها، لأنّ هذه العمليات تابعة للمصارف، وبالتالي فإنّ المصارف ترفض تسييلها إن كان بالدولار أو بالليرة، ما يعني انّ هذه المبالغ ستبقى محتجزة بالمصارف، ولا قدرة لنا على استخدامها في عمليات الاستيراد.

وقال بحصلي: «هذا يعني انّه في كل دورة تجارية، سيفقد المستوردون نصف قدرتهم الشرائية (حجم السيولة التي بإمكانهم إستعمالها) لتمويل مشترياتهم المقبلة جراء حجزها في المصارف، ما سيؤدي الى خفض كميات المستوردات الى النصف، وهكذا دواليك»، محذّراً من انّ «الطريق واضح، إما تمكين المستوردين من سحب أموالهم بالليرة اللبنانية الناتجة من بيع البضائع عبر البطاقات الإئتمانية، وإما سنصل الى مرحلة سيكون لدينا نقص حاد بالمواد الغذائية، ما يعني انّ الأمن الغذائي للبنانيين بات مهدّداً».

وطالب بحصلي مصرف لبنان والمصارف اللبنانية الأخذ بالاعتبار هذه المعطيات الهامة المتعلقة بأمر استراتيجي وحيوي، وإجراء مراجعة سريعة لهذا التدبير، وإتخاذ الاجراءات اللازمة التي من شأنها حماية ديمومة الامدادات الغذائية للبنانيين.

رنى يعرتي.

الحماية التجارية

منذ أن ظهرت التجارة الدولية، وبدأت منتجات الدول الصناعية غزو أسواق الدول الأقل تطوراً، لجأ كثير من هذه الدول إلى حماية أسواقها من هذا الغزو، وذلك باستخدام سلطاتها الحكومية بمنع أو تحجيم دخول بعض المنتجات إليها، أو بفرض رسوم جمركية على بعضها الآخر. وتتنوع أسباب هذه السياسة بحسب الدول وبحسب وجهة النظر وانتمائها، فقد تطبق بعض الدول هذه السياسة لحماية صناعاتها الناشئة، أو لتطوير بعض صناعاتها الداخلية وحمايتها من منافستها المستوردة، أو لأسباب سياسية مع دول أخرى مصنّعة، أو لتقليل البطالة من خلال فرص العمل التي توفرها الصناعات المحميّة، وغيرها من الأسباب. وتوصف هذه السياسات بأوصاف متناقضة بحسب وجهة النظر، فما قد تراه الدولة مصلحة لها، تراه دولة أخرى تعنّتاً سياسياً وحرباً ضد التجارة الحرة.
والأمثلة على الحماية التجارية في عالمنا اليوم متعددة؛ أولها ما يحدث بين الصين والولايات المتحدة، فالولايات المتحدة تفرض رسوماً جمركية متوالية على المنتجات الصينية لحماية أسواقها ومنتجاتها، والصين ترد برسوم انتقامية على هذه الإجراءات. وكل دولة منهما تسوّق للتجارة الحرة وأنها الحل الأمثل للاقتصاد العالمي. وثاني هذه الأمثلة بين الصين وأوروبا، وترى دول الاتحاد الأوروبي أن الصين تغرق الاقتصاد الأوروبي بالمواد الخام منخفضة التكلفة، مما أدى إلى خروج كثير من الشركات الأوروبية المنافسة من السوق. وتعاني الشركات الأوروبية من ارتفاع الضرائب عليها، خصوصاً البيئية منها، بينما ترفل الشركات الصينية في نعيم دعم حكومتها غير المحدود. ويرى الاتحاد الأوروبي أن سيادته الاقتصادية أصبحت في خطر باعتماده على المواد الأولية الصينية، مما يعني أنه قد ينحى للحماية التجارية في وقت قريب. وما زاد لهيب الحماية التجارية ما حدث أثناء أزمة «كورونا»، حيث تلقت التجارة الحرة ضربة موجعة بإدراك الدول أهمية الاكتفاء الذاتي في الأغذية والمنتجات الطبية وغيرها من الاحتياجات الاستراتيجية. فبدأ كثير الدول يفكر بشكل جدي في فرض رسوم جمركية على عدد من الواردات بهدف حماية صناعتها المحلية وتطويرها.
أما المتحمسون للتجارة الحرة، فيشجعون على التكامل الاقتصادي، ودعم التجارة الحرة العادلة التي تساهم في نمو شمولي للاقتصاد العالمي. وقد ركزت «مجموعة الأعمال 20 (B20)» على موضوع الحماية التجارية في هذا العام، بصفته موضوعاً مؤثراً على الاقتصاد العالمي في السنوات المقبلة. وقدمت «مجموعة الأعمال» – بالتعاون مع شرائكها – دراسة مستفيضة بيّنت من خلالها أن الفارق بين دعم التجارة الحرة ودعم الحماية التجارية قد يصل إلى 10 تريليونات دولار خلال السنوات الخمس المقبلة لمصلحة التجارة الحرة، ورسمت هذه الدراسة احتمالات عدة للاقتصاد العالمي حتى عام 2025 بحسب درجتي الحماية التجارية ودعم التجارة الحرة. وأوضحت أن الحلول لدعم التجارة الحرة تكمن في لوائح منظمة التجارة العالمية، وتقليل الرسوم الجمركية على الواردات، وتوحيد المعايير الصناعية التي قد تفتح آفاق أسواق جديدة للمنتجات. وتنبع أهمية هذه التوصيات من تمثيل دول المجموعة 60 في المائة من حجم التبادل التجاري العالمي، وتزيد هذه النسبة إلى 80 في المائة في حال تضمين دول الاتحاد الأوروبي غير المشاركة بشكل مباشر في المجموعة. أي إن دول المجموعة تملك اليد الطولى في تشكيل التجارة العالمية للسنوات الخمس المقبلة.
إن سياسة الحماية التجارية ضرورية في كثير من الأوقات، وهي حق سيادي للدول، يمكنها من تطوير صناعاتها وتوفير فرص العمل وحماية أسواقها من الإغراق الذي تمارسه بعض الدول. إلا إن الإفراط في هذه السياسة يؤثر سلباً على سلاسل الإمداد والنمو الاقتصادي، ويؤثر بشكل مباشر على المستهلك النهائي الذي يدفع الفارق في السعر على المنتجات. وقد يكون تغيير أنظمة «التجارة العالمية»، خصوصاً خلال الشهرين المقبلين بترشيح رئيس جديد للمنظمة، حلاً لهذه المعضلة. وما يدعو للتفكر في هذه الأزمة، حال بعض الدول الغربية، التي بدأت تطبق سياسات الحماية التجارية والاقتصادية، وانتقادها هذه السياسات في حال مارستها دول أخرى. ولم تكن هذه الدول لتناقش لوائح منظمة التجارة العالمية لو لم تنمُ الصين اقتصادياً، ويبدو أن بعض هذه الدول كانت تدعو للتجارة الحرة حينما كانت حرية التجارة في مصلحتها، ولكن حالما أصبحت الصين منافسة لها في القوانين التي وضعتها هي، بدأت هذه الدول في التذمر من منظمة التجارة العالمية والتصريح بأنه حان الوقت لتغيير هذه الأنظمة، ويبدو أن هذا التغيير وشيك خلال الأشهر المقبلة، للوصول إلى نسخة جديدة من المنظمة تضمن لجميع الدول تجارة حرة وعادلة.

