ما بعد اللقاح!

حيَّت البورصات إنجازات العلم بطريقتها فارتفعت مؤشراتها لأرقام قياسية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي متجاوبة مع إعلان شركتي دواء أميركيتين تطوير لقاحين مضادين لفيروس كورونا بفاعلية عالية، وقرب إتاحتهما في الأسواق بعد مراجعة السلطات الصحية المعنية في اجتماعين لإيجاز استخدامهما، تم تحديدهما في العاشر من شهر ديسمبر (كانون الأول) الحالي للقاح شركتي «فايزر» و«بيونتك»، وفي السابع عشر من الشهر نفسه للقاح شركة «موديرنا». وهناك لقاحات أخرى بتكنولوجيات طبية مختلفة وبفاعليات يجري التبشير بها وتعلن عنها معامل بريطانية وأوروبية وصينية وروسية.
حقَّق العلم إنجازاً غير مسبوق في تطوير اللقاح بسرعة فائقة وجهود شاقة لإنقاذ حياة البشر وتخفيف معاناتهم، بما سيخلد أسماء لعلماء وباحثين في تخصصاتهم، ومع تزايد الإعلان عن قرب تداول اللقاحات انتقلت حالة الترقب من تعلقها بالدوائر العلمية وبما يصدر عن المعامل وعلمائها، إلى الحكومات ودوائرها الصحية للإجابة عن أسئلة عملية: متى سيُتاح اللقاح لعموم الناس؟ ما هي التكلفة؟ ما هو مدى استعداد البنية الأساسية والإنتاجية لتصنيع وتعبئة وتخزين ونقل وتوزيع اللقاح واستخدامه بأمان؟
وفي حين يتلهف البعض ليكونوا في مقدمة الحاصلين على اللقاح، استمعت منذ يومين إلى تقرير تكررت إذاعته عن مسح جرى على البالغين في الولايات المتحدة في شهر أغسطس (آب)، ذكر 42 في المائة منهم فقط أنهم سيستخدمون اللقاح عند توافره، وذكر تقرير آخر انخفاض نسبة المقبلين على التلقيح بين شهري مايو (أيار) وسبتمبر (أيلول) من هذا العام. كما تظاهرت احتجاجاً ضد اللقاح جموع في مدن أوروبية في وقت يؤكد فيه خبراء الأوبئة ضرورة وصول بلوغ نسبة المناعة ثلثي المجتمع على الأقل لمنع الوباء من الانتشار، بما يتطلب التوسع في استخدام اللقاح والبديل هو التعرض للإصابة بالفيروس كبديل بما في ذلك من مخاطر على حياة ذوي العلل. بما يتطلب الأمر حواراً ونقاشاً وتثقيفاً وتحفيزاً حرصاً على الصالح العام جنباً إلى جنب مع تيسير إتاحة اللقاح لعموم الناس. وفي هذا تختلف السبل:
– تعيين وزير اللقاح: من أساليب تفعيل نشر اللقاح في أسرع وقت ممكن ما لجأت إليه المملكة المتحدة من تعيين وزير مشرف على طرح اللقاح وتأمين وصول 100 مليون عبوة منه للمواطنين؛ تم طلبها بالفعل لتكفي سكان الجزر البريطانية. وسيكون الوزير في حكومة المحافظين نديم زهاوي، الذي شغل حتى تكليفه المهمة الجديدة حقيبة الأعمال والصناعة، مسؤولاً عن مهمة مزدوجة للإشراف على وزارات الصناعة والصحة والرعاية الاجتماعية، مع جدول زمني مكثف لتوفير اللقاح للكافة في خلال 9 أيام من خلال منظومة التأمين الصحي. وقد لقي التكليف ترحيباً من حكومة الظل وإن شدد ممثلوها على القيام بحملة توعية مكثفة تتزامن مع العملية اللوجيستية المعقدة التي سيشرف عليها وزير اللقاح.
– شهادة اللقاح: ومن سبل الحث على نشر اللقاح ما دعا إليه الكاتب الصحافي الإنجليزي جون جايبر، بضرورة حمل كل فرد لتطبيق رقمي على هاتفه يفيد تلقيح حامله من عدمه عند السفر. فبعد تذكيرنا بما كان من أمر المسافرين في القرن الماضي بحملهم شهادات ورقية تفيد بتطعيمهم ضد أمراض معدية ومتوطنة، يشير الكاتب إلى مطالب لشركات الطيران لركابها بإظهار ما يفيد بتطعيمهم من خلال تطبيقات رقمية تحمل البيانات المطلوبة معتمدة من جهة صحية، في شكل كود رقمي يتم التعرف عليه من خلال أجهزة كشف سريعة بالمطارات. وسيكون هذا الإجراء أيضاً ملزماً لمرتادي المباني الحكومية والإدارية والمواصلات والخدمات العامة. ولعلك ترى ما يشبه هذا الإجراء معمولاً به في المطارات وأماكن أخرى في إطار احترازي بقياس درجة الحرارة ولبس الكمامة الواقية وتقديم شهادة تثبت الخلو من الفيروس.
– قوارير اللقاح: لتوفير مئات الملايين من اللقاحات تبرز مشكلة توفير ما يعرف بالأمبولات، أو القوارير الزجاجية الصغيرة المغلقة التي تستخدم لحفظ اللقاحات. ورغم التعارف على تكنولوجيا إنتاجها وتوافر مواد صنعها وتعقيمها، يحتاج اللقاح الجديد إلى مئات الملايين منها في وقت وجيز. كما تتطلب أنواع منه قوارير شديدة التحمل لضغط النقل والتبريد لدرجات تبلغ أكثر من 70 درجة مئوية تحت الصفر. وتتوفر خطوط إنتاج كبيرة في عدد محدود من بلدان العالم لهذه النوعيات بما جعل الطلب عليها يرتفع مقابل أسعار متزايدة. جعل هذا محرر مجلة «نيويوركر» لهذا الأسبوع يصدر مقالة عن سباق مصانع القوارير بقصة الإمبراطور الروماني تيبريوس مع صانع القوارير الذي أتى إلى قصره يعرض اختراعاً لقارورة من زجاج معالج ضد الكسر فيسقطها أمام الإمبراطور على الأرض مستعرضاً قوة تحملها فلم تتهشم. فما كان من الإمبراطور – وفقاً للرواية – إلا الأمر بإعدامه خشية من اختراعه على ما تحويه خزائنه من الذهب التي ستتدهور قيمته مقابل فائدة هذا الاختراع المدهش. وبعد مئات السنين تظهر مجدداً قيمة الزجاج المعالج بتكنولوجيا العصر ليحمل في قواريره ما لا يغني عنه الذهب في حماية حياة الإنسان.
– لقاحات لأوبئة أخرى: عندما أعد عالم الرياضيات آدم كوتشارسكي كتابه عن الأوبئة والأمراض المعدية لم يكن على علم أن توقيت صدوره سيسبق جائحة كورونا بأسابيع. وقد استعرض في كتابه المعنون «قواعد العدوى» أشكالاً مختلفة من العدوى، منها ما يأتي في شكل وباء صحي كما نشهد اليوم مع فيروس كورونا، ومنها ما هو اقتصادي مثلما رأينا من انتقال العدوى في الأزمات المالية والمصرفية، ومنها ما هو إجرامي مثل العنف المسلح، ومنها ما قد يأتي في شكل أفكار سيئة كالعنصرية البغيضة.
ورغم عنوان الكتاب فلا توجد فعلاً قواعد بالمعنى المتعارف عليه للعدوى، ولكنها أنماط تبدأ بظهور العدوى ثم انتشارها ثم استقرارها وثباتها ثم انخفاضها، مع تباين في سرعة الانتشار والانخفاض بين عدوى وأخرى. وتأتي فائدة النماذج الرياضية المستخدمة قواعد البيانات الكبرى في تحليل وفهم ظواهر العدوى وأنماطها، ولكن علاج العدوى يأتي بالسيطرة عليها من داخلها ومن ضبط البيئة المحيطة بها تماماً، كما تطور لقاحات ضد الأوبئة الفيروسية بالتعرف على مكوناتها الحيوية الدقيقة وتفعيل المناعة المضادة لها من داخل الجسم ومنع انتشارها بالتباعد الاجتماعي.
وقد يحتار المرء أي أنواع العدوى والأوبئة أشد ضرراً وفتكاً بالمجتمعات واستقرارها؟ وتأتي الإجابة سريعاً: تلك التي لا لقاح لها!