د. عبدالله الردادي.

هل تعود الى المستنقع من نَفَذت بِريشِها؟

نجح ملف الدعم في خطف الاضواء من ملف التدقيق الجنائي الذي كان نجم «الساحة» لأسابيع طويلة. كنا ننام على تدقيق ونستفيق على تدقيق. ونسمع باستمرار معزوفة انّ الاصلاح لا يمكن ان يبدأ من دون التدقيق الجنائي. اليوم، صرنا ننام على دعم ونستفيق على دعم. وباتت مصطلحات الترشيد والاحتياطي الإلزامي خبزنا اليومي.

في الواقع، لا التدقيق الجنائي جدّي ويمكن أن يوصل الى نتيجة في ظل التوازنات السياسية القائمة، ولا وقف أو استمرار أو ترشيد الدعم يساهم في حلحلة الأزمة الخانقة التي تسيطر على البلد، وتدفع به نحو مسار انحداري مستمر وسريع، وسيصبح أسرع وأوضح وأقسى بنتائجه مع مرور المزيد من الوقت.

في ملف التدقيق الجنائي، عدنا الى المربّع الأول. وبانتظار الإجابة الرسمية لشركة Alvarez and Marsal لا بدّ من إيراد الملاحظات التالية:

اولاً- الإيجابية الوحيدة في عودة المُراسلة مع الشركة المنسحبة، انّها لم ترفض فوراً المقترح اللبناني الرسمي للعودة الى مهمة التدقيق الجنائي، استناداً الى المتغيّرات التي طرأت في القرار الذي اتخذه مجلس النواب، لكن ذلك لا يكفي للاعتقاد انّ الشركة التي تخلّت عن اتعابها لتهرب من المستنقع اللبناني ستوافق، بمجرد الاطلاع على قرار مجلس النواب واعتباره عنصراً مستجداً في القضية، على العودة الى المستنقع.

ثانياً – اذا سلّمنا جدلاً بأنّ الجواب الرسمي للشركة، والذي يتوقّع المسؤولون وصوله في الـ48 ساعة المقبلة، سيكون ايجابياً، بمعنى الموافقة على مبدأ العودة، إلّا أنّ ذلك ليس نهاية المطاف، بل بداية الطريق، لأنّ «ألفاريز» ستطلب توقيع عقدٍ جديد وبشروط جديدة. وهذه المرة ستكون الشروط قاسية، ومن المستبعد ان تتمكّن الحكومة من السير بها.