د. محمود محي الدين.

أزمة لبنان المالية: “النقاش ماشي والصرف ماشي”… والنتيجة معروفة

لا يبدو انّ المنظومة السياسية ستنجح في تجاوز قطوع معالجة الدعم، ومن المرجّح أن تستمرّ الأمور على حالها، وسيبقى «الصرف ماشي» على حاله، الى حين استنزاف آخر ما تبقّى من احتياطي بالعملات الاجنبية، بانتظار أعجوبة إلهية.

على غرار مختلف الاستحقاقات السياسية والمالية والمعيشية التي مرّت على لبنان، لن تتوصل المنظومة الحاكمة في الوقت المناسب الى قرار جدّي لرفع الدعم أو ترشيده، او وضع آلية واضحة لتوفير دعم مباشر للأسر الاكثر حاجة، بل ستطول الاجتماعات والاقتراحات والاعتراضات بالنهج نفسه المتّبع عند تأليف وتشكيل الحكومات، لدى مفاوضة صندوق النقد الدولي، لدى وضع خطة إنقاذ مالية اقتصادية، عندما جرى إقرار سلسلة الرتب والرواتب، لدى تعيين مسؤولين اداريين، وغيرها من الاستحقاقات التي واجهتها المنظومة بحلول «ترقيعية» مستوحاة من سياسة شراء الوقت التي تحترفها.

بين رفع الدعم بالكامل وتوزيع بطاقات تمويلية لكافة اللبنانيين، وبين ترشيد الدعم وتأمين بطاقات تموينية للأسر الاكثر حاجة، تكثر الاقتراحات والتحليلات والاعتراضات، في حين لا تتوفّر الاموال لتمويل أي من تلك الخيارات، من دون المسّ بما تبقّى من اموال المودعين او عبر طباعة العملة. أي خيار سيمكّن السلطة من شراء الفترة الاطول من الوقت بالكلفة الاقل؟

في هذا الاطار، اعرب مسؤول سابق في صندوق النقد الدولي، عن صدمته مما يحصل على صعيد النقاش الدائر حول الترشيد، معتبراً انّ السلطة لا تملك خيارات في هذا الموضوع في ظلّ فقدانها للعملة الاجنبية الكافية. واشار الى انّ الدولة اللبنانية لا تستطيع الاستدانة من اجل مواصلة الدعم، كما انّ احتياطي البنك المركزي لم يعد يخوّله مواصلة الدعم سوى لمدّة شهرين.

واعتبر انّه في ظلّ الوضع الراهن، لا يمكن الحديث عن ترشيد الدعم بل يجب رفعه بالكامل واعتماد الدعم الموجّه للأسر الأكثر حاجة، لأنّ الاستمرار بدعم السلع يعني الاستمرار بدعم الميسورين على حساب الفقراء. ورأى انّ لجوء الحكومة الى خيار ترشيد الدعم على السلع، مردّه لعدم قدرتها على الانتقال الى الدعم الموجّه للافراد، بسبب عدم وجود البنية التحتية اللازمة، أي شبكة الأمان الاجتماعي.

وشدّد على انّ الدعم من خلال سعر الصرف هو إجراء أدّى الى تعدّد اسعار الصرف في السوق وخلق تشوهات عدّة في الاقتصاد وساهم في هدر الاموال، من خلال عمليات الفساد والتلاعب بالفواتير او تهريب السلع او اعادة تصديرها، موضحاً انّه يجب ان يكون الدعم جزءاً من موازنة الدولة عبر تخصيص مبلغ معيّن بالموازنة بشكل سنوي للدعم.