ثالثاً – بصرف النظر عن عودة «الفاريز» أو التوجّه نحو شركة عالمية أخرى لمنحها عقد التدقيق الجنائي، من حق الناس ان يسألوا، لماذا علينا ان نجري تدقيقاً جنائياً. هل نبحث فعلاً عن متهمين في جرائم هدر المال والفساد؟ ألا يشكّل ما يجري في تحقيقات انفجار مرفأ بيروت، وردود الفعل على ما بلغه المحقق العدلي في الجريمة، وما هو متوقّع في الأيام المقبلة، مؤشراً يُقنع من لم يقتنع بعد، بأنّ كل ادعاءات المحاسبة هي مجرد حفلات زجل ودجل سياسي، ولن تصل الى نتيجة؟

رابعاً – في زمن الغرق، الأولوية دائماً لإنقاذ الركاب والسفينة، وكل ما عدا ذلك يأتي لاحقاً. وهنا لا بدّ من توضيح حقيقة ينبغي أن يعرفها الجميع: ليس صحيحاً انّ التدقيق الجنائي ممر إلزامي للحصول على مساعدات صندوق النقد الدولي، بل أنّ المطلوب هنا تدقيق مالي يوضح حقيقة الأرقام والوضع في مصرف لبنان، لكي يتمكّن صندوق النقد من إقرار خطة انقاذ تتماهى وهذا الواقع.

في هذا السياق، تشير المعلومات المتوفرة الى أنّ شركتي Oliver Wyman وKPMG أحرزتا حتى الآن تقدّماً ملموساً في التدقيق المالي في أوضاع مصرف لبنان. وقد تبلّغت وزارة المال ارتياح الشركتين لتعاون المركزي مع متطلباتهما. وبالتالي، فإنّ التقرير النهائي الذي سيحدّد حقيقة الوضع المالي في مصرف لبنان لن يتأخّر في الصدور قريباً. هذا التقرير سيشكّل مستنداً كافياً لصندوق النقد أو لأية جهة دولية أخرى، لكي تتعاطى مع أي خطة انقاذ بناء على أرقامه. وهذا هو الأهم اليوم بالنسبة الى البلد. بعد ذلك، ليتسلّى أرباب المنظومة السياسية بالتدقيقات الجنائية التي باتت ستشمل كل المؤسسات والادارات العامة، بقدر ما يرغبون.

في ملف ترشيد الدعم، كل الخيارات مريرة، لكن أخطرها على الاطلاق تمييع مسألة اتخاذ قرار، وابقاء الوضع على ما هو عليه بذريعة عدم الوصول الى توافق. وفي المعلومات، انّ التوجّه العام لدى حكومة تصريف الاعمال يقضي بإقرار خطة تقوم على ركيزتين:

اولاً – تأمين دعم مالي مباشر الى الأكثر حاجة، عبر ما بات يُعرف بالبطاقات التمويلية.

ثانياً – رفع تدريجي للدعم، بحيث سيستغرق الأمر بضعة أشهر قبل الوصول الى مسار ثابت، سيكون معه الدعم للسلع (محروقات وأدوية وطحين ومواد أولية) ضئيلاً.

هذه الخطة تشوبها ثغرة اساسية تتعلق بالتوجّه نحو بطاقات تمويلية بالليرة من الخزينة، وستوزّع على لوائح محدّدة. وهنا قد يحصل التالي: ينهار سعر صرف الليرة بسرعة اكبر من الوضع الحالي، ويلتهم التضخّم المبلغ الذي سيتقاضاه من سيتمّ تصنيفه محتاجاً، ويزداد الضغط المعيشي على كل الطبقة الوسطى، ويدخل البلد في دائرة مُفرغة. كما أنّ تحديد لوائح المحتاجين قد يخضع لحسابات تنفيع الأزلام والمحاسيب.

لذلك، من المجدي أكثر إصدار بطاقات تمويلية لكل العائلات بقيمة 100 دولار شهرياً، بحيث لن يتجاوز الدعم عتبة الـ100 مليون دولار شهرياً، على أساس مليون عائلة. هذا الامر يضمن عدم انهيار قيمة المبلغ الذي سيجري تقديمه للناس، ويساهم في تخفيف الضغط عن سعر صرف الليرة في السوق السوداء.

لكن مثل هذا القرار لا يستطيع ان يتخذه مصرف لبنان، بل يحتاج الى قرار سياسي متوافق عليه. وهذا ما ينبغي ان يحصل الآن، بانتظار هبوط الوحي على أهل المنظومة السياسية، لاتخاذ قرار تشكيل «حكومة مهمّة» تبدأ تنفيذ خطة للإنقاذ.

انطوان فرح