وقال الخبير الدولي، انّ الطبقة الحاكمة أضاعت عاماً من الوقت منذ انتفاضة تشرين، وبدل وضع خطة شاملة يتمّ من ضمنها توجيه الدعم، اعتمدت تدبيراً خاصاً وبشكل عشوائي لدعم السلع، علماً انّها كانت على دراية بأنّ هذه الخطوة ستكون على حساب احتياطات البنك المركزي وخصوصاً المودعين، واصفاً تلك القرارات بالسياسية وليس الاقتصادية، مما يؤكّد انّ السلطة الحاكمة غير مؤهّلة لاتخاذ قرارات اقتصادية.

واشار الى انّ الدعم الاجمالي والعشوائي استُخدم لتهريب الاموال الى الخارج، والدليل على ذلك، تراجع احتياطات مصرف لبنان بعد اندلاع الثورة حوالى 14 مليار دولار، علماً انّ 5 مليارات منها فقط استُخدمت للدعم، «وهذا ما يفسّر عدم رغبة السلطة بإقرار قانون «الكابيتال كونترول» من اجل الاستمرار بتهريب اموال السياسيين واصحاب النفوذ الى الخارج».

وكرّر انّ لبنان لا يملك اليوم القدرة والامكانيات للاستمرار بالدعم الاجمالي، وتوجيهه بات ضرورة ملحّة «إلّا انّه للأسف ليس هناك بيانات وارقام دقيقة حول عدد المستفيدين من الدعم، من اجل تقدير كلفة الدعم الموجّه، بسبب عدم توفر شبكة امان اجتماعي».

وسأل: «كيف تنوي السلطة الحاكمة تمويل الدعم الموجّه بعد نفاد احتياطي مصرف لبنان المتبقي (650 مليون دولار)؟».

وذكّر بأنّ الاعتراضات على برنامج صندوق النقد الدولي كانت في السابق بسبب توجّهه لرفع الدعم، «علماً انّ الصندوق لا يعمد الى رفع الدعم بل الى توجيهه، ولو تمّ التوصل الى اتفاق معه، لما كانت احتياطات مصرف لبنان قد هُدرت على غرار ما حصل».

وشدّد الخبير الدولي على انّ لبنان لا يملك في نهاية المطاف سوى خيار ومخرج اللجوء الى صندوق النقد الدولي، «ولكن موقف لبنان سيكون هذه المرّة أضعف بكثير مما كان عليه في آذار ونيسان الماضيين»، محذّراً من انّ برامج صندوق النقد الدولي ليست عصا سحرية، ولا يمكن ان تنجح من دون وجود توافق سياسي على عملية الاصلاح، «كلّما تأخّر لبنان باللجوء الى الصندوق كلّما زاد الفقر وكلّما تفاقمت صعوبة الخروج من الأزمة».​

رنى سعرتي.

قصص النجاح الاقتصادية

في عالم اليوم، تسعى جميع الدول إلى التفوق الاقتصادي، سواء كانت دولا متطورة اقتصاديا تسعى للحفاظ على مكانتها، أو دولا ناشئة طموحة تسعى إلى الارتقاء اقتصاديا ومعيشيا. وفي جميع الحالات فإن الدول عادة ما تدرس حالات النجاحات الاقتصادية في دول أخرى لمعرفة ودراسة كيفية ووصفة النجاح. هذه القصص كثيرة، وقد لا تكون بأي حال قابلة للتطبيق في دول أخرى لأسباب كثيرة ومعروفة. إلا أن أبرز قصص النجاح هذه تتمثل في تشيلي وأستراليا وكوريا الجنوبية.
وقصة تشيلي من القصص المشهورة في النجاحات الاقتصادية، حيث خرجت الدولة الصغيرة من حكم عسكري ديكتاتوري في بداية التسعينيات الميلادية، بلغت حينها نسبة من هم تحت خط الفقر 45 في المائة، ولم تزد حينها الطبقة المتوسطة عن 24 في المائة من الشعب. وبعد أن تحولت البلد اقتصاديا، أصبح الفقراء أقل من 9 في المائة وزادت الطبقة المتوسطة لتصل إلى 65 في المائة. وخلال ربع قرن، كان النمو السنوي في تشيلي من أعلى المعدلات في العالم. وكانت خطة الدولة للتحول الاقتصادي تعتمد على تحرير الاقتصاد والتجارة، وخفض الرسوم الجمركية، ولم تترك تشيلي اعتمادها على الموارد الطبيعية، بل على العكس فقد استفادت من ارتفاع أسعار النحاس. وتمكنت تشيلي في عام 2010 من الانضمام إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، رغم كونها في أقصى العالم، ورغم أن الكثير من دول أميركا الجنوبية شهدت هبوطا اقتصاديا في العقدين الأخيرين. ومنذ بداية التسعينيات الميلادية وحتى زمن كورونا، لم تشهد تشيلي حالات ركود إلا في ثلاث سنوات فقط!
وليست أستراليا ببعيدة عن تشيلي، وهي التي تقاربها في حالة الانعزال الجغرافي عن العالم، وقد كانت أستراليا في الثمانينيات الميلادية على حافة الانهيار الاقتصادي، وصرح وزير ماليتها في عام 1986 أن الدولة في طريقها لتكون إحدى دول العالم الثالث. لتتخذ الدولة حينها قرارات حاسمة بتعويم الدولار الأسترالي الذي أدى إلى انخفاضه ومن ثم زيادة تنافسية الصادرات الأسترالية. إضافة إلى حزمة من القرارات الاقتصادية مثل خفض الرسوم الجمركية وإعادة تنظيم المؤسسات الحكومية وزيادة شفافيتها. وبعد هذه الإصلاحات التحولية، ومنذ عام 1991 لم تشهد أستراليا حالة ركود واحدة (وكورونا من ذلك استثناء) لتصبح أستراليا اليوم أحد أكبر الاقتصادات العالمية وبأقل نسب بطالة في العالم رغم كم المهاجرين الوافدين إليها.
أما كوريا الجنوبية، وهي مضرب المثل في التحول الاقتصادي، فقد حولت مجراها التاريخي من بلد زراعي مليء بالفلاحين إلى بلد صناعي متطور يعتمد اعتمادا تاما على الصادرات التقنية. وقد سبقت اليابان كوريا في هذه التجربة بتحولها إلى بلد يعتمد على الصناعات التقنية، وتلتهما من بعد ذلك الصين ولكن بنموذج اقتصادي مختلف.
ويلاحظ من قصص النجاحات الاقتصادية للدول اختلاف النماذج الاقتصادية المتبعة، فلم يسبق أحد تشيلي إلى نظامها الاقتصادي، ولم تستطع أي دولة حتى الآن تقليد النموذج الصيني، أو الكوري الجنوبي أو حتى السنغافوري. والسبب في ذلك واضح، أن النموذج الاقتصادي مرتبط ارتباطا تاما بخصائص الدولة، فلا يمكن لدولة أن تقلد الصين في اكتساح الصناعة العالمية دون امتلاك الطاقة الاستيعابية المتمثلة في حجم الدولة وعدد السكان. ولا يمكن لدولة تقليد النموذج الأسترالي دون كونها وجهة للمهاجرين من أنحاء العالم. كما لا تستطيع دولة أن تكون مزارا سياحيا صيفيا إن لم تملك الشواطئ أو الأجواء المناسبة. وخلاصة القول: إن النجاح الاقتصادي ليس له وصفة واحدة، وإن التحول الاقتصادي يعتمد اعتمادا كبيرا على إمكانيات الدولة، هذه الإمكانيات تسهل لها التميز الاقتصادي، سواء كانت هذه الإمكانيات موارد طبيعية أو موقعا جغرافيا مميزا أو غيرهما. ولا شك أن جميع هذه الدول عملت عملا خارقا لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم، ولكن هذا العمل استند على نقاط القوة فيها.

د. عبدالله الردادي.

مشهد جديد: قيود مالية إضافية… و8 حقائق

مع اقتراب العام 2020 من نهايته، يرتسم في الأذهان حالياً سؤال يتعلق بالمشهد المالي والاقتصادي في العام 2021. هل سيكون «جهنم الموعود» أصعب بكثير من الوضع الحالي؟ وما هي التغييرات التي قد يواجهها البلد وناسه في المرحلة المقبلة؟

من خلال المؤشرات المتوفرة حتى الآن، والتي قد تنقلب رأساً على عقب من دون سابق إنذار، يمكن القول انّ المشهد الاقتصادي والمالي سوف يمضي في الهبوط وبوتيرة أسرع وأشدّ تعقيداً في العام 2021. وهناك فرضيتان سيئتان بارزتان حتى الآن: الفرضية الاولى، تقول باستمرار الوضع السياسي على ما هو عليه، أي في ظلّ حكومة تصريف أعمال، الى جانب رئيس مُكلّف عاجز عن التشكيل أو عن الاعتذار. الفرضية الثانية، تقضي بتأليف حكومة محاصصة، لا تختلف في مضمونها عن حكومة تصريف الاعمال القائمة حالياً. وفي ظلّ هذين السيناريوهين، سيشهد الوضع المالي والاقتصادي الاحتمالات والوقائع التالية:

اولاً- سيضطر القطاع المالي، وبإدارة مصرف لبنان، الى وضع قيود اضافية على كل انواع السحب النقدي من المصارف بالليرة. وبالتالي، سيُصار الى تضييق اضافي على المودع. وليس مستبعداً ان ترتفع قيمة المال النقدي بالليرة، كما هي عليه قيمة الدولار النقدي، ولكن وفق نسب مختلفة. اذ انّ شيك الدولار يُباع اليوم بحوالى 33% بالدولار الطازج (fresh)، في حين انّ شيك الليرة في 2021 قد يُباع بين 70 أو 80% من قيمته الاسمية.

ثانياً- ستتراجع أكثر قدرة اللبنانيين على الاستهلاك، بسبب القيود الاضافية على السحب النقدي. وبالتالي، قد يستمر الانكماش في حجم الاقتصاد (GDP) بحيث سيصبح حجم الدين العام بالدولار على الناتج شاسعاً، وتصعُب معالجته بلا كلفة باهظة على حاملي السندات قد تتجاوز الـ85%.

ثالثاً- سيؤدّي الانكماش الاقتصادي الى انكماش في عدد المؤسسات القادرة على الاستمرار. وهذا يعني بطبيعة الحال، المزيد من العاطلين من العمل المحتاجين الى دعم عاجل. وتشير تقديرات الى نسبة قد تصل الى 60% في القطاع الخاص.

رابعاً- بصرف النظر عن الآلية التي سيتمّ اعتمادها لاستمرار الدعم، سيؤدي التراجع الكبير في بيئة الاعمال الى توسّع رقعة المُصنفين في خانة الفقر. وسينضمّ الموظفون في غالبيتهم الى لوائح الفقراء. مع التذكير بأنّ البنك الدولي حدّد مبلغ 93 دولاراً شهرياً، كحدٍ أدنى لمستوى الفقر. أي أنّ كل فرد يقلّ مدخوله الشهري عن هذا الرقم يُصنّف من الفقراء. وعليه، ستكون لائحة الفقراء في لبنان طويلة، وطويلة جداً، وستكون مرتبطة بطبيعة الحال، بتطورات سعر صرف الليرة.

خامساً- رغم القيود التي ستوضع لتخفيف سرعة تضخّم الكتلة النقدية، إلّا أنّ الحاجة الى ضخ كميات اضافية من الليرة في السوق ستكون حتمية، وبالتالي، سيصعب منع استمرار انخفاض قيمة الليرة، بما يعني انّ سعر صرف الدولار في هذا الوضع سيرتفع اكثر، ولن يكون مستوى الـ10 آلاف ليرة للدولار هو السقف الذي قد يتوقّف عنده هذا الارتفاع. وهذا يعني انّ الحدّ الأدنى للرواتب قد يتراجع من 450 دولاراً، كما كان في ظل دولار الـ1500 ليرة، الى 60 أو 50 دولاراً، وربما أقل من ذلك. وهذا يعطي فكرة كم سيبلغ عدد الفقراء في البلد.

سادساً- سنشهد في العام 2021 عملية تطهير للقطاع المصرفي، بحيث سيضطر مصرف لبنان الى التدخّل لمعالجة ملفات مصارف غير قابلة للحياة. وفي المعلومات، انّ عدداً من المصارف تعمل بجهد كبير في الوقت الراهن لتأمين زيادة الرأسمال الذي طلبه المركزي. كما أنّ مفاوضات بيع المصارف لوحداتها العاملة في الخارج قطعت شوطاً كبيراً، وبات بعضها على قاب قوسين أو أدنى من الإنجاز. هذه الصفقات ستؤمّن للمصارف المصنّفة كبيرة، القدرة على الصمود والاستمرار. لكن المشكلة ستظهر بوضوح لدى مصارف أخرى عاجزة عن تلبية شروط البقاء. وهنا، يبرز تخوّف من قدرة المركزي على وضع يده عليها وضمان استمراريتها، ضماناً لحقوق المودعين. وهنا يسأل البعض، اذا ما كان مصرف لبنان قادراً بعد على لعب دور المُنقذ في ظلّ تراجع قدراته المالية الى مستويات مُقلقة. وفي المقابل، اعتاد المركزي تقديم الإغراءات لمصارف أخرى لتستحوذ على مصارف صغيرة تعاني صعوبات، لكنه اليوم عاجز عن تقديم الإغراءات. كما أنّ المصارف الكبيرة عاجزة عن أخذ المبادرات لإنقاذ مصارف صغيرة متعثرة. في كل الاحوال، سنشهد عملية تقليص للكلفة التشغيلية لدى كل المصارف، بما يعني الاستغناء عن عدد كبير من موظفي القطاع المالي.

سابعاً- سيترافق الانكماش المستمر، مع انحسار اضافي في الاستيراد، بحيث انّ مشهد السوق سيصبح مختلفاً عمّا عرفه اللبناني في الماضي. وستزداد مشاكل الاستشفاء والدواء والتعليم تعقيداً.

ثامناً- ستشهد السوق العقارية المزيد من الانهيار، وقد تتهاوى الاسعار بنسب اضافية عمّا شهدته في 2020، قد تصل الى 30% عمّا هي عليه اليوم. هذا التطور سيزيد الضغوطات على محفظة قروض القطاع الخاص لدى المصارف، والتي تقارب الـ50 مليار دولار.

هل هذه المؤشرات مجرد توقعات قد لا تحدث؟
من البديهي انّ بعض هذه المؤشرات أقرب الى الحقائق التي لا بدّ منها. لكن الفرق الذي قد يحصل على المستوى السياسي في حال حصول اعجوبة ما، من شأنه أن يخفّف من وطأة هذه التداعيات، بمعنى انّ تراجع سعر صرف الليرة الى مستوى 10 آلاف ليرة للدولار، يختلف بطبيعة الحال عن تراجعه الى 20 الف ليرة للدولار،على سبيل المثال لا الحصر.

في كل الأحوال، وبصرف النظر عن الاجراءات التي قد تُتخذ لمواجهة الأزمة ومعالجة تداعياتها، فإنّ الفرق لا تصنعه نوعية الإجراءات فحسب، بل توقيتها. كل اجراء في غير توقيته يفقد القسم الاكبر من قيمته وفعاليته.

الوقت هو معيار النجاح أو الفشل. وحتى الآن، أثبتت المنظومة السياسية، الى تمتٌّعها بمزايا الاستهتار والجهل وقلة الضمير، انّها تمتلك أيضاً، وعن جدارة، ميزة هدر الوقت، واتخاذ القرارات في توقيتها الخاطئ.

انكوان فرح.